الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الصلاة
[مباحث عامة]
حكمة مشروعيتها
ما تقدم من مباحث الطهارة إنما هو وسيلة للصلاة، وقد علمت أن هذه الوسائل كلها منافع للمجتمع الإنساني؛ لأن مدارها على نظافة الأبدان؛ وطهارة أماكن العبادة من الأقذار التي تنشأ عنها الأمراض والروائح القذرة، نعم إن في بعض الوسائل ما قد يخلو عن هذا المعنى، ولكن ذلك لحكمة ظاهرة: وهي أن الغرض من العبادات إنما هو الخشوع لله سبحانه باتباع أوامره واجتناب نواهيه، أما الصلاة فهي أهم أركان الدين الإسلامي؛ فقد فرضها الله سبحانه على عباده ليعبدوه وحده، ولا يشركوا معه أحداً من خلقه في عبادته، قال تعالى:{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} أي فرضاً محدوداً بأوقات لا يجوز الخروج عنها، وقال عليه الصلاة والسلام:"خمس صلوات كتبهّن الله على العباد؛ فمن جاء بهن، ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة" وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم شأن الصلاة، والحث على أدائها في أوقاتها: والنهي عن الاستهانة بأمرها والتكاسل عن إقامتها؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل الصلوات الخمس، كمثل نهر عذب غمر، بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقى من درنه؟ قالوا: لا شيء، قال صلى الله عليه وسلم: "فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن" ومعنى ذلك أن الصلوات الخمس تطهر النفوس؛ وتنظفها من الذنوب والآثام، كما أن الاغتسال بالماء النقي خمس مرات في اليوم يطهر الأجسام وينظفها من جميع الأقذار.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل: قال: "الصلاة لمواقيتها" فالصلاة هي أفضل أعمال الإسلام، وأجلها قدراً، وأعظمها شأناً؛ وكفى بذلك حثاً على أدائها في أوقاتها.
أما ترهيب تاركها وتخويفه؛ فيكفي فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا سهم في الإسلام لمن لا صلاة له" وقوله: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" وفي هذا الحديث زجر شديد للمسلم الذي يتسلط عليه الكسل فيحمله على ترك الصلاة التي يمتاز بها عن الكافر، حتى قال بعض أئمة المالكية: إن تارك الصلاة عمداً كافر وعلى كل حال فقد أجتمعوا على أنها ركن من أركان الإسلام، فمن تركها فقد هدم ركناً من أقوى أركانه. وينبغي أن يعرف
الناس أن الغرض الحقيقي من الصلاة إنما هو غشعار القلب بعظمة الإله الخالق حتى يكون منه على وجل فيأتمر بأمره، وينتهي عما نهاه عنه، وفي ذلك الخير كله للنوع الإنساني، لأن من يفعل الصالحات ويجتنب السيئات لا يصدر عنه للناس الا المنفعة والخير، أما الذين يأتي بالصلاة وقلبه غافل عن ربه، مشغول بشهواته النفسانية، وملاذه الجسمانية، فإن صلاته، وإن أسقطت عنه الفرض عند بعض الأئمة، ولكنها في الحقيقة لم تثمر الثمرة المطلوبة منها، إنما الصلاة الكاملة هي التي قال الله في شأنها:{قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتها خاشعون} .
فالغرض الحقيقي من الصلاة، إنما هو تعظيم الإله فاطر السموات والأرض بالخشوع له والخضوع لعظمته الخالدة، وعزته الأبدية، فلا يكون المرء مصلياً لربه حقاً الا إذا كان قلبه حاضراً مملوءاً بخشية الله وحده، فلا يغيب عن مناجاته بالوساوس الكاذبة أو الخواطر الضارة، ومن ي قف بين يدي خالقه وقلبه على هذه الحالة ذليلاً خاشعاً، خائفاً وجلاً من جلال ذلك الخالق القادر القاهر، ذي السطوة التي لا تحدّ، والمشيئة التي لا تردّ، فإنه بذلك يكون تائباً من ذنبه، منيباً إلى ربه، وتصلح أعماله الظاهرة والباطنة، وتقوى علاقته بربه، ويستقيم مع عبادته تعالى، ويقف عند حدود الدين، وينتهي عما نهاه عنه رب العالمين. كما قال:{إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر} وبذلك يكون من المسلمين حقاً.
