المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة وعموم الكتاب بالقياس، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي الحسين البصري، والأشعري، وأبي هاشم أخيرا - العقد المنظوم في الخصوص والعموم - جـ ٢

[القرافي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثاني: في إقامة الدليل على أن ما تقدم من (الصيغ كلها من) العموم وذلك بأن أقسمها ثلاثة عشر قسمًا

- ‌القسم الأول: / صيغ الاستفهام:

- ‌الباب الخامس عشر في تقرير الجمع بين أقوال العلماء من النحاة والأصوليين فإنها متناقضة في ظاهر الحال

- ‌فائدة:ضابط جمع القلة

- ‌ضابط مسمى جمع الكثرة:

- ‌الباب السادس عشر في حد التخصيص، وتمييزه عن النسخ والاستثناء، وقبول اللفظ العام للتخصيص

- ‌الفصل الأولفي حد التخصيص

- ‌الفصل الثاني في الفرق بين التخصيص والنسخ والاستثناء

- ‌الفصل الثالث في قبول اللفظ العام للتخصص

- ‌الباب السابع عشر في الفرق بين المخصص والمؤكد، والمقيد والأجنبي، والفرق بين النية المخصصة والمؤكدة

- ‌الباب الثامن عشر فيما يصير به العام مخصوصًا على الحقيقة وعلى المجاز، وما هو الأصل في ذلك، وما هو الفرع فيه

- ‌ الفرق بين الصرائح والكنايات

- ‌الباب التاسع عشر في جواز التخصيص ومسائله

- ‌وفيه سبع مسائل:

- ‌الباب العشرون في المخصصات المتصلة، ووقوع التخصيص بها، وما يتفرع عن ذلك

- ‌ الحال

- ‌الفصل الأول في بيان أن هذه الأمور ليست مخصصة للعموم

- ‌الفصل الثاني في التفريع على أن هذه المخصصات المتصلة مخصصة في بيان فروعها وأحكامها

- ‌المخصص الأول: الاستثناء

- ‌المسألة الثانيةيجب أن يكون الاستثناء متصلا بالمستثنى منه

- ‌المسألة الرابعةفيما اتصل إليه الاستثناء في الكثرة والقلة

- ‌المسألة الخامسة: الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات

- ‌المسألة السابعة: الاستثناء المذكور عقب الجمل

- ‌المخصص الثاني المتصل: الشرط

- ‌المسألة الثالثة: في أن المشروط متى يحصل

- ‌المسألة الرابعة:الشرطان إذا دخلا على جزاء واحد

- ‌المسألة الخامسة:الشرط الواحد إذا دخل على مشروطين:

- ‌المخصص الثالث المتصل: الغاية

- ‌فيه ثلاث مسائل

- ‌المخصص الرابع المتصل: التقييد بالصفة

- ‌الباب الحادي والعشرون في المخصصات المنفصلة

- ‌القسم الثاني: التخصيص بالحس

- ‌القسم الثالث: التخصيص بالواقع

- ‌القسم الرابع: التخصيص بقرائن الأحوال

- ‌القسم الخامس: التخصيص بالعوائد

- ‌الفصل الثاني: التخصيص بالدلائل السمعية وهي قسمان: قطعية السند متواترة، وظنية السند أخبار آحاد

- ‌القسم الأول: التخصيص بالمقطوع السند، وفيه سبع مسائل:

- ‌المسألة الأولى: تخصيص الكتاب، جائز عندنا، خلافًا (لبعض) أهل الظاهر

- ‌المسألة الثانية:تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة

- ‌المسألة السابعة: التخصيص بالتقرير:

- ‌القسم الثاني: في تخصيص المقطوع بالمظنون

- ‌المسألة الأولى: يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد عند الشافعية والمالكية والحنفية

- ‌المسألة الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة وعموم الكتاب بالقياس، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي الحسين البصري، والأشعري، وأبي هاشم أخيرًا

- ‌الباب الثاني والعشرون في بناء العام على الخاص

- ‌الباب الثالث والعشرون فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك

- ‌فيه عشر مسائل:

- ‌المسألة الأولى: الخطاب الذي يرد جوابًا عن سؤال سائل- إما أن لا يكون مستقلا بنفسه، أو يكون

- ‌المسألة الثانية: الحق أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي

- ‌المسألة الثالثة: لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه خلافًا لأبي ثور

- ‌المسألة الرابعة: التخصيص بالعادات

- ‌المسألة الخامسة: كون المتكلم ناطقًا بالخطاب، ومتكلمًا به، لا يقتضي تخصيص العموم بخروجه منه

