الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الغصب
مصدر غصب يغصب، ويقال: اغتصبه يغتصبه اغتصابًا، والشيء مغصوب وغصب، وهو لغة: أخذ الشيء ظلمًا (1). وشرعًا: استيلاء غير حربي على حق غيره، قهرًا، بغير حق (2)، ومنه المأخوذ مُكسًا (3)، ونحوه.
(والغصب) محرم إجماعًا بالكتاب والسنة (4). وهو (كبيرة) والكبيرة: ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة (5). قال صلى الله عليه وسلم:"من ظلم شبرًا من أرض طوَّقه اللَّه يوم القيامة من سبع أرضين"(6) متفق على معناه، وفي لفظ:"من غصب شبرًا من الأرض"(7)(فمن غصب كلبًا يُقتنى) ككلب صيد (أو خمر ذمي محترمة) أي مستورة لزمه (ردهما) لأنهما غير ممنوع من إمساكهما، وكذا لو غصب دهنًا متنجسًا، لأنه يجوز الاستصباح به في غير مسجد، أو خمر خلّال.
(1) ينظر: "القاموس"(ص 154) و"المطلع"(ص 274) و"المصباح المنير"(2/ 613) و"التوقيف على مهمات التعاريف"(ص 538).
(2)
"المقنع"(15/ 111) و"الروض المربع"(5/ 375، 376).
(3)
"المَكْسُ: الجباية. وقد غلب استعمال المكس فيما يأخذه أعوان السلطان ظلمًا عند البيع والشراء. "المصباح المنير" (2/ 793).
(4)
"الشرح الكبير"(15/ 111).
(5)
ينظر: "الزواجر"(1/ 5) و"تنبيه الغافلين"(ص 119).
(6)
أخرج البخاري، في المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، وفي بدء الخلق باب ما جاء في سبع أرضين (3/ 100، 4/ 73 - 74) من حديث سعيد بن زيد، وعائشة، وابن عمر رضي الله عنهم. وأخرج مسلم في المساقاة من حديث سعيد بن زيد، وأبي هريرة، وعائشة.
(7)
أخرج الطبراني في الكبير (22/ 18) عن وائل بن حجر بلفظ: من "غصب أرضًا ظلمًا لقي اللَّه وهو عليه غضبان".
وإن تخلل خمر في يد غاصب، لزمه رده، فإن تلف ضمنه، و (لا) يلزمه رد (جلد ميتة) غصب، لأنه لا يطهر بدبغ، فلا سبيل إلى إصلاحه.
(وإتلاف الثلاثة) أي الكلب المقتنى، وخمر الذمي، وجلد الميتة (هدر) لأنه ليس لها عوض شرعي، لأنه لا يجوز بيعها، كخنزير، وكخمر غير مستورة، ولو لذمي، وتجب إراقة خمر المسلم غير الخلّال، لأنه لا يقر على اقتنائه.
(وإن استولى) إنسان (على حر مسلم) كبيرًا كان أو صغيرًا، بأن حبسه، ولم يمنعه الطعام والشراب فمات عنده (لم يضمنه) لأنه ليس بمال (بل) يضمن (ثياب) حر (صغير وحليَّه) ولو لم ينزعهما عنه، وعلى من أبعده عن بيت أهله رده إليه، وعليه مؤنته.
ولا يضمن دابة غصبت وعليها مالكها الكبير ومتاعه، لأنها في يد مالكها (وإن استعمله) أي الحر (كرهًا) في خدمة أو غيرها (أو حبسه) مدة لها أجرة (فعليه أجرته) مدة حبسه، لأنه فوت منفعته زمن الحبس، وهي مال يجوز أخذ العوض عنه (كـ) منافع الـ (قن) لا إنْ منع شخصًا العمل من غير حبس، فلا أجرة، لأنه في يد نفسه.
(ويلزمه) أي الغاصب (رد مغصوب بزيادته) متصلة كانت أو منفصلة، إلى محله إن قدر عليه، ولو كان رده بأضعاف قيمته، لحديث:"على اليد ما أخذت حتى ترده"(1). رواه أبو داود وغيره.
وإن قال رب مغصوب مبعد، لغاصب أبعده: دعه بالبلد الذي هو بها، وأعطني أجرة رده إلى بلد غصبه، في يلزم الغاصب إجابته إلى ذلك، لأنها معاوضة، وإن أراد مالك من غاصب رده إلى بعض الطريق فقط، لزمه، لأنه يلزمه إلى جميع المسافة، فلزمه إلى بعضها، وكذا إن طلب إبقاءه بمحله، ويجوز ما اتفقا عليه من ذلك.
(1) تقدم تخريجه ص 821.
(وإن نقص) مغصوب عند غاصب (لغير تغير سعر، فعليه أرشه) فيقوَّم صحيحًا وناقصًا، ويغرم الغاصب ما بينهما، لأنه ضمان مال من غير جناية، فكان الواجب ما نقص. وإن نقص مغصوب بتغير السعر، بأن نزل السعر لذهاب نحو موسم، لم يضمن الغاصب ما نزل السعر، وإن سمر غاصب بالمسامير بابًا، أو غيره، قلعها وجوبًا، وردها لربها، للخبر (1)، ولا أثر لضرره لأنه بتعديه.
وإن زرع الغاصب الأرض، فليس لربها بعد حصد الزرع إلا أجرة المثل، من وضع يده على الأرض إلى ردها، ويخير قبل حصاد بين تركه إليه بأجرته، أو تملكه بنفقته، وهي مثل البذر، وعوض لواحقه من حرث وسقي ونحوهما، لحديث رافع بن خديج مرفوعًا:"من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته"(2). رواه أبو داود والترمذي وحسنه، قال أحمد: إنما أذهب إلى هذا الحكم استحسانًا على خلاف القياس (3).
ولا يجبر غاصب على قلع زرعه، لأنه أمكن رد المغصوب إلى مالكه بلا إتلاف مال الغاصب على قرب من الزمان، فلم يجز إتلافه، كسفينة غصبها وحمل فيها متاعه وأدخلها الُّلجَّة، بخلاف الشجر، لأن مدته تطول، ولا يعلم انتهاؤها، وحديث:"ليس لعرق ظالم حق"(4) وَرَدَ في الغرس،
(1) أي: الخبر السابق.
(2)
أبو داود، في البيوع، باب في زرع الأرض بغير إذن صاحبها (3/ 693)، والترمذي، في الأحكام، باب فيمن زرع في أرضر قوم بغير إذنهم (3/ 639)، وأخرجه -أيضًا- ابن ماجه، في الرهون، باب من زرع في أرض قوم بغير إذنهم (2/ 824)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. . . وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن. اهـ
(3)
"الشرح الكبير"(15/ 138).
(4)
الترمذي، الأحكام، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات (3/ 633) وقال: حسن =
وحديث رافع في الزرع (1)، فعَمَلُ كل منهما في موضعه، أولى من إبطال أحدهما.
(وإن بنى) غاصب أرضًا فيها (أو غرس) فيها (لزمه قلع) بنائه وغرسه، لحديث:"ليس لعرقٍ ظالمٍ حق"(2) رواه الترمذي وحسنه (و) لزمه (أرش نقص، وتسوية) حفر (أرض) لحصوله بتعديه (و) لزمه (الأجرة) إلى تسليمها، لتلف منافعها تحت يده العادية، وكذا لو لم يتفع بها لزمه أجرتها، وأرش نقصها إن نقصت بترك زرعها ذلك العام، كأراضي البصرة، كما لو نقصت بغيره، حتى ولو كان الغاصب أحد الشريكين، أو لم يغصبها، لكن فعله بغير إذن شريكه، للتعدي.
ولا يملك رب أرض أَخْذَ غَرس أو بناء بقيمته، لأنه عين مال الغاصب، أشبه ما لو وضع فيها أثاثًا أو نحوه، ولأنه معاوضة، فلا يجبر عليها المالك، وإن وهبه لمالكها، لم يجبر على قبوله، لأن فيه إجبارًا على عقد يعتبر فيه الرضى، ورطبة ونحوها مما يتكرر حمله، كقثاء كزرع، فلربها إذا أدركه قائمًا أن يتملكه بنفقته، أو يتركه بأجرته، لأنه ليس له عرق قوي أشبه الزرع، وإن أثمر ما غرسه غاصب في مغصوبة فالثمر له.
ومتى كانت آلات البناء من مغصوب، بأن ضرب من ترابه لبنًا، وبنى به بيتًا فيها، فعليه أجرتها مبنية، لأن الأرض والبناء ملك المغصوب منه، ولا يملك غاصب هدمها، لأنه لا ملك له فيه، ولم يأذن له ربه فيه، فإن نقضه فعليه أرش نقضه.
ومن غصب أرضًا وغراسًا منقولًا من واحد، فغرسه فيها، لم يملك قلعه، لأن مالكهما واحد، ولا يتصرف غيره في ملكه بلا إذنه، وعليه إن
= غريب. اهـ ينظر: "التلخيص الحبير"(3/ 61).
(1)
تقدم في الصفحة السابقة.
(2)
تقدم في الصفحة السابقة.
فعل تسويتها، وأرش نقص، لتعديه به، أو طَلَبَ القلعَ ربهما لغرض صحيح، بأن كان لا ينتج مثله في تلك الأرض مثلًا، فعليه تسويتها، وأرش نقصها، وأرش نقص غراس، لتعديه به، فإن لم يكن لمالك غرض صحيح في قلعه، لم يجبر عليه غاصب، لأنه سفه.
