الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع عشر في الفرق بين المخصص والمؤكد، والمقيد والأجنبي، والفرق بين النية المخصصة والمؤكدة
وهي مقامات يعسر على كثير من الفضلاء تحصيلها وتحقيقها.
أعلم: أآن القاعدة المتفق عليها أن المخصص من شرطه أن يكون منافيًا لظاهر العموم، فما لا ينافيه، لا يكون مخصصًا له.
ولهذه القاعدة قال الجمهور: إن العام لا يخصص بذكر بعضه؛ لأن بعض الشيء لا ينافيه، فلا يخصصه.
وشبه الخصم: أنا إذا قلنا: أكرم إخوة زيد، قلنا: أكرم زيدًا وعمرًا، ومنهم من قال: مفهوم ذكر البعض يقتضي سلب الحكم عن البعض الآخر، فعمدة الخصم مفهوم ذكر البعض، لا ثبوت الحكم في البضع من حيث هو بعض، فما وقع خلاف في أن المخصص لابد أن يكون منافيًا، غير أن الجمهور ألغوا المفهوم من ذكر البعض، والمخالف اعتبره.
فإذا قلنا: أكرم إخوة زيد، أكرم إخوة زيد، وكررنا العبارة، كان هذا مؤكدًا إجماعًا، وإذا قلنا: لا تكرم بعض أخوة زيد في حالة من الحالات، كان
هذا مخصصًا قاعدة العام في الأشخاص، مطلق في أربعة: الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والمتعلقات.
فإذا قال الله تعالى: {فاقتلوا المشركين} ، كان عامًا في قتل كل مشرك، بحيث لا يبقى مشرك، ولا يدل على أنهم يقتلون في حالة الجوع أو العطش أو غير ذلك من الحالات، ولا إشعار للفظ بركوب ولا جلوس، ولا هيئة من الهيئات التي يمكن أن يعرض المشركين، ومن ادعى أن لفظ المشركين يدل على الجوع أو العطش أو الجلوس أو غير ذلك فقد أبعد، ويبين ذلك أن المطابقة منفية، فإن لفظ المشركين لم يوضع للجوع ولا للجلوس، ولا يدل (عليه) اللفظ أيضًا تضمنًا، فإن الجلوس ليس جزءًا، ومدلول المشركين بل اللفظ لا يدل على وجود المشركين ألبتة، فضلًا عن هيئاتهم، فإن الله تعالى إذا قال: اجلدوا الزناة المحصنين، قد لا يكون في الوجود زان محصن، وكذلك بقية العمومات.
نعم قد يكون الواقع لا يعرى عن المشركين، لكن ليس ذلك من دلالة اللفظ، بل الواقع كذلك خاصة، ولا يلزم من كونه في الواقع شيء، أن يكون اللفظ دالًا عليه، وإذا كان لفظ العموم لا يدل على وجود أفراده، امتنع أن يكون دالًا على أحوالهم التي هي تابعة للوجود، فإن عدم الدلالة على المتبوع،
يستلزم عدم الدلالة على التابع، كما أن عدم المتبوع يستلزم عدم التابع.
وكذلك القول في البقاع والأزمان، فإن لفظ المشركين، لا يدل على مدينة خاصة لهم، ولا على جميع مدائنهم، وكذلك لا يدل على زمان معين، فقد يوجد في ذلك الزمان دون هذا، وفي هذا دون ذاك فإن الدلالة إن انتفت عن أصل الوجود، انتفت عن تعيين زمان الوجود ومكانه بطريق الأولى.
وكذلك المتعلقات، وهي ما به أشركوا، فلا يدل لفظ المشركين على وقوع الشرك بالكواكب، أو بالقمر، أو بالبقر، أو غير ذلك مما يقع به الشرك، بل إذا سمعنا المشركين أمكن أن يكونوا كلهم أشركوا بالأصنام، أو كلهم أشركوا بالكواكب، أو غير ذلك مما يقع به الشرك، فإن اللفظ إذا لم يدل على أصل الوجود، لم يدل على وجود الشرك بشيء معين، لا بالمطابقة، ولا بالتضمن، ولا بالالتزام، وإذا انتفت الدلالات الثلاث لما تقدم، انتفت الدلالة مطلقًا وهو المطلوب، بل نحن نعلم بالضرورة أن المشرك لا يقتل إلا في زمان ومكان وحالة، ويكون شركه واقعًا بشيء من الأشياء، بل يدل لا على قتل كل مشرك في مطلق الحال، ومطلق الزمان، ومطلق المكان، ومطلق المتعلق، لأن هذه المطلقات من لوازم القتل ووقوعه، فيكون اللفظ دالًا عليها بطريق الالتزام، أما خصوص حالة، أو مكان / أو زمان، أو متعلق فلا، فضلًا عن العموم في ذلك، هذا من حيث النظر العقلي.
