الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبحث آداب قضاء الحاجة
قد عرفت أن قضاء الحاجة من بول ونحوه قد جعل الشارع له أحكاماً: منها ما هو خاص بإزالته، ويقال له: استنجاء، إذا كان بالماء، واستجمار، إذا كان بغير الماء، من حجر ونحوه؛ وقد قدمنا لك حكم الاستنجاء في المذاهب، وبقي آداب قضاء الحاجة؛ وههنا سؤال يردده بعض الناس، وهو أن قضاء الحاجة من الأمور الطبيعية التي تتبع حالة الإنسان وظروفه الخاصة به، فالتقيد فيها بالتكاليف الشرعية قد يخرج الإنسان، ويضطره إلى ارتكاب ما يشق عليه من غير ضرورة تدعو إلى ذلك؛ ولكن هذا الكلام كغيره من اعتراضات الذين يريدون أن يتنصلوا من التكالف الشرعية في جميع أحوالهم، وإلا فأي فرق بين القيود التي أمر الشارع بها في حال الحيض والجماع، ونحوهما، وبين هذه القيود التي ستعرفها؟! ومن حسن الحظ أن الشريعة الإسلامية قد أتت في كل ذلك بما يقره العقل، وتقتضيه صحة الأبدان، ويستلزمه نظام الاجتماع من نظافة لا بد منها؛ فالواقع أن الشريعة الإسلامية، وإن كانت ههنا لا تسال عن علة، ولا عن سبب، لأن هذه تكاليف خاصة بالإنسان وحده، لأنه عبادات ليس من حق الإنسان أن يتبرم بها، إلا إذا عجز عن أدائها، كما قدمنا لك في أول: مباحث الطهارة" ولكنها مع هذا فقد جاءت بكل شيء معقول، وشرعت للناس العبادة التي تناسب أحوالهم الاجتماعية والصحية، وإلا فمن ذا الذي يقول: إن النظافة من الأخبثين غير لازمة؟! ومن ذا الذي يقول: إن الآداب التي ستعرفها غير نافعة للإنسان؟! فالشريعة الإسلامية كلها خير للمجتمع، وكلها إحسان إلى الناس، وكلها قيود صالحة لا يستطيع أحد أن ينال منها؛ وإليك بيان الأحكام المتعلقة بقضاء الحاجة من واجب، أو حرام، أو مندوب، أو مكروه بالترتيب:
مرضاً يمنعه من الاغتسال، وكان فرضه التيمم؛ الصورة الثانية؛ أن ينزل منه المني على وجه السلس، بأن ينزل منه كل يوم ولو مرة، وفي هذه الحالة يعفى عنه، فلا يلزم الاستنجاء لا بماء، ولا حجر، وكذلك الحكم في الصورة الأولى؛ وهذا كله إذا كان معه ماء يكفي، وإلا فلا يجب عليه شيء من ذلك، ومنها الحيض، والنفاس في حالة ما إذا قام بالمرأة عذر يرفع عنها الاغتسال، وإلا كان الواجب غسل جميع البدن، كما في خروج المني، فإذا انقطع حيض المرأة.
أو نفاسها، وكانت مريضة لا تستطيع أن تغسل بالماء، أو كانت في جهة لا تجد فيها ماء يكفي لغسلها، أو نحو ذلك، فإنها يفترض عليها في هذه الحالة أن تتيمم، وإذا كان معها ماء يكفي للاستنجاء، فإنه يجب عليها أن تستنجي بالماء، ولا يكفي المسح بالحصى ونحوه. هذا، ويكره الاستنجاء من الريح) .
أولاً: ما يجب عند الاستنجاء: يجب الاستبراء، وهو إخراج ما بقي في المخرج من بول، أو غائط حتى يغلب على الظن أنه لم يبق في المحل شيء، وقد اعتاد بعض الناس أن ينزل منه البول بعد أن يمشي، أو يقوم، أو يأتي بحركة من الحركات المعتادة له، فالذي يريد الاستنجاء يلزمه الاستبراء بحيث لا يجوز له أن يتوضأ، وهو يشك في انقطاع بوله، فإنه إذا توضأ في هذه الحالة، ونزلت منه قطرة بول لم ينفع وضوءه، فواجبه أن يخرج ما عساه أن يكون موجوداً حتى يغلب على ظنه أنه لم يبق في المحل شيء، وهذا واجب باتفاق، فلم يختلف فيه أحد، إلا أن بعضهم قال: إن الاستبراء لا يجب إلا إذا غلب على الظن (1) أن بالمحل شيء، وبعضهم قال: إن الاستبراء واجب حتى يغلب على الظن أنه لم يبق بالمحل شيء، والأمر في ذلك هين.