وإن غصب أرضًا من واحد، وغرسًا من آخر، فغرسه فيها، فكما لو حمل السيل غراسًا إلى أرض آخر، فلرب الأرض أخذه بقيمته، أو قلعه مع ضمان نقصه، وكذا لو غصب أرضًا من واحد، وحبًّا من آخر، وزرعه فيها.
وإن غصب خشبًا، فرقع به سفينة، قُلِعَ إن كانت في الساحل، أو في لجة البحر لا يخاف عليها من قلعه، لكونه في أعلاها، ودفع إلى ربه بلا إمهال، لوجوبه فورًا، ويمهل مع خوف على سفينة بقلعه بأن يكون في محل يخاف من قلعه دخول الماء إليها، وهي في اللجة حتى ترسي، لئلا يؤدي قلعه إلى إفساد ما في السفينة من المال، مع إمكان رده بدونه في زمن يسير، فإن تعذر الإرساء لبعد البر، فلمالك خشب مغصوب أخذ قيمته، للضرر برد عينه إذن، ومتى رست، واسترجعه، رد القيمة، وعلى الغاصب أجرة الخشب إلى أخذ قيمته إن أخذها، وإلا فإلى رده، وعليه أرش نقصه.
وإن غصب ما خاط به جرحَ محترم من آدمي أو غيره، وخيف ضرر آدمي، أو تلف غيره، فقيمته لمالكه، لتأكد حرمة الآدمي، ولهذا جاز له أخذ مال غيره لحفظ حياته.
وحرمة الحيوان آكد من بقية الأموال، ولو ابتلعت شاةَ شخصٍ جوهرة آخر، ولا تخرج إلا بذبحها، وهو أقل ضررًا: ذبحت، وعلى رب الجوهرة ما نقص بالذبح، إن لم يفرط رب الشاة بكون يده عليها، وإن حصل رأسها بإناء، ولم يخرج إلا بذبحها، أو كسره، ولم يفرطا، كسر الإناء، وعلى مالكها أرشه، ومع تفريط رب الشاة، تذبح بلا ضمان، ومع
تفريط رب الإناء، يكسر بلا أرش، ويتعين في غير مأكولة اللحم كسر الإناء، وعلى ربها أرشه إن فرط.
(ولو غصب) إنسان ما -أي شيئًا- (اتجر) به، كدنانير ودراهم (أو) غصب ما (صاد) به من جارح، أو شبكة، أو شَرَك (أو) غصب ما (حصد به) أو قطع به من منجل، أو فأس (فمهما حصل بذلك) من ربح تجارة، أو صيد جارح، ونحوه، أو ما حصل بمنجل، أو قطع بفأس من حشيش، أو خشب (فلمالكه) أي مالك المغصوب لكن الصحيح أن ما حصد بمنجل، أو قطع بفأس، فهو لغاصب. قال في "شرح المنتهى": ولو غصب منجلًا أو فأسًا، شقطع به حشيشًا أو خشبًا، فلغاصب، لحصول الفعل منه، كما لو غصب سيفًا، فقاتل به وغنم. وفي "التلخيص": إن غصب كلبًا، وصاد به، فهو للغاصب. انتهى (1).
(وإن خلطه) أي المغصوب غاصب (بما لا يتميز) كزيت بزيت، ونقد بنقد من جنسه، على وجه لا يتميز منه، لزمه مثله، كيلًا، أو وزنًا من المختلط، لأنه قدر على رد بعض ماله إليه، مع رد المثل في الباقي، فلم ينقل إلى بدله في الجميع، كمن غصب صاعًا فتلف بعضه، وإن خلط بدونه، أو بجزء منه من جنسه، أو خلطه بغير جنسه على وجه لا يتميز، كزيت بشيرج، ودقيق حنطة بدقيق شعير، ونحوه (أو صبغ الثوب) ولم تنقص قيمة أحدهما (فهما شريكان بقدر ملكيهما) لاجتماع ملكيهما، وهو يقتضي الاشتراك.
(1)"شرح منتهى الإرادات"(2/ 456).
الصحيح من المذهب: أنه لمالكه. وقيل: هو للغاصب وعليه الأجرة. وهو احتمال "المغني" قال الحارثي: وهو قوي. وجزم به في "التلخيص" في صيد الكلب. وقال ابن تيمية: يتوجه فيما إذا غصب فرسًا، وكسب عليه مالًا، وأن يجعل الكسب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما، بأن تقوَّم منفعة الراكب ومنفعة الفرس، ثم يقسم الصيد بينهما. اهـ من "الإنصاف"(15/ 164).
وإن زادت قيمة أحدهما، كأن كانت قيمة الثوب عشرة والصبغ خمسة، وصار مصبوغًا يساوي عشرين بسبب غلو الثوب، أو الصبغ، فالزيادة لصاحب الذي علا سعره، لأنها تبع لأصلها (وإن نقصت القيمة) بسبب الخلط، أو الصبغ (ضمن) غاصب النقص، لتعديه بذلك.