الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
فيما اتصل إليه الاستثناء في الكثرة والقلة
حكى جماعة من المصنفين الإجماع على فساد الاستثناء المستغرق، كقولنا: له عندي عشرة إلا عشرة؛ لأنه يؤدي إلى اللغو في الكلام، ووقع لابن طلحة الأندلسي في كتابه المسمى بالمدخل في الفقه، إذا قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا، فهل يلزمه الثلاث أم لا؟ قولان: فالقول بلزومها؛ بناء على بطلان استثنائه، والقول بعدم لزومها (وهو) الذي يظهر أنه بناء على صحة استثنائه. وعلى هذا النقل وهذا التأويل يكون الإجماع باطلًا؛ لوجود هذا الخلاف في المسألة، أو يكون هذا الخلاف باطلًا/ (154/ أ)؛ لأنه مسبوق بالإجماع، وهو الأقرب، وعلى القول باعتبار هذا الخلاف يكون في المسألة خمسة أقوال: يجوز الكل من الكل، وهو المستغرق، وهو القول المتقدم. لا يجوز المستغرق ويجوز الأكثر. لا يجوز الأكثر ويجوز المساوي، لا يجوز المساوي ويجوز
الأقل. لا يجوز الأقل ويجوز الكثير، فهو عقد.
وها أنا أسرد نصوص العلماء وحججهم في ذلك:
قال الإمام فخر الدين في المحصول: أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق.
ومن الناس من قال: يشترط ألا يكون أكثر مما بقي، بل يجب كونه مساويا أو أقل.
وقال القاضي: شرطه أن (لا) يكون أكثر مما بقي، ولا مساويا، بل أقل.
وقال الشيخ سيف الدين الآمدي في الإحكام: منع بعض أهل اللغة استثناء عقد، فلا يجوز: له عندي عشرة إلا خمسة، ولا: إلا واحدا، بل لا يجوز إلا: له عندي عشرة إلا نصف واحد، وغير ذلك من أجزاء الواحد. ويجوز: له مائة إلا خمسة، ولا يجوز: إلا عشرة؛ لأن نسبة الواحد للعشرة كنسبة العشرة للمائة، وكنسبة المائة للألف، ولا يجوز أن يقول: له ألف إلا مائة؛ لأنها عقد صحيح بالنسبة إلى الألف، بل لا يستثني إلا بعض المائة نحو: إلا خمسين ونحو ذلك، وأما عقد كامل فلا يجوز ألبتة.
قال المازري: وهؤلاء منعوا: له عندي عشرة إلا ثلاثة؛ لأنه ليس كسرا، وإنما جاز عندهم قوله تعالى:{فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} ؛ لأنه كسر، وأجمع الفقهاء على (أن) قوله: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، أنه لا يلزمه إلا اثنتان، فيكون ذلك حجة عليهم، وكذلك يجري الخلاف في: عشرة إلا واحدا، ونحو ذلك، فإنه ليس بكسر.
وهذا القائل لم يجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا الكثير الذي ادعاه، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا)، فاستثنى واحدا وهو بعض عقدة؛ لأن عقد المائة عشرة، والواحد بعضه. قال الشيخ شمس الدين الأبياري في شرح البرهان: إن مذهب القاضي هو
(154/ ب) مذهب سيبويه/ والخليل، والنضر بن شميل، وجماهير النحويين.
وقال الغزالي في المستصفى: قال كثير من أهل اللغة: لا يجوز استثناء عقد، فلا يجوز مائة إلا عشرة، ولا: عشرة إلا درهما، بل مائة إلا خمسة، وعشرة إلا دانقا، ونحو ذلك.
والإجماع في فساد الاستثناء المستغرق نقله الغزالي في المستصفى، وقال شرف الدين التلمساني ...................
في شرح المحصول: الإجماع بعيد مع خلاف أحمد بن حنبل في المسألة، فإنه منع الأكثر، وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتاب العمدة في أصول الفقه: لا يصح استثناء الأكثر عندنا، ونص عليه الخرقي في كتاب
الإقرار في الفروع، وذكر بطلانه في مذهب أحمد، وأنه إذا قال له عندي عشرة إلا تسعة، أنه يلزمه عشرة لبطلان استثنائه، وابن حنبل من أجل الفقهاء، والإجماع دونه لا ينعقد.
وقال ابن جني في كتاب الجامع، وأبو إسحاق الزجاج في كتاب المعاني كما قال الخرقي.
