الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبحث في كيفية طهارة المريض بسلس بول، ونحوه
قد عرفت أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بنص صريح يرفع الحرج والمشقة عن الناس،
المالكية قالوا: يجوز الاستجمار بما اجتمعت فيه خمسة أشياء أن يكون يابساً. كحجر وقطن وصوف، إذا لم يتصل بالحيوان. وإلا كره الاستجمار به، فإن لم يكن يابساً، كالطين، فلا يجوز الاستجمار به لأنه ينشر النجاسة، فإن وقع استجمار به؛ فلا بد من غسل المحل بالماء بعد ذلك.
وإن صلى بلا غسله كان مصلياً بالنجاسة، وقد تقدم حكمه في "إزالة النجاسة"، وأن يكون طاهرا، فلا يجوز بنجس، كعظم ميتة، وروث حيوان محرم الأكل، فإن استجمر به، فإن كان جامداً، ولم يتحلل منه شيء، وأنقى المحل، أجزأ مع الإثم، وأن يكون منقياً للنجاسة، فلا يجوز بالأملس، كزجاج، وقصب فارسي، لعدم الإنقاء به، وأن يكون غير مؤذ، فلا يجوز بما له حدّ، كسكين، وحجر له حرف، ومكسور زجاج؛ وأن يكون غير محترم شرعاً؛ ومن المحترم شرعاً، مطعوم الآدمي ويشمل الملح والدواء؛ ويلحق به الورق، لما فيه من النشا المطعوم ومن المحترم شرعاً ما له شرف، كالمكتوب، لأن للحروف حرمة، ومنه ما كان حقاً للغير: سواء أكان موقوفاً أو ملكاً لغيره: فيحرم الاستجماء بجدار موقوف، أو مملوكاً للغير، فإن كان الجدار مملوكاً له، كره الاستجماء به فقط، ويكره الاستجمار بالعظم والروث الطاهرين، وإذا حصل بهما الإنقاء أجزأ، وكذلك كل ما حرم أو كره، أما الأمور التي يتعين فيها الاستنجاء بالماء، فقد تقدمت في "حكم الاستنجاء" قريباً.
الحنابلة قالوا: يشترط فيما يستجمر به أمور: منها أن يكون طاهراً، وأن يكون مباحاً فلا يصح الاستجمار بمغصوب ونحوه، وأن يكون منقياً، وضابط الإنقاء هنا أن لا يبقى أثر من النجاسة لا يزيله إلا الماء، فلا يصح بالأملس، كزجاج، ونحوه؛ وأن يكون جامداً، فلا يكفي بالطين، وأن لا يكون روثاً، أو عظماً، أو طعاماً، ولو لبهيمة؛ وأن لا يكون محترماً شرعاً، كقرطاس ذكر فيه اسم الله تعالى، أو كتب فيه حديث، أو علم شرعي، أو كتب فيه ما يباح استعماله شرعاً، أما ما كتب فيه محرم الاستعمال، فليس من المحترم شرعاً، وأن لا يكون جزء حيوان، كيده مثلاً، وأن لا يكون متصلاً به، كصوفه وأن لا يكون محرم الاستعمال، كالذهب والفضة، ويشترط أن يكون المسح ثلاثاً مع الإنقاء، وأن تعم كل مسحة منها المحل، فإن حصل الإنقاء بدون الثلاثة لا يجزئ؛ وأن لا يكون المخرج متنجساً بغير الخارج منه، وأن لا تتجاوز النجاسة موضع العادة، فإن تجاوزت تعين الماء؛ وأن لا يكون الخارج من النجاسة بقية حقنة فيتعين فيه الماء، وأن لا يجف الخارج قبل الاستجمار، فإن جف تعين الماء.
هذا، وقد عد الحنابلة داخل قبل المرأة الثبب في حكم الظاهر، ولكنهم قالوا: إنه لا يجب غسله في الاستنجاء، بل أوجبوا غسل ما يظهر عند جلوسها لقضاء حاجتها) .
