المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في الوقف - الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات - جـ ٢

[عثمان ابن جامع]

الفصل: ‌فصل في الوقف

‌فصل في الوقف

وهو مصدر وقف الشيء إذا حبسه، وأحبسه وأوقفه لغة شاذة (1)، قال الشافعي-رحمه اللَّه تعالى-: لم تحبس أهل الجاهلية وإنما حبس أهل الإسلام (2).

(والوقف سنة) وهو من القرب المندوب إليها؛ لحديث ابن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فقال: يا رسول اللَّه إني أصبت مالًا بخيبر (3) لم أصب قط مالًا أنفس عندي منه، فما تأمرني فيه؟ قال:"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا توهب، ولا تورث". قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى والرقاب وفي سبيل اللَّه وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه"، وفي لفظ: "غير متأثل" (4) متفق عليه، ولحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (5)، قال الترمذي: حسن

(1)"المصباح المنير"(ص 922) و"المطلع"(ص 280).

(2)

ينظر: "الأم"(4/ 60).

(3)

خيبر مدينة على بعد ثمانية برد من المدينة المنورة. معروفة. ينظر: "الروض المعطار"(ص 228).

(4)

البخاري في الوكالة باب الوكالة في الوقف ونفاقته (3/ 65) وفي الشروط باب الشروط في الوقف، وفي الوصايا باب الوقف كيف يكتب (3/ 185، 196)، ومسلم في الوصية باب الوقف (3/ 1255، 1256). وقوله: "متأثل" أي: جامع. ينظر: "تهذيب اللغة"(15/ 131).

(5)

أخرجه مسلم في الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (3/ 1255)، والترمذي في الأحكام باب في الوقف (3/ 660) حديث 1376، وأبو داود في الوصايا باب =

ص: 880

صحيح. وقال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذا مقدرة إلا وقف (1).

وهو شرعًا: تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرفه وغيره في رقبته بشيء من التصرفات يصرف ريعه إلى جهة بر تقربًا إلى اللَّه تعالى، قال في "شرح المنتهى" "كالإقناع" (2): وهذا الحد لصاحب "المطلع"(3)، وتبعه المنقح عليه (4)، وتابعهما المصنف (5)، واستظهر في "شرحه" (6) أن قوله: تقربًا إلى اللَّه تعالى إنما هو في وقف يترتب عليه الثواب، فإن الإنسان قد يقف على غيره توددًا أو على ولده خشية بيعه بعد موته وإتلاف ثمنه، أو خشية أن يحجر عليه ويباع في دَيْنِهِ، أو رياء ونحوه، وهو وقف لازم لا ثواب فيه، لأنه لم يبتغ به وجه اللَّه تعالى. انتهى.

(ويصح) الوقف (بقول) ويأتي صريحه وكنايته (و) يصح الوقف أيضًا بـ (فعل) مع (دال عليه) أي الوقف (عرفًا) كالقول، لاشتراكهما في الدلالة عليه، وذلك (كمن بنى أرضه مسجدًا) أي على هيئة مسجد (أو) جعل أرضه (مقبرة وأذنَ للناس أن يصلوا فيه) أي المسجد إذنًا عامًّا، لأن الإذن

= ما جاء في الصدقة عن الميت (3/ 300) حديث 2880، والنسائي في الوصايا، باب فضل الصدقة (6/ 251) وأحمد (2/ 372) عن أبي هريرة.

(1)

لم أجد من خرجه بهذا السياق: هو في المغني (2/ 597، 598).

(2)

"شرح المنتهى"(2/ 490) و"كشاف القناع"(4/ 241) و"الإقناع"(3/ 63).

(3)

(ص 285).

(4)

"التنقيح المشبع"(ص 185).

(5)

أي مصنف: منتهى الإرادات. وهو الفتوحي. ينظر: "منتهى الإرادات"(3/ 330 مع حاشية النجدي).

(6)

"معونة أولي النهى"(9/ 738).

