الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منزلة ووحي، غير أن وحي لم يتعبد بتلاوته، والقرآن يتعبد بتلاوته، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينًا للكتاب والسنة، غير أن ما به البيان لم يذكر، فيحتمل أن يكون بالكتاب، ويحتمل أن يكون بالسنة، ثم الاستدلال به إنما هو بالمفهوم لا بالمنطوق، وقوله تعالى:{تبيانا لكل شيء} ، منطوق فيعارضكم به؛ ولأن تلاوة النبي آية التخصيص بيانًا منه للقرآن، فلا تناقض حينئذ.
المسألة الثانية:
تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة
جائز؛ لأن الحديثين المتواترين إذ تباينا إما أن يعمل بمقتضاهما، أو يترك العمل بهما، أو يرجح العام على الخاص، وهذه الثلاثة باطلة، فتعين تقديم الخاص على العام فيما دل عليه الخاص وهو المطلوب.
بيان بطلان العمل بهما: أنه يجتمع النفي والإثبات في مدلول الخاص، وترك العمل بهما يجتمع النفي والإثبات أيضا في مدلول الخاص، وتقديم العام يفضي إلى بطلان جملة الخاص، أما تقديم الخاص فإنه يقتضي بطلان
بعض العام، وبطلان الدليل من وجه أولى من إبطاله من كل وجه، والخاص يبطل من كل وجه، والعام إنما يبطل من وجه، فيكون تقديم الخاص على العام وتخصيصه به أولى.
المسألة الثالثة:
تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة قولًا كان أو فعلًا جائز.
والدليل عليه قال الأصحاب: إن ذلك وقع بالقول في قوله صلى الله عليه وسلم: (القاتل لا يرث)، فإنه خصص قوله تعالى:{يوصيكم الله في أولادكم} وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين).
وأما بالفعل: فلأنهم خصصوا في قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} بما تواتر عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجم المحصن، وهو فعل.
قلت: وقد تقدم أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فكل ولد أوجب العموم بورثته في حالة مطلقة، وهذا باق على عمومه؛ لأن كل ولد يرث في حال عدم القتل والرق والكفر، وهذه حالة خاصة، فيصدق أنا عملنا بمقتضى العموم، ويكون الحديث مقيدًا لتلك الحالة المطلقة، لا مخصصًا للعموم، وكذلك حديث الرجيم مقيدًا للحالة المطلقة، لا مخصصًا لعموم آية الزناة، فإن الآية إنما اقتضت جلد كل زان وزانية في حالة مطلقة واحدة، ونحن نجلد كل زانية وزان في حالة، وهي حالة عدم الإحصان، فالعموم باق على عمومه، فلا تخصيص حينئذ، بل التقييد فقط.
سؤال:
كيف تقول العلماء: إن هذه الأحاديث متواترة، مع أن رواتها في الصحاح ما بلغوا حد التواتر، غايته ثبوت الصحة؛ لثبوت العدالة، وهي رواية واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة عن أربعة كذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأعداد لا تفيد التواتر، فكيف يدعى التواتر في غير موطنه؟
جوابه:
أن السؤال إنما يرد إذا كان زماننا هو زمان النسخ والقضاء به، لكنا لا ندعي ذلك بل ندعي أن زمان النسخ هو زمان الصحابة رضي الله عنهم، وهذه الأحاديث كانت متواترة في ذلك الزمان، والمتواتر قد يصير آحادًا،
فكم من قضية كانت متواترة في الدول الماضية ثم صارت في زمن آحادًا بل نسيت بالكلية، فلا تنافي بين الكون الخبر متواترًا قديمًا، وآحادًا في زماننا المتأخر، فما تعين بطلان دعوى العلماء لذلك.
فإن قلت: كما أنه لم يتعين عدم التواتر في الزمن القديم، لم يتعين التواتر- أيضا- لاحتمال أن يكون آحادًا أولًا وآخرًا، فكيف يصح الجزم بعدم التواتر في هذه الأخبار؟ .