وبرهان آخر من جهة الأوضاع اللغوية: أن اللغويين نصوا على انك إذا عبرت عن الأجناس العامة والحقائق العالية، نحو: المخلوق، والموجود،
والجسم، ونحوها، فإنك إنما تعبر عنها بلفظ "ما" الموضوعة لما لا يعقل، فإن العام لا يستلزم الخاص، فلا يندرج في تلك الأمور العامة مفهوم العاقل من حيث هو عاقل، وإن اندرج من حيث إنه جسم وموجود ومخلوق ونحوها، لكنه من هذه الجهة غير عاقل، وإذا لم يندرج فيه العقلاء من حيث هم عقلاء، كان اللفظ اللائق به هو لفظ "ما"، دون لفظ "من"، فلا تقول: كلمن خلقه الله تعالى ممكن، وأنت تريد جميع المخلوقات، بل: كل ما خلقه الله تعالى ممكن، وتقول: كل ما (هو) في الوجود شاهد بوجود الله تعالى وصفاته العلا، ولا تقول: كل من، وأنت تريد الاستيعاب الذي أراده الشاعر في قوله:
وفي كل شيء له آية .... تدل على أنه واحد
فلو أردت أن تضع موضع "شيء": "ما" أو "من"، كان المتعين "ما"، فإن الشيء بما هو لم يندرج فيه مفهوم العاقل من حيث هو عاقل، وإن اندرج فيه من حيث هو شيء، ولو قلت: من، لم يكن كلامًا عربيًا، ولذلك قال الله تعالى:{أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء} ، ولم يقل: إلى من خلق الله من شيء، فإن الشيء بما هو شيء لا يستحق لفظ "من"، بل "ما"، وتقول: كل ما سوى الله تعالى محدث، وكل ما سوى الله تعالى محتاج لقدرته وإرادته، ونحو ذلك من العبارات، ولا تأتي بـ "من" ألبتة، وإن كنت تريد العموم الذي اندرج فيه العقلاء.
إذا تقررت هذه القاعدة، فنقول لك في هذه المعاني العامة أربعة أحوال:
أحدها: أن تريد أحد نوعيها، وهو من يعقل، فيتعين التعبير بلفظ "من".
وثانيها: أن تريد نوع ما لا يعقل خاصة، فيتعين لفظ "ما".
وثالثها: أن تريد النوعين من حيث خصوص من يعقل بما هو عاقل، وخصوص/ ما لا يعقل من حيث (هو) كذلك، فيتعين لفظ "من"، فإن القاعدة أن المتكلم إذا أراد بحكمه من يعقل (وما لا يعقل) يعبر بـ "من"؛ لتغليب من يعقل على ما لا يعقل، ويكون التعبير بلفظ "من"، لأجل التغليب، كأنهم كلهم عقلاء.
ورابعها: أن تريد العموم، وتريد النوعين، لا بخصوصهما، بل تقصد استيعاب كل فرد فرد من المخلوقات من حيث هي مخلوقات، أو الأجسام من حيث هي أجسام، فهذه الحالة هي التي يحصل فيها العموم، ويتعين التعبير بلفظ "ما"، وهو المراد بقولنا: كل ما في الوجود من خلق الله تعالى ومن آثار قدرته ونحو ذلك، فيندرج العقلاء لا من حيث إنهم عقلاء؛ بل من حيث الجهات العامة.
إذا تقرر هذا، اتضح أن العام في الأشخاص، مطلق في الأحوال؛ بسبب أن العام في الأشخاص لو كان عامًا في الأحوال، لكان شاملًا لحالة العقل وحالة ضدها، وعلى هذا، كان يتعين التعبير بلفظ "من"، لا "ما"؛ لأن القاعدة: أنه إذا اجتمع من يعقل وما لا يعقل، يتعين التغليب، والتعبير بلفظ
"من"، والقول بالعموم في الاحتمال يقتضي اجتماع حالة العقل مع الحالات، فيتعين التغليب والتعبير بلفظ "من".
وحيث كان الواقع والمنقول هو التعبير بلفظ "ما"، دل ذلك على عدم العموم في الأحوال، وهذا متجه جدًا.