ص: 881

الخاص قد يقع على غير الموقوف فلا يفيد دلالة الوقف (و) أذن للناس أن (يدفنوا فيها) أي المقبرة إذنًا عامًا لما تقدم، أو يبني بيتًا لقضاء حاجة الإنسان والتطهير ويشرعه (1) لهم، أو يملأ خابية (2) أو نحوها ماء في المسجد أو على الطريق.

ولو جعل سفل بيته مسجدًا وانتفع بعلوه أو عكسه أو وسطه ولو لم يذكر استطراقًا صح، ويستطرق كما لو باع أو أجر بيتًا من داره ولم يذكر له استطراقًا، فإنه يصح البيع والإجارة ويستطرق إليه على العادة، (وصريحه) أي القول (وقفت وحبّست وسبّلت) ويكفي أحدها (وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت) لعدم خلوص كل منها عن الاشتراك، فالصدقة تستعمل في الزكاة وهي ظاهرة في صدقة التطوع، والتحريم صريح في الظهار، والتأبيد يستعمل في كل ما يراد تأبيده من وقف وغيره، ولا يصح الوقف بها إلا بنية فمن أتى بكناية واعترف أنه نوى بها الوقف لزمه حكمًا، لأنها بالنية صارت ظاهرة فيه. وإن قال: ما أردت الوقف قبل قوله، لأن نيته لا يطلع عليها غيره، أو قرنها بأحد الألفاظ الخمسة وهي الصرائح الثلاث والكنايتان كقوله: تصدقت صدقة موقوفة أو محرمة ونحو ذلك، أو يقرن الكناية بحكم الوقف كقوله: تصدقت به صدقة لا تباع، أو صدقة لا توهب أو لا تورث، أو على قبيلة أو طائفة كذا، لأن ذلك كله لا يستعمل في غير الوقف فانتفت الشركة، وكذا تصدقت بأرضي أو داري على زيد والنظر لي أيام حياتي، ثم من بعد زيد على عمرو ونحو ذلك.

(1) أي يفتح بابه إلى الطريق. اهـ من "شرح المنتهى"(2/ 490) قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة"(3/ 262): الشين والراء والعين أصل واحد، وهو: شيء يفتح في امتداد يكون فيه. اهـ

(2)

هي: وعاء الماءالذي يحفظ فيه.

ص: 882

(وشروطه) أي الوقف (خمسة):

أحدها: (كونه في عين معلومة يصح بيعها) بخلاف نحو أم ولد (غير مصحف) فيصح وقفه وإن لم يصح بيعه كما تقدم (1)(وينتفع بها) دائمًا (مع بقائها) عرفًا كإجارة واستغلال ثمرة ونحو ذلك، لأن الوقف يراد للدوام ليكون صدقة جارية ولا يوجد ذلك فيما لا تبقى عينه، عقارًا كان الموقوف كأرض أو شجر أو منقولًا كالحيوان والأثاث والسلاح والمصحف وكتب العلم ونحو ذلك.

ويصح وقف المشاع؛ لحديث ابن عمر: أن عمر قال: المائة سهم التي بخيبر لم أصب مالًا قط أعجب إلي منها، فأردت أن أتصدق بها فقال صلى الله عليه وسلم: احبس أصلها وسبِّل ثمرتها (2). رواه النسائي وابن ماجه.

ويعتبر أن يقول: كذا سهمًا من كذا سهمًا (3) قاله أحمد (4). ويصح وقف الحلي للبس وعارية، ولو أطلق وقفه لم يصح، ولا يصح الوقف في الذمة كوقفت عبدًا أو دارًا، ولا وقف مبهم كأحد هذين العبدين، ولا يصح وقف مطعوم ومشروب غير الماء، ولا وقف شمع ورياحين لما تقدم، ولو تصدق بدهن على مسجد ليوقد فيه جاز وهو من باب الوقف قاله الشيخ (5).

(و) الشرط الثاني: (كونه) أي الوقف (على برٍّ) مسلمًا كان الواقف أو

(1)(ص 658).

(2)

النسائي، كتاب الأحباس، باب حبس المشاع (6/ 232) وابن ماجه، كتاب الصدقات، باب من وقف (2/ 801).