فقد قال تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} فكل شيء فيه حرج وعسر لا يجب على المكلف فعله، ومن ذلك المرضى بأمراض لا تقعدهم عن العمل، كضعف المثانة المترتب عليها تقاطر البول بلا انقطاع في معظم الأوقات، أو كلها ونحو ذلك من مذي وغيره، ويقال له: سلس، ومثل هؤلاء المصابون بإسهال مستديم، أو بمرض في الأمعاء - دوسنطاريا - يترتب عليه نزول دم أو قيح، فحكم هؤلاء وأمثالهم أن يعاملوا في الوضوء وغيره من أنواع الطهارة معاملة خاصة تناسب أمراضهم، كما هو مفصل في المذاهب (1)
(1) الحنفية قالوا: يتعلق بهذا أمور: أحدها: تعريف السلس؛ ثانيها: حكمه، ثالثها: ما يجب على المعذور فعله، فأما تعريفه فهو مرض خاص يترتب ليه نزول البول، أو انفلات الريح، أو الاستحاضة، أو الإسهال الدائم، أو نحو ذلك من الأمراض المعروفة، فمن أصيب بمرض من هذه الأمراض، فإنه يكون معذوراً، ولكن لا يثبت عذره في ابتداء المرض، إلا إذا استمر نزول حدثه متتابعاً وقت صلاة مفروضة، فإن لم يستمر كذلك لا يكون صاحبه معذوراً، وكذلك لا يثبت زوال العذر إلا إذا انقطع وقتاً كاملاً لصلاة مفروضة، أما بقاؤه بعد ثبوته فإنه يكفي في وجوده، ولو في بعض الوقت، فلو تقاطر بوله مثلاً من ابتداء وقت الظهر إلى خروجه، صار معذوراً، ويظل معذوراً حتى ينقطع تقاطر بوله وقتاً كاملاً، كأن ينقطع من دخول وقت العصر إلى خروجه. أما إذا استمر من ابتداء وقت الظهر إلى نهايته، وصار معذوراً، ثم انقطع فيبعض وقت العصر دون بعضه، ولو مرة فإنه يظل معذوراً؛ فهذا تعريف المعذور عند الحنفية، وأما حكمه، فهو أن يتوضأ لوقت كل صلاة، ويصلي بذلك الوضوء ما شاء من الفرائض والنوافل، فلا يجب عليه الوضوء لكل فرض، ومتى خرج وقت المفروضة انتقض وضوءه بالحدث السابق على العذر عند خروج ذلك الوقت، بمعنى أنه لو كان متوضئاً قبل حصول عذره، لا ينتقض وضوءه بخروج الوقت. وإنما ينتقض بحصول حدث آخر غير العذر. كخروج ريح. أو سيلان دم من موضع آخر، وغير ذلك.
ويتضح من هذا أن شرط نقض الوضوء هو خروج وقت الصلاة المفروضة، فإن توضأ بعد طلوع الشمس لصلاة العيد، ودخل وقت الظهر فإن وضوءه لا ينتقض، لأن دخول وقت الظهر ليس ناقضاً، وكذا خروج وقت العيد ليس ناقضاً، لأنه ليس وقت صلاة مفروضة، بل هو وقت مهمل، فله أن يصلي بوضوء العيد ما شاء، إلى أن يخرج وقت الظهر، فإذا خرج وقت الظهر انتقض وضوءه، لخروج وقت المفروضة، أما إن توضأ قبل طلوع الشمس، فإن وضوءه ينتقض بطلوعها، لخروج وقت المفروضة، وإن توضأ بعد صلاة الظهر، ثم دخل وقت العصر انتقض لخروج وقت الظهر؛ أما ما يجب على المعذور أن يفعله، فهو أن يدفع عذره، أو يقلله بما يستطيع من غير ضرر، بل عليه أن يعالجه بما يستطيع، فإذا كان يمكنه أن يعالج نفسه من هذا المرض بمعرفة الأطباء، وقعد عن ذلك فإنه يأثم لأنهم صرحوا بأن المريض بهذا المرض يجب عليه أن يعالجه، ويدفعه عن نفسه بكل ما يستطيع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن هذا يؤخذ أن المرضى الذين يقعدون عن معالجة هذه الأمراض حتى يستفحل أمرها، وهم قادرون، فإنهم يأثمون.
هذا، وإن كان العصب ونحوه - كالحفاظ للمستحاضة - يدفع السيلان أو يقلله وجب فعله، وإن كان الصلاة من قيام يترتب عليها تقاطر البول، أو نزول الدم أو نحو ذلك، فإن المريض يصلي وهو قاعد، وإذا كان الركوع أو السجود يوجبه فإنه لا يركع، ولا يسجد بل يصلي بالإيمانء وسيأتي بيانها.