وإذا اتضح ذلك لك في الأحوال، اتضح في الأزمنة والبقاع والمتعلقات، فإن الجميع نسبته واحدة وبحث واحد، فيكون العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، ويكون معنى قوله تعالى:{فاقتلوا المشركين} ، اقتلوا كل مشرك ما، في حالة ما، في زمن ما، في مكان ما، ويكون شركه شيء ما.
وبرهان ثالث على هذا المطلوب: قد دل على قتل كل مشرك مثلًا، والمشرك له أحوال متضادة متنافية كالشبع والجوع، والعطش والري، والإقامة والسفر، والحركة والسكون، والقيام والقعود وغير ذلك من الأحوال الأضداد التي يتعذر الجمع بينهما، فمن المحال أن يقول الله تعالى: اقتلوا كل مشرك في الحالتين المتضادتين، فإن ذلك لا يتأتى إلا بطريقين: إما أن نقتله في حالة اجتماعهما، واجتماع/ الضدين محال، وإما أن نقتله مرة في هذه الحالة، ونقتله مرة أخرى في الحالة الأخرى، وهذا أيضًا محال، لتعذر تكرر القتل في الشخص الواحد، فتعين بالضرورة أن يريد الله إحدى هاتين الحالتين على البدل، إما أن نقتله في هذه، أيهما وجدت وقع القتل فيها، وإذا
كانت إحداهما مرادة بدلًا من الأخرى، أو بالعكس، والمراد على البدل لا شمول فيه؛ لأن المطلقات كلها كذلك، فإن الله تعالى إذا قال: اعتقوا رقبة، كانت كل رقبة مرادة على البدل، فيعتق إما هذه "بدل" عن تلك، أو تلك "بدل" عن هذه، وإذا كان الواقع في الأحوال هو هذا المفهوم، كان المقصود حاصلًا، وهو أنها مرادة على سبيل الإطلاق والبدل، وهو المطلوب، وهو المراد بقولنا: إن الله تعالى أمر بقتل كل مشرك في كل حالة، معناه: إما هذه، وإما تلك.
وكذلك القول في الأزمنة والبقاع فإن الجمع بينهما متعذر، كما تقرر في الأحوال المتضادة، فلم يبق حينئذ إلا أحوال غير متضادة، مثل السمع والسفر، والقيام والجلوس، ونحو ذلك من المختلفات.
وبقيت المتعلقات أيضًا، فإنها يمكن الجمع بينها، فتشرك بأشياء كثيرة. وهذه الأمور بخصوصياتها إن ادعى أحد أن اللفظ يدل على العموم فيها دون غيرها، وأن الوضع اللغوي يشعر بها دون غيرها، فقد أبعد وتحكم من غير مستند، وأيضًا إذا سلم ذلك، فيقال لقائله: هل أرد الله تعالى قتل المشرك إذا اجتمعت فيه، أو إذا افترقت، أو مجتمعة مفترقة؟ ، فإن أراد: إذا اجتمعت، فلا يقتل من انفرد بحالة منها، وهو خلاف الإجماع، وإن أراد مجتمعة ومفترقة، فإن الاجتماع والافتراق ضدان، لا يجتمعان، فمن المحال أن يراد القتل فيهما، لما تقدم في الضدين، بقي أن يريد: في أحدهما، لا بعينه، على البدل، وهذا هو الإطلاق بالضرورة، وقد تقدم آنفًا بسطه وتقريره.
فهذه البراهين وافية، وكل واحد منها كاف في تحقيق هذه القاعدة، وهو
المطلوب، وهذا المعنى بعينه/ قد تقرر في علم المنطق، فيكون تقريره هناك مؤكدًا لما قرر ها هنا، وذلك أن صيغة العموم قد وضح فيما تقدم أنها موضوعة للكلية، وتقدم الفرق بين الكلية والكلي فقد قال المنطقيون في تحقيق الكلية: أنا إذا قلنا: كل "ج""ر"، ففيه مذهبان:
أحدها: أن معناه: كل ما وجد وكان "ج" بالفعل، فإنه "ر"، كان ذلك الموجود في الماضي والحاضر والمستقبل، ولم يشترطوا حصول الوجود في الحال ولا في الماضي بل أخذوا القدر المشترك بين الأزمنة الثلاثة، وذلك يقتضي صدق الكلية فيما لم يوجد بعد.
وثانيهما: أن معناها: كل ما هو "ج" بالقوة، فهو "ر"، ولم يشترطوا أصل الوجود، وهذا هو مذهب الفارابي، الأول هو مذهب الجمهور.
