الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الحجر على المفلس وغيره
وهو بفتح الحاء وكسرها، وهو لغة: التضييق والمنع، وسمي العقل حِجْرًا، لأنه يمنع صاحبه من تعاطي ما يقبح وتضر عاقبته (1). وشرعًا: منع مالك من تصرفه في ماله (2). سواء كان المنع من قبل الشرع، كالصغير والمجنون والسفيه، أو الحاكم، كمنعه المشتري من التصرف في ماله حتى يقضي الثمن الحالَّ.
(و) الحجر لفَلس: منعُ حاكم (مَنْ) عليه دين و (ماله لا يفي بما عليه) من الدين (حالًّا) منصوب على الحال و (يجب الحجر عليه) أي: المفلس (طلب بعض غرمائه) فيلزم الحاكم إجابتهم إلى ذلك، وحجر عليه، لحديث كعب بن مالك: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ماله (3). رواه
(1) قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة"(2/ 139): الحاء والجيم والراء أصل واحد مطرد، وهو المنع والإحاطة على الشيء. . . اهـ
ينظر: "الزاهر"(ص 327) و"حلية الفقهاء"(ص 142)"الكليات"(620) و"المصباح المنير"(1/ 167) و"الدر النقي"(3/ 499).
(2)
"الإقناع"(2/ 387) و"هداية الراغب"(ص 278).
(3)
أخرجه الدارقطني، كتاب في الأقضية والنكاح (4/ 230، 231) عن كعب بن مالك. وأخرجه -مطولًا- عبد الرزاق، في البيوع، باب المفلس والمحجور عليه (8/ 268، 269). كما أخرجه -مرسلًا عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان معاذ بن جبل شابًا سخيًّا، وكان لا يمسك شيئًا. . . -: سعيد بن منصور في سننه (كما في "المنتقى" (2/ 365) وإسحاق بن راهويه (كما في المطالب العالية 2/ 119، 120) وأبو داود في "المراسيل"(ص 162، 163) قال ابن حجر في "المطالب"(2/ 120): هذا الحديث إسناده صحيح ولكنه مرسل، ولم يخرجوه في كتبهم، بل أخرج أبو داود منه في المراسيل المفرد قطعة منه. وقد خالف عبد الرزاق هشام بن =
الخلال. فإن لم يسأله أحد منهم لم يُجْجَرْ عليه، ولو سأله المفلس.
(و) يـ (سن إظهاره) أي الحجر على السفيه، والمفلس، ليعلم الناس حالهما، فلا يعاملان إلا على بصيرة، ويسن الإشهاد على الحجر، ليثبت عند من يقوم مقام الحاكم لو زال فيمضيه، ولا يحتَاجُ إلى ابتداءِ حجرٍ ثانٍ، ويتعلق بالحجر على المفلس أحكام:(فلا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر) عليه، لتعلق حق غرمائه بماله الموجود والحادث بنحو إرث، لأنه يباع في ديونهم، فتعلقت حقوقهم به كالرهن (ولا) يصح (إقراره عليه) أي على ماله، ولو كان صانعًا كقصَّار وحائك، فأقر بما في يده من المتاع لأربابه، فلا يقبل، ويباع حيث لا بينة، ويقسم ثمنه بين الغرماء (بل) يصح إقراره (في ذمته فيطالب) به (بعد فك حجر) هـ، وإن لزمه كفارة كفَّر بصوم لئلا يضر بغرمائه، وإن تصرف في ذمته بشراء أو إقرار أو إصداق أو ضمان صح، لأنه أهل للتصرف، والحجر يتعلق بماله، لا بذمته، ويتبع به بعد فك حجره.
وإن جنى محجور عليه جناية توجب مالًا أو قصاصًا شارك مجني عليه الغرماء، لثبوت حقه على الجاني بغير اختيار المجني عليه.
(و) الثاني أن (من سلمه) أي: المفلس (عين مال) ببيع أو قرض أو رأس مال سلم (جاهل الحجر) فهو أحق بها، فيـ (أخذها إن كانت) باقية (بحالها و) كان (عوضها) أي العين (كله باق) في ذمته (ولم يتعلق بها حق للغير) كرهن، وجناية، وحق شفعة، فإذ تعلق بها حق للغير، أو تلف
= يوسف، فرواه عن معمر موصولًا قال: عن ابن كعب عن أبيه، ورواه ابن المبارك، عن معمر، فأرسله. اهـ ونقل في "التلخيص الحبير" (3/ 44) عن عبد الحق: المرسل أصح من المتصل. وعن ابن الطلاع: هو حديث ثابت. اهـ وقال ابن عبد الهادي في "التنقيح"(كما في الإرواء 5/ 262): المشهور في الحديث الإرسال. اهـ وقد صححه الحاكم في "المستدرك"(2/ 58) و (3/ 270) وأقره الذهبي.
