الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة: التخصيص بالعادات
تقدم التنبيه على هذه المسألة، لكن إعادتها هاهنا، لبيان تتمات حسنة.
منها: أن العادة قد تكون عادة الناس، وقد تكون عادة صاحب الشرع.
فإن كانت عادة الناس، خصصت العمومات التي ينطق بها الناس في وصاياهم وأيمانهم ونذورهم وطلاقهم، وغير ذلك من تصرفاتهم، فكل من له عادة في لفظه (حمل لفظه) على عرفه الذي تقدم نطقه، (أما المتأخر عن نطقه) ، فلا يخصص لفظه، كانت العادة خاصة به أو عامة في بلده، كالنقود في الأثمان، وتعيين المنافع في الأعيان، أو في جميع الأقاليم، ولا يحمل كلام متكلم على عادة غيره ولا يخصص به، ولا يخصص عموم أهل بلدة بعادة بلد آخر.
وكذلك يمتنع التقييد- كما يمتنع التخصيص- بالعوائد المتأخرة مطلقًا، لا تخصيص ولا تقييد، وما علمت في ذلك خلافًا.
وأما عرف الشرع وعادته فيحمل لفظه عليها، كما تقول: للشرع عادة في الإيمان- وهو الحلف بالله تعالى- فيحمل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف).
وكذلك إذا كانت للناس عادة علم بها صلى الله عليه وسلم وأقرهم عليها، كانت معتبرة بتقريره صلى الله عليه وسلم.
ومتى احتمل في العادة أن تكون متأخرة عن زمن النطق وأن تكون متقدمة، لم تخصص بها؛ لأن الأصل بقاء العموم على عمومه، حتى يتعين المخصص، والمنافاة بينهما.
ومن ذلك أن العوائد قسمان: فعلية، وقولية.
فالعوائد القولية تخصص وتقيد، بخلاف الفعلية فإنها ملغاة، وهذا موضع صعب تحقيقه على جمع كثير من الفضلاء، وعسر عليهم تصور الفرق بينهما وتحرير معناهما، فاضبطه وتأمله وتحققه، فإنه من نفائس العلم.
فالعوائد القولية معناها: أن الناس يطلقون ذلك اللفظ ولا يريدون به في عوائدهم إلا ذلك الشيء المخصوص، كالدابة، لا يريدون بهذا اللفظ إلا الفرس في العراق، والحمار بمصر، مع أنه موضوع في اللغة لمطلق ما دب. وكذلك الغائط والنجو، والخلاء، وغير ذلك من الألفاظ مما جرت العادة أنه يستعمل في غير مسماه، فيحمل ذلك المنقول إليه في الاستعمال الطارئ على اللغة.
ثم النقل والعوائد قد تكون في الألفاظ المفردة نحو: الدابة، وقد تكون في الألفاظ المركبة، وله مثل:
أحدها: قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} ، كان أصل هذا التركيب أن يفيد في ظاهرة تحريم الأم نفسها من جهة الوضع؛ لأن مفعوله في الظاهر إنما هو الأمهات، ودل العقل والعادة والشرائع على أن الذات من الأمهات وغيرها لا يتعلق بها تحريم ولا تحليل؛ لأن من شرط الذي يتعلق به حكم شرعي أن يكون فعلا للمكلف، مقدورًا له، والذوات ليست مقدورة للعباد، فلا يتعلق بها حكم شرعي، فيتعين حذف مضاف تقديره: يحرم عليكم استمتاع أمهاتكم، أو وطئ أمهاتكم، (يصح اللفظ، وينتظم التكليف، هذا هو مقتضى اللغة)، ثم صار هذا اللفظ في العرف منقولا لهذا المضاف المحذوف، وبقى هذا اللفظ المركب موضوعًا لتحريم الاستمتاع، لا يفهم منه إلا ذلك، ولا يحتاج إلى حذف مضاف أصلا، بل بقي اللفظ مستقبلا بنفسه في الدلالة على ذلك من غير إضمار شيء.
وثانيها: قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} ، وهذه الأشياء لا تحرم، لما تقدم من تقرير: أن الذوات لا تحرم، فيقدر في كلامه (في ك) واحد منها ما يليق به من الحذف، كما ينتظم
التكليف- كما تقدم- وذلك مقتضى الوضع، لكن صار هذا اللفظ المركب منقولا لتحريم أكل هذه الحقائق وتناولها، ولا يحتاج- مع هذا النقل- إلى مضاف يقدر البتة؛ لأن الوضع الثاني صار يفيده.