وظاهر كلامهم أن هذا هو مقتضى الوضع اللغوي في قولنا: كل عدد
زوج، وكل إنسان حيوان، ومن له تحقيق في علم المنطق واللغة علم أن مقصود المنطقين واللغويين في ذلك واحد، وعلم أن هذا المذهب الثاني لا يشترط أصل الوجود، وعلى الأول إنما يشترط أصل الوجود وإن لم يقع.
وأما خصوصيات الأزمنة والأحوال والبقاع فبعيدة عن هذين المذهبين بعدًا شديدًا، فإن التعرض للمعنى العام والاقتصار عليه والسكوت عن غيره في تمهيد القواعد - عند من يقصد التحرير - دليل على أآن ذلك العام هو كمال المراد، وان غيره غير منظور إليه، ولا معرج عليه، فقد وضح اجتماع المعقول والمنقول على هذا المقصد، واجتماع الفرق فيه.
وإذا وضح لك أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، مع القاعدة الأخرى، وهي: أن من شرط المخصص أن يكون منافيًا لمقتضى العموم، احترازًا من المؤكد والأجنبي مطلقًا، وحينئذ يكون مقتضى العموم: ؛ اقتلوا كل مشرك في حالة ما، موجبة جزئية؛ لأنها مطلق الحالة، من غير تعدد.
وقد تقرر في قواعد المنطق أن الذي يناقض الموجبة الجزئية إنما هو السالبة الكلية، فإن قولنا: بعض العدد زوج/، أو بعض الحيوان إنسان، لا يناقضه ويبطله إلا قولنا: لا شيء من العدد بزوج، ولا شيء من الحيوان بإنسان، أما لو قلنا: بعض العدد ليس بزوج، أو بعض الحيوان ليس بإنسان، لم يكن ذلك مناقضًا، لما تقدم، لاجتماع الكلامين على الصدق؛ لأن الثاني
سالبة جزئية، لا سالبة كلية، وحينئذ لا يناقض قولنا: اقتلوا المشركين، الذي معناه: اقتلوا كل مشرك في حالة ما، إلا في قولنا: زيد المشرك، أو الفريق الفلاني لا يقتل في حالة ما ألبتة؛ لأن هذه سالبة كلية تناقض الموجبة الجزئية المتقدمة، إما إذا قال: بعض المشركين لا يقتل في حالة خاصة، كحالة الذمة أو نحوها، فإن ذلك لا يكون منافيًا ولا مناقضًا؛ (لأنه) لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، ولا من النفي في الأخص النفي في الأعم، ولا يلزم من قولنا: إن الله لا ينعم أهال الجنة في ذكر النار، أن يبقى مطلق النعيم، لاحتمال أن ينعمهم في دار أخرى، وكذلك إذا قلنا: زيد لا يصوم في السفر، لا يلزم (منه) أنه لا يصوم مطلقًا، هذا مثال في النفي في الخاص.
وأما نفي الخاص، فلا يلزم منه نفي العام، فنحو قولنا: هذا ليس بإنسان، لا يلزم (منه) أنه ليس بحيوان. وكقولنا: هذا ليس بزوج، لا يلزم أنه ليس بعدد، وهذا ليس بحيوان، لا يلزم أنه ليس بجسم، فظهر لك أن نفي الخاص لا يلزم منه نفي العام، وأن النفي في الخاص لا يلزم منه النفي في العام.
وبهذه القواعد يتبين لك أن قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} ما دخله تخصيص ألبتة بفريق من الفرق، ولا بشخص من الأشخاص، أما توهم تخصيصه بالنساء فباطل، بسبب أن صيغة المشركين صيغة تذكير، لا تتناول الإناث، والتخصيص فرع التناول، فحيث لا تناول لا تخصيص، وأما أهل الذمة، فلم يحصل بهم تخصيص أيضًا بسبب أنهم طائفة من المشركين،
أخرجوا في حالة خاصة، وقد تقدم أنه لا يلزم من الإخراج في الأخص الإخراج في الأعم، فلا يلزم من أنا لا نقتل طائفة الذمة في هذه الحالة الخاصة - وهي حالة الذمة - أن لا نقتلهم في مطلق الحالة، بل نحن نقتلهم في حالة ما، لأنا نقتلهم إذا حاربوا، والحرابة/ حالة خاصة، ولا يلزم من ثبوت الأخص ثبوت الأعم، فيلزم من قتلهم في حالة الحرابة قتلهم في حالة ما، وهي مطلق الحالة، فنحن باقون على مقتضى العموم، ونقتل كل مشرك في حالة (ما)، وما حصل بخروج أهل الذمة تخصيص ألبتة.