ونقل المازري قول الخرقي عن عبد الملك بن الماجشون، وهو يؤكد بطلان الإجماع.
حجة جواز الأكثر: قال الإمام فخر الدين: يدل على بطلان القول باشتراط الأقل والمساوي إجماع الفقهاء على أن القائل إذا قال: له عندي عشرة
إلا تسعة، أنه لا يلزمه إلا واحد، ولولا أن هذا الاستثناء صحيح لغة وشرعًا، وإلا لما صح ذلك، وقد تقدم ما على هذا الإجماع.
قال فخر الدين: ويدل على فساد اشتراط الأقل، وهو مذهب القاضي ومن تقدمت الحكاية عنه في موافقته قوله تعالى:{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} ، وقوله تعالى حكاية عن إبليس:{لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} ، فلو كان المستثنى أقل من المستثنى منه لزم في اتباع إبليس وفي المخلصين أن يكون (كل) واحد منهما أقل من الآخر، وذلك محال؛ لأن المستثنى منه في إحدى الآيتين قد جعل بعينه هو المستثنى، فإن كان الباقي بعد الاستثناء يشترط فيه أن يكون أكثر، فهذا الأكثر قد جعل مستثنى في الآية الأخرى، فقد استثنى الأكثر، وإن كان الباقي بعد الاستثناء/ يشترط فيه أن يكون مساويا، فقد جعل مستثنى في الآية الأخرى، فقد استثنى المساوي. (155/ أ)
والاستدلال بمجموع الآيتين مدرك قوي جدا في بادئ الرأي، غير أنه باطل من وجهين:
أحدهما: أن للقاضي أن يقول: إن الاستثناء إنما شرع في الكلام لإخراج ما عساه (أن) لا يشعر به المتكلم، وذلك إنما يكون في غاية الندرة والقلة؛ لأن الاستثناء يصير الكلام منقضا باطلا فيما استثنى، وهذان المدركان لا يوجدان في الآيتين؛ لأن الإقدام على الهذر من القول وبطلان الكلام وإخراج المستثنى، إنما يتحقق حالة الخطاب، وكون الخارج معلوما
حينئذ، وأن المتكلم مقدم عليه مع العلم به وحالة قول إبليس ذلك (لم يكن) في ظاهر الحال يعلم المخلصين منهم من غيرهم، فلو ظهر الكل مخلصين، لم يكن في عرف الاستعمال مقدما على الهذر من الكلام، ولا ناقضا لقوله.
وكذلك قوله تعالى: {إلا من اتبعك} ، فهو معلوم للخلق حينئذ، وإن كان الله تعالى يعلم المتبع بعينه من غير المتبع.
غير أن خطاب الله تعالى يجري على القانون العرفي، فكل ما تكلم به العرب وكان شائعا، كان ذلك في القرآن على ذلك الوجه، وخصوص الربوبية لا ينقض استعمال اللغات، ألا ترى أن كلمة (أن) لا يعلق عليها المحتمل المشكوك فيه، (وذلك في حق الله تعالى محال)، مع أنها في القرآن في غاية الكثرة، وما المحسن لهما إلا قول المتكلم لو كان عربيا لحسن ذلك منه، فكان صدورها من الله تعالى عليها ما هو معلوم له تعالى والسامع المخاطب كقوله تعالى:{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} فهم يعلمون أنهم مرتابون، يعني الكفار، وكذلك قوله تعالى:{وإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك} ، وهم يعلمون أنهم كذبوه، غير أن هذا الريب، وهذا التكذيب شأنه أن يعرض له الشك في مجاري العادات، فهذا هو المحسن لتعليقه على كلمة (إن).
وكذلك يحسن أن يقول أحدنا لغيره: إن جاءك زيد فأكرمه، مع علم
الاثنين أنه يجيء، (مع أن) شأن المجيء أن يكون مشكوكا/ (155/ ب) فيه عادة، بخلاف قولنا: إن طلعت الشمس غدا فأتني، فإنه ليس من شأنه أن يشك فيه. فهذا ضابط هذا الباب: أن يكون ذلك المنوال عربيا، وشأنه في العادة ذلك، فيحسن استعماله مطلقا في كلام الله تعالى وفي غيره، فتأمل هذا المعنى فهو محتاج إليه كثيرا في فهم الكتاب العزيز.