(3)

كذا في الأصل، و"شرح المنتهى" (2/ 490) و"الفروع" (4/ 582). وقوله:"سهمًا" الأخيرة على التمييز كعشرين سهمًا.

(4)

ينظر: "الفروع"(4/ 582).

(5)

في "الاختيارات"(ص 247).

ص: 883

ذميًا، نصًّا (1)، كالوقف على المساكين والمساجد والقناطر والأقارب؛ لأنه شُرع لتحصيل الثواب، فإذا لم يكن على بر لم يحصل مقصوده الذي شرع لأجله، فلا يصح على طائفة الأغنياء، ولا على طائفة أهل الذمة ولا على صنف منهم (ويصح من مسلم على ذمي) معين، لما روي أن صفية بنت حيي رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم وقفت على أخ لها يهودي (2). ولأنه موضع للقربة لجواز الصدقة عليه (وعكسه) أي يصح مات ذمي على مسلم معين أو طائفة كالفقراء والمساكين.

(و) الشرط الثالث: (كونه) أي الوقف (في غير مسجد) معين (ونحوه) كمدرسة ورباط معينين (على معين) من جهة أو شخص (يملك) ملكًا ثابتًا كزيد أو مسجد كذا؛ لأن الوقف تمليك فلا يصح على غير معين كعلى رجل أو مبهم كأحد هذين الرجلين أو المسجدين، ولا على ما لا يملك كقن وأم ولد ومَلَك -بفتح اللام- وبهيمة، وأما الوقف على المساجد ونحوها فعلى المسلمين إلا أنه عين في نفع خاص لهم.

ولا يصح الوقف على حمل أصالة كعلى من سيولد لي أو لفلان، بل تبعًا كعلى أولادي ثم أولادهم أو على أولاد فلان ثم أولادهم وفيهم حمل فيستحق بوضع.

وكل حمل من أهل وقف من ثمر وزرع ما يستحقه مشتر، وكذا من قدم إلى مكان موقوف عليه فيه أو خرج منه إلى مثله، إلا أن يشترط لكل

(1) ينظر: "الفروع"(4/ 586).

(2)

لم أجده بلفظ الوقف، وأخرج عبد الرزاق (6/ 33) عن ابن عمر أن صفية أوصت لابن أخ لها يهودي، ورواه في موضع آخر (10/ 353، 354) أنها أوصت لنسيب لها نصراني، وفي لفظ له وللدارمي (2/ 427) لنسيب لها يهودي.

وروى عبد الرزاق أيضًا (6/ 33) عن عكرمة قال: باعت صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم دارًا لها من معاوية بمائة ألف، فقالت لذي قرابة لها من اليهود: أسلم فإنك إن أسلمت ورثتني، فأبى، فأوصت له، قال بعضهم بثلاثين ألفًا. ورواه أيضًا بنحوه البيهقي (6/ 281).

ص: 884

زمن قدر معين فيكون له بقسطه، وقياسه من نزل في مدرسة ونحوها.

وقال ابن عبدا القوي (1): ولقائل أن يقول: ليس كذلك؛ لأن واقف المدرسة ونحوها جعل ريع الوقف في السنة كالجعل على اشتغال من هو في المدرسة عامًا، فينبغي أن يستحق بقدر عمله من السنة من ريع الوقف في السنة، لئلا يفضي إلى أن يحفر الإنسان شهرًا فيأخذ جميع الوقف ويحضره غيره باقي السنة بعد ظهور الثمرة فلا يستحق شيئًا، وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها، انتهى (2). وكذا قال الشيخ تقي الدين: يستحق بحصته من مغله ومن جعله كالولد فقد أخطأ (3)، انتهى. أو يملك لا ثابتًا كمكاتب؛ فلا يصح الوقف عليه، لأن ملكه غير مستقر، ويصح وقفه فإن أدى عتق وبطل الوقف.

(و) الشرط الرابع: (كون واقف نافذ التصرف) وهو المكلف الرشيد، فلا يصح من صغير أو سفيه كسائر تصرفاته.