بعضها، أو بيع، أو وُقِفَ، ونحوه، أو مات مفلس؛ فلا رجوع، لحديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيما رجل باع متاعه، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحق به، وإن مات المشتري، فصاحب المتاع أسوة الغرماء"(1). رواه مالك، وأبو داود مرسلًا، ورواه أبو داود مسندًا، وقال: حديث مالك أصح. ولأن الملك انتقل عن المفلس إلى الورثة، أشبه ما لو باعه، وكذا إن زادت السلعة زيادة متصلة، كسمنٍ، وتعلم صنعة، وتجدد حملٍ في بهيمة، فإن زادت كذلك فلا رجوع، لأن الزيادة للمفلس، لحدوثها في ملكه، فلم يستحق رب العين أخذها منه، كالحاصلة بفعله (ويبيع حاكم ماله) أي المفلس وجوبًا، بثمن مثله المستقر في وقته، أو أكثر إن حصل راغب (ويقسمه) أي الثمن (على غرمائه) فورًا لأن هذا جُل المقصود من الحجر عليه، وتأخيره مطل، وظلم للغرماء.
وسن إحضار المفلس عند بيع ماله، ليضبط الثمن، ولأنه أعرف بالجيد من متاعه، فيتكلم عليه، ولأنه أطيب لنفسه، ووكيله كهو، ويحضر معه غرماؤه، لأنه أطيب لقلوبهم، وأبعد للتهمة، وربما وجد أحدهم عين ماله، أو رغب في شيء فزاد في ثمنه.
وسن بيع كل شيء في سوق، وأن يبدأ بأقله بقاء كبطيخ، وأكثره كلفة كحيوان، ويجب أن يترك لمفلس ما يحتاجه من مسكن وخادم صالح لمثله، ما
(1) مالك، في البيوع، باب ما جاء في إفلاس الغريم (2/ 678) وأبو داود، البيوع، باب في الرجل يفلس. . .
ورواه أبو داود -أيضًا- عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: (3/ 793) وقال عقبه: حديث مالك أصح. اهـ قال الخطابي في "المعالم"(3/): هذا الحديث مسندًا من هذا الطريق يضعفه أهل النقل في رجلين من رواته، ورواه مالك مرسلًا، فدل أنه لا يثبت مسندًا. . . اهـ ينظر:"التلخيص الحبير"(3/ 45).
لم يكونا عين مال غريم، فله أخذهما، للخبر (1)، ويشترى له بدلهما، أو يترك له من ماله بدلهما، دفعًا للحاجة، ويبدل أعلى من مسكن وخادم وثوب ونحوه بصالح لمثله، لأنه الأحظُّ للمفلس والغرماء، ويجب أن يترك له من ماله ما يتجر به إن كان تاجرًا، ويترك له آلة محترف إن كان ذا صنعة، ويجب له ولعياله أدنى نفقة مثلهم، من مأكل ومشرب وكسوة وتجهيز من مات منهم من ماله حتى يقسم، وأجرة مناد ونحوه من المال.
ويبدأ في قسم ماله بمن جنى عليه قِنُّ المفلس، لتعلق حقه بعين الجاني، فيعطى الأقل من ثمنه أو الأرش. ثم بمن عنده رهن لازم من الغرماء، فيخص بثمنه إن كان بقدر دينه أو أقل، لأن حقه متعلق بعين الهـ هن، فإن بقي له دين حَاصَصَ الغرماء، وإن فضل شيئء من الرهن رُدَّ على المال. ثم بمن له عين مال، فيأخذها، بشرطه المتقدم (2)، أو كان استأجر عينًا من مفلس قبل حجر عليه، فيأخذها، لاستيفاء نفعها مدة إجارته، لتعلق حقه بالعين والمنفعة، وهي مملوكة له في تلك المدة فإن اتفق الغرماء مع المفلس على بيعها بيعت، والإجارة بحالها، وإن بطلت الإجارة في أثناء المدة لنحو موتِ العبدِ المؤجر، أو انهدم الدار، ضرب له بما بقي له من أجرة عجَّلها، ثم يقسم الباقي على قدر ديون من بقي. ولا يلزمهم بيان أن لا غريم سواهم، ثم إن ظهر رب دَين حال رجع على كل غريم بقسطه، لأنه لو كان حاضرًا لقاسمهم، كغريم الميت يظهر بعد قسم ماله، ولم تنقض القسمة، لأنهم لم يأخذوا زائدًا عن حقهم، وإنما تبين مزاحمتهم فيما قبضوه من حقهم.