ثانياً: المكان الذي يحرم قضاء الحاجة فيه: يحرم قضاء الحاجة فوق المقبرة (2) ، وعلة ذلك ظاهرة، فإن المقابر محل عظات وعبرة، فمن سوء الأدب والخلق أن يكشف الإنسان فوقها سوءته، ويلوثها بالأقذار الخارجة منه، على أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حث على زيارة القبور، لتذكر الآخرة، فمن الجهل والحماقة أن يتخذ الناس الأماكن التي تزار للتذكر والاعتبار محلاً للبول والتبرز، فالنهي عن قضاء الحاجة فوق المقابر لذلك، أما ما ورد من الأحاديث فإنه لا يفيد هذا المعنى صريحاً؛ ومنها ما رواه مسلم، وأبو داود، وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له، من أن يجلس على قبر"، فهذا الحديث حمله بعض العلماء على الجلوس عليها لقضاء الحاجة، ولكن ليس في الحديث ما يشير إلى هذا؛ بل الذي يفيده الحديث أن المراد بالجلوس عليها اتخاذها مكاناً للهو والتسلية، كما يفعله بعض جهلة القرى، فإنهم كانوا يتخذون من بعض المقابر مجلساً لينتفعوا بالشمس، أو الظل، والتحدث، كما يفعل أهل المدن بالاجتماع في النوادي، ولا ريب أن هذه الحالة تنافي الموعظة والخشية المطلوبة من زيارة القبور، فضلاً عما فيها من امتهان المقابر، يدل لذلك ما رواه ابن ماجة بسند جيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"لأن أمشي على جمرة أو صيف، أو أخصف نعلي برجلي، أحب إلي من أن أمشي على قبر". والمراد بالصيف شدة حر الأرض، وخصف النعل عباة عن ترقيعها، ولا
(1) الشافعية هم القائلون وحدهم: إن الاستبراء لا يجب إلا إذا غلب على الظن أن بالمحل شيئاً من النجاسة
(2)
الحنفية قالوا: يكره قضاء الحاجة فوق المقبة كراهة تحريم، وعلى كل حال فهم متفقون مع غيرهم في تأثيم من يفعل ذلك، إلا أن غيرهم قال إن إثمه شديد، ومذهب غيرهم هو الظاهر، لما ذكرناه لك من العلة
يخفى ما في هذا من الشدة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل إن يرقع نعله بجله رجله، ولا يمشي على المقبرة، وسيأتي بيان هذا المبحث في "مباحث الجنازة" إن شاء الله.
ثالثاً: لا يجوز أن يقضي حاجته في الماء الراكد، وهذا أيضاً من الأمكنة التي لا يجوز قضاء الحاجة فيها، والماء الراكد هو الذي يجري، فقد روى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يبال بالماء الراكد، رواه مسلم، وابن ماجة، وغيرهما، ويلحق بالبول التغوط، لأنه أقبح، والنهي عنه أشد، وفي النهي عن البول في الماء الراكد تفصيل المذاهب (1)
وهذا الحكم الفقهي من أجمل الأحكام التي يقرها العلم، ويرضاها العقل السليم، فإن تلويث الماء المعد للانتفاع به غالباً من أقبح الخصال الذميمة، فضلاً عما قد يترتب عليه من عدوي - البلهارسيا - ونحوها من الأمراض، فمن مكارم الإسلام أن جعل عبادة الله مرتبة دائماً على ما تقتضيه مصلحة الإنسان نفسه.