وكذلك القول في إخراج الرهبان والفلاحين والتجار وغيرهم ممن قال قائل بعدم قتالهم، وقتلهم كل فريق منهم إنما أخرج في حالة خاصة، فلا يكون مخصصًا، كما تقدم في الذمة بعينه حرفًا بحرف، ونحن نقتل جميع هذه الطوائف في حالة ما، وهي حالة الحرابة، فالعموم باق على مقتضاه لغة، ولم يحصل تخصيص ألبتة.
فإن قلت: فعلى هذا التقدير، لا يبقى في النصوص شيء مخصوص، وهو خلاف الإجماع، فإن كل شيء أخرج تقول أنت: إنما أخرج في حالة خاصة، فإنه لابد له من اسم خاص، وحالة خاصة تخصه، وحينئذ يكون من باب النفي في الأخص الذي لا يلزم منه النفي في الأعم، كما قررته، فتبطل حقيقة التخصيص مطلقًا.
قلت: لا يلزم مما ذكرته بطلان حقيقة التخصيص، بل أنا أبين لك وجودها في نصوص كثيرة على الشروط والقواعد المذكورة، من غير اختلال شيء منها.
فمنها: قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} ، مقتضى هذا اللفظ، أن كل
ما هو شيء، فهو مخلوق في حالة ما، ودل العقل أن الموجودات الواجبة الوجود، وهي ذات الله تعالى وصفاته العلا، لم تخلق في حالة ما، وهذه سالبة كلية، مناقضة لتلك الموجبة الجزئية، فيكون هذا تخصيصًا.
ومنها: قوله تعالى في حق بلقيس: {وأوتيت من كل شيء} ، يقتضي ذلك أنها أوتيت من كل شيء في حالة (ما)، ومن ثم أشياء لم تؤت منها شيئًا في حالة من الحالات، وهي السماوات والأرض والكواكب، والنبوة، والذكورة، والتصرف في عالم الكون، أو وصف الملائكة، وغير ذلك مما لا يحصى عدده لم تؤت بلقيس منه شيئًا في حالة ما، فهذه سالبة كلية، مناقضة لتلك الموجبة الجزئية، فيكون ذلك تخصيصًا محققًا.
ومنها: قوله تعالى في ريح عاد: {تدمر كل شيء بأمر ربها} ، يقتضي هذا العموم أنها تدمر كل موجود في حالة، وهي لم تدمر السماوات، والأرض/ والجبال والكواكب، والبحار، والجان، والملائكة، وغير ذلك مما لا يحصى عدده، لم تدمره في حالة ما البتة، فتكون هذه سالبة كلية، مناقضة
لتلك الموجبة الجزئية، فيكون تخصيصًا قطعًا، وعلى هذا المنوال فاعتبر التخصيص، فإن وجدت شروطه فاقض به، وإن فقدتها فلا تقض به.
وحينئذ إذا تقرر لك أن مقتضى العموم هو ثبوت الحكم لكل فرد من أفراده في حالة ما، وان تلك الحالة مطلقة، ويورد نص تعين بعض الحالات، ويسقط بعضها، ويبقى الحكم فيه كما تقدم في مثال المشركين، تعينت حالة الحرابة، وخرج ما عداها على الخلاف بين العلماء في قتل بعض تلك الفرق، فقل حينئذ: هذا تقييد لتلك الحالة المطلقة وزيادة قيد فيها، وهو وصف الحرابة مثلًا، فإنك إذا اعتبرت قولنا:"حالة ما"، وقولنا:"هي حرابة"، وجدت هذا الثاني تقييدًا للأول، مثل قوله تعالى:{فتحرير رقبة} ، } فتحرير رقبة مؤمنة}، الكل تقييد، لا تخصيص.
وحينئذ يظهر لك الفرق بين التقييد والتخصيص في العمومات، المخرج لبعض الأفراد في جميع الخلاف تخصيص، والمخرج لبعض الأفراد في بعض الأحوال دون بعض تقييد لتلك الحالة المطلقة، لا تخصيص.
وكذلك ضابط ظاهر يميز به بين التقييد والتخصيص: أن التقييد زيادة
على مدلول اللفظ، والتخصيص تنقيص من مدلول اللفظ، فإنك إذا زدت على مفهوم الرقبة أو مفهوم حالة ما، الإيمان أو الحرابة، فقد تصورت معنى زائدًا على ما كان متحصلًا معك أولًا، من غير أن ينقص مما كان معك شيء، أما إذا خصصت وأخرجت بعض أفراد العموم عن حكمه في جميع الحالات، فقد نقصت تلك الأفراد مما كان مدلولًا للفظ أولًا.
وينبني على الفرق فرق آخر، وهو أن المخصص معارض لظاهر العموم، فيتعين طلب الترجيح بينهما، والمقيد ليس معارضًا للمطلق، ولذلك يقبل التقييد لمطلق الدليل، ولا يخصص إلا بما هو أرجح، ولو بكونه أخص، فإن الأخص أقوى فيما يتناوله من العام فيما يتناوله الخاص، فإنه/ يجوز إطلاق العام من غير إرادة ذلك الخاص، فإنه يبقى معطلًا ألبتة، لا شيء تحته، وأما العام .... مستعملًا فيما عدا مدلول الخاص، فالخاص راجح من هذا الوجه.
إذا تقرر لك الفرق بين المخصص والمقيد والمؤكد، ظهر لك أن أكثر ما يدعى أنه مخصص أو انه مخصوص، ليس كذلك، وأن أكثر ذلك تقييد على ما تقدم تقريره، وكذلك - أيضًا - أكثر ما يدعى أنه ناسخ، إذا اعتبرت شروط النسخ فيه، تجده، مخصصًا، لا ناسخًا.
مسألة:
وهي بقية هذا الفصل، وهي الفرق بين النية المخصصة والنية المؤكدة، وهي من أغمض المباحث، من المطالب المشكلات، والأغوار البعيدة، التي وقع فيها الغلط لجماعة من الفضلاء والمفتين، وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام
رحمه الله - يقول: ما رأيت (مفت) إلا وهو يغلط في هذه المسألة، أو لفظ هذا معناه.
وتقرير هذا الفرق وإيضاحه أن نقول: إذا قال القائل مثلًا: والله لا لبست ثوبًا، فله أحوال:
الحالة الأولى: في نيته، فتارة يقول: لم تكن لي نية، قلنا: تحنث بكل ثوب؛ لظهور اللفظ في الاستغراق والعموم، واللفظ الظاهر في معنى يفيد حكمه في ذلك من غير احتياج إلى نية.
الحالة الثانية: أن يقول: أردت الامتناع في جميع الثياب، فإنا نقول له: تحنث بكل ثوب؛ للفظ الظاهر في ذلك، وقد تأكد بالنية الموافقة له، المؤكدة معناه.
الحالة الثالثة: أن يقول: خطرت لي ثياب أني أمتنع منها، ولم يخطر لي غيرها ببال، ولم تكن لي إرادة إلا في الكتان، فإنا نقول له: تحنث بجميع الثياب أيضًا، أما بثياب الكتان، فاللفظ المؤكد بالنية، وأما بغير الكتان؛ فلوجود اللفظ الظاهر فيها، السالم عن النية المخرجة، وليس من شرط إفادة اللفظ لحكمه إذا كان صريحًا فيه أن ينوي، فلا يمنع عدم خطوره ببالك وقصدك إليه ألا يثبت الحكم فيه، فيحنث بالجميع.
وهذا القسم هو موضوع غلط المفتين؛ لأنهم يقولون للسائل: أي شيء أردت بيمينك؟ يقول: أردت الكتان، فيقول: لا تحنث بغيره، وهذا خطأ إجماعًا؛ لأن من شرط المخصص أن/ يكون منافيًا، والقصد لاندراج البعض في الحكم لا يمنع من اندراج البعض ...... لحكم، بظهور اللفظ، فلا يتفطنون لذلك.
الحالة الرابعة: أن يقول: أردت ....... ثياب الصوف عن اليمين والامتناع، فيقول له: لا تحنث بثياب الصوف، لأن نيتك معارضة لظاهر لفظك ومنافية له، وهي مقدمة عليه.
فهذه هي النية المخصصة، فإذا حصلت حصل التخصيص، سواء حصل قصده للحنث بالكتان واندراجه، أو لم يحصل، فإن قصده لاندراج الكتان مؤكد، والمؤكد ليس شرطًا في التخصيص، فواجب حينئذ على المفتي إذا جاءه الحالف أن يقول له: أقصدت إخراج شيء عن يمينك أم لا؟ فإن قال له: قصدت إخراج الصوف أو غيره. فيقول له المفتي: لا تحنث به، ولا يقول له:
أي شيء أردت بيمينك؟ فيقول (له): أردت به الكتان، فيقول له: لا تحنث بغيره، فهذا السؤال خطأ، وجوابه المفتى -أيضًا- خطأ، فإنه إذا قصد بيمينه شيئًا، لا يلزم منه عدم الحنث بغيره، حتى يقصد إخراجه، فتلقين المفتي هذا السؤال وجوابه عنده خطأ ظاهر، مجمع عليه بين المحققين، وإن كان أهل العصر لا يفعلون إلا ذلك -ولم أر أحدًا يفعل غير ذلك ألبتة- ويجعلون النية المؤكدة مخصصة، وهو خطأ صراح.