(و) الشرط الخامس: (وقفه ناجزًا) أي غير معلق ولا مؤقت ولا مشروط فيه خيار إلا إن علق بموت كقول واقف: هو وقف بعد موتي، فيصح لأنه تبرع مشروط بالموت أشبه ما لو قال: قفوا داري على جهة كذا بعد موتي، واحتج أحمد (4) بأن عمر رضي الله عنه وصى فكان في وصيته: هذا ما وصى به عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث الموت أن ثمغًا صدقة. وذكر بقية الخبر، وروى نحوه أبو داود (5)، قال في "القاموس":

(1) محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسي، ولد سنة (603 هـ) وتوفي سنة (699 هـ) له تصانيف منها: القصيدة الدالية في الفقه، ومجمع البحرين. ولم يتمه. "الذيل على طبقات الحنابلة"(2/ 342).

(2)

ينظر: "معونة أولي النهى"(5/ 769).

(3)

"الاختيارات"(ص 259).

(4)

ينظر: "الشرح الكبير"(16/ 398).

(5)

أبو داود، في الوصايا، باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف (3/ 299).

ص: 885

وثمغ بالفتح -أي فتح الميم- مال بالمدينة لعمر وقفه (1).

ويلزم الوقف المعلق بالموت من حينه، ويكون من ثلثه، فإن كان قدر الثلث فأقل لزم، وإن زاد لزم في الثلث ووقف الباقي على الإجازة، وشرط بيعه أو هبته متى شاء أو خيار فيه أو تحويله مبطل للوقف لمنافاته لمقتضاه، ولا يشترط للزومه إخراجه عن يده، نصًّا (2)، لحديث عمر، فإنه روي أن وقفه كان بيده إلى أن مات (3)، ولا يشترط فيما وقف على شخص معين قبوله، لأنه إزالة ملك يمنع البيع والهبة والميراث أشبه العتق، ولا يبطل برده.

ويتعين صرف الوقف إلى الجهة المعينة له، لأن تعيينه لها صرف له عما سواها، فلو سبّل ماءً للشرب لم يجز الوضوء به ولا الغسل ونحوه، وكذا عكسه لأنه لو لم يجب اتباع تعيينه لم يكن له فائدة.

(ويجب العمل بشرط واقف إن وافق الشرع) كقوله: شرطت لزيد كذا، أو لعمرو كذا لأن عمر شرط في وقفه شروطًا (4)، ولو لم يجب اتباع شرطه لم يكن في اشتراطه فائدة، ولأن الوقف متلقى من جهته فاتبع شرطه، ونصه كنص الشارع (5)، ويجب العمل بشرطه في عدم إيجار الوقف أو قدر مدته وفي قسمته، قال الشيخ تقي الدين: والشروط إنما يلزم الوفاء بها إذا لم

(1)"القاموس المحيط"(ص 1008).

(2)

ينظر: "الإنصاف"(16/ 418).

(3)

ذكره الشافعي في "الأم"(4/ 55)، وقد ترجم البخاري في الوصايا باب إذا وقف شيئًا قبل أن يدفعه إلى غيره فهو جائز. ينظر: شرح "فتح البارى" لابن حجر (5/ 384).

(4)

تقدم (ص 872).

(5)

قال شيخ الإسلام في "الاختيارات"(ص 255): وقول الفقهاء: "نصوص الواقف كنصوص الشارع" يعني في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل، مع أن التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والناذر والحالف وكل عاقد يحمل على مذهبه وعادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، وافق لغة العرب أو لغة الشارع أو لا. اهـ

ص: 886

يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي (1).

ويجب العمل بشرطه في تقديم بعض أهل الوقف كقوله: وقفت على زيد وعمرو وبكر. ويبدأ بالدفع إلى زيد وعكس ذلك، وفي ترتيب كجعل استحقاق بطن مرتبًا على آخر، وفي ناظر لأن عمر جعل وقفه إلى بنته حفصة ثم يليه ذو الرأي من أهلها (2)، وفي سائر أحواله.