- ‌المسألة السادسة: العموم المتناول للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة كقوله تعالى: {يا أيها الناس} ،} يا أيها الذين آمنوا} ، يعم الحكم الجميع

- ‌المسألة السابعة: العموم المتناول لما يندرج فيه السيد والكافر، لا يخصص بخروج هذين الفريقين منه؛ لأن العموم شامل لهما، ولا مانع من بقائه على عمومه

- ‌المسألة الثامنة: إذا ورد العموم في سياق المدح والذم، لا يوجب تخصيص العام؛ لأن الموجب للعموم موجود، والجمع بين جميع الأنواع فيه ممكن يوجب التعميم

- ‌المسألة التاسعة: اختلفوا في العموم إذا تعقبه استثناء أو صفة حكم، وكان ذلك لا يتأتى في (بعض ما تناوله) العموم، هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض فقط أو لا

- ‌المسألة العاشرة: عطف الخاص على العام هل يقتضي تخصيصه

- ‌الباب الرابع والعشرون في حمل المطلق الكلي على المقيد

- ‌القسم الأول: أن يختلف الحكم والسبب معًا

- ‌القسم الثاني: أن يتفقا معًا

- ‌القسم الثالث: أن يكون السبب مختلفًا والحكم واحدًا

- ‌القسم الرابع: أن يكون الحكم مختلفًا والسبب واحد

- ‌مسألة: إذا أطلق الحكم في موضع، وقيد في موضعين بقيدين متضادين

- ‌فائدة: التقييد والإطلاق اسمان للألفاظ باعتبار معانيهما

- ‌الباب الخامس والعشرون في تحقيق الفرق بين حمل المطلق على المقيد في الأمر والنهي

الفصل: ‌المسألة الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة وعموم الكتاب بالقياس، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي الحسين البصري، والأشعري، وأبي هاشم أخيرا

ولا شك أنه إذا علم ثبوت الحكم في شيء، ثم قصد إلى رفعه بعد، وإبطال الشرع فيه، أنه يحتاط فيه ما يحتاط لما لم يتصف بشيء من ذلك. فلذلك فرق الناس بين التخصيص والنسخ.

‌المسألة الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة وعموم الكتاب بالقياس، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي الحسين البصري، والأشعري، وأبي هاشم أخيرًا

.

ومنهم من منع منه مطلقًا، وهو قول الجبائي وأبي هاشم أولا، ومنهم من فصل، ثم ذكروا فيه وجوهًا أربعة:

أولها: قول عيسى بن أبان: إن تطرق التخصيص للعموم (جاز)، وإلا فلا.

وثانيها: قول الكرخي، وهو أنه إذا خص بدليل منفصل جاز، وإن خص

ص: 325

بدليل متصل منع؛ لأجل القوة والضعف الذين تقدم ذكرهما، كما تقدم تقريره.

وثالثها: قول كثير من فقهائنا الشافعية كابن سريج وغيره: أنه يجوز بالقياس الجلي، دون الخفي.

ثم اختلفوا في تفسير الجلي والخفي على ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الخفي قياس الشبه، والجلي قياس المعنى.

وثانيها: أن الجلي هو الذي يفهم علته من لفظه، كقوله صلى الله عليه وسلم:(لا يقضي القاضي وهو غضبان)، فإنه يفهم أن علة ذلك ومنعه من تشويش الفكر، فيتعدى ذلك الجائع، والحاقن، وكل ما يخل بالفكر.

وثالثها: قول أبي سعيد الإصطخري: أن الجلي: هو الذي لو قضى

ص: 326

القاضي بخلافه نقض قضاؤه، والخفي: هو الذي لا ينقض قضاء الفاضي بخلافه.

ورابعها: قول الغزالي: إن العام والقياس إن تفاوتا في إفادة الظن، رجحنا الأقوى، وإن تعادلا، توقفنا.

وأما القاضي أبو بكر وإمام الحرمين فقد ذهبا إلى الوقف.

وتحرير ما قاله الغزالي: أن مراتب الظنون الحاصلة من القياس متفاوتة، فالمنصوص على علته أقوى في الظن من القياس الذي استنبطت علته من أوصاف غير مذكورة، وما نص على علته بالتصريح أولى مما نصل على علته بالإيماء، وما كانت علته يشهد نوعها لنوع الحكم، أقوى مما يشهد جنسها بجنس الحكم، وما ثبتت علته بالمناسبة أقوى مما ثبتت بالدوران،

ص: 327

ونحو ذلك مما هو مذكور في باب التعارض والترجيح من الأقيسة.

