الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الرابع: أن يكون الحكم مختلفًا والسبب واحد
، كقوله تعالى في الوضوء:{وأيديكم إلى المرافق} ، فقيد غسل اليدين بالمرافق، وأطلق في آية التيمم فقال تعالى:{فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} ، فأطلق اليد ولم يقيدها، فهل يحمل التيمم على الوضوء، فيجب إلى المرافق؟ . فيه خلاف.
وقال المازري في شرح البرهان: إن اختلف السبب والحكم، لم يختلف فيه، وإن اختلف السبب وحده، فهو موضع الخلاف، قال: واختلف العلماء في تمثيله والجمهور مثلوه بآيتي الظهار والقتل والإعتاق، ومثله بعضهم بالوضوء والتيمم، وأنكره الأبهري، وقال: التقييد- ها هنا- بعضو وهو الذراع، والمقصود: التقييد بصفة، وقال بعضهم: الكل سواء.
قال: ويمكن تمثيل اختلاف السبب دون الحكم ويكون القيد صفة بقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} ، فأطلق في هذه الآية السبب، وقيد في الآية الأخرى بقوله تعالى:{ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .
فمالك أبقى المطلق على إطلاقه، وأفتى بحبوط العمل بمجرد الردة مات عليها، أو تاب ورجع إلى الإسلام.
وحمل الشافعي- رضي الله عنه المطلق على المقيد، فلم يقل بحبوط العمل في حق من أسلم من المرتدين، بل إذا مات على الكفر.
قال: ويمكن أن يقال: المطلق ها هنا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، والمقيد عام، فما استوى البابان.
قلت: وها هنا بحث آخر حسن، وهو أنه عليه سؤالان آخران.
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم منصبًا، ومن عظم منصبه عظمت مؤاخذته، كما قال تعالى في حقه صلى الله عليه وسلم:{إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} ، أي نعذبك مثل ما نعذب غيرك على هذا الذنب مرتين في الحياة والممات، وقال تعالى في حق أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم:{يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} ، وذلك كثير وردت به الشريعة.
وثانيهما: سلمنا أن المراد أمته صلى الله عليه وسلم، لكن المقيد فيه أمران، وهما جزآن مرتبان على شرط مركب، فرتب الحبوط والخلود على الردة والوفاة عليها، فأمكن التوزيع، فلا يحصل في ذلك المطلق تقييد.
وهذا كما تقول: من شرب الخمر وسرق، جلد وقطعت يده، فالشرط المتقدم مركب، والمشروط مركب، والتوزيع واقع، وأحد أجزاء المشروط مرتب على أحد أجزاء الشرط، والآخر على الآخر، فالجلد مرتب على الشرب، والقطع على السرقة.
ونظائره كثيرة، فما تعين أنه من باب التقييد والإطلاق، وإذا حصل الشك والاحتمال، بقي المطلق على إطلاقه؛ لأن الأصل، وبهذا اندفع عن المالكية سؤال صعب، فإنهم يرون بحمل المطلق (على المقيد)، وها هنا خالفوا أصولهم، وبهذا البيان لم يكونوا قد خالفوا أصولهم.
إذا تقرر تمثيل المسألة من حيث الجملة، فنقول: أما إذا كان السبب واحدًا، وجب حمل المطلق على المقيد؛ لأن المطلق جزء من المقيد، والآتي بالكل آت بالجزء ولا محالة، فالآتي بالمقيد يكون قد عمل بالدليلين معًا، والآتي بغير ذلك المقيد لا يكون عاملًا بالدليلين، بل تاركًا لأحدهما، والعمل بالدليلين عند إمكان العمل بهما أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر.
فإن قيل: لا نسلم أن المطلق جزء من المقيد.
بيانه: أن الإطلاق والتقييد ضدان، والضدان لا يجتمعان.
سلمنا ذلك، لكن المطلق له عند عدم التقييد حكم، وهو تمكن المكلف من
الإتيان بأي فرد شاء من أفراد ذلك الجنس وتلك الحقيقة، والتقييد ينافي ذلك، فليس تقييد المطلق أولى من حمل المطلق على الندب، وعليكم الترجيح.
