الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة: الاستثناء المذكور عقب الجمل
، هل يعود إليها بأسرها أم لا؟
مذهب الشافعي رضي الله عنه: عوده إلى الكل، ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه: اختصاصه بالجملة الأخيرة، ومذهب القاضي منا والمرتضى من الشيعة التوقف، إلا أن المرتضى توقف للاشتراك، والقاضي لم يقطع بذلك أيضًا، ومنهم/ من فصل في ذلك، وذكروا وجوهًا. (161/ أ)
وأدخلها في التحقيق ما قيل: إن الجملتين، إما أن يكونا من نوع
واحد، أو من نوعين.
فإن كان الأول: فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى أو لا تكون.
فإن كان الثاني: فإما أن يكونا مختلفي الاسم والحكم، أو متفقي الاسم مختلفي الحكم، أو مختلفي الاسم متفقي الحكم.
(ونعني بالنوع الواحد): إما أن يكونا أمرين، أو خبرين، أو نهيين.
وبالنوعيين: أن يكون أحدهما من الأمر، والآخر من الخبر أو النهي، ونعني بتعلق إحدى الجملتين بالأخرى: أن يكون فعل الثانية لا يفهم إلا من الأولى بالعطف نحو: أكرم قريشًا وبني هاشم، أو اسمهما مضمر يفسره اسم الأولى نحو: أكرم قريشًا واخلع عليهم.
قال الإمام فخر الدين: فإذا قال في الأولى: أطعم ربيعة واخلع على مضر إلا الطوال، فالأظهر هاهنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة؛ لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى مستقلة بنفسها إلا وقد تم غرضه من الأولى، فلو كان الاستثناء راجعًا إلى الجملتين، لم يكن قد تم مقصوده من الجملة الأولى.
وأما الثاني: فقولنا: أطعم ربيعة واخلع على مضر إلا الطوال.
والثالث: كقولنا: أطعم ربيعة وأطعم مضرًا إلا الطوال، فاتفقا في الحكم دون سماع الاسم عكس الذي قبله، فإن الذي قبله متفق الاسم مختلف الحكم، وحكمه كحكمه؛ لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة، فالظاهر أنه لم ينتقل إلى الثانية إلا وقد تم عرضه منها بالكلية.
وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى: فإما أن يكون حكم الأولى مضمرًا في الثانية كقولنا: أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا الطوال، فيرجع الاستثناء في القسمين إلى الجملتين؛ لأن الثانية لا تستقل إلا مع الأولى، فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما.
وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام: فإما أن تكون القضية واحدة أو مختلفة فإن كانت مختلفة فهو كقولنا: أكرم العلماء وهم المتكلمون إلا أهل البلدة الفلانية، فالاستثناء راجع إلى ما يليه؛ لاستقلال كل واحد من تلك الجملتين بنفسها، / (161/ ب) (وأما إن كانت القضية واحدة فكقوله تعالى:{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا} ، فالقضية واحدة وأنواع الكلام مختلفة، أمر، ثم نهي، ثم خبر، ثم استثناء، وهو يرجع إلى الجملة الأخيرة، الاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها).
قال: والإنصاف أن هذا التقسيم حق، لكنا إذا أردنا
المناظرة اخترنا (التوقف) لا بمعنى الاشتراك، بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة ماذا، وهذا هو اختيار القاضي رحمه الله.
واحتج الشافعي رحمه الله بوجوه:
أحدها: ان الشرط متى تعقب جملًا عاد إلى الكل، وكذلك الاستثناء، والجامع: أن كل واحد منهما لا يستقل بنفسه، وأيضًا فمعناهما واحد؛ لأن قوله تعالى في آية القذف:{إلا الذين تابوا} جار مجرى قوله تعالى: {وأولئك هم الفاسقون} إن لم بتوبوا.
ويقرب من هذا الدليل قولهم: أجمعنا على أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى إذا تعقب جملًا عاد إليها، وكذلك الاستثناء.
قلت: وللحنفية أن يفرقوا بأن في عود الشرط إلى الكل خلافًا.