وإن خصص مقبرة أو رباطًا أو مدرسة أو إمامتها أو إمامة مسجد بأهل مذهب أو أهل بلد أو قبيلة تخصصت بهم عملًا بشرطه، لا المصلين بها فلا يصح تخصيصهم بذي مذهب ولغيرهم الصلاة فيها لعدم التزاحم، ولو وقع فهو أفضل لأن الجماعة تراد له. ولا تخصيص الإمامة بذي مذهب مخالف لظاهر السنة، ولو جهل شرط الواقف بأن قامت بينة بالوقف دون شرطه عُمِلَ بعادة جارية ثم عرف، فإن لم يكن عادة ولا عرف ببلد الواقف كمن ببادية فيسوى فيه بين المستحقين لثبوت الشركة دون التفضيل، ولذلك قال الشيخ:(ومع إطلاق يستوي غني وفقير وذكر وأنثى) لعدم ما يقتضي التفضيل.

(والنظر عند عدم الشرط) من واقف لوقفه أو عند شرطه لمعين فمات (لموقوف عليه إن كان محصورًا) فينظر كل منهم على حصته عدلًا أو فاسقًا، لأنه ملكه، وغلته له، وإن كان محجورًا عليه لحظه فوليه يقوم مقامه

(1)"شرح المنتهى"(2/ 501) وينظر: "الفتاوى"(31/ 47).

(2)

في سنن أبي داود الوصايا باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف (3/ 299) تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها. . . ورب السنن الكبرى للبيهقي (6/ 160) عن يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب في ثمغ أنه إلى حفصة ما عاشت.

وفي رواية له (6/ 161). . . ثم أوصى به إلى حفصة بنت عمر رضي الله عنهما ثم إلى الأكابر من آل عمر.

ص: 887

وتقدم (1)(وإلا) يكن الموقوف عليه محصورًا (فـ) النظر (الحاكم) بلد الموقوف (كما لو كان على مسجد ونحوه) كالفقراء؛ لأنه ليس له مالك معين ويتعلق به حق الموجودين ومن يأتي بعدهم.

ولو فوضه حاكم لإنسان لم يكن لحاكم آخر ناقضه؛ لأنه كنقض حكمه.

وشرط في ناظر إسلام إن كان الوقف على مسلم أو جهة من جهات الإسلام؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} (2)، وشرط فيه تكليف؛ لأن غير المكلف لا ينظر في ملكه المطلق ففي الوقف أولى، وشرط فيه كفاية للتصرف وخبرة به وقوة عليه، لأن مراعاة حفظ الوقف مطلوبة شرعًا، وإذا لم يكن الناظر متصفًا بهذه الصفات لم يمكنه مراعاة حفظ الوقف، ويُضمُّ لضعيف تعين كونه ناظرًا بشرط واقف أو كون الوقف عليه قوي أمين؛ ليحصل المقصود.

وشرط في ناظر أجنبي ولاه حاكم، أو ناظر جعل له ذلك عدالة؛ لأنه ولاية على مال فاشترط له العدالة، فإن فسق بعد عُزل.

ولناظر بأصالة كموقوف عليه وحاكم نصب وعزل، ولا نظر لحاكم مع ناظر خاص، لكن له النظر العام فيعترض عليه إن فعل ما لا يسوغ فعله لعموم ولايته، وللناظر الاستدانة على الوقف بلا إذن حاكم لمصلحة.

ووظيفة الناظر حفظ الوقف وعمارته وإيجاره وزرعه ومخاصمة فيه وتحصيل ريعه من أجرة أو زرع أو ثمر، والاجتهاد في تنميته وصرفه في جهاته من عمارة وإصلاح وإعطاء مستحق ونحوه، وله وضع يده على الوقف والتقرير في وظائفه، ومن قرر في وظيفة على وفق الشرع حرم صرفه بلا موجب شرعي، ولو أجر ناظر الوقف بأنقص من أجر مثله صح وضمن

(1) في الحجر (ص 771).

(2)

سورة النساء، الآية:141.

ص: 888

النقص الذي لا يتغابن به عادة.

