الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الوديعة
من وَدَعَ الشيء إذا تركه، لتركها عند المودَع (1)، وأجمعوا على جواز الإيداع (2)، لقوله تعالى:{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (3)، وحديث أبي هريرة مرفوعًا "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"(4) رواه أبو داود وغيره، ولحاجة الناس إليها.
والوديعة شرعًا: المال المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض (5)، ويعتبر لها أركانُ وكالة، من كون كل منهما جائز التصرف، وتعيين وديع ونحوه، وتبطل بما يبطلها، إلا إذا عزله ولم يعلم، وإن عزل نفسه فهي أمانة بيده، كثوب أطارته الريح إلى داره، يجب رده إلى مالكه.
(ويسن قبول وديعة لمن يعلم من نفسه الأمانة) أي أنه ثقة قادر على حفظها، لقوله صلى الله عليه وسلم:"واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"(6)، قال في "المبدع" (7): ويكره لغيره إلا برضى ربها، قال في "شرح الإقناع" (8):
(1)"القاموس"(ص 994) و"الزاهر"(ص 380).
(2)
"الشرح الكبير"(16/ 5).
(3)
سورة البقرة، الآية:283.
(4)
أبو داود، في البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (3/ 805)، والترمذي، في البيوع، (3/ 555).
قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم في "المستدرك" (2/ 46): صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(5)
"الإقناع"(3/ 5) و"التنقيح المشبع"(ص 177) و"كشاف القناع"(4/ 166). .
(6)
أخرجه مسلم، في الذكر، (4/ 2074) من حديث أبي هريرة.
(7)
المبدع (5/ 233).
(8)
(4/ 167).
قلت: ولعل المراد بعد إعلامه بذلك إن كان لا يعلمه لا يغره.
وهي عقد جائز من الطرفين، فإن أذن ربها للمدفوع إليه في التصرف ففعل صارت عارية مضمونة كالرهن إذا أذن ربه للمرتهن في استعماله.
(ويلزم) الوديع (حفظها) أي الوديعة (في حرز مثلها) عرفًا، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1)، ولا يمكن أداؤها بدون حفظها (وإن عينه) أي الحرز (ربها) أي: الوديعة، بأن قال احفظها بهذا البيت. (فأحرز) ها (بدونه) أي دون المعهين رتبة، ضمن، لمخالفته، وإن أحرزها بمثله، أو فوقه، كما لو أودعه خاتمًا، وقال: البسه في خنصرك فلبسه في بنصره (2)، ولو لغير حاجة، فلا يضمن الوديعة إن تلفت، لأن تعيين الحرز يقتضي الإذن في مثله، وإن نهاه عن إخراجها، فأخرجها، لغشيان شيء الغالب منه الهلاك، كحريق، ونهب، فتلفت، لم يضمن، وإن تركها إذن، فتلفت، ضمن لتفريطه، ويحرم، أو قال: لا تخرجها، فإن أخرجها لغير خوف، فتلفت، ضمن، وإن خفت عليها، فحصل خوف، وأخرجها، أو لا، فتلفت، لم يضمنها (أو تعدى) وديع (أو فرط) أي قصر في حفظها، ضمنها، لأن المتعدي متلف لمال غيره، فيضمنه، كما لو أتلفه من غير إيداع، والمفرط متسبب بترك ما وجب عليه من حفظها.
(أو قطع) وديع (علف دابة عنها) أو سقيها (بغير قول) من مالك: لا تعللها، أو لا تسقها، حتى ماتت (ضمنـ) ـها، لأن عللها وسقيها من تمام الحفظ الذي استلزمه بالاستيداع، ولا يضمن إن نهاه مالك عن علفها، وسقيها، فتركه، حتى ماتت، كما لو أمره بقتلها فقتلها، ويحرم ترك علفها، وسقيها مطلقًا، لحرمتها في نفسها، فيجب إحياؤها، لحق اللَّه تعالى.
(1) سورة النساء، الآية:58.
(2)
الخنصر: الإصبع الصغرى وقد يطلق على الوسطى.
والبنصر: الإصبع التي بين الوسطى والخِنْصر. "تاج العروس"(10/ 252)(11/ 229).
وإن دفع الوديعة مستودع إلى من يحفظ ماله عادة، كزوجته، وعبده، وخازنه، فتلفت، لم يضمن، لأنه مأذون فيه عادة، أشبه ما لو سلم الماشية إلى الراعي، أو دفعها لعذر كمن حضره الموت، أو أراد سفرًا إلى أجنبي ثقة، أو إلى حاكم، فتلفت، لم يضمن، وإلا يكن له عذر، ضمن لتعديه، لأنه ليس له أن يودع بلا عذر، ولمالك مطالبة الأجنبي -أيضًا- ببدل الوديعة، لأنه قبض ما ليس له قبضه، أشبه المودع من الغاصب، وعليه قرار الضمان، إن علم الحال، لتعديه، فإن لم يعلم فعلى وديع أول، لأنه غرّه.
