الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: في تخصيص المقطوع بالمظنون
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد عند الشافعية والمالكية والحنفية
، وقال قوم: لا يجوز أصلًا، وقال عيسى بن أبان: إن كان خص قبل ذلك بدليل مقطوع به جاز، وإلا فلا.
وقال الكرخي: إن كان قد خص قبل ذلك بدليل منفصل فصار مجازا فيجوز حينئذ، وإن خص بدليل متصل ولم يخص أصلا لم يجز، واختار القاضي أبو بكر- رحمة الله عليهم أجمعين- الوقف.
ووجه قول عيسى بن أبان: أنه إذا خص بدليل مقطوع، قطع بضعفه، فيتسلط عليه حينئذ خبر الواحد فيخصصه، وإن لم يخصص بمقطوع، لم يقطع بضعفه، فلم يجز تخصيصه بخبر الواحد.
ووجه قول الكرخي: أن المخصص المتصل عنده يكون مع صيغة العموم حقيقة فيما بقي كلامًا واحدًا، فيكون حقيقة، والحقيقة قوية، فلا ينهض خبر
الواحد لتخصيصه حينئذ، والمخصص المنفصل لا يمكن جعله من لفظ العموم (لفظًا واحدًا، فيتعين أن لفظ العموم) قد بقي مجازًا، بسبب التخصيص السابق.
فمدار الفريقين في التخصيص وعدمه: القوة والضعف، غير أن عيسى بن أبان يلاحظ الضعف في الصيغة من جهة (القطع والظن، والكرخي من جهة) المنفصل والمتصل.
حجة الجمهور: أن العموم (وخبر الواحد دليلان متعارضان)، وخبر الواحد أخص من العموم، فوجب تقديمه على العموم، وإنما قلنا: إنهما دليلان؛ لأن العموم دليل بموافقة الخصم في هذه المسألة، وأما خبر الواحد فهو- أيضًا- دليل على ما تقرر من موضوعه؛ ولأن الخصم هنا يساعده عليه، وإذا ثبت ذلك، وجب تقديمه على العموم؛ لأن تقديم العموم [عليه] يفضي إلى إلغائه بالكلية، أما تقديمه على العموم فلا يفضي إلى إلغاء العموم بالكلية، فكان أولى في سائل المخصصات.
الثاني: أن الصحابة مجمعة على تخصيص القرآن بخبر الواحد، وقع ذلك في صور خمس.
إحداها: أنهم خصصوا قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} بما رواه الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث).
وثانيها: أنهم خصصوا عموم قوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة أنه صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس؛ لأن المتوفاة إذا خلفت زوجًا، وبنتين، وجدة، فللزوج الربع: ثلاثة، وللبنتين الثلثان: ثمانية، وللجدة السدس، عالت
المسألة إلى ثلاثة عشر، وثمانية من ثلاثة عشر أقل من ثلثي التركة.
قلت: (وفي هذا المثال نظر، بسبب أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال)، ونحن نورثهما الثلثين في كثير من الأحوال، وإنما خرجت هذه الحالة الخاصة، ولا يلزم من إخراج الخاص إخراج العام، فلا يلزم إخراج مطلق الحالة، فالعموم باق على حاله على ما تقدم تقريره قبل هذا، فليطالع من هناك.
وثالثها: أنهم خصصوا عموم قوله تعالى: {وأحل الله البيع} لخبر أبي سعيد في المنع من بيع الدرهم بالدرهمين.
قلت: وهذا- أيضًا- من الطراز الأول، فإن البيع له أحوال، يقع مع حالة الزيادة، ومع عدم حالة الزيادة، ومع الربويات، ومع غير الربويات، والعام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فلا يتناول العموم حالة الزيادة في الربويات، فلا يكون إخراجهما تخصيصًا.
ورابعها: خصصوا قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} بما ورد في المجوس من خبر عبد الرحمن بن عوف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بما ورد في المجوس من خبر عبد الرحمن بن عوف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(سنوا بهم سنة أهل الكتاب).
وتقريره: أن الآية اقتضت قتل الكل، وخبر عبد الرحمن إنما ورد فيه الجزية أي سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية، فبطل القتل فيهم مع أهل الكتاب، وخرج الجميع من عموم المشركين، وبقي عبدة الأوثان وما شاكلهم (فيمن لا) يجوز أخذ الجزية منهم.
قلت: وهذا أيضا مما تقدم أن لفظ المشركين عام فيهم، مطلق في أزمنتهم وأحوالهم وبقاعهم، وحالة الجزية حالة خاصة لا يلزم من عدم ثبوت الحكم فيها عدمه في مطلق الحالة، فالذي دل عليه باق، فلا تخصيص، لعدم التنافي.