والعموم الذي قلت أفراده (أولى من الذي كثرت أفراده) في إفادة الظن؛ لأن تطرق احتمال المخصص إليه أقل، فإن كثرة الأنواع توجب كثرة احتمال التخصيص، والعموم الذي لا يكاد يوجد إلا مخصوصًا أضعف مما لا يوجد مخصوصًا إلا على الندرة، والعموم الذي يستعمل لفظه مجازًا في كثير من الصور، أضعف مما لم يتجوز بلفظه إلا في الندرة، وهذا عين التخصيص، فإن اللفظ قبل دخول آلة التخصيص عليه قد يستعمل مجازًا ويستعمل حقيقة لا تخصيصًا، إنما التخصيص بعد القضاء بالعموم.

إذا تقرر تفاوت رتب الظنون في القياس والعموم، فقد تستوي المرتبتان في الظن، وقد ترجح إحداهما، فتصور ما قاله الغزالي في إتباع الراجح منهما على وجد، وإلا توقفنا، فإن المقصود إنما هو القضاء بالراجح، ويلزم الغزالي على هذا التوقيف الحسن أن يقول بذلك في خبر الواحد مع العموم، فإن هذه المرجحات متجهة هنالك كما هي متجهة ها هنا من جهلة غلبة المجاز على أحدهما وقلته في الآخر وكثرة الأفراد وقلتها، ونحو ذلك.

ص: 328

وهذا السؤال قد يتخيل أنه لازم للواقفة أيضًا، فيقال: لم توقفوا ها هنا ولم يتوقفوا في خبر الواحد مع العموم، لاختلاف الأحوال بينهما كما تقدم؟

غير انه غير وارد عليهم؛ لأنهم لم يسلكوا مسلك الغزالي في استقراء مراتب الظنون، بل خصصوا العموم بخبر الواحد بعمل الصحابة- رضوان الله عليهم- وقواه استفاضة ذلك بينهم، ولم يجدوا مثل ذلك الاشتهار في القياس، فتوقفوا، لتقارب المدارك، والغزالي إنما لزمه ذلك من جهة ما ذكره من التعليل، وأشار إليه في المدرك الذي لم يعرجوا هم عليه، بل توقفوا في ذلك.

تنبيه:

القول بالوقف يشارك التخصيص من وجه ويباينه من وجه.

أما المشاركة؛ فلأن المطلوب من تخصيص العام بالقياس ترك الاحتجاج به في الذي تناوله القياس، والواقف يشاركه فيه.

وأما المباينة: فهي أن القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس، والواقف لا يحكم به.

واعلم أن نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب، كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر، وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد، والخلاف جار في الكل، وكذا القول في قياس الخبر المتواتر بالنسبة

ص: 329

إلى عموم الكتاب وبالعكس، أما قياس خبر الواحد إذا عارضه عموم الكتاب أو السنة المتواترة، وجب أن يكون تجويزه أبعد.

لنا: أن العموم والقياس دليلان متعارضان، والقياس خاص، فوجب تقديمه، أما أنهما دليلان، فبالاتفاق بيننا وبين الخصوم.

وأما أنه يجب تقديم الخاص منهما؛ فلأنهما: إما أن يعمل بهما، أو يلغيا أو يقدم العام على الخاص، وهذه الأقسام الثلاثة باطلة، فيتعين الرابع وهو تقديم الخاص على العام وهو المطلوب.

احتج المانعون بأمور:

أحدها: أن (الحكم) المدلول عليه بالعموم معلوم، والحكم المدلول عليه بالقياس مظنون، والمعلوم راجح على المظنون.

وثانيها: أن القياس فرع النص، فإن خصصنا العموم بالقياس، لقدمنا الفرع على الأصل، وإنه غير جائز.

وثالثها: أن حديث معاذ دل على أنه لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقد ذلك الحكم في الكتاب والسنة، وذلك يمنع من تخصيص النص بالقياس.

ص: 330

ورابعها: أن الأمة مجمعة على أن من شرط القياس أن لا يرده النص، وإن كان العموم مخالفًا له فقد رده.

وخامسها: أنه لو جاز التخصيص بالقياس، لجاز النسخ به، وقد تقدم تقريره.

