الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
يجب أن يكون الاستثناء متصلا بالمستثنى منه
عادة
واحترزنا بقولنا: "عادة"، عما إذا طال الكلام، فإن ذلك لا يمنع من كون الاستثناء متصلا، كما إذا قال: أكرم قريشا الطوال يوم الجمعة عند أخيك متكئا إكراما حسنا لأجل نسبهم وشجاعتهم وكرمهم إلا زيدا، فإن هذا الاستثناء وإن وقع بعد هذه الكلمات العديدة فإن أهل اللغة يعدونه متصلا عادة، وكذلك إذا انقطع الكلام بالتنفس والسعال، ثم استثنى عقيبه، فإن أهل اللغة يقضون بأنه متصل، لأن أهل العادة يعدونه كذلك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جوز الاستثناء المنفصل، وهذه الرواية، أن صحت، فلعل المراد منها ما إذا
نوى الاستثناء متصلا بالكلام، ثم أظهر نيته بعده، فإنه يدين بينه وبين الله تعالى فيما نواه.
قلت: هذه المسألة محكية على هذه الصورة في المحصول، وعند جماعة من علماء الأصول، ويحكون الخلاف عن ابن عباس رضي الله عنهما على هذه الصورة.
والظاهر أن المسألة وقع فيها انتقال من باب إلى باب، بسبب اشتراك اللفظ، فإن الاستثناء يطلق على معنيين:
أحدهما: الإخراج بإلا وأخواتها، وهو الذي نحن فيه ها هنا.
وثانيهما: الشروط والتعاليق، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:(من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف)، ومعنى استثنى في هذا الحديث، أي قال: إن شاء الله، فتعلق الفعل على مشيئة الله تعالى، ومنه نهيه عليه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثنيا، قال
العلماء: معناه بيع وشرط، والتعاليق مخالفة للإخراج بإلا وأخواتها، / ولفظ الاستثناء يطلق عليهما بطريق الاشتراك، أو مجاز ي أحدهما، وعلى التقديرين، البابان مختلفان. (147/ ب)
والمنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما أنه كان يقول في قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت} ، معناه اذكر مشيئة ربك إذا نسيتها، والذكر من المحال أن يقع في زمن النسيان؛ لأنهما ضدان، فيتعين أن يكون هذا الظرف الذي هو "إذا" أوسع من مظروفه حتى تبقى فيه فضلة يقع فيها الذكر بعد النسيان، وهذه القاعدة مشهورة، كقولنا: ولد عام الفيل، ومات سنة سبعين، ومن المعلوم أن الولادة لا تستغرق السنة، بل في جزء منها، وكذلك الموت، لكن الظرف أوسع، فيكون "إذا" أوسع من النسيان الذي جعل مظروفا لـ "إذا".
وهذه التسعة لم يتعين فيها حد، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن له أن يقول: إن شاء الله، إلى آخر عمره؛ لأجل عدم التحديد، وقيل: إلى سنة، وقيل: لم يصح ذلك عنه.
وقد قال ابن العربي: إني كنت ببغداد، فسمعت امرأة تقول لجاريتها: إن مذهب ابن عباس ليس بصحيح في الاستثناء، قالت لها: ولم ذلك؟ قالت: لأن الله تعالى قال لأيوب عليه السلام: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} ، فلو كان الاستثناء بمشيئة الله تعالى صحيحا بعد انفصال اليمين وطول الزمان، لقال الله تعالى له: استثن بمشيئة الله تعالى، تنحل يمينك، ولم تكن ها هنا ضرورة لهذا التحليل بالضغث، قال ابن العربي: فانظر إلى ملك تكون نساؤهم بهذا الطور من العقل، فكيف يكون رجالهم؟ !
وروي أن عالمين تناظرا في هذه المسألة، في مجلس بعض الخلفاء، فقال
الخليفة لمانع هذه المسألة: ما صاحبك يقول؟ قال: إنه يقول: إن أمير المؤمنين لا تنعقد له بيعة مع جنده أصلا، وأن لهم أن يقولوا بعد طول المدة:(إن شاء الله)، فيبطل أيمان البيعة التي عليهم، فقال الخليفة: هذا مذهب باطل.
فانظر إلى هذه النقول عن العلماء إنما هي كلها في الاستثناء بمشيئة الله تعالى.