قلت: العدول إذا نقلوا أن هذه الأحاديث كانت متواترة، وأن النسخ وقع لها وهي متواترة قبل قولهم في ذلك، وجب اعتقاده كسائر الروايات التي يرويها العدول.
المسألة الرابعة:
يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب، وعن بعض فقهاء أصحابنا أنه لا يجوز.
حجة الجواز: ما تقدم من أنه: إما أن يعلم بالخاص والعام إذا تعارضا، فيجتمع النقيضان، أو يلغيا (وأحدهما) للنفي والآخر للإثبات، فيلزم من إلغائهما إلغاء النفي والإثبات، فيرتفع النقيضان، أو يقدم العام على الخاص، فيلغى الخاص بجملته، وإلغاء الدليل على خلاف الأصل، أو يقدم الخاص على العام، فيكون كل واحد منهما معمولًا (به)، وهو أولى من إلغاء أحدهما بكليته، وهو المطلوب.
حجة المنع: أن التخصيص بيان، والسنة وضعها أن تكون مبينة لقوله تعالى:{لتبين للناس ما نزل إليهم} ، فلو بين الكتاب السنة بالتخصيص لكان المتواتر أثرًا، وهو محال.
والجواب: أنه لا تناقض بين كون السنة مبينة لبعض الكتاب والكتاب مبين لبعض السنة وهو ما كان مجملًا منهما، وهذه الآية معارضة بقوله تعالى- في القرآن- إنه} هدى للناس وبينات}، و} تبيانًا لكل شيء}، فيتناول بيان السنة، وهو المطلوب.
المسألة الخامسة:
يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالإجماع؛ لأنه واقع، لأنهم خصصوا آية الإرث بالإجماع على أنه لا يرث وخصصوا آية الجلد على أن العبد كالأمة (في تنصيف) الجلد.
قلت: هذا تقرير للأصحاب، وعليه أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، وكل وارث يرث في حالة الحرية، فما يخرج من العموم إلا بعض الأحوال التي ليس اللفظ عاما فيها وخروج ما لا يعمه اللفظ ليس تخصيصا له.
وكذلك المحدودون في الزنا وغيره، اللفظ الدال عليهم عام فيهم، مطلق في أحوالهم، فكلهم يجلدون كمال الحد في حالة الحرية، فما خرج إلا ما ليس اللفظ (عامًا فيه)، فلا يكون تخصيصًا، بل تقييد لتلك الحالة المطلقة. فليطلب لهذه المسالة مثالًا غير هذه المثل.
وأما تخصيص الإجماع بالكتاب والسنة المتواترة فإنه غير جائز بالإجماع؛ لأن إجماعهم على الحكم العام- مع سبق المخصص- خطأ، والإجماع على الخطأ لا يجوز.
المسألة السادسة:
في تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بفعل الرسول عليه الصلاة والسلام (هل هو جائز) أم لا؟
قال الإمام فخر الدين رحمه الله: التحقيق في هذا: أن اللفظ العام إما أن يكون متناولًا للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يكون متناولًا له، فإن كان متناولًا له، كان ذلك الفعل مخصصًا لذلك العموم في حقه صلى الله عليه وسلم، وهل يكون مخصصًا للعموم في حق غيره؟
فنقول: إن دل الدليل أن حكم غيره كحكمه في الكل مطلقًا، أو في الكلام إلا ما خصه الدليل، أو في تلك الواقعة كان ذلك تخصيصًا في حق غيره أيضًا، ولكن المخصص للعموم لا يكون ذلك الفعل وحده، بل الفعل مع ذلك الدليل، وإن لم يكن كلك لم يجز تخصيص ذلك العموم في حق غيره.
قلت: الأدلة المقتضية لكوننا مثله عليه الصلاة والسلام في أحكام الشريعة إلا ما أخرجه الدليل هي كقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ونحوه مما تناول الثقلين، فعلى تقدير أن الغير المشار إليه في كلامه ها هنا الثقلان، فإنه يلزم على هذا النسخ إبطال النص بالكلية، وذلك ليس تخصيصًا؛ لأن التخصص هو إخراج البعض وإبقاء البعض، وأما إبطال الحكم في الجميع فليس تخصيصًا، فيتعين أن يحمل كلام الإمام رحمه الله على غير خاص، هو بعض الأمة، ووجود مثل هذا عسير، غير أنه لم يلتزمه، غير أنه قال: إن وجد كان الحكم كذلك، مع أنه يمكن تمثيله بأن العموم قد يكون يتناول الثقلين ويخرج صلى الله عليه وسلم من عمومه بطريق أنه إمام أو قاض أو نحو ذلك من صفاته صلى الله عليه وسلم، فإنه إمام الأمة وحاكم الحكام، ومفتي المفتين، فيلحق به صلى الله عليه وسلم في ذلك التخصيص الأئمة وحدهم أو القضاة وحدهم على حسب ذلك الوصف الذي هو معتمد، كما إذا ورد: (على اليد ما أخذت حتى
ترد)، فسقط الضمان عنه صلى الله عليه وسلم بأنه قاض أو غيره من الأسباب المتقدمة، فيسقط عمن سأله في تلك الصفة التي هي مدرك السقوط، فعلى هذا يتصور هذا البحث، لا على أدلة التسوية مطلقًا، فإنها شاملة لجميع الثقلين.
وعلى هذا يتعين أن يكون معنى قوله: (إن دل الدليل على أن حكم غيره كحكمه صلى الله عليه وسلم في الكل مطلقًا، أو في الكل إلا ما خصه الدليل"، أن مراده بالكل ذلك الحكم، دون كلية الشريعة.
وقوله: "أو في تلك الواقعة: ، يحمل على ذلك النوع الخاص من جنس ذلك الحكم، مع أن لفظ "ما" يقتضي كلية الشريعة؛ لأنها من صيغ العموم.
هذا هو الظاهر من كلامه، وحينئذ يتعين أن يكون الغير مفسرًا بفرقة مخصوصة من الثقلين تساويه في كل الأحكام، حذرا من النسخ وإبطاله جملة النص، وعلى هذا يعسر تصوره، فلا أعلم فرقة من الثقلين تساويه عليه الصلاة والسلام في كل الأحكام دون غيرها من الفرق.
وبالجملة، هذا الموضع (فلو) يتعين تأويله على أحد الوجوه المذكورة، أو يحمل على وجه من وجوه الحديث دون الخروج عن جملته بالكلية، كما
حمل حديث النهي عن استقبال القبلة (واستدبارها) على الأفضية دون الأبنية.
وقوله: (المخصص ليس ذلك الفعل، (بل الفعل مع الدليل المسوي)، تقديره: أن الفعل وحده لو انفرد ولم يرد الدليل المسوي لم يجب التأسي والاقتداء، ولو ورد الدليل المسوي دون هذا الفعل، لم يلزم التخصيص؛ لاحتمال أن يكون الحكم هو التعميم في حق الكل، فإذا اجتمعا- حينئذ- يلزم التخصيص.
ثم قال الإمام رحمه الله: وإن كان اللفظ العام غير متناول للرسول صلى الله عليه وسلم بل الأمة فقط، فإن قام الدليل على أن حكم الأمة مثل حكم النبي صلى الله عليه وسلم صار العام مخصوصًا، لمجموع فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك الدليل، وإلا فلا.