فالصلاة التي تنهي عن الفحشاء والمنكر، وهي تلك الصلاة التي يكون العبد فيها معظماً ربه، خائفاً منه، راجياً رحمته، فحظ كل واحد من صلاته إنما هو بقدر خوفه من الله، وتأثر قلبه بخشيته، لأن الله سبحانه إنما ينظر إلى قلوب عباده لا إلى صورهم الظاهرة، ولذا قال تعالى:{وأقم الصلاة لذكرى} ، ومن غفل قلبه عن ربه لا يكون ذاكراً له، فلا يكون مصلياً صلاة حقيقية، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه".
فهذه هي الصلاة في نظر الدين، وهي بهذا المعنى لها أحسن الأثر في تهذيب النفوس، وتقويم الأخلاق، فإن في كل جزء من أجزائها تمريناً على فضيلة من الفضائل الخلقية، وتعويداً على صفة من الصفات الحميدة، وإليك جملة من أعمال الصلاة وآثارها في تهذيب النفوس:
أولاً: النية، وهي عزم القلب على امتثال أمر الله تعالى بأداء الصلاة كاملة، كما أمر بها الله مع الإخلاص له وحده، ومن يفعل ذلك في اليوم والليلة خمس مرات، فلا ريب في أن الإخلاص ينطبع في نفسه، ويصبح صفة منصفاته الفاضلة التي لها أجمل الثر في حياة الأفراد والجماعات، فلا شيء أنفع في حياة المجتمع الإنساني من الإخلاص في القول
والعمل، فلو أن الناس أخلصوا لبعضهم بعضاً في أقوالهم وأعمالهم، لعاشوا عيشة راضية مرضية، وصلحت حالهم في الدنيا والآخرة، وكانوا من الفائزين.
ثانياً: إن القيام بين يدي الله تعالى، فالمصلي يقف ببدنه وروحه بين يدي خالقه مطرقاً يناجيه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، يسمع منه ما يقول، ويعلم منه قلبه ما ينوي، ولا ريب في أن من يفعل ذلك مرات كثيرة في اليوم والليلة، فإن قلبه يتأثر بخالقه، فيأتمر بما أمره به، وينتهي عما نهاه عنه، فلا ينتهك للناس حرمة، ولا يعتدي لهم على نفس، ولا يظلمهم في مال، ولا يؤذيهم في دين أو عرض.
ثالثاً: القراءة، وسيأتي لك حكمها عند الأئمة، ولكن ينبغي لمن يقرأ أن لا يحرك لسانه بالقراءة، وقلبه غافل، بل ينبغي له أن يتدبر معنى قراءته ليتعظ بما يقول، فإذا مر على لسانه ذكر الإله الخالق وجل قلبه خوفاً من عظمته وسطوته، كما قال تعالى:{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} وإذا ذكرت صفات الله تعالى من رحمة وإحسان وجب عليه أن يعلم نفسه كيف تتخلق بتلك الصفات الكريمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تخلقوا بأخلاق الله فهو سبحانه كريم عفو غفور، عادل لا يظلم الناس شيئاً، فالإنسان مكلف بأن يتخلق بهذه الأخلاق، فإذا ما قرأ في صلاته الآيات التي تشتمل على صفات الإله الكريمة وعقل معناها، وكرّرها في اليوم والليلة مرات كثيرة. فإن نفسه تتأثر بها لا محالة ومتى تأثرت نفسه بجميل الصفات حبب إليه الاتصاف بها، ولذلك أحسن الأثر في تهذيب النفوس والأخلاق.
رابعاً: الركوع والسجود، وهما من أمارات التعظيم لمالك الملوك، خالق السموات والأرض وما بينهما، فالمصلي الذي يركع بين يدي ربه لا يكفيه أن يحنى ظهره بالكيفية المخصوصة، بل لا بد أن يشعر قلبه بأنه عبد ذليل، ينحني أما عظمة إله عزيز كبير، لا حد لقدرته، ولا نهاية لعظمته فإذا انطبع ذلكالمعنى في قلب المصلي مرات كثيرة في اليوم والليلة كان قلبه دائماً خائفاً من ربه فلا يعمل الا ما يرضيه، وكذلك المصلي الذي يسجد لخالقه، فيضع جبهته على الأرض معلناً عبوديته لخالقه. فإنه إذا استشعر قلبه ذل العبودية، وعظمة الرب الخالق فلا بد أن يخافه ويخشاه، وبذلك تتهذب نفسه وينتهي عن الفحشاء والمنكر.
هذا ويتعلق بالصلاة أمور أخرى لها فوائد اجتماعية جليلة الشأن: منها الجماعة، فقد شرع الإسلام الجماعة في الصلاة، وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة".