الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس والعشرون في تحقيق الفرق بين حمل المطلق على المقيد في الأمر والنهي
، والخبر (في الثبوت)، والخبر في النفي، وبين أن يكون المطلق والمقيد كليًا، أو كلا، أو كلية.
فإن هذه الحقائق مختلفة الأحكام في حمل المطلق على المقيد، وقد وقعت التسوية بينها في كتب الأصول، والتسوية لا يعضدها الدليل في بعض المواطن. فأردت في هذا الباب بيان ما لا يكون من باب حمل المطلق على المقيد- وإن جعله منه الدليل الذي ذكروه- وهو أن العامل بالمقيد عامل بالدليلين، دليل الإطلاق ودليل التقييد.
ولا شك أن هذا الجمع بين الدليلين ميسر في الأمر والمأمور به كلي، نحو: اعتق رقبة، اعتق رقبة مؤمنة، فإن مفهوم قولنا:(رقبة) حاصل في قوله: (رقبة مؤمنة) فإن الثابت مع صفة، ثابت- بالضرورة- بالعامل، فقولنا:(رقبة مؤمنة) عامل بالدليلين.
وكذلك: خبر الثبوت، إذا كان مخبره كليًا، كقولنا: بعث الله في آخر الزمان رجلا للخلق كافة، ثم نقول: بعث الله تعالى رجلا نبيًا، فإن مفهوم الأول داخل في الثاني، ولا ينافي أحدهما الآخر، وكذلك: مررت اليوم برجل، مررت برجل صالح، لا يتنافيان، فإذا اعتقدنا أن الذي وقع به المرور هو الرجل الصالح، يكون قد أعملنا الدليلين.
وكذلك الأمر إذا كان مأموره كليًا، نحو: صم عشرة أيام، فإن لفظ (العشرة) موضع في لسان العرب لمفهوم هو (كل)، وهو مجموع العشرة- وقد تقدم الفرق بين الكلي والكلية والكل، والجزء والجزئية والجزئي- فإذا قال- بعد ذلك-: صم عشرة أيام متتابعات، فصامها متتابعات، كان قد عمل بالدليلين؛ لأن مفهوم قولنا:(عشرة) داخل في مفهوم قولنا: (عشرة أيام متتابعات).
وكذلك الخبر إذا كان خبرًا كلًا، نحو: رأيت عشرة رجال، رأيت عشرة رجال صالحين، فالمطلق الأول حاصل في المقيد، فإذا اعتقدنا: أنه رأى عشرة رجال صالحين، فقد أعملنا الخبرين، واعتبرنا الدليلين.
فهذه أربعة أقسام يتجه فيها العمل بالدليلين.
أما إذا كان الأمر مأموره كلية، نحو: زكوا عن الغنم، فإن صيغة الغنم صيغة عموم؛ لأجل لام التعريف، فإذا قال- بعد ذلك-: زكوا عن الغنم السائمة، فهذا مقيد بالسوم، ويلزم من حمل المطلق الأول عليه خروج المعلوفة عن وجوب الزكاة، ولا يحصل مفهوم العموم الحاصل من الإطلاق في مفهوم المقيد، بل بعضه خاصة، وهو السائمة، فهذا تنقيص وتخصيص وتناف
بين الدليلين، بل هذا من باب التخصيص، لا من باب التقييد، وقد تقدم أن التخصيص عكس التقييد، وأن التخصيص تنقيص، والتقييد زيادة، وأين الزيادة من النقص؟ . فتأمل ذلك.
وكذلك إذا كان خبر الثبوت متعلقًا بكلية، كقولنا: رأيت قريشًا، فهذا عام كلية، أو رأيت إخوتك، فإذا قال- بعد ذلك-: رأيت إخوتك الصالحين، أو: قريشًا الصالحين، خرج الصالحون من هذا المطلق الأول، وحصل التخصيص، ولم يحصل مفهوم المطلق الأول في مفهوم المقيد الثاني البتة، بل بعضه، فهو من باب التخصيص، لا من باب التقييد.
وكذلك النهي إذا تعلق بكلي، نحو: لا تعتق رقبة، فإنه حينئذ يكون من صيغ العموم، فإن النكرة في النهي مثلها في النفي، فكما أن النكرة في سياق النفي تعم، كذلك النكرة في النهي تعم؛ لأن معنى النهي في النكرة: أن لا تدخل تلك الحقيقة الوجود البتة، وذك يقتضي نفي جميع أفرادها، فلو دخل فرد (منها لدخلت الحقيقة) في الوجود، وهو خلاف ما دل عليه النهي، فحينئذ النهي إذا تعلق بنكرة، اتبعت جميع أفرادها، وحصل العموم من هذا الوجه، واستوى النفي والنهي، قال الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء} ، فاقتضى ذلك عموم النهي في الفاعل والمفعول جميعًا، فلا يحل لأحد أن يسخر من أحد البتة، رجلا كان أو امرأة، فالنهي إذا تعلق بكلي حصل العموم، فإذا قال: لا تعتق رقبة، اقتضى ذلك النهي عن جميع الرقاب، فإذا قال- بعد
ذلك-: لا تعتق رقبة كافرة، خرجت الرقبة المؤمنة من النهي بهذا التقييد، وبقيت الكافرة خاصة، قد حصل التخصيص في العموم الأول، ولم يحصل مفهوم المطلق في المقيد البتة، بل تنافيا وتصادما.
وكذلك إذا كان متعلق النهي كلية، كقوله تعالى:{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} ، فهذا عام في كل نفس، والقضاء فيه بالسلب على كل فرد فرد من أفراد النفوس، فإذا قال- بعد ذلك-: لا تقتلوا النفس القرشية التي حرم الله إلا بالحق، خرج من النهي من ليس بقرشي، ولم يحصل مفهوم العموم الأول الذي في ضمن المقيد البتة، بل حصل التنافي بين النصين والتنافر، وتعذر الجمع بين مفهوم المطلق والمقيد.
وكذلك إذا كان متعلق النهي كلا، نحو قولنا:(لا تضرب عشرة رجال، فهذا المطلق مدلوله (كل) فإذا قلنا- بعد ذلك): لا تضرب عشرة رجال مؤمنين، تنافى النصان، بسبب أن الصيغة الأولى اقتضت العموم، فإن (عشرة) نكرة في سياق النهي، وقد تقدم أن النكرة في سياق النهي كالنكرة في سياق النفي، تعم فيهما، وإذا كان الأول للعموم، فقال- بعد ذلك-:(عشرة مؤمنين)، خرج الكفار من هذا العموم، وتنافر النصان وتضادا، ولم يمكن الجمع بينهما البتة، وكان هذا تخصيصًا، لا تقييدًا، وقد تقدم الفرق بين التخصيص والتقييد.
وكذلك خبر النفي، إذا كان متعلقه كليًا، نحو قولنا: ما رأيت أحدًا، فهذا
الكلي في هذا الخبر يقتضي العموم؛ لأنه نكرة في سياق النفي، فإذا قال- بعد ذلك-: ما رأيت أحدًا نبيًا، خرج من العموم من ليس بنبي، ولا يحصل الأول في هذا المقيد البتة، بل بعضه، وهو الأنبياء عليهم السلام. فقد تنافر اللفظان، وتنافى الدليلان، وتعذر الجمع بينهما البتة، وحصل التخصيص دون التقييد، فلا سبيل إلى الجمع البتة.
وكذلك خبر النفي إذا كان مخبره كلية، نحو: ما رأيت الرجال، فالمفعول هنا كلية وصيغة عموم، فإذا قال- بعد ذلك-: ما رأيت رجالا صالحين، خرج من هذا المقيد من ليس برجل صالح، وهو مندرج في الأول، فقد تنافر اللفظان في الإطلاق والتقييد، وتعذر الجمع بينهما، لحصول التخصيص دون التقييد.
وكذلك إذا كان متعلق خبر النفي كلا، نحو: ما رأيت عشرة، فإن هذا اللفظ المطلق اقتضى العموم أيضًا، فإن قولنا:(عشرة)، نكرة في سياق النفي فتعم- كما تقدم- فإذا قال- بعد ذلك-: ما رأيت عشرة صالحين، كان هذا المقيد متناولا لبعض ما تناوله المطلق، وهو الرجال الصالحون دون الصالحين، فلم يمكن الجمع بين مدلول المطلق ومدلول المقيد البتة، بل تنافر اللفظان، وحصل التخصيص دون التقييد.
وتقريب هذا المرام أن نقول: أقسام الصيغ الدالة في الرتبة الأولى أربعة: (أمر، نهي، وخبر ثبوت، وخبر نفي)، وكل واحد من هذه الأربعة إما أن
يتعلق بـ (كلي)، أو (كل)، أو (كلية)، فيكون مع كل واحد ثلاثة، وثلاثة في أربعة باثني عشر، فينقسم هذا الباب إلى اثني عشر قسمًا.
الذي نحن فيه أن يقال: هو من باب حمل المطلق على المقيد أربعة من هذه الاثنى عشر قسمًا وهي: الأمر بكلي أو كل، وخبر الثبوت بكلي أو كل خاصة، وتبقى ثمانية أقسام لا تكون من باب حمل المطلق على المقيد، بل من حمل العام على الخاص وهي: الأمر بالكلية، نحو: زكوا عن الغنم، والنهي عن الكلي، نحو: لا تضرب رجلا، والكل، نحو: لا تضرب عشرة، والكلية، نحو: لا تقتل النفس، وخبر الثبوت عن الكلية، نحو: رأيت الرجال، ثم تقول: رأيت الرجال الصالحين، وخبر النفي عن الكلي، نحو: ما رأيت رجلا، وخبر النفي عن الكل، نحو: ما رأيت عشرة، وخبر النفي عن الكلية، نحو ما رأيت إخوتك.
ثم تقول- بعد ذلك في الجميع-: اللفظ المتقدم مع زيادة صفة وعقيب كل مطلق من هذه المطلقات بمقيد يناسبه.
فإذا أحطت بهذه الاثنى عشر قسمًا، فقد أحطت بجميع ما يمكن أن يتوهم أنه من هذا الباب، بحيث لا يبقى منه قسم البتة، وظهر- حينئذ- ما هو من باب التقييد وما هو من باب التخصيص، ويتجه لك من هذا الاطلاع على ذلك مباحث وفروق وأسئلة وأجوبة في علم الأصول والفروع.
وإذا حصل التعارض بين قسمين من هذه الأقسام، أمكن الترجيح بأن أحدهما حصل فيه الجمع بين الدليلين، والآخر (ما) حصل فيه ذلك، بل مدلول المطلق فائت ومتعذر، ولم أر أحدًا تعرض لذلك، بل يسوون في الأصول والفروع بين هذه المثل، ويجعلون البحث واحدًا، وليس كذلك. بل ينبغي لك أن تحيط بجميع هذه التفاصيل علمًا؛ لتخرجها على هذه القوانين المتقدمة، ولا تسوي بين المختلفات، فيحصل لك الغلط، وقد بسطت لك ذلك بسطًا شافيًا كافيًا بفضل الله تعالى، بحيث اتضح في غاية الوضوح، والحمد لله على ذلك.
وهذا التلخيص هو المقصود من هذا الباب الذي أنا فيه، ولذلك أفردته بالذكر حتى يتضح عند الناظر في هذا الكتاب إيضاحًا جيدًا.
وهذا آخر ما تيسر لي في كتاب (العقد المنظوم في الخصوص والعموم)، وهو من نعمة الله تعالى وفضله، نفع الله تعالى به قارئه وكاتبه ومن كان السبب فيه، بمنه وكرمه، إنه على ما يشاء قدير، وحسبنا الله، ونعم الوكيل.