(وإن وقف على ولده) ثم المساكين، (أو) وقف على (ولد غيره) كعلى ولد زيد ثم المساكين (فهو) أي الوقف (لذكر وأنثى) وخنثى الموجود منهم، لأن اللفظ يشملهم (بالسويَّة) لأنه شرك بينهم وإطلاق التشريك يقتضي التسوية، كما لو أقر لهم بشيء، وكولد الأم في الميراث (ثم) هو (لولد بنيه) مطلقًا، سواء وجدوا حالة الوقف أو لا كوصية، ويستحقونه مرتبًا بطنًا بعد بطن فيحجب أعلاهم أسفلهم ما لم يكونوا قبيلة، أو يأتي بما يقتضي التشريك كعلى أولادي وأولادهم فلا ترتيب.

ولا يدخل ولد البنات في الوقف على الولد؛ لأنهم لا ينسبون إليه بل إلى أبائهم، قال تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (1)، قال الشاعر:

بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد (2)

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ابني هذا سيد"(3) ونحوه فمن خصائصه انتساب أولاد فاطمة إليه.

وإن (وُ) قف (علي بنيه أو) على (بني فلان، فلذكور فقط) لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقة لقوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)} (4).

وكره تفضيل بعض أولاده على بعض في الوقف لغير سبب شرعي، لأنه يؤدي إلى التقاطع، والسنة أن لا يزاد ذكر على أنثى، واختار الموفق

(1) سورة الأحزاب، الآية:5.

(2)

أورده التبريزي في "شرح ديوان الحماسة"(2/ 41)، وذكر صاحب "خزانة الأدب"(1/ 213) أنه ينسب للفرزدق.

(3)

أخرجه البخاري، في الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسين بن علي رضي الله عنهما ابني هذا سيد. . . (3/ 169 - 170) وفي مواضع أخرى.

(4)

سورة الصافات، الآية:153.

ص: 889

وغيره (1) يستحب أن يقسمه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين على حسب قسمة اللَّه تعالى في الميراث كالعطية، والذكر في مظنة الحاجة غالبًا بوجوب حقوق تترتب عليه بخلاف الأنثى.

وإن وقف على عقبه أو نسله أو ولد ولده أو ذريته لم يدخل فيهم ولد بنات، كما لو وقف على من ينتسب إليه إلا بقرينة كقوله: من مات عن ولد فنصيبه لولده فيستحق كل ولد بعد أبيه نصيبه الأصلي والعائد، سواء بقى من البطن الأول أحد أم لا، فلو كان الموقوف عليهم ثلاثة ومات أحدهم عن غير ولد فنصيبه لأخويه، فإذا مات أحدهما عن ولد كان النصف لولده، فإذا مات الثاني عن ولدين فأكثر فنصيبه لهم.

(وإن كانوا) أي بنو فلان (قبيلة) كبني هاشم وتميم (2)(دخل النساء) لأن اسم القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها (دون أولادهن) أي نساء تلك القبيلة (من) رجال (غيرهم) لأنهم إنما ينسبون لآبائهم كما تقدم.

(و) إن وقف (على قرابته أو أهل بيته أو قومه) أو آله أو أهله (دخل ذكر وأنثى) وصغير وكبير (من أولاده وأولاد أبيه) وهم إخوته وأخواته (و) أولاد (جده) وهم أبوه وأعمامه وعماته (و) أولاد (جد أبيه) وهم جده وأعمام أبيه وعماته أربعة آباء فقط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشم بسهم ذي القربى، فلم يعط لمن هو أبعد كبني عبد شمس وبني نوفل (3) شيئًا، ولا

(1)"المغني"(8/ 206) و"الشرح الكبير"(16/ 484).

(2)

بنو هاشم تقدم ذكرهم في الزكاة (ص 659). وبنو تميم هم: أبناء تميم بن مرَّ بن أدِّ بن ابخة. قبيلة مشهورة جدًا.

ينظر: "أنساب الأشراف" للبلاذري (12/ 4981) و"تحفة الألباب في شرح الأنساب" للمجلسي (1/ 389) و"سبائك الذهب" للسويدي (ص 86).

(3)

بنو شمس هم: أبناء عبد شمس بن عبد ماف بن قصي. ينظر: "أنساب الأشراف" للبلاذري (5/ 1851) وبنو نوفل هم: أبناء نوفل بن عبد مناف بن قصي. ينظر "أنساب الأشراف" للبلاذري (9/ 4011).

