الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس عشر في حد التخصيص، وتمييزه عن النسخ والاستثناء، وقبول اللفظ العام للتخصيص
فهذه ثلاثة فصول:
الفصل الأول
في حد التخصيص
فعند الواقفية: هو إخراج بعض ما ضح أن يتناوله الخطاب، سواء كان الذي صح واقعًا، أو لم يكن؛ لأنهم لم يجزموا بالوضع، فليس عندهم إلا الصلاحية والقبول، ويقولون: إن المتكلم أراد باللفظ بعض ما يصلح له دون بعض.
وأما نحن لما جزمنا بالوضع قلنا: اللفظ استعمل في بعض ما وضع له دون بعض.
وحد التخصيص عندنا: هو إخراج ما تناوله اللفظ العام، أو ما يقوم مقامه بدليل يصلح للإخراج وغيره/ قبل تقرر حكمه.
فقولي: "إخراج" احترازًا من الأجنبي الذي لا يعارض العموم، والمؤكد
أيضًا - فإنك ستقف بعد هذا الباب - إن شاء الله تعالى - على الفرق بين المخصص والمؤكد.
وقولي: "أو ما يقوم مقامه"؛ ليندرج التخصيص الواقع في المفهومات، فإن الغزالي وجماعة لا يسمون المفهوم عامًا؛ لأن العام في اصطلاحهم هو: اللفظ الذي تتشابه دلالته بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد، والمفهوم وإن تشابهت دلالته، غير أنه ليس بلفظ، فلا يسمى عامًا، وهذا بحث في اصطلاحهم.
فقلت: أو ما يقوم مقام اللفظ العالم في شمول الحكم، فإن التخصيص يدخل في المفهومات أيضًا، ÷ فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما الماء من الماء" يقتضي مفهومه: ألا يجب الغسل من القبلة، ولا من جميع أنواع المباشرة، ولا من أكل الطعام، ولا (من) غير ذلك من الأجناس التي ليست بإنزال.
وهذا السلب عام شامل لهذه الأجناس كلها من حيث المعنى، وقد يقع الاصطلاح على عدم تسميتها عمومًا، فإذا ورد قول عليه الصلاة والسلام:"إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" خرج من شمول هذا السلب التقاء الختانين، وقد صار موجبًا للغسل، وأضيف لحكم المنطوق دون المفهوم.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الربا في النسيئة"، يقتضي مفهومه سلب تحريم الربا عن المفاضلة بين الجنسين وغيره، فلما ورد قوله عليه الصلاة والسلام:"لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلًا بمثل"، خرج التفاضل من حكم المفهوم، ودخل في حكم المنطوق، فظهر حينئذ أن المفهوم يدخله التخصيص، كما يدخل في المنطوق، فذلك قلت: أو ما يقوم مقامه؛ ليندرج في الحد.
وقولي: "بدليل يصلح للإخراج وغيره" احترازًا من الاستثناء، فإن لفظ الاستثناء لا يصلح إلا للإخراج، ولا يصلح للإنشاء والتقرير، بخلاف أدلة التخصيص، إن كانت منفصلة، نحو تخصيص قوله تعالى:{فاقتلوا المشركين}
بقوله صلى الله عليه وسلم "لا تقتلوا الرهبان"، فإن قوله عليه الصلاة والسلام:"لا تقتلوا الرهبان"، يصلح لإنشاء هذا الحكم ابتداء من غير أن يخرج شيئًا.
وإن كان متصلًا نحو الشرط والغاية والصفة، فإنها/ قد ترد (لا) للإخراج، كقولنا: إن جاء زيد فأكرمه، فإن هذا شرط، ولم يتقرر قبله ولا معه ولا بعده شيء يقتضي أنه مخرج منه، كقوله: سرت حتى أدخل مكة، فهذه غاية، وليست مخرجة من "سرت" شيئًا، فإن قولنا:"سرت"، إنما يقتضي مطلق السير، ولا يقتضي شموله لجملة البقاع حتى يكون لفظ "حتى" مخرجًا لبقيتها ما عدا مكة.
والصفة كقولنا: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فإن قولنا: السميع العليم، لم نأت بهما لإخراج مسمى آخر بلفظ الله غير سميع ولا عليم، بل أتينا بهاتين الصفتين لمطلق الثناء على الله تعالى، لا للإخراج، وكذلك سائر صفات الله تعالى إنما يؤتي بها للمدح، لا للتمييز والإخراج، وعكسه الرجيم، أتينا به للذم والسب، لا لإخراج شيطان ليس برجيم، فهذه المخصصات المتصلة أيضًا، المنصوص عليها تصلح لغير الإخراج.
أما الاستثناء فلا يصلح إلا لإخراج بعض الكلام عنه، فلذلك صار
قولي: "بلفظ يصلح للإخراج وغيره" مخرج للفظ الاستثناء عن الحد.
وقولي: "قبل تقرر حكمه"، احترازًا من أن يعمل بالعام، فإن الإخراج بعد ذلك يكون نسخًا، فإن التخصيص إنما هو بيان المراد باللفظ العام دون غيره، أما إذا عمل به، فهو مراد كله، بناء على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فيكون الكل مرادًا، فالمخرج بعد ذلك يكون مما هو مراد، فهو نسخ لا تخصيص، وإن فرعنا على جواز تكليف ما لا يطاق وأنه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، جوزنا ورود التخصيص بعد العمل، وتعين إسقاط هذا الحد (من الحد)، فهذا هو الحد المنطبق على التخصيص.
* * *