قلنا: أن نمنع بناء على الخلاف، سلمناه، لكن التعاليق اللغوية يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم، وهذا هو شأن السبب، بخلاف الشروط العقلية: كالحياة مع العلم، والشرعية: كالطهارة مع صحة الصلاة، والعادية: كنصب السلم لصعود السطح، ولا يلزم من وجود واحد من هذه الثلاثة وجود مشروطه، بل إنما يترتب مشروطه على سبب مع الشرط، لا على الشرط
الواقع في أحد هذه الأبواب الثلاثة، بخلاف الشروط اللغوية هي الأسباب، وهي التي يترتب عليها المشروط، وإذا كانت الشروط اللغوية أسبابًا، والأسباب مواطن المصالح والمقاصد وتكون أشرف وأنفع، فيتناسب عودها على جملة الجمل تكثيرًا للمصلحة التي في ضمن السبب، أما الاستثناء فهو إخراج ما عساه اندرج/ (162/ أ) في الكلام وليس منه، فهو يلغي غير المقصود عن المقصود ولا يحقق مقصودًا، فضعف عن رتبة الشرط، وظهر الفرق بينهما، فلا يلحق أحدهما بالآخر.
وقوله: "الاستثناء في الآية يجري مجرى الشرط.
قلنا: لا نسلم أن معنى قوله: {إلا الذين تابوا} هو معنى: عن لم يتوبوا؛ لأن قوله: إن لم يتوبوا، يقتضي "أن" عدم التوبة بسبب الفسوق، كقولنا لزيد الكافر: مخلد في النار إن لم يسلم، يقتضي أن سبب تخليده هو عدم إسلامه، وها هنا ليس عدم الفسوق هو عدم التوبة، بل القذف السابق، وهو سبب مستقل في ثبوت حكم الفسوق، فلا يحتاج إلى ضم سبب آخر إليه، بل معنى قولنا: إن لم يتوبوا، إشارة إلى نفي المانع من القضاء بالفسوق، ففي هذا الشرط على هذا التقدير توسع بالنسبة إلى قاعدة الشروط وغالبها.
وقوله: "الاستثناء بالمشيئة يعم فكذلك هذا الاستثناء".
فكما فيه خلاف سلمناه، ولكن الفرق أن الاستثناء بالمشيئة جعله الشرع سببًا
رافعًا لليمين لقوله عليه الصلاة والسلام: "من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف" أي: ارتفع عنه انعقاد اليمين الذي جعل بالحلف موجبًا للكفارة وإذا كان سببًا رافعًا، والأسباب مواطن الحكم ومظان المصالح الشرعية (والعادية)، فناسب التعميم تكثيرًا للمصلحة، بخلاف الاستثناء، كما تقدم تقريره.
وثانيها: أن حرف العطف يصير الجمل المعطوف بعضها على بعض في حكم الجملة الواحدة؛ لأنه لا فرق بين أن يقال: رأيت بكر بن خالد وبكر بن عمرو، وبين أن يقال: رأيت البكرين، وإذا كان الاستثناء الواقع عقيب الجملة راجعًا إليها، فكذلك ما صار بالعطف كالجملة الواحدة.
قلت وليس الأمر كذلك لوجوه:
أحدها: أنا لا نجوز: رأيت زيدًا وعمرًا إلا عمرًا، ويجوز: رأيت العمرين إلا عمرًا، فقد باين المعطوف الجملة الواحدة، وسببه: أنا في
الأول قد رفعنا بالاستثناء جملة منطوق به بخلاف الثاني، أنا رفعنا بعض منطوق به فجاز؛ لأن من شرط الاستثناء أن لا يكون مستغرقًا.
وثانيهما: أن (المعطوفين) لفظ، كل واحد منهما يدل عليه مطابقة استقلالًا، وهو/ (162/ ب) سبب منع استثنائه بجملته، والدلالة على الواحد المستثنى في الجملة الواحدة إنما هي تضمن، وهذا يناسب ألا يعود في الأول، ويعود في الثاني، لعدم الاستقلال.