ص: 890

يقال هما كبني المطلب، فإنه صلى الله عليه وسلم علل الفرق بينهم وبين من سواهم في القرب بأنهم لم يفارقوا في جاهلية ولا إسلام (1).

و(لا) يدخل الوقف في القرابة على (مخالف دينه) لدين الواقف، فإن كان الواقف مسلمًا لم يدخل في قرابته كافرهم، وإن كان كافرًا لم يدخل المسلم في قرابته إلا بقرينة.

ولا يدخل في الوقف على قرابته أمه ولا قرابته من قبلها، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط من سهم ذوي القربى قرابته من جهة أمه شيئًا (2)، إلا أن يكون في لفظ الواقف ما يدل على ذلك كقوله: ويفضل قرابتي من جهة أبي على قرابتي من جهة أمي ونحو ذلك.

والعتْرة: العشيرة وهي قبيلة الرجل (3)، وذوا رحمه قرابته من جهة أبويه وأولاده وأولادهم وإن نزلوا، لأن الرحم يشملهم وله جاوزوا أربعة آباء.

(وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم) كبنيه أو إخوته أو بني فلان

(1) أخرج البخاري في كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام. . . (4/ 57) عن جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول اللَّه أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد. قال الليث: حدثني يونس وزاد: قال جبير: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل.

وأخرج النسائي في كتاب قسم الفيء (7/ 131) بلفظ: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام".

(2)

إذ ذلك لم ينقل فدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعطهم شيئًا. ينظر: "الشرح الكبير"(16/ 490).

(3)

قال في"المصباح"(2/ 534): العترة: نسل الإنسان. قال الأزهري: وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه.

ولا تعرف العرب من العترة غير ذلك. ويقال: رهطه الأدنون. ويقال: أقرباؤه. . قال ابن السكيت: العترة والرهط بمعنى، ورهط الرجل قومه وقبيلته الأقربون. اهـ بتصرف. ينظر:"تهذيب اللغة" للأزهري (2/ 264) و"التوقيف"(ص 502).

ص: 891

وليسوا قبيلة (وجب تعميمهم) بالوقف (والتسوية بينهم) فيه لاقتضاء اللفظ ذلك كما لو أقر لهم بشيء، ويوضحه قوله تعالى:{فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (1).

(وإلا) يكن الوقف على جماعة يمكن حصرهم: كقريش (2) أو بني تميم أو المساكين لم يجب تعميمهم لتعذره، وجاز التفضيل بينهم لأنه إذا جاز حرمان بعضهم (جاز تفضيل) غيره عليه (و) جاز (الاقتصار على واحد) منهم، لأن مقصود الواقف عدم مجاوزة الجنس، ويحصل ذلك بالدفع لواحد منهم، وكالزكاة إن كان ابتداؤه على جمع لا يمكن حصرهم بخلاف ما لو أمكن حصرهم ابتداء، ثم تعذر كمن وقف على أولاده فصاروا قبيلة فيعم من أمكن ويسوى بينهم.

وإن وقف على الفقراء أو على المساكين تناول الآخر؛ لأنه إنما يفرق بينهما في المعنى إذا اجتمعا في الذكر، وإن وقف على القراء فللحفاظ للقرآن، وعلى أهل الحديث فلمن عرفه ولو حفظ أربعين حديثًا لا بمجرد السماع، وعلى العلماء فلحملة الشرع ولو أغناء.

ولو وقف على سبيل الخير فلمن أخذ من زكاة لحاجة، ووصيته كوقف في جميع ذلك، لأنه يرجع فيها إلى لفظ الموصي كما يرجع في الوقف إلى لفظ واقفه.

والوقف عقد لازم لا يفسخ بإقالة ولا غيرها، ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه المقصودة بخراب، ولم يوجد في ريع الوقت ما يعمر به، أو بغير

(1) سورة النساء، الآية:12.

(2)

قريش: قبيلة عظيمة معروفة. هم أبناء النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. على خلاف في ذلك.

ينظر: "الأنساب" للسمعاني (1/ 17) و"نسب قريش" لأبي عبد اللَّه الزبيري، كله، و"معجم قبائل العرب" لكحالة (3/ 948).