فإن قلت: كتب العلماء مشحونة بأن اللفظ العام يستعمل في الخاص، ولا معنى لاستعماله فيه إلا إرادته بالحكم، وإذا كان هذا استعمال العام في الخاص، كان ما عدا هذا الخاص لا يثبت الحكم فيه، هذا هو عين التخصيص، وهو يبطل ما ذكرته.
قلت: لا نسلم أن هذا تفسير استعمال العام في الخاص، وأن هذا مقصودهم. بل مقصودهم باستعمال العام في الخاص القصد إلى إخراج بعض أفراد العام عن حكمه حتى يبقى اللفظ العام مستعملًا في الخاص الباقي بعد الإخراج، وإجماعهم على أن المخصص لابد أن يكون منافيًا، يعضد ما ذكرته، ويبطل التفسير الأول جزمًا، ويعين ما ذكرته.
فإن قلت: لو صرح وقال: والله لا لبست ثوبًا كتانًا، لم يحنث بغير الكتان، وإن لم يكن له نية في إخراج غير الكتان (مع أن الكتان وغيره) كان مندرجًا تحت/ عموم لفظه، فصار لفظ الكتان والتصريح به مؤكدًا لما اندرج في عموم لفظه من الكتان، حتى صار الكتان منطوقًا به مرتين، فقد صار
المؤكد مخصصًا، من غير احتياج لمخرج النية، فوجب أن يكون نيته وقصده للكتان كنطقه به، لا يحتاج لغيره، وإن كان مؤكدًا، والفرق عسر جدًا.
قلت: سؤال حسن قوي، والجواب عنه مبني على قاعدة وهي: أن كل لفظ لا يستقل بنفسه إذا اتصل بلفظ مستقل بنفسه، صيره غير مستقل بنفسه، ومن هذه القاعدة قول الزوج لامرأته، قبل الدخول: أنت طالق ثلاثًا، وقوله أنت طالق، يقتضي بينونتهما قبل الدخول، ويكون اللفظ الواقع بعد ذلك لغوًا، كما قاله الشافعي في قوله: أنت طالق، أنت طالق، فإن الثانية لا تلزمه قبل الدخول، خلافًا لمالك رحمة الله عليهم أجمعين.
واتفقوا في قوله: أنت طالق ثلاثًا، يلزمه الثلاث، إلا أبا حنيفة، فإن النية عنده لا تؤثر فيما هو خارج عن مدلول اللفظ، وقد تقدم البحث معه
في مسائل العموم، في قوله: لا آكل، وما ذلك إلا أن قوله "ثلاثًا تمييز لفظ لا يستقل بنفسه (وقد انفصل بما هو مستقل بنفسه) - وهو قوله: أنت طالق - فصيره غير مستقل بنفسه، فلذلك لم يؤثر طلاقًا بمفرده، وضم الثاني إليه، فكان المجموع هو المعتبر.
وأشد من هذه الأقارير بألفاظ النصوص كقوله: له عندي عشرة إلا اثنين، فإن قوله: عشرة، لفظ نص، ومع ذلك إذا أردفته بقوله:"إلا اثنين"، وهو لفظ لا يستقل بنفسه، صير الأول غير مستقل بنفسه، ولا يلزمه بشيء إلا تضميمه مع (ما) بعده إليه، ويكون المجموع هو المعتبر بنفسه عن معتبر، أو تلزمه ثمانية، لمجموع اللفظين بخلاف ما لو قال: له عندي عشرة وقد قضيتها، فإنه يلزمه عشرة، ولا يسمع منه:"قضيتها"، فإنه مستقل بنفسه، ولا يعكر على الأول فيصير غير مستقل بنفسه، فثبت الأول ولزم مقتضاه.
وكذلك إذا قال: له عندي درهم زائف، أو درهم نحاس، فقوله: نحاس، صفة لا تستقل بنفسها، فيصير الأول غير مستقل بنفسه، فلا يلزمه شيء، غير أن الذي دل عليه مجموع اللفظين، وهما: لفظ الموصوف ولفظ الصفة/ ولو قال: له عندي درهم، وهو نحاس، لزمه درهم جيد؛ لأنه يقتضي إطلاقه الأول، ويعد بالثاني نادمًا راجعًا عن إقراره، وهو لفظ مستقل بنفسه، فلا يضاف إلى الأول.