قلنا: أما أن المطلق جزء من المقيد، فإنه قد تقدم في (باب من) هذا الكتاب قبل هذا، وأن المطلق هو الماهية من حيث هي هي، لا يعتبر فيها قيد السلب ولا قيد الثبوت، فهي حينئذ من حيث هي هي تحتمل سلب القيد وثبوته، وإذا احتملت القيد، لا ينافيه، فلا يكون بينهما تضاد ولا منافاة، وإنما يلزم التضاد والمنافاة من جهة أنكم أخذتم المطلق بوصف عدم القيد، وعدم القيد مناف للقيد؛ لأنه يقتضيه فحصل التنافي حينئذ بين المطلق والمقيد، والإطلاق والتقييد.
أما إذا حرر ذلك على ما قلناه، فلا تنافي ولا تضاد حينئذ، ونحن لا نريد بالمطلق والإطلاق إلا هذا المفهوم، وفرق بين الحقيقة بشرط وبين الحقيقة بلا شرط، فالتنافي في الأول دون الثاني، ونحن نري بالثاني دون الأول، فإن شرط العدم غير عدم الشرط، وأيضًا فشرط الخلو عن جميع القيود غير معقول؛ لأن هذا الخلو قيد.
وأما قولكم: (المطلق له حكم حالة عدم التقييد، وهو التمكن من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة).
فجوابه: أن هذا الحكم غير مدلول عليه باللفظ، وإنما اللفظ لما دل على طلب المطلب، والمطلق هو الحقيقة المشتركة بين جميع الأفراد، وأي فرد تحقق، تحققت تلك الحقيقة فيه، فلا جرم، قال العقل: المكلف مخير بين جميع الأفراد في الإتيان بهذه الحقيقة، فهذا التمكن إنما جاء من جهة العقل، دون اللفظ. أما ثبوت القيد مع المطلق، فهو مدلول باللفظ الدال على القيد، ومراعاة ما هو مدلول باللفظ أولى مما دل عليه العقل.
وأما إذا كان السبب مختلفًا كالظهار والقتل، والعتق في الرقبة مقيد في القتل بالإيمان، مطلق في الظهار، وفي هذا القسم مذاهب ثلاثة: اثنان طرفان، والثالث هو الوسط.
أما الطرفان، فأحدهما: قول جماعة من المالكية والشافعية.
وثانيهما: قول كافية الحنفية: أنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما ألبتة.
وثالثها: المذهب المتوسط وهو قول جماعة من الشافعية: أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك القيد، وإلا فلا يدعون وجوب هذا القياس، بل يدعون أنه حصل قياس صحيح، ثبت التقييد، وإلا فلا.
احتجوا على القول الأول: بأن القرآن كالكلمة الواحدة، فكان التقييد
في أحد الموضعين كالمنطوق به في الموضع الآخر، فإن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة وأطلقت في سائر الصور، حملنا المطلق على المقيد، فكذلك هاهنا.
وأجاب الحنفية- القائلون بالقياس- عن الأول: بأن القرائن كالكلمة الواحدة، بأن لا تناقض في كل شيء، ولولا ذلك لوجب تقييد كل مطلق بتقييد المطلق في موضع واحد، وتخصيص كل عام بتخصيص عام واحد، وليس كذلك.
وعن الثاني: أنا إنما قيدنا بالإجماع، لا بما ذكرتموه من القاعدة؛ ولأن سبب الاحتياج للثبات عام في جميع الصور، وهو ضبط الحقوق، وهذا لا تختلف فيه الصور، وسبب قبول قولها وتصديقها هو ظاهر حالها، وهو أن الغالب على العاقل البالغ المسلم الصدق، وهذا واحد في جميع الصور.