أما الاستثناء بإلا وأخواتها فباب آخر، لكن لما كان الجميع/ استثناء، أمكن وقوع الوهم، بسبب الاشتراك من باب إلى باب، وهذا (هو) الذي أعتقده، وأن الخلاف عن ابن عباس إنما هو في الاستثناء بمشيئة الله تعالى. (148/ أ)
وقول الإمام فخر الدين: إنه ينويه، ويفسره بعد ذلك، هذا إنما يتجه في غير النصوص كالعمومات ونحوها أما الأعداد، فليس له أن يطلقها ويريد بها بعض مدلولها، ويفسره بعد ذلك.
احتج المنتصر لابن عباس: بأنه يجوز تأخير النسخ والتخصيص، فكذلك الاستثناء وأنه لما نزل قوله تعالى:{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون} فشكى ذلك ابن أم مكتوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه
كان أعمى لا يقدر على الجهاد، فتعين أنه من القاعدين، فأنزل الله تعالى:{غير أولي الضرر} فسر بذلك ابن أم مكتوم، لأنه من أولي الضرر، وهذا الاستثناء نزل منفصلا.
والجواب عن الأول: أن الفرق بين الاستثناء والنسخ، أن النسخ لو تقدم الإعلام به، وقال: هذا الحكم ينسخ بعد سنة، لكان هذا الحكم مغيا من الآن بالسنة، فكان ينبني بذاته ووصوله لغايته لا بالناسخ، فتعجيل النسخ يبطله، بخلاف الاستثناء، لا يبطله تعجيله.
وأما التخصيص، فإن كان بالأدلة المتصلة كالغاية والشرط والصفة، منعنا تأخيره، وإن كان بالمنفصلة جوزنا تأخيره، لكن الفرق أنه لفظ مستقل بنفسه، فجاز النطق به وحده بخلاف الاستثناء لا يستقل بنفسه، فيتعين ضمه لغيره حتى يحسن النطق به؛ لئلا يكون المتكلم متكلما بالهذر من الكلام.
وعن الثاني: أن معناه عندنا أنه أضيف اللفظ السابق على وجه التكرر، ثم أسقط أحدهما من التلاوة ونسخ التلاوة عندنا وعندكم جائز.
أما النطق بكلام لا يفيد بنفسه، ولا يضم معه، بل يحال الأمر فيه على ما
تقدم من سنة، فهذا باطل عند أكثر الناس، كقول القائل لوكيله: بع داري ممن رأيت، ثم يقول بعد سنة: إلا من زيد، وحمل كلام الله تعالى على الجادة أولى من حمله على الشاذة.
وهذا هو الجواب عن قول من يقول: الأصل عدم التكرار، فنقول له: التكرار متفق عليه، والنطق/ بكلام غير مفيد في نفسه من غير إضمار معه، لا يجوز إلا على الشذوذ، ومخالفة الأصل بما هو متفق عليه أولى من مخالفته بما هو كالمتفق على بطلانه، والحاصل أن مخالفة الأصول لابد منها، والمخالفة بما ذكرناه أولى. (148/ ب)
احتج المانعون من ذلك: بأنه لا يجوز تأخير الشرط، ولا خبر المبتدأ، فكذلك الاستثناء، بجامع أن الجميع لا يستقل بإفادة؛ ولأن اللغة إنما وضعت للإفادة، والنطق بالاستثناء بعد سنة لا يفيد ألبتة، ويعد في العادة ملغزا ومتكلما بالهذر من الكلام.
وأجاب المجيزون عن الأول: بأن الشرط تعليق، والتعاليق اللغوية كلها أسباب؛ لأنها يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم، وهذا هو حد السبب، بخلاف الشروط العقلية كالحياة مع العلم، والشرعية كالطهارة مع الصلاة، والعادية كالسلم مع صعود السطح، فإنها يلزم من عدمها عدم المشروط، ولا يلزم من وجودها وجوده ولا عدمه، وهذا ضابط الشرط وحده.
وإذا كانت الشروط اللغوية أسبابا، كان لفظ الشرط واقعا على القسمين بطريق الاشتراك، وكانت الشروط اللغوية متضمنة للحكم؛ بسبب أنها أسباب، وهذا هو شأن السبب، والحكة هي مقصود المتكلم فيكون تأخير الشرط اللغوي تأخير للمقصود، وتأخير المقاصد ليس شأن العقلاء بخلاف الاستثناء، إنما هو إخراج ما ليس بمقصود فلا تتعلق العناية به فيجوز تأخيره؛ لأن مما عساه التف في الكلام من غير قصد، فظهر الفرق.
وكذلك خبر المبتدأ هو موضع الفائدة ومقصود المتكلم، فلو تأخر لتأخر المقصود بخلاف الاستثناء.
وفرق آخر يخص خبر المبتدأ: أنه إذا لم ينطق به لا يكون الكلام تاما يحسن السكوت عليه، وإذا تأخر الاستثناء، كان الكلام تاما يحسن السكوت عليه، فجاز تأخير ما هو فضلة فيه وسع وهو الاستثناء.
(149/ أ) وأما الثالث: فهو وجه حسن قوي، وهو/ العمدة في الباب، وعليه المعول.
* * *
المسألة الثالثة
الاستثناء من غير الجنس
اختلف العلماء فيه، فقيل: هو حقيقة، وقيل، إنه مجاز وهو المشهور.
واختلف فيه من وجه آخر، هل يجوز بكل شيء يخطر في نفس المتكلم، أو لابد أن يكون مما لا يلابس الأول ويلازمه بوجه ماظن كقول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس .... إلا اليعافير وإلا العيس
وحمر الوحش التي هي اليعافير، والعيس التي هي الإبل البيض بصفرة، ليس لها ملابسة الأنس من حيث الجملة، والاستقراء يحقق هذين المذهبين في موارد الاستعمال.
واحتج القائلون بالمجاز: بأن الاستثناء وضع لإخراج ما لولاه لوجب اندراجه أو: ما لولاه لجاز اندراجه.
فالأول: كقولنا: قام القوم إلا زيدا.
والثاني، كقولنا: أكرم رجالا إلا زيدا، ولم يجزه إلا القليل من علماء اللغة وعلى التقديرين: لا يكون المنقطع حقيقة؛ لأن قولنا: قام إخوتك إلا ثوبا، لا يجب فيه اندراج الثوب، ولا يجوز أن يندرج فيهم، فلا يكون هذا موضع الاستثناء، فيكون مجازا وهو المطلوب؛ ولأن اللفظ حقيقة فيما لولاه لوجب اندراجه في الحكم؛ لأنه مستعمل، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فلو كان حقيقة فيما لولاه لامتنع اندراجه أيضا وهو المنقطع لزم الاشتراك، وإذا تعارض المجاز والاشتراك، فالمجاز أولى.
احتج القائلون بأن المنقطع حقيقة، بالقرآن والشعر والمعقول.
أما القرآن، فخمس آيات:
أحدها: قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} ، والخطأ ليس له، فليس من الأول، فيكون منقطعا.
وثانيهما: قوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} ، وهو ما كان منهم، بل من الجن لقوله تعالى:{إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} .
وثالثها: قوله تعالى: {لا أكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} ، والتجارة لا تؤكل بالباطل، فيكون منقطعا عن الأول.
(149/ ب) ورابعها: قوله تعالى: {ما لهم به من علم إلا إتباع الظن} ، / والظن ليس من جنس العلم.
وخامسها: قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما} ، والسلام ليس من جنس اللغو.
وأما الشعر: فقول الشاعر:
وبلدة ليس فيها أنيس .... إلا اليعافير وإلا العيس
وقول النابغة:
وقفت بها أصيلانا أسائلها .... أعيت جوابا وما بالربع من احد
إلا الأواري ليا ما أبينها .... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
وأحد معناه إنسان، وأواري وما ذكر معها ليس من الأناسي، فيكون منقطعا.
وأما المعقول: فهو أن الاستثناء تارة يمنع عما يدل عليه اللفظ دلالة مطابقة، نحو: له عشرة إلا اثنين، وعما يدل عليه اللفظ دلالة تضمن، نحو: بعتك الباب إلا مسمارا.
وعما يدل عليه اللفظ دلالة التزام، نحو: له علي ألف دينار إلا ثوبا؛ لأن
قيمة الثوب من لازم الألف، فإذا وقع من الثلاثة، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فيكون حقيقة في الثلاثة وهو المطلوب، فإن المنقطع لا يخرج عن الثلاثة.
أجاب المانعون عن قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} أنه مجاز؛ لأن المتبادر إلى الفهم في موارد الاستثناء هو المتصل، وغير المتبادر مجاز، فيكون هذا مجازا.
وعن قوله تعالى: {إلا إبليس كان من الجن} بوجوه:
أحدها: أنه كان من الملائكة، والملائكة يصدق عليها أنها جن، فإن أصل هذه المادة الاختفاء، ومنه الجنين، والجنة، والجنة، والمجن، والجنون، لأن الجنين مختف، والجنة اختفت أرضها بشجرها، والجنة مختفون عن
الأبصار، والمجن الدرقة، وهو يخفي صاحبه من السهام وأسباب الأذى، والجنون يخفي العقل، والملائكة مختفون عن الأبصار، فيصدق عليهم لفظ الجان.
وثانيها: سلمنا أن لفظ الجن لا يصدق على الملائكة لكن إبليس من طائفة من الملائكة (كان قد فوض) إليهم حفظ الجنات التي هي دار كرامة الله تعالى لأوليائه، فسموا جنا، لنسبتهم إلى الجنة، لا إلى الجنة بكسر الجيم.
وثالثها: سلمنا تعذر اللفظين في حق الملائكة، لكن الملائكة استعمل مجازا في المأمورين، وتقدير الكلام: سجد المأمورون إلا إبليس/ ولا خلاف أنه كان من المأمورين بالسجود. (150/ أ)
رابعها: سلمنا أن لفظ الملائكة استعمل في الملائكة، غير أن العرب إذا قالت: بنو تميم أو بنو هاشم، اندرج فيها مواليها ومن طالت مجاورتها لها من باب التغليب، وإبليس طالت صحبته للملائكة وعبادته لله تعالى معهم، حتى قيل: إنه كان يسمى طاووس الملائكة، فاندرج (في) لفظ الملائكة، فكان الاستثناء متصلا.
وخامسها: تعذر ذلك كله، لكنه مجاز؛ لأنه المتبادر من الاستثناء هو
المتصل، فيكون المنقطع مجازا وهو المطلوب.\فإن قلت: أيما أولى، جعل اللفظ مجازا في لفظ الملائكة، أو في لفظ الاستثناء؟ .
قلت: المجاز في لفظ الملائكة أولى، لأنه مجاز في لفظ مفرد، وهو في لفظ الاستثناء في لفظ مركب، ومجاز الإفراد أرجح من وجهين:
الأول: أنه أكثر كلام العرب، والكثرة دليل الرجحان.
الثاني: أن المفردات متفق على وضعها، فيكون قبولها المجاز متفقا عليه، والمركبات اختلف الناس هل وضعها العرب أم لا؟ فيكون قبولها المجاز مختلفا فيه.
والجواب عن قوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة} ، أنه مجاز؛ لأن المتبادر هو المتصل، كما تقدم، وإنما يجب العدول ها هنا إلى المنقطع، لقرينة التعذر، والذي يعدل إليه لقرينة التعذر هو مجاز.
وعن الشعر: أن الأنيس أيضا يطلق على اليعافير والعيس، ألا ترى أن السائر في القفار لو عدم الوحوش بالكلية، استوحش، لدلالة عدمها على عدم الماء، وإذا وجدها أنس واستبشر، لدلالة وجودها على قرب الماء، والعيس بالأنس أولى؛ لأنها لا تكون إلا حيث يكون الآدميون غالبا؟
وعن الشعر الثاني: أن (أحدا) فيه، أمكن أن يفسر بأحد الذي هو ليس بإنسان، كقوله تعالى:{قل هو الله أحد} ، أي: واحد، ولفظ واحد لا يختص بالإنسان، واللغويون وإن نصوا على لفظ أحد بمعنى إنسان، لا يجوز أن يستعمل إلا في النفي، فلم يمنعوا أن يستعمل أحد بمعنى واحد في
النفي، وعلى هذا التقدير يكون الاستثناء متصلا لا منقطعا.
وعن الحجة العقلية: أنه حقيقة في المطابقة والتضمين؛ / لأنه المتبادر، وأما من اللازم فهو مجاز لعدم المبادرة. (150/ ب)
فوائد سبع:
الأولى: أنك لا تجد أحدا يقول: المنقطع، إلا أنه المستثنى من غير الجنس، والمتصل: هو المستثنى من الجنس، هذا هو المسطور في كتب الأدباء والنحاة والأصوليين، وهو غلط في القسمين، فإن قوله تعالى:{لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة} ، المحكوم عليه بعد "إلا" هو المحكوم عليه قبلها، ومع ذلك فهو منقطع، فيبطل به حد المتصل عندهم؛ لأنه منقطع، والحد موجود فيه؛ لأنه من الجنس، بل هو هو، ويبطل به حد المنقطع مع أنه منقطع، مع أنه لم يوجد الحكم غير الجنس فيبطل الحدان.