وثالثها: أن الفعل كما عمله في الجملة الأولى قبل النطق بالثانية، فهي مستقلة، والثانية لها فعل أو نهي مستقلة أيضًا، بخلاف قولنا: رأيت البكرين، فإن الفعل فيهما واحد، ولا استقلال لأحد البكرين بالفعل.
ورابعها: أن الأولى يحسن السكوت عليها، بخلاف بعض الجملة الواحدة، وإذا حصل التباين في هذه الأحكام واللوازم ظهر الاختلاف، والمختلفات لا يجب اشتراكها في جميع اللوازم ولا في لازم معين إلا بدليل منفصل، بل هذه القاعدة لاختلاف التباين في اللوازم، أما التسوية فلا.
وثالثها من حجج الشافعية: قالوا: إنه تعالى لو قال: فاجلدوهم ثمانين جلدة إلا الذين تابوا ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا إلا الذين تابوا، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا، لكان ركيكًا جدًا، فبتقدير أن يريد لاستثناء من كل الجمل، لا طريق له إلا بذكر الاستثناء عقب الجملة الأخيرة في هذه الصورة، ويكون الاستثناء راجعًا إلى كل الجمل، والأصل في الكلام الحقيقة،
وإذا ثبت كونه حقيقة في هذه الصورة كان كذلك في سائر الصور، دفعًا للاشتراك.
قلت: وهذا أيضًا ضعيف؛ بسبب أن الكلام في اللغة من حيث هي لغة، ما مقتضاها، فإذا دل الدليل على أن ألمتكلم ضرورة، وأراده في عود الاستثناء على الكل، فهذا أمر زائد ودليل منفصل اقتضى العود على الكل.
ونقول حينئذ: إن هذه الضرورة بسبب المجاز، ولا يلزم الاشتراك، بل استعمال الاستثناء عائد على جملة الجمل عند الخصم، مجاز في التركيب، ولا يلزم من الحمل المجاز لدليل منفصل أن يحمل عليه في بقية الصور، ولا يكون الوضع من حيث هو وضع اقتضى ذلك.
ورابعها: قالوا: لو قال: لفلان على خمسة وخمسة إلا سبعة، كان الاستثناء ها هنا عائدًا على الجملتين، والأصل في الكلام الحقيقة، وإذا ثبت ذلك في صورة، فكذلك/ في غيرها، دفعًا للاشتراك. (163/ أ)
وأجاب الإمام فخر الدين عن هذا في المحصول بأن قال: إنما رجع الاستثناء إلى الجملتين؛ لأنه لابد من اعتبار (كلام العاقل)، ولما تعذر رجوعه إلى إحدى الجملتين؛ لأنه أريد منها _والاستثناء المستغرق باطل_ وجب رجوعه إليهما، وهذه الضرورة غير حاصلة في بقية الصور.
احتجت الحنفية بوجوه:
أحدها: أن الدليل ينفي العمل بالاستثناء، تركنا العمل بالدليل باعتبار
الجملة الواحدة فيعمل به في بقية الجمل.
بيان أن الدليل ينفي العمل بالاستثناء: أن الاستثناء يقتضي إزالة العموم عن ظاهره، وهو خلاف الأصل.
بيان الفارق بين الأخيرة وغيرها، والجملة الواحدة والجمل: أن الاستثناء غير مستقل بالدلالة على الحكم، فلابد من تعليقه بشيء، لئلا يصير لغوًا، والتعليق بالجملة الواحدة يكفي في خروجه عن كونه لغوًا، فلا حاجة إلى تعليقه بسائر الجملة.
وإذا ثبت النافي والفارق، ثبت أنه لا يجوز عوده إلى الجمل الكثيرة.
والخصم قال، فصار محجوجًا.
بقي أن يقال: فلم خصصتموه بالجملة الأخيرة؟ ، فنقول: ذلك لوجهين:
الأول: أن أهل اللغة اتفقوا على أن القرب يوجب الرجحان، ويدل عليه بأمور أربعة: الأول: اتفاق أهل اللغة من البصريين على أنه إذا قال: ضربت وضربني زيد، واجتمع عاملان على معمول واحد، أن إعمال الأقرب أولى، وهو "ضربني"، فيرفعه بأنه فاعل، ولا ينصبه بأنه مفعول، خلافًا للكوفيين.