ص: 892

الخراب (1)، ولو كان الوقف مسجدًا وتعطل نفعه المقصود بضيقه عن أهله ولم تمكن توسعته في موضعه، أو بخراب محلته، فيباع، ولو شرط واقفه عدم بيعه، ويصرف ثمنه في مثله إن أمكن أو في بعض مثله.

ويصح بيع بعضه لإصلاح باقيه إن اتحد الواقف والجهة، فإن اختلفا أو أحدهما لم يجز إن كان الوقف عينين كدارين خربتا، فيباع أحدهما لتعمر به الأخرى، أو كان عينًا واحدة ولم تنقص القيمة بالتشقيص (2) وإلا بيع الكل.

ولا يعمر وقف من آخر، ويجوز نقض منارة مسجد، وجعلها في حائطه لتحصينه، ويجوز اختصار آنية موقوفة إذا تعطلت وإنفاق الفاضل منها على الإصلاح.

وحيث جاز بيع الوقف فيبيعه حاكم إن كان على سبيل الخيرات، وإن كان على شخص أو جماعة معينين أو من يؤم أو يؤذن أو يقيم بهذا المسجد فيبيعه ناظر خاص إن كان، والأحوط إذن حاكم، وبمجرد شراء البدل يصير وقفًا كبدل أضحية ورهن أتلف، والاحتياط وقفه لئلا ينقضه بعد ذلك من لا يرى وقفه بمجرد الشراء (3).

(1) كخشب تشعَّثَ وخيف سقوطه. "شرح المنتهى"(2/ 514).

(2)

الشَّقْصُ: الطائفة من الشيء. "التوقيف"(ص 434).

(3)

ذكر ابن رجب -رحمه اللَّه تعالى- في "القواعد" أن بعض الأصحاب حكى في ذلك وجهين:

أحدهما: يصير وقفًا بمجرد الشراء. قال المرداوي في "الإنصاف": وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب هنا.

قال ابن قندس في حواشيه على "المحرر": الذي يظهر أنه متى وقع الشراء لجهة الوقف على الوجه الشرعي ولزم العقد أنه يصير وقفًا، لأنه كالوكيل في الشراء، والوكيل يقع شراؤه للموكل، فكذا هذا يقع شراؤه للجهة المشترى لها، ولا يكون ذلك إلا وقفًا. اهـ قال المرداوي: وهو الصواب. =

ص: 893

ومن وقف على ثغر (1) فاختل صرف في ثغر مثله، وعلى قياسه مسجد ورباط ونحوهما، وما فضل عن حاجة الموقوف عليه يجوز صرفه في مثله وإلى فقير نصًّا (2).

ويحرم حفر بئر وغرس شجر بمسجد، فإن فعل طمت البئر وقلعت الشجرة، فإن لم تقلع فثمرتها لمساكينه، قال الحارثي (3): والأقرب حله لغيرهم من المساكين.

= والوجه الثاني: لابد من تجديد الوقفية. وهو ظاهر كلام الخرقي. وقال ابن حارثي: واحتج بأن الشراء لا يصلح سببًا لإفادة الوقف، فلابد للوقف من سبب يفيده. اهـ

ينظر: "شرح الزركشي"(4/ 289) و"قواعد ابن رجب"(1/ 285) و"الإنصاف"(16/ 534).

(1)

الثغر من البلاد: الموضع الذي يخاف منه هجوم العدو. "التوقيف"(ص 220).

(2)

"الإنصاف"(16/ 537).

(3)

هو: مسعود بن أحمد بن مسعود الحارثي البغدادي. فقيه محدث حافظ، له شرح على "المقنع" من العارية إلى آخر الوصايا. وشرح على بعض سنن أبي داود. ولد سنة 652 هـ وتوفي يوم الأربعاء 14/ 12/ 711 هـ بالقاهرة. والحارثي نسبه إلى الحارثية قرية من قرى بغداد غربيها. ينظر:"المنهج الأحمد"(4/ 386) و"معجم الشيوخ" للذهبي (2/ 339).

ص: 894