تقريره: أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على خلاف العموم الخاص بالأمة، ودل الدليل على أن الأمة مثله عليه الصلاة والسلام، جاز بمقتضى هذا الدليل المسوي فعل ذلك الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يبطل حكم العموم في حق الأمة، فيصير ذلك إبطالًا للنص بالكلية، وهذا ليس تخصيصًا بل نسخًا. وهذا الذي صرح به في هذا القسم هو مراده في القسم قبله، ويبقى الكلام في غاية الإشكال من جهة أنه شرع في التخصيص بما يمنع التخصيص.
وأما الشيخ سيف الدين رحمه الله فإنه لم يسلك هذا المسلك، بل قال: إما أن نقول بوجوب التأسي على من سواه أو لا.
والأول يلزم منه النسخ دون التخصيص بخروج الجميع من النص.
وإن لم نقل بالتأسي، فإن افعل مخصص له صلى الله عليه وسلم وحده إن كان النص متناولًا له صلى الله عليه وسلم ولأمته، وإن كان متناولًا للأمة فقط، لا يكون فعله صلى الله عليه وسلم مخصصًا عن العموم، لعدم دخوله، فإن قيل- أيضًا- بوجوب المتابعة على الأمة، كان نسخًا عن الأمة (لا) تخصيصًا.
ثم قال: وهذا التفصيل يحكى، (ولا أرى للخلاف) في التخصيص بفعله عليه الصلاة والسلام وجهًا- فإن كان المراد تخصيصه وحده فلا يتأتى فيه خلاف، أو تخصيص غيره فليس هو تخصيصًا بل نسخًا، مع أن الخلاف يحكى في تخصيص العموم يفعله صلى الله عليه وسلم، وقال به الأكثرون من الشافعية والحنفية والحنابلة، ونفاه الأقلون كالكرخي قال: والأظهر عندي الوقف؛ لأن دليل التأسيس عام، فليس مراعاة أحد العمومين أولى من الآخر.
فهذه جملة كلامه في هذه المسألة في الأحكام، ولم نذكر شيئاً من كلام الشيخ فخر الدين رحمه الله.
احتج من منع التخصيص مطلقًا: بأن المخصص العام هو الدليل الذي دل على وجوب متابعته صلى الله عليه وسلم وهو قوله: {واتبعوه} ، وذلك أعم من الذي يدل على بعض الأشياء فقط، فالتخصيص بالفعل يكون تقديمًا للعام على الخاص، وهو غير جائز.
ومثال ذلك: أن الدليل المسوي عام في جملة الشريعة كقوله تعالى: {واتبعوه} } وما آتاكم الرسول فخذوه}، والنص الذي يقصد تخصيصه هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(ولا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها لبول أو غائط)، وهذا إنما يتناول فرعًا من الشريعة وهو هيئة قضاء الحاجة، فلا يقضي عليه ذلك العموم الذي هو أعم منه؛ لأن تقديم العام على الخاص خلاف القاعدة.
والجواب: أن المخصص ليس هو مجرد قوله تعالى: {واتبعوه} ، بل هو مع ذلك الفعل، ومجموعها أخص من العام الذي يدعى تخصيصه بالفعل.
وتقريره بالبسط: أن قوله تعالى: {واتبعوه} مع استقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس لقضاء الحاجة يقتضي خروجنا من النهي في قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تستقبلوا
القبلة ولا تستدبروها لبول أو غائط) في حالة كوننا في الأبنية، وهذا مجموع أخص من حديث النهي عن الاستقبال.
فائدة:
قال الغزالي- رحمه الله في المستصفى: للمسالة ثلاثة مثل:
أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال وواصل، وهذا نص لم يتناوله عليه الصلاة والسلام، وإنما قالوا له: إنك تواصل؛ لأنهم فهموا اندراجه في حكمهم.
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلة واستدبارها، وصيغة الحديث لا يتناوله عليه الصلاة والسلام أيضا، ثم إنه [عليه الصلاة والسلام] استدبر البيت الحرام، ويحتمل أن يكون هذا مخصصًا؛ لأنه كان في خلوة، والبيان لازم له صلى الله عليه وسلم إظهاره.