الثاني: أنهم قالوا في: ضرب زيد عمرًا وضربته، أن هذا الضمير الأخير
يرجع إلى "عمر" المضروب، دون زيد؛ لأنه أقرب إلى الفعل.
الثالث: أنهم قالوا في قولنا: (ضربت سلمى سعدى): أنه ليس في إعراب اللفظ ولا في معناه ما يعين إحداهما للفاعلية والأخرى للمفعولية، فيتعين أن نجعل الفاعل ما هو أقرب إلى الفعل وهو سلمى، ترجيحًا بالقرب.
الرابع: أنهم قالوا في قولهم: أعطي زيدًا عمرًا وبكرًا: أنه لما احتمل أن يكون كل واحد من بكر وعمر مفعولًا أولًا _وليس في اللفظ ما يقتضي الترجيح_ وجب اعتبار القرب.
الوجه الثاني: أن كل من صرف الاستثناء إلى جملة/ (163/ ب) واحدة، خصصه بالجملة الأخيرة، فصرفه إلى غيرها خلاف الإجماع، وثانيها: أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل لو رجع (إليها لم) يخل: إما أن يضمر مع كل جملة استثناء عقيبها، أو لا يضمر ذلك، بل الاستثناء المصرح به في آخر الجمل هو الراجع إلى جميعها، والأول باطل؛ لأن الإضمار خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا لضرورة، ولا ضرورة ها هنا، والثاني أيضًا باطل؛ لأن العامل في نصب ما بعد الاستثناء هو ما قبله من فعل أو تقدير فعل، فإذا فرضنا رجوع ذلك الاستثناء إلى كل الجمل، كان العامل في نصب المستثنى أكثر من عامل واحد، لكن لا يجوز أن يعمل عاملان في إعراب واحد، أما أولا؛ فلأن سيبويه نص عليه، وقوله حجة، وأما ثانيًا؛ فلأنه يجتمع على الأثر الواحد
مؤثران مستقلان، وهو محال.
قلت: اختلف النحاة في العامل في نصب ما بعد الاستثناء، وهو "زيد" إذا قلنا: قام القوم إلا زيدًا، هل الفعل السابق (عدته إلا فنصبت زيدًا)، ويكون الأمر من جملة المعديات كالهمزة أول الفعل وغيرها من المعديات المذكورة في كتب النحو، أو العامل فعل مقدر يدل عليه الظاهر، أو إلا هي الناصبة، أو انتصبت بتمام الكلام كالتمييز، وحكي هذا القول عن سيبويه، وقيل: هو مذهبه، وإذا كانت الأقوال في ذلك أربعة، منعنا على أحدها مقدمة الحنفية.
وأجاب الإمام فخر الدين في المحصول بجوابين:
أحدهما: أن نص سيبويه معارض بنص الكسائي.
وثانيهما: أن العوامل في الإعراب ليست مؤثرات، بل معرفات، واجتماع المعرفات الكثيرة على المعرف الواحد ليس بمحال، كما أن كل جزء من أجزاء
العالم معرف لنا بوجود الله تعالى وصفاته، إنما المحال اجتماع المؤثرات.
وثالثها: أن الاستثناء من الاستثناء يختص بما يليه، فكذا في سائر الصور دفعًا للاشتراك.
قلت: وأشار الإمام فخر الدين إلى الجواب، وأنا أبسطه فأقول: الفرق أن الاستثناء بعد الاستثناء لو عاد إلى أصل الكلام وإلى الاستثناء لزم لغو الكلام، بخلاف ها هنا، فإذا قال: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا اثنين، لو أعدنا قولنا:"إلا اثنين" على الثلاثة كان إثباتًا لهما، وعوده/ (164/ أ) على أصل الكلام يكون نفيًا لهما، فينجبر النفي بالإثبات، ويعود الكلام إلى حاله الأول قبل قوله:"إلا اثنين" فإنه كان الإقرار حينئذ بسبعة، وهو الآن على هذا التقدير سبعة، فيصير قوله: "إلا اثنين لغوًا، أما ها هنا لو أعدناه على الجمل كلها لم يكن لغوًا بل زيادة إخراج على إخراج، وذلك من مقاصد العقلاء.