وثالثها: قول أهل العرف: الخمر حرام، لا يحتاج إلى تقدير مضاف، وهو شربها، بل صار هذا اللفظ المركب موضوعًا لتحريم شربها، ولو أفرد أحد هذه المركبات نحو: الأمهات، وحدها، أو: الخمر، وحده، لم يفد هذا المعنى؛ لأن الذوات أنفسها يصح تركيبها مع أفعال أخرى نحو: الأمهات آدميات، أو ممكنًا، والخمر معتصرة أو مائع، ونحو ذلك لما يصح من غير مضاف محذوف، وإنما يحتاج إلى الحذف أو النقل في الأفعال الخاصة التي لا يصح تركيبها مع الذوات التي لا يقدر عليها الخلق.
ورابعها: ما وقع للفقهاء في قول الحالف: والله لا أكلت رؤوسا، هل يحنث برأس كل حيوان كالسمكة والعصفور ونحوهما، أو لا يحنث إلا برؤوس الأنعام؟ .
ووجه الأول: أنه مقتضى اللفظ لغة.
ووجه الثاني: أن أهل العرف غلب استعمالهم هذا المركب في رؤوس الأنعام خاصة، فلا يكادون ينطقون بلفظ (الرأس) و (الرؤوس) بدون لفظ الأكل مع
غير رؤوس الأنعام، فإذا قالوا: رأينا رأسًا، احتمل رأس آدمي أو حيوان غيره.
وكذلك: ضربت، وغيره من الأفعال، بخلاف (أكلت) مع لفظ (الرؤوس).
هذا المركب يختص في عرف الاستعمال بالرؤوس من الأنعام.
ومنشأ الخلاف بين العلماء: هل وصل الاستعمال في العرف في الكثرة إلى حد يصيره منقولا، أم لم يصل إلى ذلك؟
والحق وصوله، وضابط الوصول: أن يصير الذي يدعي النقل إليه يفهم من اللفظ من غير قرينة.
والخامسة: ما وقع للفقهاء من قولهم: (أيمان المسلمين تلزمني)، أي شيء يتعين لزومه له؟
فعينت المالكية الطلاق والعتاق والصدقة، وكفارة يمين الحنث، والحج إلى بيت الله الحرام، ولم يعينوا الاعتكاف ولا الصوم ولا الجهاد ولا الرباط، مع أن هذه الأمور يصح نذرها كما يصح نذر الصدقة، ويلتزم كما يلتزم الطلاق والعتاق وغيرهما.
غير أن الفرق: أن أهل العرف عليهم تركيب النذر والأيمان بهذه الأمور التي عينها الفقهاء، دون التي تركوها، فإنها لا تنذر إلا على الندرة، فلم يحصل فيها النقل بسبب قلة الاستعمال، فلما صارت تلك الأمور من الطلاق وغيره، اللفظ منقولا إليها، بسبب غلبة الاستعمال، حمل اللفظ عليها عند الطلاق، دون غيرها.
ويغلط كثير من الفقهاء فيقول: إنما حمل على هذه الأمور؛ لأن عادة الناس
يفعلونها، وهو غلط، بل لما ذكرته، ولما ستقف عليه من النقول في العرف الفعلي.
وأما العوائد الفعلية: فتظهر بالمثال، فإذا حلف الملك: لا أكلت خبزًا، فأكل خبز الشعير حنث، وإن كانت عادته لا يأكل إلا القمح، أو حلف لا يلبس ثوبًا، يحنث بلبس ثياب الكتان، وإن كانت عادته يلبس ثياب الحرير.
والسبب في ذلك: أن العرف القولي ناسخ للغة، وناقل للفظ، والناسخ مقدم على المنسوخ، والفعل لا ينقل؛ لأنه لا يلزم من لباس الثياب الصوم/ دائما تغيير لفظ الثوب عن موضعه، فلا معارضة بين العرف الفعلي والوضع اللغوي، فلذلك لم يخصص ولم يقيد. والعرف القولي معارض للغة، فقضى به عليها، فتأمل الفرق، فكثير من الفقهاء لم يخطر بباله هذا البحث، ولا هذا الفرق.
وقد قال الشيخ سيف الدين الآمدي رحمه الله: إذا كان قوم لا يأكلون طعامًا مخصوصًا- فورد تحريم الطعام بصيغة العموم- حمل على عمومه في المعتاد وغيره عند الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة، فإنه قاس أحد العرفين على الآخر، وهو غير متجه، لما تقدم من الفرق، وحكي الغزالي في المستصفى
هذا المثال بعينه، وجزم بعدم التخصيص به، ولم يحك خلافًا، وقال المازري في شرح البرهان: إن العادة الفعلية ليست مخصصة، بخلاف القولية.
ومثال الفعلية قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا)، مع أن عادتهم لا يضعون في أوانيهم التي يصل إليها الكلاب إلا الماء، فيختص ذلك بالماء، أو يعم جميع ما يتصور فيه الولوغ، خلاف مذهب مالك، قال: وكأنها عادة قولية، (فلم يجزم بذلك.
قلت: وتوقف في موضع التوقف، بل المخصص عادة قولية)؛ لأنهم لم يكونوا يضعوا في الآنية التي يصل إليها الكلاب إلا الماء، فكان الغالب نطقهم (بصيغة (ولغ) في الماء خاصة، فكان ذلك كغلبة نطقهم) بلفظ الدابة في الحمار، ولم يحك (-أيضًا- خلافًا) غير ما عرض به من التردد.
وكذلك قال أبو الحسين البصري في كتابه المسمى بالمعتمد، قال: إن العادة قولية، وإن التخصيص إنما يقع بالعادة القولية، دون الفعلية، ولم يحك خلافًا.
ولم أر أحدًا حكى الخلاف في العادة الفعلية إلا الشيخ سيف الدين. وأخشى أن يكون ذلك كما أشار إليه المازري وحكاه عن المالكية، ويكون مدرك الحنفية في تلك الفروع وهو عادة قولية، وقد التبست بالفعلية، كما
تقدم بيانه في ولوغ الكلب، فيظن أنهم خالفوا وما خالفوا، وأظن أني سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يحكي الإجماع في عدم اعتبار العادة الفعلية، وقد طالعت على هذه المسألة في شرح المحصول ستة وثلاثين تصنيفا في علم أصول الفقه، فلم أجد أحدًا حكي الخلاف صريحًا إلا الشيخ سيف الدين الآمدي، وما يبعد أن يكون استنبطه من الفتاوى- والمدرك غير ما ظنه- وما زال الناس يستدلون بالفتاوى على المدارك، لكن قد يصادف، وقد لا يصادف.
وقد قال العالمي في أصول الفقه له على مذهب أبي حنيفة لأنه حنفي-: العادة الفعلية لا تكون مخصصة إلا أن تجمع الأمة على استحسانها، ثم قال: ولقائل أن يقول: هذا تخصيص بالإجماع، لا بالعادة.
ولعل هذا أيضًا مدرك الشيخ سيف الدين في النقل عنهم، ولو أن في مذهب الحنفية خلافًا في ذلك لنقله العالمي وغيره لما صنفوا في هذه المسألة.
فلما لم ينقلوه، دل على (أن غيرهم إنما نقله بالتأويل من الفتاوى.
والظاهر انعقاد الإجماع في المسألة، وأي) تعارض بين الفعل والوضع حتى يقضى عليه به؟ فإذا وضع اللفظ لمعنى (لا يختل وضعه لذلك المعنى، فعلنا نحن مسماه أو لم نفعله.
أما إذا وضع اللفظ لمعنى) ، وصار أسبق إلى الفهم بسبب
الوضع، فإنا إذا غلب استعماله في عرفنا لغير ذلك المعنى، بطل ذلك السبق إلى الفهم، وانتقل السبق للفهم للمعنى الذي غلب فيه الاستعمال، فحصل التعارض، والنسخ، والإبطال، في السبق إلى الفهم، وغلبة الظن أنه المراد، فقدم ذلك على الوضع الأول تخصيصًا وتقييدًا.
أما العرف الفعلي فلم يوجد فيه شيء من ذلك، فلا معنى لجعله مخصصًا، ولا مقيدًا، ولا ناسخًا مبطلا.
فتأمله، فهو من المواضع النفيسة، عظيم النفع في الأصول والفروع الفقهية، فكثير ما يغلط الفقهاء في الفتيا بسببه، وكذلك في التدريس، والتخريج لما ليس بمنصوص على المنصوص.