(1) المالكية قالوا: يحرم قضاء الحاجة في الماء الراكد إذا كان قليلاً، أما إذا كان مستبحراً كالماء الموجود في البحيرات التي في الحدائق الكبيرة، والأحواض الواسعة، فإن البول فيه لا يحرم، إلا إذا كان مملوكاً للغير، ولم يأذن باستعماله، أو أذن باستعماله، ولم يأذن بالبول فيه، وإلا كان البول فيه حراماً، فإن كان جارياً، فإن البول فيه يجوز، إلا إذا كان مملوكاً للغير، ولم يأذن فيه، أو كان موقوفاً.
الحنفية قالوا: يحرم قضاء الحاجة في الماء القليل الراكد حرمة شديدة، فإن كان كثيراً كره البول فيه تحريماً، بمعنى أن الحرمة تكون أخف لكثرته، فإذا كان الماء جارياً فإن البول فيه يكره تنزيهاً، إلا إذا كان مملوكاً للغير، ولم يأذن البول فيه، فإنه يحرم البول فيه وإن كان كثيراً، ومثله الموقوف.
الحنابلة قالوا: يحرم التغوط في الماء الراكد والجاري، سواء كان قليلاً، أو كثيراً، إلا ماء البحر، فإنه لا يحرم فيه ذلك، لما قد تقتضيه ضرورة الأسفار، فضلاً عن اتساعه، وعدم ظهور شيء من ذلك فيه، أما البول فإنه يكره في الماء الراكد، ولا يحرم، كما يكره البول في الماء الجاري الكثير، ولا يكره في الماء الجاري القليل، ومحل هذا كله إذا لم يكن الماء موقوفاً، أو مملوكاً للغير ولم يأذن في استعماله إذناً عاماً، وإلا حرم قضاء الحاجة فيه مطلقاً.
الشافعية قالوا: لا يحرم قضاء الحاجة في الماء قليلاً كان، أو كثيراً، ولكن يكره فقط إلا إذا كان الماء مملوكاً للغير، ولم يأذن في استعماله، أو كان مسيلاً ولم يستبحر، فإنه يحرم في هاتين الحالتين إلا أنهم فرقوا في الكراهة بين الليل والنهار، فقالوا: يكره قضاء الحاجة نهاراً في الماء القليل، لا فرق بين أن يكون راكداً أو جارياً، أما في الليل فقالوا: يكره البول في الماء، سواء كان قليلاً، أو كثيراً) .
رابعاً: يحرم (1) قضاء الحاجة في موارد الماء، ومحل مرور الناس، واستظلالهم لقوله صلى الله عليه وسلم:"اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله! قال: الذي يتخلى في طرق الناس، أو في ظلهم" رواه مسلم، وأبو داود، وقوله، اللاعنين المراد به الأمران اللذان يتسبب عليهما لعن من فعلهما. وذلك لأن الذي يبول أو يتغوط في طرق الناس. فإنه يعرض نفسه للشتم واللعن بسبب ذلك الفعل المؤذي، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الوارد. وقارعة الطريق. والظل" رواه أبو داود وبان ماجة وقوله: "الملاعن" المراد بها مواضع اللعن لأن من قضى حاجته فيها فقد عرض نفسه للعن الناس والمراد بالظل هو الظل الذي اتخذه الناس محلاً يستظلون به. وينزلون فيه "مالكي، حنبلي".
خامساً: يحرم (2) حال قضاء الحاجة، استقبال القبلة أو استدبارها. بمعنى أنه يأثم إذا اتجه إلى القبلة وهو يبول أو يتغوط. أو يعطيها ظهره. ويتجه إلى الجهة المقابلة لها. بشرط أن يكون ذلك في الفضاء، أما إذا كان في بناء - كالكنيف ونحوه - فإنه لا يحرم "مالكي، شافعي،
(1) الشافعية، والحنفية قالوا: يكره قضاء الحاجة في هذه المواضع كلها، ما لم تكن موقوفة للمرور، أو ملكاً للغير، فإن كانت كذلك حرم قضاء الحاجة فيها.