ورابعها: أن الجمل إذا كان كل واحد منها مستقلًا بنفسه، والظاهر أنه لم ينتقل عن واحد منها إلى غيرها إلا وقد تم غرضه منها؛ لأن السكوت لما كان يدل على كمال الغرض من الكلام، فكذلك الشروع في كلام آخر لا
تعلق له بالأول، إذا ثبت ذلك، فلو حملنا الاستثناء على جملة الجمل المتقدمة (نقض ذلك قولنا:"إنه لما انتقل عن الكلام الأول تم غرضه").
قلت: والإمام فخر الدين منع قولهم: "إنه لم ينتقل إلا بعد تمام غرضه"، وقال: إن عنيتم أنه فرغ من جميع الأحكام المتعلقة بالأولى فهو ممنوع؛ لأنه أول المسألة؛ لأن من أحكامها عند الخصم هذا الاستثناء المذكور عقيب الجمل، وإن عنيتم شيئًا آخر فاذكروه لننظر فيه.
واحتج الشريف المرتضى على الاشتراك بوجوه:
أحدها: أن القائل إذا قال: ضربت غلماني وأكرمت أصدقائي إلا واحدًا، جاز استفهامه عن ذلك، هل أراد استثناء واحد من الجملتين أم لا؟ والاستفهام دليل الاشتراك، وقد تقدم الكلام على الاستفهام في أن صيغة العموم مشتركة بين العموم والخصوص، وأنه يكون لأغراض أخرى غير الإجمال الناشئ عن الاشتراك فلا يدل على الاشتراك؛ لأنه أعم من الاشتراك، والأعم لا يستلزم الأخص ولا يدل عليه.
وثانيها: أنا وجدنا الاستثناء في القرآن والعربية عائدًا إلى كل (الجمل) تارة، وإلى الأخيرة أخرى، والأصل في الكلام الحقيقة، فوجب القول بالاشتراك.
قلت: وجوابه أن الجواز أولى من الاشتراك.
وثالثها: أن القائل إذا قال: ضربت غلماني وأكرمت جيراني قائمًا أو في الدار أو يوم الجمعة، احتمل فيما ذكروه من الحال والظرفية أن يكون المتعلق به جميع (الأفعال المتقدمة، وأن يكون ما هو) الأقرب، والعلم باحتمال الاشتراك وتجويز الأمرين (من مذهب) أهل اللغة ضروري، وإذا صح ذلك في الحالين والظرفين صح في الاستثناء، (والجامع) أن كل واحد منهما فضلة تأتي بعد تمام الكلام.
وأجاب الإمام فخر الدين عن هذا بأن قال: لا نسلم التوقف في الحال والظرفين، بل نخصهما بالجملة الأخيرة على قول أبي حنيفة رحمه الله، أو بالكل على قول الشافعي رضي الله عنه.
سلمنا التوقف، لكن لا على سبيل أنا لا ندري أن الحق ما هو عند أهل اللغة، فإن تمسكهم على الاشتراك بالاستفهام والاستعمال، كان ذلك منه عودا إلى الطريقين الأولين.
سلمنا، فلم قلت: إنه يجب أن يكون الأمر كذلك في الاستثناء؟ .
قوله: (الجامع): كون كل واحد من هذه الثلاثة فضلة تأتي بعد تمام الكلام.
قلنا: الاشتراك من بعض الوجوه لا يقتضي التساوي من كل الوجوه.
فائدة:
مثال عود الاستثناء على الكل- كما قاله في الوجه الثاني: قوله تعالى: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} ، هذا في آل عمران، وفي المائدة (قوله تعالى):{حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} ، فقيل: منقطع وتقديره: لكن ما ذكيتم من غير المذكور، وقيل: متصل يعود على المنخنقة وما بعد، أي ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات.