وكذلك قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} ، فالموتة الأولى بعض أفراد الموت ومن جنسه، ومع ذلك فهو منقطع بالنقل عن العلماء.
وكذلك قوله تعالى} إلا خطأ}، أي: إلا قتلا خطأ، ومعلوم أن القتل الخطأ بعض أفراد القتل، ومع ذلك فهو منقطع، فيبطل به الحدان، لعدم المنع في المتصل وعدم الجمع في المنفصل والمنقطع.
بل الحق أن يقول: المتصل هو: أن تحكم على جنس ما حكمت عليه أولا، بنقيض ما حكمت به أولا، فلا بد في المتصل من هذين القيدين، ومتى انخرم أحدهما صار منقطعا، أما بأن يحكم على غير الجنس، نحو: رأيت القوم إلا ثوبا، أو بغير النقيض، فيكون المنقطع متنوعا إلى نوعين، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم أجزائه، فقوله تعالى:{لا يذوقون فيها الموت} ، حصل الانقطاع بسبب أن الحكم بعد "إلا" بغير النقيض؛ لأن نقيض} لا يذوقون فيها الموت} يذوقون فيها (الموت) ويكون معنى الآية: إلا الموتة الأولى ذاقوها فيها، وليس كذلك، بل لم نحكم إلا بذوقها في الدنيا. فحكم بغير النقيض.
وكذلك} إلا أن تكون تجارة}، لم نحكم بالنقيض؛ لأن النقيض} لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، كلوها بالباطل، ولم نحكم به بعد
"إلا"، بل معنى الآية: إلا أن تكون تجارة فكلوها بالسبب الحق، فلم نحكم بالنقيض، بل بغيره، فكان منقطعا.
ونقيض قوله تعالى: /} وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ}، له أن يقتله، ولم نحكم به، لأن الخطأ لا يقال فيه: هو له، لأنه يلزم حينئذ أن يكون مباحا، والقتل الخطأ ليس مباحا، فلم نحكم بالنقيض. (151/ أ)
وقول الشاعر: "إلا اليعافير" حصل الانقطاع، بالحكم على غير الجنس، وإن كان قد حكم بالنقيض، فمتى حكمت على غير الجنس، كان منقطعا، وإن حكمت بالنقيض.
وكذلك "إلا أواري"، فإنه حكم بالنقيض؛ لأن الأواري بالربع وهو ثبوت، والمحكوم بع قبل "إلا" سلب، وهو نقيضه.
وكذلك إن حكمت على غير الجنس بغير النقيض، نحو: رأيت إخوتك إلا زيدا مسافرا، فيكون منقطعا للمعنيين.
ويتنوع المنقطع إلى ثلاثة: أحدها: الحكم على غير الجنس بالنقيض، وعلى غير الجنس بغير النقيض: وعلى الجنس بغير النقيض، فهذه الثلاثة هي المنقطعة باعتبار الضابط المتقدم، والمتصل نوع واحد وهو: أن تحكم على الجنس بالنقيض.
فهذا تحرير المتصل والمنقطع، وعليه يتخرج آيات الكتاب العزيز والسنة
ولسان العرب، ولا يشكل بعد ذلك شيء، بخلاف ما سطره (بعض) الأدباء وغيرهم.
الفائدة الثانية: في قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما} ، قيل: اللغو هو الذي لا فائدة فيه، والسلام فيه فائدة، وليس من جنس اللغو، فيكون منقطعا، وقيل: السلام في الدنيا دعاء بالسلامة، وفي الآخرة جعل الأمان لأهل الجنة، فيتعدد الدعاء بالسلامة، فصار السلام لغوا، لبطلان معناه المقصود، وقيل: على هذا التقدير لم يبطل أيضا، بل هو في الدنيا الدعاء والتحية والإكرام، بطل أحد مقاصده وهو الدعاء، بقيت المكارمة والتعظيم، فليس لغوا، لحصول هذه الفوائد منه.
الفائدة الثالثة: قال بعض العلماء: قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا
الموتة الأولى} متصل؛ لأن أصل الذوق حقيقة إنما هو إدراك الطعوم باللسان وإطلاقه على الشدائد والموت ونحوه إنما هو مجاز؛ لأنها ليست من ذوات الطعوم، وإذا كان ذلك مجازا، فتحمل الآية على مطلق العلم ويكون معناها: لا يعلمون فيها الموت إلا الموتة الأولى يعلمونها؛ لأنهم في الجنة يعلمون أنهم/ ماتوا في الدنيا، فيكون الاستثناء متصلا، للحكم بالنقيض على الجنس، غايته وقوع المجاز في لفظ الذوق، فالقائل بأنه منقطع يجوز به أيضا إلى إدراك ما يقوم بالإنسان من الموت وغيره، ونحن نجوز بأنه إلى أصل الإدراك، ويكون المجاز على المذهبين من باب التعبير بلفظ الأخص عن الأعم، فيتعارض المجاز الأخص والانقطاع، أيهما يقدم؟ فالقائل بالانقطاع التزم المجاز للأخص والانقطاع، والقائل بالاتصال قال بالمجاز الأعم، وفاته قوة المجاز في الأخص، فهذا تلخيص هذه الآية.
الفائدة الرابعة: اليعافير جمع يعفور، وهو حمار الوحش، والعيس: جمع عيساء وهي الناقة البيضاء التي يخالط بياضها اصفرار، وروي (في شعر) النابغة "وما بالربع من أحد" وما بالدار من أحد.
والأواري: جمع أورية وهي العروة التي يربط فيها الخيل في الأرض، وتلك العروة ثابتة أبدا، فمتى جيء بالفرس ربطت فيها.
وقوله: "ليًّا" أي ملوية، عبر بالمصدر عن اسم المفعول.
و"المظلومة" من الألفاظ المشتركة، يطلق على وضع الشيء في غير محله، وهو الظلم المشهور، وعلى عدم المطر والجدب، و"المظلومة" المراد بها في بيت الشعر: الأرض التي لم تمطر. و"الجلد": الصلب، فهي صارت صلبة، لعدم الماء الذي يلينها.
الفائدة الخامسة: في قولهم: (الاستثناء يقع في المطابقة والتضمن والالتزام)، فإني سألت جماعة من الفضلاء، فلم أجد أحدا يذكر مثال التضمن، وهو عسر جدا.
وقال بعضهم: هو قولنا: عندي عشرة إلا اثنين، فإن الاثنين هي بعض الخمسة والخمسة بعض العشرة، وقد استثنى من الخمسة المدلول عليها تضمنا.
قيل له: هذا باطل من وجهين:
أحدهما: أن "الاثنين" ليس جعلهما من الخمسة أولى من جعلهما من الستة والثمانية وغير ذلك من أجزاء العشرة، أو يجعل جزءا من العشرة، فيكون من المطابقة لا من التضمن، وليس بعض هذه الاحتمالات أولى من
باقيها، فلو حكم أنه من ـحدهما دون الباقي، لزم الترجيح من غير مرجح، .
وثانيهما: أن كل "ما" استثني من مطابقة يمكن أن يدعى فيه أنه من التضمن، فلا يستقر لنا مثال التضمن ألبتة.
والذي رأيته في مثل هذه الثلاثة: أن المطابقة مثل قولنا: له عندي/ عشرة إلا اثنين، وكذلك بقية الأعداد وأسماؤها. (152/ أ)
والتضمن: مثل قولنا: له عندي باب إلا مسمارا، فإن الحقائق المركبة قسمان، أحدهما: أجزاؤه متساوية في الماهية من جنس واحد، كالأعداد كلها.
وثانيهما: أجزاؤه مختلفة، كالباب مثلا، مركب من الخشب والمسامير، فإذا قلت: هذا الباب إلا مسمارا، تعين الاستثناء أن يكون من المسامير دون الخشب، وإن قلت: إلا خشبة، تعين أن يكون الاستثناء من الخشب دون المسامير، فتعين أحد الجزئين المدلول تضمنا، فكان الاستثناء من التضمن المتعين دون الجزء الآخر، بخلاف العشرة ونحوها من العدد.