فظهر أن القاضي لا يلزمه من الآيتين سؤال، وإنما كان يلزمه السؤال أن لو كان ذلك معلوما للخلق عند النطق بذلك الكلام، كما ينكره القاضي في قول القائل: له عندي عشرة إلا تسعة، فإن القاضي يقول: إقدامه على النطق بالعشرة مع علمه بأن أكثرها لا يلزمه، اشتغال باللغو في الكلام بخلاف إذا لم يعلم، ولا يكون ذلك مفهوما ألبتة عند النطق، بل الغيب يكشف عنه في المستقبل، فهذا فرق عظيم بين البابين.
وثانيهما: سلمنا استواء البابين، لكن المستثنى في الصورتين أقل.
أما قوله تعالى حكاية عن إبليس} إلا عبادك منهم المخلصين}، (فهؤلاء لا يشمل) المخلصين، لقوله:(منهم)، إشارة إلى بني آدم (وإنه يغوي بعضهم فإن بعض العباد لا يتعين فيهم عموم، بل يصدق بأي عدد كان من بني آدم)، كأنه قال: إلا المخلصين من بني آدم أقل من المجرمين.
وأما قوله: {إلا من اتبعك من الغاوين} ، فهو أقل أيضا؛ لأن قوله تعالى يشمل الملائكة، لكونه اسم جنس أضيف فيعم، والمتبع له بعض
الغاوين، منهم من يتبع هواه، ومنهم من يتبع الشيطان، وغير ذلك من القرناء وغيرهم، فنصيبه المتبع له بعض الغاوين. ومعلوم أن كل الغاوين أقل من الملائكة وحدهم، فكيف إذا أضيف إليهم صالحو بني آدم؟ وفي الحديث:"إن الملائكة يطوفون بالمحشر بمن فيه سبعة أدوار"، وذلك أعظم ممن في الحشر، وقال عليه الصلاة والسلام:(أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك يسبح الله تعالى)، ومعلوم أن هذا عدد
عظيم، فإن السماء قدر الأرض مرات كثيرة لا تحصى، حتى يقال: إن الأرض في السماء كالخاتم الملقى في الفلاة، فقامت البراهين في علم الهيئة على ذلك. وفي الحديث:"يدخل البيت المعمور/ (156/ أ) كل يوم سبعون ألفًا لا يرجعون إليه أبدًا"، وهذا يتناول ما قبل خلق آدم إلى قيام الساعة. وفي الحديث أيضًا: "إن كان كل إنسان من بني آدم يأتيه سبعة من الملائكة، فالمتبع له أقل، لكونه بعض بني آدم وبعض الجن، (والجن وبني آدم مجموعهم أقل من الملائكة)، فكيف بعضهم؟
حجة القاضي رحمه الله: أن المقتضى لفساد (الاستثناء) قائم، وما لأجله ترك العمل به في الأقل غير موجود في المساوي والأكثر، (فوجب أن يفسد في المساوي والأكثر.
بيان مقتضى الفساد: أن الاستثناء بعد المستثنى منه إنكار بعد الإقرار، فيكون مردودًا.
بيان الفارق: أن الشيء القليل يكون في معرض النسيان؛ لقلة التفات النفس إليه، فإذا أقر بالعشرة، فربما كانت العشرة تنقص شيئًا قليلًا؛ لكونها كانت تامة، وأدلى ذلك الشيء القليل ونسيه؛ لقلته، فلا جرم والكثير يكون مدروكًا مخصوصًا، لكثرة التفات النفس إليه، (فلا جرم) أقر بالعشرة الكاملة، ثم إنه بعد الإقرار تذكر ذلك القدر، فوجب أن يكون متمكنًا من استدراكه، فلأجل ذلك شرعت العرب والشريعة، استثناء الأقل من الأكثر، ولم يوجد هذا المعنى في استثناء المثل أو الأكثر، لما ذكرنا أن الكثرة فطنة الذكر، ومتى ظهر الفارق بقي المقتضى سليمًا عن المعارض.
وأجاب خصومه: بأن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الموضوعة لما بقي بعد الاستثناء، فالخمسة لها عبارتان في اللغة: خمسة، وعشرة إلا خمسة، وعلى هذا التقدير يمنع أن الاستثناء إقرار قعد الإنكار، فإنه حينئذ ما أقر إلا بخمسة، والعشرة لا دلالة لها مع الاستثناء حتى يكون لفظها إقرارًا، بل مجموع اللفظين وضع لما بقي حقيقة، ويؤكد ذلك ما تقدم من القاعدة وهي: "أن ما لا يستقل بنفسه إذا اتصل بما هو مستقل بنفسه صير
المستقل بنفسه غير مستقل بنفسه" والاستثناء غير مستقل بنفسه، فتصير العشرة غير مستقلة بنفسها، فلا يكون إقرارًا.