وخامسها: خصصوا قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} بخبر أبي هريرة في المنع من نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أختها وبنت أخيها.
قلت: وهذا أيضًا مطلق في الأحوال، فلا يتعين التخصيص.
احتج المانعون بالخبر والإجماع والمعقول:
أما الإجماع: فلأن عمر رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت
قيس وقال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة، لا ندري لعلها نسيت أو كذبت، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعًا.
وأما الخبر: فهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه)، والخبر الذي يخصص الكتاب على مخالفة الكتاب فوجب رده.
وأما المعقول فوجهان:
الأول: أن الكتاب مقطوع به، وخبر الواحد مظنون، والمقطوع أولى من المظنون.
الثاني: أن النسخ تخصيص في الأزمان، وهذا التخصيص تخصيص في الأشخاص والأعيان، فنقول: لو جاز التخصيص في الأعيان بخبر الواحد، لجاز التخصيص في الأزمان بخبر الواحد.
وتقريره: أن التخصيص في الأشخاص لو جاز لكان لأجل أن تخصيص العام أولى من إلغاء الخاص، وهذا المعنى قائم في النسخ، فيلزم جواز نسخ المتواتر بخبر الواحد، ولما لم يجز ذلك، علمنا أن ذلك أيضا غير جائز.
والجواب عن الأول: أن الإجماع ليس بصحيح، بسبب أنه لم يوافق عليه الكل تصريحًا ولا سكوتًا، أما التصريح فلعدم النقل، وأما التلويح والسكوت فلأنه لم يكن الكل حضرين حتى يتعين ذلك، سلمنا ذلك أنه إجماع، لكنا لا ندعي التخصيص بكل ما كان من أخبار الآحاد حتى يكون ذلك واردًا علينا، وإنما نجوزه بالخبر الذي لا يكون راويه متهمًا بالكذب والنسيان، وحديث عمر رضي الله عنه صريح في رواية بالتهمة بالكذب والنسيان، فليس من صور النزاع، فلم يكن ذلك قادحًا في غرضنا، بل هو بأن يكون حجة لنا أولى، وذلك أن عمر رضي الله عنه بين أن روايتها إنما صارت مردودة، لكونها غير مأمونة من الكذب والنسيان، ولو كان خبر الواحد المقتضي التخصيص الكتاب مردودًا كيف ما كان، لما كان لذلك التعليل وجه.
وعن الثاني: أن السابق إلى الفهم أن مخالفة الحديث للكتاب إنما تكون معارضة لما فهم أنه مراد من الكتاب، كما إذا قلنا: زيد يخالف عمرًا في كلامه، أي: فيما فهم عنه أنه مراده، أما إذا خالفه في ظاهر لفظه ووافق مقصوده، إنما يقال له: موافق لا مخالف، والمخصص موافق للمراد وبيان له، فلا يكون مخالفًا له، فلا يتناول هذا الحديث الخبر المخصص، سلمنا أن ظاهره يدل على ذلك، لكن يلزمكم أن لا تجوزوا تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، فإنها على خلاف الكتاب.
وعن الثالث: أن البراءة الأصلية يقينية، ثم إنا نتركها بخبر الواحد، فبطل قولكم:(المقطوع لا يترك بالمظنون).
وبسط ذلك: أن البراءة الأصلية يقينية الأصل، مظنونة الاستصحاب، بمعنى أن الواحد منا يقطع بأنه ولد بريئًا من جميع الحقوق قطعًا، ثم إنه إذا كبر وصار بالغًا، لا يحصل له ذلك القطع في خصوص ذلك الزمان، بل بظنه، ولذلك يقبل في شغل ذمته الشاهدين، والشاهد واليمين، ولو كان ذلك اليقين باقيًا لما رفعناه بالأسباب المظنونة، كذلك العموم مقطوع السند مظنون الدلالة، وخبر الواحد إنما يفيد في صرف الدلالة عن الفرد المخرج، وهي ظنية، وليس لخبر الواحد اثر في السنة أصلًا، فحصل التشبيه بين البراءة والعموم في أن الخبر إنما رفع المظنون، فالمرفوع فيهما مظنون وأصلهما مقطوع.
وعن الرابع: أن الفرق بينهما: أن النسخ رفع للحكم لما علم أنه كان ثابتًا فيه، والتخصيص في الأعيان إخراج لما لم يكن الحكم ثابتًا فيه ألبتة،