الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة التاسعة: اختلفوا في العموم إذا تعقبه استثناء أو صفة حكم، وكان ذلك لا يتأتى في (بعض ما تناوله) العموم، هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض فقط أو لا
؟ .
مثال الاستثناء قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} إلى قوله: {إلا أن يعفون} ، فاستثنى العفو، وأضافه للضمير الراجع للنساء، ومعلوم أن العفو لا يصح إلا من الرشيدات المالكات أمرهن، دون المحجور عليهن، فهل يجب أن يقال: المحجور عليهن لجنون أو صغر ونحوهن غير مرادات بلفظ النساء؟ وهو العموم السابق في أول الكلام؛ لأن القاعدة العربية: (أن الضمير هو عين الظاهر) ، فإذا كان الضمير المراد به الرشيدات، كان الظاهر كذلك، وإلا اختلف الظاهر والمضمر، وهو خلاف القاعدة الموجبة لاتحادهما في المعنى، حتى يدل الدليل على خلافه، أو يقال: كما يلزم مخالفة الظاهر بعدم اتحاد المعنى في اللفظ الظاهر، فيلزم- أيضًا- مخالفة الظاهر (في تخصيص العموم؟ وهو خلاف الظاهر) ، بل مراعاة العموم أولى
بسبب أنه يصير اللفظ مجازًا بالتخصيص، ويكون مجازًا في الإفراد.
وأما عود الضمير على معنى تضمنه الظاهر فليس مجازًا في الإفراد، فإن الضمير حينئذ يستعمل في موضعه.
نعم يلزم المجاز في التراكيب، فإن العرب لم تضع لفظ الضمير يركب إلا مع ظاهر معناه، هو معناه، فإذا رأيته مع لفظ ليس معناه، كان مجازًا في التركيب، والمجاز في التركيب أخف من المجاز في الإفراد، لاختلاف العلماء في أن العرب وضعت المركبات أم لا.
فعلى القول بعدم الوضع: لا يكون مجازًا في التركيب البتة؛ لأن الحقيقة والمجاز فرعا الوضع، فحيث لا وضع، لا حقيقة ولا مجاز البتة.
فمجاز التركيب أضعف حينئذ وأقرب إلى عدم مخالفة الأصول، فوجب التزامه دون مجاز الإفراد.
ومثال الصفة: قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} ، ثم قال تعالى:{لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} ، يعني الرغبة في الرجعية/ والرغبة في الرجعية- صفة للمطلق- حكم شرعي، ومعلوم أن ذلك خاص بالرجعيات، فهل يقال: هذا الضمير لما اختص بالرجعيات وجب أن يكون العموم السابق المراد به الرجعيات، حتى يعمل بقاعدة (عود الضمائر على الظواهر)، وأن معناها يجب أن يكون واحدًا، أو نقول: التزام العموم والمجاز في التركيب أولى من الإفراد، كما تقدم تقريره؟ .
ومثال التقييد بالحكم الشرعي قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، ثم قال:{وبعولتهن احق بردهن في ذلك} ، وكونهم أحق: حكم شرعي؛ لأنه تقديم من قبل صاحب الشرع، وإباحة الأزواج المطلقات طلاقًا رجعيًا، وهذا الحكم لا يتأتى إلا في الرجعيات، ولا يتناول هذا الضمير من جهة المعنى غيرهن، فيتعارض القاعدتان السابقتان، والترجيح المتقدم كما تقدم تقريره.
إذا عرفت ذلك، فنقول: ذهب القاضي عبد الجبار رحمه الله إلى أنه لا يجب تخصيص العموم بهذه الأشياء.
ومنهم من قطع بالتخصيص.
ومنهم من وقف، وهو اختيار الإمام فخر الدين رحمه الله محتجًا بأن ظاهر العموم المتقدم يقتضي الاستغراق، وظاهر الضمير يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم؛ لأنه شأن الضمائر؛ لأن الإنسان إذا قال: من دخل الدار من عبيدي ضربته، يقتضي ذلك عود الضمير على كل العبيد، وجرى ذلك مجرى قوله في الضمير: ضربت عبيدي، فليس أحد الظاهرين أولى من الآخر، وقد تقدم جوابه، وأن أحدهما أولى بالمراعاة.
فائدة:
مثل عود هذه الضمائر على غير ظواهرها قوله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} ، فالضمير في
قوله تعالى: {أو تركتموها} ظاهره لفظ لينة وهي النخلة، وقد وصفها
بالقطع بقوله: (قطعتم)، النخلة المقطوعة من المحال أن يتركها قائمة على أصولها، فإن القطع ضد البقاء، وإذا قطعت تعذر عودها عادة، فيتعين عود الضمير على غير اللينة المقطوعة.
قال العلماء: فيعود على الجنس الذي دل عليه لفظ اللينة، وجنس
اللينة/ يقبل أن يبقى منه البعض، إذا قطع البعض، فقد عاد الضمير على
غير ظاهره، بل على بعض معناه.
وكذلك قوله تعالى: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} ، (والمعمر لا ينقص من عمره، فيكون الضمير في قوله (من عمره) عائدًا على جنس الإنسان الذي دل عليه لفظ (معمر) دون خصوص العمر، كما تقدم في اللينة.
وقد يعود الضمير على معلوم غير مذكور البتة كقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} ، والضمير عائد على القرآن، ولم يتقدم له ذكر؛ لأن هذا الكلام أول السورة، فتعين أن يكون عائدًا على غير معلوم عند السامع، ليس بمذكور.
وكذلك قوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} ، الضمير المستتر في توارت (عائد) على الشمس- ولم يتقدم لها ذكر-بل عاد الضمير على معلوم، وهو كثير في القرآن والسنة وكلام العرب، وهو يؤكد القول بحمل اللفظ على عمومه؛ لأجل كثرة المسامحة في الضمائر.