الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المخصص الثاني المتصل: الشرط
وقد تقدم أن هذه المخصصات المتصلة لا يتعين أن تكون مخصصات، بل لا تكاد تقع في غالب الأمر إلا مقيدات، وإن وقعت مخصصة فهي لخصوص تلك المادة إلا للشرط مثلا من حيث هو شرط.
وإذا فرعنا على قول الجماعة وأنها مخصصة، فالمراد من الشرط الشرط اللغوي، دون العقلي والعادي والشرعي، وقد تقدم الفرق بينهما، وأن الشرط اللغوي ليس في الحقيقة شرطًا، بل سببًا؛ لأنه يلزم من وجوده الوجود، وشأن الشرط أن لا يلزم من وجوده شيء كالحياة مع العلم، لا يلزم من وجودها وجود العلم البتة، والعام إنما يتصل به الشرط اللغوي، فليكن ملاحظته من حيث هو سبب، ولذلك حده يكون حد السبب، لا حد الشرط، ويكون لفظ الشرط مشتركًا بين الشرط وبعض أنواع الأسباب وهي التعاليق اللغوية، واللفظ المشترك يكون لكل واحد من مسمياته حد يخصه.
وحد السبب من حيث هو سبب، الذي يشمل التعاليق اللغوية وغيرها: أنه يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته.
فالقيد الأول احترازًا من الشرط العقلي أو الشرعي أو العادي، فإنه لا يلزم من وجود الطهارة وجود صحة الصلاة، ولا من السلم صعود السطح، وإن كان شرطًا فيه.
والقيد الثاني احترازًا من المانع، فإنه لا يلزم من عدمه شيء، فإذا قلنا:
الدين مانع من وجوب الزكاة، لا يلزم من عدم الدين الزكاة؛ لاحتمال عدم النصاب، ولا عدم وجوب الزكاة؛ لاحتمال وجود النصاب ووجوبها، وكذلك سائر الموانع العقلية والعادية.
والقيد الثالث احتراز من أن يخلفه سبب حالة عدمه فيلزم الوجود، لكن ذلك ليس لذاته، بل لأمر خارجي، وهو كونه له خلف وبدل، كما تقول: القتل سبب القتل، فإذا عدم قد يقتل الإنسان بالردة، وهو سبب آخر خلف القتل، والأسباب الشرعية والعادية والعقلية يخلف بعضها بعضا.
واحترازا أيضا من أن يكون له شرط أو مانع، فلا يلزم من وجوده الوجود كملك النصاب سبب وجوب الزكاة، ولا يلزم من وجوده وجوب الزكاة؛ لأنه قد جعل له شرط وهو دوران الحول، ومانع وهو الدين، لكن تأخر الوجوب ها هنا لأمر خارج، وهو كونه له مانع أو شرط، أما بالنظر إلى ذاته فهو يقتضي أن يترتب عليه وجوب مسببه من حيث هو لو سلمنا من دلالة الدليل على هذه الأمور الخارجية.
وفي هذا المخصص ثمان مسائل:
المسألة الأولى.
قال الإمام سيف الدين الآمدي: الشرط شرطان، شرط السبب، وشرط الحكم، فما كان عدمه (مخلا) بحكمة السبب (فهو) شرط السبب،
كالقدرة على التسليم في (باب) البيع، وما كان عدمه مشتملا على حكمة مقتضاها نقيض حكمة السبب، مع بقاء حكم السبب، فهو شرط الحكم، كعدم الطهارة في الصلاة مع الإتيان بمسمى الصلاة.
كما أن المانع مانعان، مانع السبب، ومانع الحكم، فمانع السبب: كل وصف يخل وجوده بحمة السبب يقينًا، كالدين في باب الزكاة مع ملك النصاب، ومانع الحكم: هو كل وصف وجودي حكمته مقتضاها نقيض حكمة السبب كالأبوة في باب القصاص مع القتل العدوان.
قلت: الطهارة مع الصلاة شرط شرعي، ليس من هذا الباب، بل كثير من المصنفين اغتروا بالاشتراك اللفظي الذي هو موضع للشرط المعروف وبعض أنواع الأسباب الذي هو التعاليق اللغوية، والكل يسمى شرطًا، فجعلوا الباب واحدًا، وليس كذلك.