والجواب عن الأول: أن الحكم الثابت بالعموم ليس معلومًا، بل سند الكتاب والسنة المتواترة معلوم، والدلالة ظنية، فيكون الحكم الثابت به مظنونًا. ودلالة القياس قد تكون قطعية إذا كانت مقدماته كلها معلومة، فيكون الحكم الثابت به معلومًا.

وعن الثاني: أن القياس فرع لنص آخر غير النص الذي عمومه مخصوص بالقياس، وحينئذ يزول السؤال.

وعن الثالث: لا نسلم أن حديث معاذ دل على أنه لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقدان الكتاب، ولا نسلم أن عموم الكتاب إذا عارضه القياس المخصص لبعض صوره يكون الحكم ثابتًا في تلك الصورة التي يتناولها القياس بالكتاب، بل الحكم عندنا حينئذ مفقود من الكتاب، ثم إن حديث معاذ إن اقتضى أنه لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة أيضًا؛ لأنه كما اقتضى تأخير القياس عن الكتاب والسنة، فقد اقتضى تأخير السنة عن الكتاب، فالنسبة بينهما واحدة، ولا شك في فساد ذلك.

ص: 331

وعن الرابع: أن الذي وقع عليه الإجماع هو أن القياس لا ينسخ المتواتر. أما رده لأخبار الآحاد بجملته ذلك الخبر، ففيه خلاف عند الحنفية والمالكية وغيرهم من الفقهاء إذا تعارض قياس وخبر واحد، وإن نصًا لا ظاهرًا هل نعرض عن الخبر بالكلية، أو عن القياس بالكلية؟ خلاف.

وإذا بطل الخبر الصحيح الصريح بجميع أفراده، فأولى تخصيص العموم الذي ليس فيه إلا تخصيص بعض الأفراد وإخراجها عن اللفظ؛ لأنه أسهل من الإبطال بالكلية، وليس في هذين الموطنين إجماع.

وعن الخامس: ما تقدم من الفرق بين النسخ والتخصيص، من جهة أن النسخ إبطال للحكم من محل اتفقنا على أن الحكم ثابت فيه، أو علم ثبوت الحكم فيه، ورفع الشيء بعد دلالة الدليل على ثبوت الحكم فيه يقتضي الاحتياط فيه أكثر من بيان أن الحكم ليس ثابتًا فيه البتة، لسلامة المخرج حينئذ عن المعارض المقتضي لثبوت الحكم في الصورة المخرجة.

فإن قلت: لما كان القياس فرعًا لنص آخر، فكل مقدمة لابد (منها في) دلالة النص على الحكم، كانت معتبرة في الجانبين، وأما المقدمات التي لابد

ص: 332

منها في دلالة القياس، فهي مختصة بجانب القياس فقط، فإذن إثبات الحكم بالقياس يتوقف على مقدمات أكثر، وإثباته بالعموم يتوقف على مقدمات أقل، فكان إثبات الحكم بالعموم أولى وأظهر من إثباته بالقياس، والأقوى (لا) يصير مرجوحًا بالأضعف.

وبسطه: أن النصوص تتوقف على عصمة قائليها، وصحة سندها، وعدم إجمالها في دلالتها، ونحو ذلك من مقدمات النصوص المعتبرة فيها، وهي كلها مشتركة بين النص الذي هو أصل القياس وبين النص الذي يخصصه بالقياس. والقياس في نفسه يحتاج لكون حكمه مما يقبل التعليل، وأن أصله معلل بعلة كذا، ووجود تلك العلة في الفرع، وانتفاء الفوارق، فهذه مقدمات تختص بالقياس الذي هو أصله، فحينئذ القياس باعتبار مقدماته ومقدمات أصله يكون أكثر مقدمات من النص الذي يخصصه، فيكون أضعف منه، فيقدم (العموم) عليه.

فقد أجيب عن هذا السؤال: بأن دلالة بعض العمومات على مدلوله أقوى وأقل مقدمات من دلالة عموم آخر على مدلوله.

وتقريره: ما تقدم من بيان تفاوت الظنون الحاصلة من النصوص في تقرير كلام الغزالي، وحينئذ جاز أن يكون النص القليل المقدمات هو أصل

ص: 333

القياس، والكثير المقدمات هو النص المخصوص، فيكون مجموع مقدمات القياس مع أصله أقل من مقدمات النص المخصوص، فيكون القياس أرجح، فيقدم على العموم.

هذا هو جواب الإمام فخر الدين، فلما فرغ منه قال: "وحينئذ يظهر أن الحق ما قاله الغزالي من النظر إلى الحاصل من الظنون الحاصلة من مقدمات القياس ومقدمات العموم.