ومثال العائد على جملة واحدة قوله تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} ، قرئ بالرفع والنصب، فعلى
النصب هي مستثناة من الجملة الأولى، لأنها موجبة، وعلى الرفع هي مستثناة من الثانية، وهي منفية، وتكون قد خرجت معهم ثم رجعت فهلكت.
(قال المفسرون): وقوله تعالى: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده} ، فهذا يتعين عوده على الجملة الأولى دون الثانية؛ لأن مناسبة المعنى تقتضيه.
وما هو محتمل للوجهين قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثامًا يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا} ، فيتخيل أنه من الجملة السابقة، وإنما هو من لفظ (من) ، لأنه أبدل مما تقدم وهو مفرد.
سؤال:
قال النقشواني: إذا سلمنا العود على الكل تارة وعلى البعض أخرى، لا يلزم الاشتراك ولا المجاز، بل يكون اللفظ موضوعًا للإخراج كيف كان، وهذه أنواع المخرج، كما يكون الإخراج في الحيوان تارة، (وفي النبات
تارة) ، وفي الجماد أخرى.
تنبيه:
لا يستقيم حكاية الخلاف في هذه المسألة مطلقًا، ولا في الشرط، ولا في الصفة الواردين عقيب الجمل؛ لأن الجمل المعطوفة قد تعطف بالحروف الجامعة كالواو، والفاء، وثم، فيكون هذا موطن الخلاف، وتكون الحروف العاطفة الستة الباقية ليس موطنًا للخلاف، ولا تستقيم حكاية الخلاف فيها اتفاقا؛ لأن المراد بها إحدى الشيئين، فكيف يعمها الاستثناء على القول بتعميمه؟ بل ينبغي التوقف (في حتى التي هي حرف عطف)؛ لأنها تتمة وغاية
لغيرها، فينتفي التعميم فيها اتفاقًا، فلا يختلف فيها، أو يقال فيها أمران يشملهما الحكم، فيجزي الخلاف فيها موضع (احتمال) للنظر.
أما ما يقتضي أحد الشيئين بعينه وهي ثلاثة: لا، وبل، ولكن، أو لأحد الشيئين لا بعينه نحو: أو، وأم، وأما، فلا يتأتى ذلك فيها؛ لأن المعتبر واحدة من الجمل في ذلك الحكم فقط، فيكون الاستثناء لذلك مختص بمورد الحكم، فتأمل ذلك، ولذلك لما فهرس الشيخ سيف الدين الآمدي هذه المسألة في كتابه الإحكام قال: الجمل المتعاقبة بالواو، ولم يطلق كما أطلق الإمام فخر الدين وغيره كابن برهان في كتابه (الأوسط).
تنبيه:
في الكتاب والسنة اتفق الناس على أنه (عائد) على الجملة الأولى، وليس ذلك خلاف الإجماع في هذه المسألة، إنما هو في اللفظ اللغوي من حيث الوضع، ماذا يقتضي لغة؟ - ما لم يعرض له معارض يعارضه- هل يعود على جميع الجمل، أو يختص بالجملة الأخيرة؟ ، ولم يقل أحد بالأولى، أما إذا كان المعارض، فذلك من غير صورة النزاع، فلا يرد عليها، كما في قوله تعالى:{إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم} ، فهذا يتعين عوده على الجملة الأولى فإن الاستثناء إنما يكون مما نهي عنه وهو الشرب، ولا ينتظم الاستثناء مع قوله تعالى:{ومن لم يطعمه فإنه مني} ، فهذه المناسبة هي الموجبة لتعيين الاستثناء للجملة الأولى.
ونظير ذلك أيضًا، الأمر للوجوب، وقد ورد بخمسة عشر محملا، ولم لم يقل أكثر بأكثرها، بل ذلك لعارض خارج عن موجب الأمر لغة اقتضى التجوز لتلك المحامل من التكوين والسخرية، وغير ذلك من تلك المحامل المذكورة في بعضها.