ويلزم الحاكم إجبار مفلس محترف على الكسب، أو إيجار نفسه فيما يليق به من صنائعه، ليوفي بقية دينه، بعد قسمة ما وجد من ماله.
(1) المتقدم قبل قليل.
(2)
في الصفحة السابقة.
ولا تجبر امرأة مفلسة على نكاح، ولو رُغب فيها بما تُوفي به دينها، لأنه يترتب عليها بالنكاح ما قد تعجز عنه.
(ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه) الحال (أو هو مؤخل) فـ (تحرم مطالبته) به (وحبسه، وكذا ملازمته) وتجب تخليته، رضي غريمه أو لا، لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) وفي إنظار المعسر فضل عظيم، لحديث بريدة مرفوعًا:"من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل، فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة"(2) رواه أحمد بإسناد جيد.
وإن ادعى مدين العسرة، ولم يصدقه رب الدين، ودينه عن عوض، كثمن أو قرض، أو عرف له مال سابق، والغالب بقاؤه؛ حبس، أو كان دينه من غير عوض مالي، كعوض خلع، وصداق، وضمان، وكان قد أقر أنه مليء؛ حبس، لأن الأصل بتاء المال، ومؤاخذة له بإقراره، إلا أن يتيم بيّنة بإعساره، ويعتبر فيها أن تَخْبُرَ باطن حاله، لأن الإعسار من الأمور الباطنة التي لا يطلع عليها غالبًا إلا المخالط له، ولا يحلف مع البينة، لما فيه من تكذيبها، أو يدَّعي تلفًا لماله، ويقيم بينة به، ويحلف معها إن أصلب رب الحق يمينه، لأن اليمين على أمؤ محتمل، غير ما شهدت به البينة.
(1) سورة البقرة، الآية:280.
(2)
أحمد في "المسند"(5/ 360). وصححه الحاكم في "المستدرك"(2/ 29) وأقره الذهبي. بل قال في "المهذب" -كما في "فيض القدير"(6/ 90): إسناده صالح. وقال الهيثمي في "المجمع"(4/ 135): رجاله رجال الصحيح. اهـ. وقال الألباني في "الصحيحة"(1/ 170): إسناده صحيح، رحاله ثقات بهم في "صحيح مسلم". اهـ
وقد أخرجه ابن ماجه في "السنن" كتاب الصدقات، باب إنظار المعسر (3/ 808) لكن ضعف إسناده في "الزوائد". وقال الدميري -كما في "فيض القدير" (6/ 90): انفرد به ابن ماجه بسند ضعيف. اهـ وفيه -أيضًا- أن العراقي ضعف إسناده. اهـ
ويحرم إنكار معسر وحلفه أن لا حق عليه، ولو تأول، نصًّا (1)، لظلمه رب الدين فلا ينفعه التأويل (ولا يحل) دين (مؤجل بفلس) نصًّا (2)، فلا يشارك ربه ذوي الديون الحالة، لأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط بفلسه، كسائر حقوقه، ولا يوقف له من مال المفلس، ولا يرجع على الغرماء بشيء إذا حل دينه، لعدم ملكه المطالبة به حين القسمة، ويشارك من حل دينه قبل القسمة في الكل، وفي أثناء القسمة فيما بقي منها.
ولا يحل دين مؤجل بجنون (ولا بموت) لحديث "من ترك حقًّا أو مالًا فلورثته"(3)، والأجل حق للميت، فينتقل إلى ورثته، ومحل ذلك (إن وثق الورثة برهن محُرز، أو كفيل مليء) على الأقل من قيمة الدين أو التركة، فإن لم يوثق بذلك حل، لأن الورثة قد لا يكونوا أملياء، ولم يرض بهم الغريم، فيؤدي إلى فوات الحق (وإن ظهر غريم) دينه حال (بعد القسمة) أي قسمة مال المفلس (رجع على الغرماء بقسطه) كما تقدم.
(1)"شرح منتهى الإرادات"(2/ 277).
(2)
"شرح منتهى الإرادات"(2/ 285).
(3)
أخرجه البخاري، في الكفالة، باب الدين، وفي الاستقراض باب الصلاة على من ترك دينًا (3/ 59، 85) وفي مواضع أخرى، ومسلم في الفرائض (3/ 127، 1238) عن أبي هريرة بلفظ: "من ترك مالًا فلورثته".