قلت: وجوابه بهذا التفصيل لا يعم جميع العمومات، فإن من العمومات ما مقدماته أكثر، فجاز أن يكون هو أصل القياس، فلا يقدم ذلك القياس على العموم الذي مقدماته أعم، فلا يصح تعميم هذه الدعوى لتخصيص العموم بالقياس مطلقًا، ويتجه حينئذ قوله الغزالي بالتفصيل؛ لأنه لا يرد عليه هذا السؤال؛ لأن الظن متى كان أقوى، كانت المقدمات مساعدة على ذلك الظن، وإلا لما كان الظن أقوى.

فائدة:

المحدثون والنحاة على عدم صرف "أبان" هذا، وكذلك أبان بن عثمان (ابن عفان)، وحيث وقع لا يصرفونه، ومانع صرفه خفي صعب، فإن العلمية محققة، ولكن أي شيء معها؟ وليس هو من أوزان الفعل المضارع

ص: 334

مثل: أحمد ويشكر، وتغلب، ويزيد ونحوه، فهو مشكل كثيرًا، لخروجه عن ضابط ما لا ينصرف، إلا في العملية وهي وحدها غير مانعة على الصحيح.

جوابه: قال ابن يعيش في شرح المفصل: من الناس من يصرفه بناء على أن وزنه فعال، من أبان يبين.

والجمهور على عدم الصرف، بناء على أن وزنه أفعل، وأصله أبين، صيغة مبالغة في الظهر الذي هو البيان والإبانة، كما تقول: هذا أبين من هذا، أي أظهر منه، فلوحظ أصله، فلم يصرف.

والفرق بينه وبين الاسم إذا سمي بما لم يسم فاعله نحو: بيع وقيل، فإن أصله بيع وقيل بضم الباء والقاف- والقاعدة: أنه إذا سمي بفعل نحو ضرب المبني لما لم يسم فاعله لم ينصرف؛ لأنه من أبنية الأفعال المخصصة بها، فإذا عدل به عن أصله وقيل: بيع، وقيل ينبغي أن لا ينصرف، ملاحظة لأصله كما قلتم في أبان- قال: والفرق أن بيع صار إلى أبنية الأسماء مثل: ديك، وبير، وفيل، وأما "أبان" فهو أقل، وليس في الأسماء وزانه، فلذلك لم ينصرف.

ص: 335

والسؤال، وجوابه، والفرق، الكل حسن ينبغي أن يكون على الخاطر، لأنها فوائد لا توجد في أكثر الكتب، بل في أفرادها ونوادرها.

المسألة الثالثة:

قال الإمام فخر الدين- رحمه الله: إذا قلنا: المفهوم حجة- فلا شك أن دلالة أضعف من دلالة المنطوق، فهل يجوز تخصيص العام بها؟

مثاله: إذا ورد في إيجاب الزكاة قوله عليه الصلاة والسلام: (في كل أربعين شاة شاة)، ثم قال:(في سائمة الغنم الزكاة) وهذا مفهومه يقتضي تخصيص ذلك العام.

قال: ولقائل أن يقول: إنما رجحنا الخاص على العام؛ لأن دلالة الخاص على ما تحته أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص، والأقوى أرجح، فأما هاهنا فلا نسلم أن دلالة المفهوم على مدلوله أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص، بل الظاهر أنه أضعف، وإذا كان كذلك كان تخصيص العام بالمفهوم ترجيحًا للأضعف على الأقوى، وهو غير جائز.

قال الشيخ سيف الدين الآمدي- رحمه الله: لا أعرف خلافًا بين القائلين بالمفهوم والعموم، أنه يجوز تخصيص العموم بالمفهوم، كان مفهوم موافقة أو مخالفة حتى إذا قال: من دخل داري فأضربه، ثم قال: إن دخل زيد داري فلا تقل له أف، فإن ذلك يدل على تحريم ضرب زيد وإخراجه من

ص: 336

العموم بالمفهوم الموافق.

قال الغزالي في المستصفى: مفهوم الموافقة كتحريم الضرب من تحريم التأفيف قاطع كالنص مخصص به، ومفهوم المخالفة عند القائلين به كالنص مخصص به، حتى إذا ورد عام في إيجاب الزكاة، ثم قال:(في سائمة الغنم الزكاة) خصص العام بالمعلوفة وبقيت السائمة، لأجل المفهوم.

قلت: فهذه ظواهر كلام العلماء (فيما) يقتضي التخصيص، وأن الذي قاله الإمام فخر الدين شاذ.

* * *

ص: 337