وما يصيب الثوب من حدث العذر لا يجب غسله إذا اعتقد أنه لو غسله تنجس بالسيلان ثانياً قبل فراغه من الصلاة التي يريد فعلها، أما إذا اعتقد أنه لا يتنجس قبل الفراغ منها، فإنه يجب عليه غسله.
الحنابلة قالوا: من دام حدثه، كأن كان به سلس بول، أو مذي، أو انفلات ريح، أو نحو ذلك فإنه لا ينتقض وضوءه بذلك الحدث الدائم بشروط: أحدها: أن يغسل المحل ويعصبه بخرقة ونحوها، أو يحشوه قطناً أو غير ذلك مما يمنع نزول الحدث بقدر المستطاع، بحيث لا يفرط في شيء من ذلك، فإن فرط ينتقض وضوءه بما ينزل من حدثه، وإلا فلا، ومتى غسل المحل، وعصبه بدون تفريط، لا يلزمه فعله لكل صلاة. ثانيها: أن يدوم الحدث، ولا ينقطع زمناً من وقت الصلاة بحيث يسع ذلك الزمن الطهارة والصلاة فإن كانت عادته أن ينقطع حدثه زمناً يسع ذلك وجب عليه أن يؤدي صلاته فيه، ولا يعد معذوراً، وإن لم يكن عادته الانقطاع زمناً يسع الطهر والصلاة، ولكن عرض له ذلك الزمن الطهارة والصلاة فإن كانت عادته أن ينقطع حدثه زمناً يسع ذلك وجب عليه أن يؤدي صلاته فيه، ولا يعد معذوراً، وإن لم يكن عادته الانقطاع زمناً يسع الطهر والصلاة، ولكن عرض له ذلك الانقطاع بطل وضوءه؛ ثالثا: دخول الوقت، فلو توضأ قبل دخول الوقت لم يصح وضوءه، إلا إذا توضأ قبله لفائتة أو لصلاة جنازة، فإن وضوءه يكون صحيحاً؛ ويجب أن يتوضأ لوقت كل صلاة إن خرج شيء من ذلك الحدث لمسترسل، فإن لم يخرج فلا ينتقض وضوءه إلا بناقض آخر غير ذلك الحدث، وللمعذور أن يصلي بوضوئه ما شاء من الفرائض والنوافل، وإذا كان القيام للصلاة يوجب نزول حدثه صلى قاعداً، أما إذا كان الركوع والسجود يوجبان نزول ذلك الحدث، فإنه يصلي بركوع وسجود مع نزوله، ولا يجزئه أن يصلي مومياً.
المالكية قالوا: ما خرج من الإنسان حال المرض من سلس بول أو نحوه، فإنه لا ينقض بشروط أحدها: أن لا يلازمه أغلب أوقات الصلاة، أو نصفها على الأقل؛ فإذا جاءه سلس بول في الصاج مثلاً، ثم انقطع بعد ساعتين، فإنه لا يكون معذوراً، وعليه أن يصبر حتى ينقطع بوله، ويتوضأ لصلاة الظهر، ومثل ذلك ما إذا كان مصاباً بانفلات ريح أو إسهال، فإن لازمه ذلك نصف وقت صلاة فأكثر، كان معذوراً، وإلا فلا؛ ثانيها: أن يأتيه ذلك المرض في أوقات لا يستطيع ضبطها، أما إذا أمكنه أن يضبط الأوقات التي يأتيه فيها، فإن عليه أن لا يتوضأ فيها، مثلاً إذا عرف أنه ينقطع في آخر وقت صلاة الظهر، فإن عليه أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت. ويتوضأ ويصلي، وكذا إذا عرف أنه ينقطع في أول الوقت، فإنه يجب عليه أن يبادر بالصلاة في هذه الحالة، ولا يباح له أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، كما يباح للأصحاء فإذا كان السلس يستغرق وقت الظهر كله، ووقت العصر إلا قليلاً منه، بأن ينقطع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في آخر وقت العصر، فإنه يجب عليه أن يؤخر وقت الظهر إلى هذا الوقت، ويجمعها مع صلاة العصر جمع تأخير، وإذا كان يأتيه السلس في كل وقت العصر، وينقطع في آخر وقت الظهر، فإن عليه أن يجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم؛ ثالثها: أن لا يقدر المريض على رفع مرضه بدواء، أو تزوج، أو نحو ذلك، فإن قدر، ولم يفعل، فإنه لا يكون معذوراً، ويأثم بترك التداوي، فإذا شرع في التداوي اغتفرت له أيام التداوي.
