الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن عشر فيما يصير به العام مخصوصًا على الحقيقة وعلى المجاز، وما هو الأصل في ذلك، وما هو الفرع فيه
؟
أعلم أن العام إذا أطلق اقتضى أمرين:
أحدهما: ثبوت حكمه لجميع أفراده في نفس الأمر، فإن هذا هو شأن كل لفظ صريح في معنى أنه يقتضي ثبوت حكمه، قصد المتكلم استعماله فيه أو لم يقصده، لكن يشترط القصد إلى النطق بأصل الصيغة، فيثبت الحكم، إلا ان يعارضه بقصده الصارف له عن معناه إلى المجاز، فهذا مانع من ثبوت حكمه.
وكذلك أن صرائح الطلاق والعتاق تنصرف لمدلولاتها، ويلزم أحكامها من غير نية متعلقة باستعمال تلك الألفاظ في تلك المعاني.
وكذلك إذا قصد إلى النطق بقوله: والله لا لبست ثوبًا، / اقتضى هذا اللفظ بعمومه حصول الحنث بلبس كل ثوب، وإن لم يقصد إلى استعماله في العموم، بل يحصل ذلك بالوضع.
وهذا هو
الفرق بين الصرائح والكنايات
، أن الكنايات لا تنصرف لما هي
محتملة له (إلا) بالنية؛ لأجل عدم الصراحة، والوضع الخاص لذلك المعنى، والصرائح تنصرف بالوضع لما وضعت له، هذا أخذ الأمرين الذين يقتضيها اللفظ العام إذا سلم عن المعارض، فيثبت الحكم في نفس الأمر.
وثانيهما: أن العموم يقتضي اعتقادًا عند السامع أن المتكلم أراد العموم، وأن حكم العموم ثابت لجميع أفراده؛ لأن الأصل استعمال اللفظ في حقيقته، والأصل عدم التخصيص.
إذا تقرر هذان الأمران، وأنهما أثران لانطلاق صيغة العموم، فقد قال الإمام فخر الدين، رحمه الله: "الذي يصير به العام خاصًا هو قصد المتكلم؛ لأنه إذا قصد بإطلاقه: تعريف ما يتناوله، فقد خصه.
وأما المخصص للعموم، فيقال على سبيل الحقيقة على شيء واحد، وهو إرادة صاحب الكلام؛ لأنها هي المؤثرة في إيقاع الكلام لإفادة البعض؛ لأنه إذا جاز أن يرد ذلك الخطاب خاصًا وجاز أن يرد عامًا، لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بإرادة.
ويقال بالمجاز على شيئين:
أحدهما من (باب)(إقامة الدلالة) على كون العام مخصوصًا في ذاته.
وثانيهما: من اعتقد ذلك أو وصفه به، كان ذلك الاعتقاد حقًا أو باطلًا.
قلت: هذا كلامه في المحصول، والذي أقول: إن قوله: "لا يقال إلا على شيء واحد على سبيل الحقيقة"، أنه ليس كذلك؛ لأن المخصص هو المخرج والصارف للموجب عن بعض موارده، وذلك نجده حقيقة في شيئين:
أحدهما: ثبوت الحكم في نفس الأمر- كما تقدم- وهو الذي قاله الإمام.
والثاني: صرف اعتقاد السامع عن ثبوت الحكم في جميع الأفراد إلى اعتقاد الاختصاص بالبعض الباقي.
فهذان مخصصان ومخرجان قطعًا، والمخرج في الأول هو إرادة المتكلم، كما قاله الإمام، والمخرج الثاني هو الدليل الدال على هذه الإرادة المخرجة لبعض الأفراد عن حكم / العموم، كان ذلك الدليل عقليًا، أو سمعيًا، أو قرائن الأحوال، أو غير ذلك مما يدل على أن العام مخصوص، فإنه مخرج عن اعتقاد السامع ما كان يثبت لولاه، وإذا وجدت حقيقة المشتق حقيقة أيضًا، فيكون المخصص حقيقة في هذين الشيئين جزمًا.
وأما قوله: "إذا جاز أن يرد الخطاب عامًا، وجاز أن يرد خاصًا، لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة"، فليس كذلك، بل يترجع العموم على الخصوص بالوضع والصراحة، بل كان ينبغي له أن يقول: لما كان مقتضى تعميم الحكم، لم يجز العدول عن العموم إلى الخصوص إلا بالإرادة، والمراد ها هنا: انصراف الحكم في نفس الأمر، لا للانصراف عن اعتقاد السامع،
فإن النية لا مدخل لها في اعتقاد السامع ألبتة؛ لأنها أمر باطني لا يطلع عليه.
فإن قلت: كيف يصح أن تقول أنت والإمام: أن النية مخصصة، مع أن الحكم ما وقع في العام المخصوص عامًا فقط، وإنما وقع خاصًا، وإذا كان العموم لم يحصل ألبتة، كيف يحصل التخصيص، فإنه فرع التعميم، وانتفاء الأصل موجب لانتفاء الفرع، فلا تكون النية مخصصة أصلًا.
قلت: جعلنا النية مخصصة ليس باعتبار أن العموم حصل في نفس الأمر والنية رفعته، ولو كان كذلك، لكان ذلك نسخًا، بل معنى كونها مخصصة أن مقتضى التعميم وجد، والنية أخرجت منه- باعتبار ما يقتضيه الوضع- بعض أفراده، لا أنها أخرجت بعض ما قصده المتكلم أو بعض ما يثبت في نفس الأمر، (بل بعض ما وجد مقتضي ثبوته، لا وجوده في نفسه)، فقد صرفت لفظ العموم عن أن يثبت بسببه عموم الحكم، ولذلك يسمى الدليل المخصص مخصصًا، وإن كان مقارنًا مانعًا من حصول اعتقاد السامع العموم، لكنه لما وجد مقتضى اعتقاده للعموم وكان ذلك الدليل مانعًا من حصول ذلك الاعتقاد مع وجود موجبه، كان ذلك مخصصًا بالإرادة والدليل (الدال السامع على) تلك الإرادة سواء في ذلك.
* *