وللقاضي رحمه الله أن يقول: لا نسلم أن الجميع لفظة/ (156/ ب) واحدة، بل لفظ العشرة موضوع لمعنى، ولفظ "إلا" موضوع للإخراج مما قبله، وهذا الكلام الذي يقولونه توسع غير (مساعد عليه)، ويلزم أن يقولوا مثله في كل مجاز معه قرينة لفظية: غير مستقل، نحو: رأيت أسدًا قرشيًا أو مؤمنًا، في كلام عام (معه) مخصص لفظي متصل من صفة أو غاية أو شرط أو غيرها، أن الجميع حقيقة فيما بقي، وهو ظاهر البطلان لوجهين:
الأول: أنه يلزم الترادف بين قولنا: زيد، وأسد مؤمن، فإن المراد بهما واحد، والثاني عندكم موضوع لما وضع له زيد إن التزمتموه، وكذلك قولنا: اقتلوا المشركين المحاربين، وقولنا: اقتلوا الحربيين، يكونان مترادفين.
الثاني: (أنه يبطل) معنى الاستثناء، فلا يبقى موضوعًا للإخراج، بل المجموع موضوع لحقيقة واحدة، بل لا إخراج، وكذلك لا يبقى لفظ الصفة موضوعًا للصفة، لأن الصفة تعتمد موصوفًا تقدم لفظه، حتى تجري
هذه الصفة عليه.
وإذا كان اللفظ موضوعًا لمعنى واحد، فلا صفة ولا موصوف، وحينئذ قال الأبياري في شرح البرهان: نظير أن الاستثناء والمستثنى منه كاللفظة الواحدة قولك: زيد، فيكون مدلوله مفردًا، وتزيد عليه واوًا ونونًا فتقول: الزيدون، فيصير مدلوله الجمع، ويكون المجموع الثاني موضوعًا وضعًا مستقلًا.
قلت: الفرق أن مدلول زيد، وهو ذلك الشخص المعين حاصل في الجمع بالضرورة، ولم تبطل هذه الزيادة شيئًا مما تقدم، بل زادت، وفي الاستثناء (الطلب إلا) بعض ما دل عليه لفظ العشرة، لو انفرد بقي الاستثناء مقتضى ينافي معنى، فوجب بقاؤه عليه، والقول بأن الجميع وضع لمعنى واحد يبطل بقاؤه عليه، بخلاف لفظ الإفراد والجمع.
ومن وجه آخر أن "إلا" موضوعة للإخراج ومعها أخواتها نحو
اثني عشر، موضوعة للإخراج، كما هو مستوعب في كتب الاستثناء. وأما الواو والنون فليس له مفهوم إلا مع ما يضافان إليه. فوجب أن يكون الجميع هو الموضوع لمعنى واحد.
وأحسن من هذا التشبيه، (التشبيه) بقولنا: قام زيد، ثم يدخل عليه "هل" للاستفهام، فيصير موضوعًا للاستخبار، بعد/ (157/ أ) أن كان موضوعًا للخبر، ويبطل المعنى الأول، وكذلك يدخل عليه الشرط فتقول: إن قام زيد، فتبطل الإفادة، ويصير غير مفيد بعد أن كان مفيدًا، وغير مجزوم بوقوعه بعد أن كان مجزومًا بوقوعه، وكلا اللفظين "هل"، و"إن" وضعا لمعنى مستقل كلفظ "إلا"، وانتقل المعنى في الجميع لمعنى آخر غير الأول، ومع صحة التشبيه لا يحصل المقصود للخصم؛ بسبب أن مسمى "إلا" للإخراج، والإخراج لا يتحقق إلا مع تقرر معنى يصح الإخراج منه، أما الاستفهام والشرط فلا يقتضيان تقرر المعنى الأول، ومفهوم الإخراج يتقاضاه، فافترقت هذه الموارد، ويلزم القائلين بأن الخمسة لها عبارتان: خمسة، وعشرة إلا خمسة، أن القائل إذا قال: ما له عندي عشرة.
* * *