وإذا اتحد سبب الحاجة وسبب القبول، ظهر الفرق بين صورة النزاع وهذه الصورة؛ لأن صورة النزاع الأسباب فيها مختلفة، واختلاف الأسباب يقتضي اختلاف الأحكام بالتقييد والإطلاق، فتناسب في القتل لعظم مفسدته بكثير الشروط والتغليظ في الجوائز، بخلاف الظهار، مفسدته إنما هي الكذب وقول
الزور، وأين الكذب من قتل النفس في المفسدة؟ فاختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأحكام، فلا يحمل المطلق على القيد، بل يبقى المطلق على إطلاقه.
أما مع اتحاد السبب كالشهادة، فإن موجب اشتراط العدالة هو ضبط الحقوق وصونها عن الضياع بقول الفساق، وهذا معنى عام في جميع الصور. فلا جرم عم التقييد جميع الصور، فهذا فرق عظيم بين صورة النزاع وصورة الشهادة، فلا تلحق أحدهما بالآخر.
احتجت الحنفية على بطلان التقييد مطلقًا: بأن النص دل على التمكن من الإتيان بأي فرد شاء المكلف، وهذه المكنة ثابتة بالنص، وما هو ثابت بالنص لا يبطل بالقياس؛ لأن النص مقدم على القياس، ويلزم النسخ النص بالقياس، وهو باطل.
وأجاب الشافعية: بأن هذه المكنة عقلية، لا ثابتة بالنص، حتى يلزم رفعه بالقياس، والثابت بالنص إنما هو إيجاب المشترك، والقياس قيد هذا المدلول، وزاد عليه القيد، ولم يبطله، فبطل ما ذكرتموه.
ونقضوا عليهم أصلهم، بأنهم اشترطوا في الرقبة السلامة من العيوب. وهذا قيد زادوه على المطلق، وإذا جوزوا ذلك في السلامة من العيوب، ولم يكن إبطالًا ولا نسخًا، فليفعلوا ذلك في التقييد بالإيمان، إذا دل (القياس عليه)؛ ولأن قوله:(اعتق رقبة)، لا يزيد في الدلالة على قوله باللفظ العام:(اعتق الرقاب)، وإذا جاز التخصيص بالقياس- مع مخالفته لصريح
العموم وإخراج بعض ما تناوله اللفظ العام- فأولى أن يجوز هاهنا، بسبب أن التقييد زيادة على موجب اللفظ، لا ينقص من موجب اللفظ والتخصيص منقص، فإذا جاز التخصيص فليجز التقييد بطريق الأولى.
وأجاب الحنفية عن الوجه الأول: بأن التقييد بالإيمان (ليس) مثل التقييد بالسلامة من الغيوب، بسبب أن لفظ الإنسان وجميع ألفاظ الأجناب إنما وضع للسليم من ذلك الجنس، ألا ترى أنك إذا سمعت قول القائل: جاء لزيد ولد، فإنما يفهم منه أول الأمر أنه ذو عينين ورجلين ويدين وغير ذلك من أعضائه، والمتبادر للفهم هو الذي وضع له اللفظ، عملا بسائر الألفاظ؛ ولأن الأصل في الاستعمال الحقيقة، وأن السابق إلى الفهم عند التجرد هو مسمى اللفظ، فحينئذ الوضع إنما هو السليم، فشرط السلامة من العيوب أفاده اللفظ بوضعه، فلم يزد على مسمى اللفظ شيء، فليس تقييدًا في المعنى.
أما شرط الإيمان فلم يتناوله اللفظ إجماعًا، فكان التقييد به تقييدًا زائدًا على مسمى اللفظ- وهو موضع النزاع- بخلاف القيود الداخلية في مسمى اللفظ.
قلت: هذا كلام حسن، غير أنه يشكل عليه شيء وهو أنه إذا أطلق لفظ الإنسان على الأعمى، أو الأقطع، أو من فقد بعض أعضائه، أن ذلك يكون مجازًا، وأن لا يصدق الإنسان حقيقة إلا على الكامل المطلق، وكذلك الفرس المقطوع الأذن، يلزم أن لا يستحق اسم الفرس لغة، وهو بعيد، وحينئذ يكون في هذا المقام مخالفة إحدى القاعدتين، إما أن تستحق هذه الحيوانات