ولا يعتبر المريض بسلس المذي معذوراً إلا إذا حصل له ذلك السلس لمرض بشرط أن ينزل منه بلا لذة معتادة، أما إذا لم يكن به مرض؛ ولكن نزل منه بسبب عدم تزوجه بلذة معتادة، بأن كان يتلذذ بالنظر، أو التفكر، فيحصل منه المذي كلما فعل ذلك، فإن وضوءه ينتقض مطلقاً، حتى لو لازمه كل الزمن.
هذا، ونقض الوضوء بالسلس ونحوه بالشروط المذكورة هو المشهور من مذهب المالكية، وعندهم قول آخر غير مشهور، ولكن فيه تخفيف للمرضى، وهو أن السلس لا ينقض الوضوء، وإن لم تتحقق هذه الشروط، إنما يستحب منه الوضوء إذ لازم بعض الزمن، أما إذا لازم كل الزمن فإنه لا يستحب منه الوضوء، وهذا القول يصح للمعذورين أن يقلدوه في حال المشقة والحرج، فهو وإن لم يكن مشهوراً، لكنه قد يناسب أحوال كثير من الناس، ولا مانع من أن يأخذوا به.
الشافعية قالوا: ما خرج على وجه السلس يجب على صاحبه أن يتحفظ منه بأن يحشو محل الخروج، ويعصبه: فإن فعل ثم توضأ. ثم خرج منه شيء فهو غير ضار في إباحة الصلاة وغيرها بذلك الوضوء. إنما يشترط لاستباحة العبادة بهذا الوضوء شروط. وهي: أولاً: أن يتقدم الاستنجاء على وضوئه؛ ثانياً؛ أن يوالي بين الاستنجاء والتحفظ السابق. وبين التحفظ والوضوء بمعنى أنه يستنجي أولاً. ثم بعد الاستنجاء مباشرة بدون فاصل ما يقوم بعصب المحل الذي ينزل منه البول أو الغائط أو نحوهما بخرقة نظيفة. أو نحو ذلك. مما لا يضره - كالرباط الذي يفعله الطبيب - ثم بعد ربطه يتوضأ على الفور. بحيث لا يفصل بين العصب والوضوء بفاصل من عمل أو إبطاء. كما لا يصح له أن يفصل بين الاستنجاء والعصب؛ ثالثاً: أن يوالي بين أفعال الوضوء بعضها مع بعض، بمعنى أن يغسل الوجه أولاً، ثم يبادر بغسل اليدين بدون فاصل ما؛ رابعاً: أن يوالي بين الوضوء والصلاة بحيث إذا فرغ من وضوئه، فإنه يلزمه أن يشرع في الصلاة مباشرة، بحيث لو باشر أي عمل آخر بطل وضوءه، على أن يغتفر له الفصل بالأعمال التي تتعلق بالصلاة، كالذهاب إلى المسجد، فإذا فعل هذه الأفعال، وتوضأ في داره، ثم ذهب إلى المسجد وصلى فيه، فإنه جائز، ولا يضره الفصل بالمشي إلى المسجد، ومثل ذلك ما إذا توضأ على الوجه المذكور، ثم النظر صلاة الجماعة أو جمعة، فإن له ذلك؛ خامساً: أن يأتي بهذه الأعمال جميعها بعد دخول وقت الصلاة، فإن فعلها قبل دخول الوقت، فإنها تبطل.
هذا، وينبغي للمعذور أن لا يصلي بوضوئه الذي بينا كيفيته إلا فرضاً واحداً، فعليه أن يكرر هذه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأعمال لكل فريضة؛ أما النوافل، فإن له أن يصلي ما شاء منها بهذا الوضوء مع الفريضة التي يصح له أن يصليها به، سواء صلى النوافل قبل الفرض أو بعده.
وقد تقدم في "مباحث النية" أن المعذور يجب عليه أن ينوي بوضوئه استباحة الصلاة، بمعنى أن يقول في نفسه: نويت بوضوئي أن يبيح الشارع لي به الصلاة. وذلك لأنه في الواقع ليس وضوءاً حقيقياً، بل هو منقوض بما ينزل من بول ونحوه، ولكن سماحة الدين الإسلامي قد أباحت له أن يباشر الصلاة بهذا الوضوء، فلا يحرم من ثوابها، لأنها شريعة مبنية على الحرص التام على مصالح الناس، ومنافعهم في الدنيا والآخرة) .