فالأئمة الأربعة مجمعون على النهي عن قضاء الحاجة في المحلات العامة التي يمر فيها الناس، وفي موارد الماء، وفي المحلات التي يستظلون بها، إلا أن الشافعية، والحنفية جعلوا النهي للكراهة والمالكية والحنابلة جعلوا النهي للتحريم، وكلا الرأيين قد يتبع الأثر الذي يترتب على هذا الفعل، فإن كان فيه إيذاء شديد للناس، أو كان فيه تأثير على الصحة العامة؛ فهو حرام بالإجماع، لأن الإضرار بالناس وإيذائهم وجلب الأمراض منهي عنه نهياً غليظاً، ولعل القائلين بالكراهة قد نظروا إلى الجهات الخلوية الواسعة التي ليس فيها أماكن معدة لهذا، وضررها ليس له تأثير شديد
(2)
الحنفية قالوا: يكره استقبال القبلة، أو استدبارها حال قضاء الحاجة، كراهة تحريم مطلقاً داخل البناء أو الفضاء، فإن جلس ساهياً، وتذكر تحول عن القبلة عند تذكره إن قدر على التحول، وإلا فينبغي أن لا يجلس على كنيف متجه إلى الجهة المنهي عنها متى أمكنه ذلك: ومثل البول والتغوط الاستنجاء والاستجمار؛ فإنهما مكروهان كراهة تحريم، وقد استدلوا لذلك بعموم الحديث، وهو "إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها؛ ببول ولا غائط" الخ والغائط: هو المكان المنخفض، فالحديث يدل على أنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها حال قضاء الحاجة
حنبلي" فإذا قضى حاجته، وأراد أن يستنجى أو يستجمر فإن ذلك يكون مكروها لا حراماً (1) "حنبلي. مالكي".
سادساً: يكره لقاضي الحاجة أن يقابل مهب الريح. فلا يجلس للبول إلى الجهة التي يثور منها الهواء. كي لا يعود إليه رشاش من بوله فيتنجس. ولا يخفى أن هذا الحكم قد روعي فيه مصلحة قاضي الحاجة. فإن مقتضى الطبيعة أن يفر الإنسان من الأقذار التي تلوث بدنه وثوبه. فالشارع جعل هذا الفعل مكروهاً عنده. مراعاة لمصلحة الناس وحثاً لهم على النظافة.
سابعاً: يكره لقاضي الحاجة أن يتكلم، وهو يقضى حاجته لما في ذلك من امتهان الكلام وعدم المبالاة بما عساه أن يأتي فيه من ذكر اسم الله، أو اسم رسول الله، أو غير ذلك، على أن الكلام إنما يكره إذا كان لغير حاجة، فإذا وجدت حاجة الكلام، فإنه لا يكره، كما إذا طلب إبريقاً، أو خرقة يجفف بها النجاسة، ويكون الكلام لازماً؛ وذلك في حالة إنقاذ طفل، أو أعمى من ضرر، أو كان لحفظ مال من التلف، ونحو ذلك.
ثامناً: يكره استقبال عين الشمس والقمر (2) ، لأنهما من آيات الله، ونعمه التي ينتفع بها الكون عامة، ومن قواعد الشريعة الإسلامية احترام نعم الله تعالى وتقديرها.
تاسعاً: يندب الاستنجاء بيده اليسرى، لأن اليمنى في الغالب هي المستعملة في تناول الطعام ونحوه، كما يندب بلَّ أصابع اليسرى قبل ملاقاة الأذى. لئلا يشتد تعلق النجاسة بها، وكذا يندب غسل يده اليسرى بعد الفراغ من قضاء الحاجة بشيء منظف، ويندب الاسترخاء قليلاً عند الاستنجاء. كي يتمكن من إزالة النجاسة (3)
(1) الشافعية قالوا: لا ينهى عن استقبال القبلة حال الاستنجاء أو الاستجمار مطلقاً. وإنما النهي عن ذلك مقصور على قضاء الحاجة
(2)
المالكية قالوا: لا يكره استقبال الشمس والقمر، وإنما الأولى بالمرء أن لا يفعل ذلك، فهو خلاف الأولى
(3)
الشافعية قالوا: يجب الاسترخاء، كي يتمكن المستنجي من تنظيف الخارج.
الحنفية قالوا: إنما يندب الاسترخاء إذا لم يكن صائماً، محافظة على الصوم، لأنه يبطل بالمبالغة في إدخال الماء، كما سيأتي في بابه) .