ومن أراد سفرًا، أو خاف على الوديعة عنده ردها إلى مالكها، أو إلى من يحفظ ماله عادة، أو إلى وكيله في قبضها، إن كان، لأن فيه تخلصًا له من دركها، وإيصالًا للحق إلى مستحقه، فإن لم يجده، ولا وكيله، حملها معه إن كان أحفظ لها، ولم ينهه مالكها عنه، لأنه موضع حاجة، فإن تلفت لم يضمن.
(ويقبل قول مودعَ في ردها) أي الوديعة (إلى ربها) أو إلى من يحفظ ماله بيمينه، لأنه لا منفعة له في قبضها، أشبه الوكيل بلا جعل (أو) ردها إلى (غيره بإذنه) أي: ويقبل قول مودع في رد الوديعة إلى غير ربها بإذنه، بيمينه، نصًّا (1)، لأنه ادعى دفعًا يبرأ به من رد الوديعة، أشبه ما لو ادعى الرد إلى مالكها، ولا يلزم المدعى عليه للمالك غير اليمين، ما لم يقر بالقبض، و (لا) يقبل قول مودع في ردها إلى (وارثه) أي المالك إلا ببينة، لأنهم لم يأتمنوه، وإن ادعى ردًّا بعد مطله بلا عذر، أو بعد منعه منها، لم يقبل إلا ببينة، لأنه صار ضامنًا، كالغاصب، أو ادعى ورثة مودعَ ردًّا منهم، أو من مورثهم، ولو لمالك، لم يقبل ذلك إلا ببينة، لأنهم غير مؤتمين عليها من قبل مالكها، وكذا لو ادعى ملتقط، أو من أطارت الريح إلى داره ثوبًا ونحوه، فلا يقبل إلا ببينة.
(1)"معونة أولي النهى"(5/ 508).
(و) يقبل قول مودع (في تلفها) أي الوديعة، بسبب خفي، كسرقة، لتعذر إقامة البينة عليه، ولئلا يمتنع الناس من قبول الأمانات مع الحاجة إليه، وكذا إن لم يذكر سببًا، ولا يقبل دعواه التلف بسبب ظاهر، كحريق، ونهب، إلا ببينة تشهد بوجوده، ثم يحلف أنها ضاعت به، ويصدق بيمينه في عدم خيانة (و) في (عدم تفريط وتعدٍّ) فيها، لأنه أمين، والأصل براءته (وفي الإذن) في دفعها إلى غير ربها، كما تقدم (1). وفيه تكرار.
(وإن أودع اثنان) واحدًا (مكيلًا أو موزونًا يُقْسَمُ) إجبارًا (فطلب أحدهما نصيبه لغيبة شريك أو) مع حضوره، و (امتناعه) من أخذ نصيبه، أو من الإذن لشريكه في أخذ نصيبه (سلم إليه) أي الطالب، نصيبه وجوبًا، لأنه حق مشترك يمكن فيه تمييز نصيب أحد الشريكين من نصيب الآخر، بغير غبن ولا ضرر، أشبه ما لو كان متميزًا، فإن كان المشترك غير مكيل وموزون، أو كان كذلك، لكن لا ينقسم لصناعة فيه، كآنية نحاس، ونحوها، وحلي مباح، أو مختلف الأجزاء ونحوه، لم يسلم إليه، إلا بإذن شريكه، أو حاكم، لأن قسمته لا يؤمن عليها الحيف، لافتقارها إلى التقويم، وهو ظن وتخمين (ولمودَع ومضارب ومرتهن ومستأجر) قال الشيخ منصور رحمه الله: قلت ومثلهم العدل بيده الرهن، والأجير على حفظ عين والوكيل فيه، والمستعير، والمجاعل على عملها (2)، انتهى (إن غصبت العين) المودعة، وما عطف عليها (المطالبة بها) من غاصبها، لأنها من جملة حفظها المأمور به، ولا يضمن مودع أكره على دفع الوديعة إلى غير ربها، كما لو أخذها منه قهرًا، لأن الإكراه عذر يبيح له دفعها، فإن طلب يمينه أن لا وديعة لفلان عنده، ولم يجد بدًّا من الحلف، لتغلب الصالب عليه بسلطنة، أو تلصص، ولا يمكنه الخلاص منه إلا بالحلف، حلف متأولًا، ولم يحنث،
(1) في الصفحة السابقة.
(2)
"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 458).
فإن لم يحلف حتى أخذت منه، ضمنها، لتفريطه بترك الحلف، ويأثم إن حلف ولم يتأول لكذبه، وإثم حلفه بدون تأويل دون إثمه بإقراره بها، لأن حفظ مال الغير عن الضياع آكد من بر اليمين، ويكفِّر كفارة يمين وجوبًا، إن حلف ولم يتأوَّل، وإن أكره على اليمين بالطلاق، فقال أبو الخطاب: لا تنعقد، كما لو أكره على إيقاع الطلاق (1).
ومن مات وعنده وديعة، وجهلت في ماله، فربها يكون غريمًا بها، كسائر الديون.
(1) نقله في "الإنصاف"(16/ 71).