ونحو هذه النظائر مما لا يستقل بنفسه، إذا اتصل بما يستقل بنفسه، صيره
غير مستقل بنفسه من الحال، والصفة، والتمييز، والغاية، والشرط، والمجرورات والظروف، وقد بسطت ذلك في كتاب الأنوار والأنواء في القواعد الفقهية.
كذلك ها هنا إذا قال: والله لا لبست ثوبًا كتانًا - فقوله: "كتانًا" صفة لا تستقل بنفسها، وقد اتصلت بالعموم المستقل بنفسه فصيرته غير مستقل بنفسه، وأنه لا عبرة به من حيث هو هو، فلم يثبت العموم فيه حينئذ حتى يحتاج إلى التخصيص، بل المعتبر من كلامه إنما هو المجموع المركب من الصفة والموصوف، فتختص اليمين بثياب الكتان، ويكون ما عداها لم يتعرض له اللفظ ألبتة، كما لو قال: والله لا أكلت لحمًا، فإنه لا يتناول الخبز ونحوه.
أما النية فليس فيها وضع لغوي يقتضي إبطال مقتضيات الألفاظ، فإن الوضع إنما يكون في الألفاظ، وهي ليست لفظًا، وإنما هي معنى معقول، وليس في العقل ما يقتضي أن الشيء إذا قصد بالثبوت، يكون غير مقصودًا بالإبطال والنفي، فكانت النية لا يعرض فيها لغو منويها ألبتة، نفيًا ولا إثباتًا، فبقي حكم اللفظ على عمومه في غير المنوي، وحكمه عند عدم هذه النية الحنث بغير المنوي، فيحنث بغير المنوي، وهو المطلوب.
وها هنا جواب آخر وهو: أن التقييد بالصفة له مفهوم، فهو يقتضي بمفهومه سلب الحكم عما عدا المنطوق، ويكون هذا المفهوم معارضًا لدلالة العموم على ثبوت الحكم في غير الموصوف بتلك الصفة، ودلالة المفهوم أخص من دلالة العموم، فتقدم دلالة المفهوم على دلالة العموم، على قاعدة تقديم الأخص على الأعم، في سائر صور التخصيص.
وأما النية فليس لها دلالة ألبتة، فإن المعاني من المدلولات، لا من
الدلالات، وإذا لم يكن لها دلالة ألبتة، انتفت دلالة المفهوم؛ لأنها من باب دلالة الالتزام، وحينئذ لا يكون في النية ما يعارض دلالة العموم، فبقيت سالمة عن المعارض فحصل الحنث بها حينئذ.
وهذا/ جواب حسن، وفرق جميل، غير أن عليه سؤالًا صعبًا، وهو: أن الناس اختلفوا في دلالة المفهوم، هل هي حجة أم لا؟ ، وهل هي موجودة أم لا؟ ، وإذا قلنا: بأنها موجودة حجة، فهل يخصص بها العموم، لكونها أخص، أو لا تخص، لضعفها؟ ، وهو اختيار الإمام فخر الدين وجماعة.
قولان في ذلك كله، فيلزم على القول بأنه ليس بحجة، أو انه حجة لكنه لا يخصص العموم، أن يحصل الحنث عند القائلين بعدم ذلك، لكنهم لما أجمعوا على عدم التحنيث، دل ذلك على أن المدرك في عدم التحنيث ليس هو دلالة المفهوم، بل هو أمر آخر، وهو المدرك الأول، فإنه ليس عليه سؤال، وهو مدرك حسن، ويمكن أن يقال: المدرك عند القائلين بالمفهوم المدرك الأول مع المفهوم، فلهم مدركان.
والقائلون بأنه ليس حجة، أو هو حجة لكنه لا يخصص العموم، المدرك عندهم هو المدرك الأول فقط.
فهذا هو تلخيص الفرق بين النية المؤكدة والنية المخصصة، وهو من الأمور المهمة، والمسائل العظيمة، التي يحتاج إليها مع إلمام في الفتاوى، وأكثر العلماء والفقهاء لا يحققها، ولا يحسن السؤال عنها، ولا يحكم الجواب الفاسد فيها من الجواب الصحيح، الذي هو مدار الفتوى، فتأمل ما تقدم، وحققه تنتفع به إن شاء الله تعالى.