المسألة الثانية:
صيغة الشرط أصلها (إن)، وقد تضمنها غيرها من الألفاظ نحو (إذا) في بعض أحوالها نحو: إذا جاء زيد فأكرمه، وقد لا يكون للشرط بل ظرفا محضا، نحو قوله تعالى:{والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى} ، فهي ها هنا حال صرف لا شرط فيها، وتقدير الكلام، أقسم بالليل حالة غشيانه، وبالنهار حالة تجليه.
ونحو: متى، ومتى ما، وكيف، وكيفما، وأين ، وأينما، وقد تقدم سردها في باب صيغ العموم مستوعبة هنالك، فليكتف بذلك.
قال الإمام فخر الدين: (إن) و (إذا) وإن استويا في أن كل واحد منهما صيغة شرط، لكنهما يفترقان في أن (إن) تدخل على المحتمل لا على المحقق، و (إذا) تدخل عليهما، تقول: أنت طالق إذا احمر البسر وإن دخلت الدار، فالأول محقق، والثاني محتمل، ولا تقول: أنت حر إن احمر البسر، إلا إذا لم يتيقن ذلك.
سؤال:
إذا قلتم: إن (إن) لا يعلق عليها إلا المحتمل، كيف يرد في كتاب الله تعالى، والله تعالى بكل شيء عليم؟ فكان يلزم أن لا يرد التعليق في كتاب الله تعالى إلا بـ (إذا) ونحوها، أما بـ (إن) فلا، وقد قال الله تعالى:{إن تستغفر لهم سبعين مرة} ، وفي آية أخرى:{وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} ، وهو كثير.
فإن قلت: قول العلماء: (إن) لا يعلق عليها المعلوم، لا يريدون المعلوم
للمتكلم، بل للسامع، والله تعالى بكل شيء عليم. غير أن الخلق لا يعلمون متعلق علمه تعالى، فصح التعليق في كتاب الله تعالى باعتبار السامعين، لا باعتبار المتكلم.
قلت: المفهوم من كلامهم أن المقصود بالمعلوم المحقق إنما هو عند المتكلم مع أنه قد وقع التعليق في الكتاب العزيز فيما هو معلوم للمتكلم والسامع معا كقوله تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} ، وقد قال الله تعالى:{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ، فهو عليه الصلاة والسلام يعلم بهذا الإخبار الرباني وبغيره من قرائن الأحوال أنهم يكذبوه- والله تعالى بكل شيء عليم- فقد وقع التعليق فيما هو معلوم للمتكلم والسامع، وهو محقق مقطوع به.
وكذلك قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} ، الله تعالى يعلم أنهم في ريب، وهم يعلمون أنهم في ريب، فقد علق المعلوم للمتكلم والسامع، وتعين الإشكال حينئذ.
جوابه: أن القرآن عربي، فكلما يحسن من العربي استعماله يرد القرآن به
على منوال العرب، ليكون الكلام عربيًا، فكلما لو كان العربي هو المعلق علق فيه بـ (إن) ، فإنه يأتي في القرآن بـ (إن) ، وكلما لو كان المعلق عربيًا لا يأتي فيه بـ (إن) ، لا يأتي في القرآن بـ (إن) تحقيقًا؛ لكونه عربيًا، ولا يأخذ وصف الربوبية في كونه قرآنا عربيًا، بل (على) منوال العرب فقط.
بل ينبغي أن ينبه بحرف آخر، وهو أن يكون الشيء المعلق، شأنه أن يكون مشكوكًا فيه فقط، وقد يكون معلومًا للمتكلم والسامع، كما يقول زيد لعمرو: إن جاء خالد فأكرمه، وزيد وعمرو يعلمان أن خالدًا يجيء، وعملهما بذلك لا يقبح التعليق على (إن) ، بسبب أن شأن مجيء خالد أن يكون مشكوكًا فيه.
وعلى هذا يتضح الجواب أكثر، فإن المعلق في القرآن، وإن كان معلومًا للسامع والمتكلم، لكن شأن ذلك المعلق أن يكون مشكوكًا فيه، فاندفع الإشكال اندفاعًا بينًا، وهذه قاعدة حسنة يحتاج إليها في عدة مواطن من كتاب الله تعالى، فاضبطها تنتفع بها.