وكذلك: بعتك هذه النخلة إلا جريدة منها، يتعين أنه استثناء من الجريد المدلول تضمنا، وإن قلت: إلا عرجونا، يعني من العراجين المدلولة تضمنا، وكذلك إذا قلنا: الأمر للتكرار، فإنه يكون موضوعا حينئذ لطلب الفعل مع التكرار، فتكون الأزمنة أحد أجزائه المدلول عليها تضمنا.
فإذا قال الآمر: صل إلا عند الزوال، يكون قد استثنى زمنا من الأزمنة الذي هو الزوال، فيكون هذا الزوال متعينا، لأحد الجزئين المدلول عليه تضمنا وهو الأزمنة، وقس على هذه بقية النظائر، ولا يلزم فيها الترجيح من غير مرجح، بل أحدهما متعين بذاته وماهيته عن الآخر، ويحتمل أن يكون أيضا في هذه المركبات من المختلفات أن يكون من المجموع المدلول عليه مطابقة، كما
يحتمل أن يكون الجزء المدلول عليه تضمنا، فإنه يجوز أن يستثنى من المجموع مسمارا، كما يجوز أن يستثنيه من المسامير وحدها، غير أنه إذا ادعى هذا، وهو أنه استثناء من التضمن، لا يلزم الترجيح من غير مرجح الذي تقدم تقريره في الإشكال، بخلاف المركبات البسيطة، يلزم فيها الترجيح من غير مرجح جزما، مع أنه ترجح أن يكون من التضمن دون المطابقة، لقرينة اختصاصه بأحد الجزئين، وإنما ترجح المطابقة في المركبات من البسائط.
وأما مثال الالتزام: فهو الاستثناء من لازم من لوازم المسمى أو عارض من عوارضه، كقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام:{لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} ، فاستثنى من الأحوال حالة الإحاطة، والأحوال يلزم بعضها مسمى الإتيان، / ولا بعض جزئه. (152/ ب)
ومثله: قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون} ، أي لا يأتيهم ويأخذهم إلا في هذه الحالة، واستثنى من الأحوال هذه الحالة، والأحوال أمور خارجة عن هذا المسمى، وهو الإتيان.
وكذلك قوله تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين} ، أي لا يأتيهم ويجدهم إلا في هذه الحالة.
قال الفقهاء: ومن هذا الباب قولهم: عندي ألف درهم إلا ثوبا، قالوا: لأن معناه أن الألف يلزمها قيمة ثوب وأكثر من ثوب، فاستثناء الثوب استثناء من اللازم للألف، لا من أجزاء الألف، ولا من الألف.
واختلفت عبارات العلماء في تقرير هذا المثال، فمنهم من يقرره بقوله: تقدير الكلام إلا قيمة ثوب، فيجعله من باب الإضمار والحذف، ومنهم من يقدره بالمجاز ويقول: عبر بالثوب عن قيمته، فلا يكون في المجاز حذف حينئذ، ويتعارض حينئذ في هذا المقام (المجاز) والإضمار، والمجاز أرجح، لأنه أكثر من الكلام.
فهذه مثل الاستثناء الثلاثة، من المطابقة والتضمن والالتزام، والعسر فيها هو التضمن، والأخيرتان قريبتان، خصوصا المطابقة.
والاستثناء من اللوازم، هو مذهب الشافعي ومالك رضي الله عنهما، وحكاه إمام الحرمين عن الشافعي، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن مالك، قال إمام الحرمين: هو تعبير بالثوب عن قيمته ولم يستغرق الألف.
قال الإمام في البرهان: ومنع أبو حنيفة ذلك، وجوز استثناء
المثلى بعضه من بعض، وإن اختلفت أجناس التأويل الذي ذكره الشافعي في الثوب، واستثنى الموزون من المكيل والمكيل من الموزون.
واختار أبو الحسين في المعتمد، والمازري في (شرح) البرهان: أن هذا من باب المضاف المضمر، وتقديره: قيمة ثوب.
الفائدة السادسة: لا يشترط في المتصل استواء اللفظين، بل لابد وأن يكون الأول شاملا بلفظ يصدق مسماه على الجميع، فإذا قلت: رأيت الحيوان إلا الإنسان، كان متصلا، لشمول لفظ الحيوان الأول له، وإن اختلف اللفظ لا يضر، وإن كان الأول لا يشمل، كقولك: رأيت الإنسان إلا فرسا، والحيوان إلا ثيابا، / كان منقطعا. (153/ أ)
فهذان قسمان متميزان، شاملا مطلقا، وغير شامل مطلقا، يتصور فيه قبول الشمول، وعدم الشمول كقولك: رأيت الحيوان إلا الأبيض، فالحيوان يقبل أن يكون أبيضا وغير أبيض، والأبيض يقبل أن يكون حيوانا وغير حيوان فكل واحد منهما أعم وأخص من وجه.
والمثالان الأولان أحدهما أعم مطلقا، والآخر مباين مطلقا، فهذا القسم موضع نظر، هل ينظر إلى وجه العموم، ويقضى بأنه متصل، أو إلى وجه التباين فيقضى بأنه منقطع؟
الملائكة مع المأمورين من هذا القسم، فإن الملك قد يكون مأمورا وقد لا يكون من حيث التصور العقلي، والملك يقبل ألا يكون ملكا ويقبل أن يكون، فتأمل ذلك! وهو من مواضع النظر، هل يكون منقطعا أو متصلا؟ وبهذا
التقدير، يمكن أن يقال أيضا: السلام يمكن أن يقع لغوا وغير لغو، واللغو يقع سلاما وغير سلام، فيكون متصلا من هذا الوجه؛ لأن كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، فهذه المثل التي وقعت في القرآن من القسم الثالث.
وقد يتفق اللفظ في الاستثناء مع اتفاق المعنى واختلافه، فتقول: قبضت الدراهم إلا درهما، ورأيت العيون إلا عينا، فيتفق المعنى واللفظ، غير أن اللفظ المشترك فيه تقسيم ونظر آخر، وهو إذا قلت: رأيت العيون إلا عينا، إذا أردت بالعيون استعمال اللفظ في أحد مسمياته واستثنيت منه، كان استثناؤك متصلا، أو من غيره كان استثناؤك منقطعا، وإن استعملت اللفظ في جميع مسمياته -على حد القولين في جوازه- فهل يكون استثناؤك متصلا؛ لحصول الشمول في اللفظ، وأنك أخرجت بعض ما تناوله اللفظ ومما هو قبل إلا، أو هو منقطع؛ لأن المتصل المتفق على أنه متصل هو إخراج بعض جنس واحد، وهذه حقائق وأجناس مختلفة أخرجت بعضها، فيكون منقطعا؟ فهذا موضع نظر.
ويتحصل من هذه المباحث أن الاستثناء يقع على سبعة أقسام، أحدها: متفق اللفظ والمعنى، وثانيها: مختلف اللفظ والمعنى، وثالثها: مختلف اللفظ متحد المعنى، والمستثنى منه أعم مطلقا، فمتصل، / (153/ ب) ورابعها:(أن) يكون كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، فهو موضع الاحتمال، وخامسها: اتحاد اللفظ وهو مشترك، وقد استعمل في أحد مسمياته واستثنى منه، فهو متصل، وسادسها: أن يقصد بالاستثناء من غير الجنس الذي استعمل فيه اللفظ، واللفظ مشترك، فهو منقطع، وسابعها: أن يستعمل اللفظ المشترك
في جميع مسمياته ويستثنى من بعض تلك الأجناس، أو بعضها فهي موضع نظر.
الفائدة السابعة: وهي تفريع على هذه الفائدة السادسة، قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: قد يستثنى بعض أفراد جنس، ويكون الاستثناء منقطعا، كقولك: رأيت إخوتك إلا زيدا، وأنت تريد بلفظ الأخوة الطوال منهم، على سبيل المجاز، واستعمال لفظ العموم في الخصوص، ويكون "زيدًا" الذي استثنيته قصيرا، فيكون الاستثناء منقطعا؛ لأن القصر ليس من جنس الطوال؛ بسبب تخصيص الأخوة (بإرادتك) الطوال.
ولولا هذه النية المخصصة، لكان الاستثناء متصلا؛ لأن زيدا من جملة الأخوة جزما، فهذا استثناء غريب من الاستثناء المنقطع، فتأمله.
ومباحث الاستثناء كثيرة جدا، تحتمل مجلدا عظيما يكتب فيها، وقد جمعت فيها مجلدا كبيرا اشتمل على أحد وخمسين بابا، وأربعمائة مسألة، جميع ذلك في الاستثناء، لم يخالطه غيره، وسميته:"كتاب الاستغناء في أحكام الاستثناء".
* * *