الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التدبر العمليُّ نوعان:
الأول:
التطبيق
والعمل والامتثال
(1)
التطبيق:
1 -
من مفاتيح الرزق (تدبر عملي):
قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132).
قال ابن جُزَي رحمه الله: «كان بعض السلف إذا أصاب أهلَه خصاصة، قال: قوموا فصَلُّوا؛ بهذا أمركم الله، ويتلو هذه الآية» (2).
2 -
قال عبد الله بن إبراهيم الإسكافي (3) رحمه الله: «حضرت مجلس المُهتدي (4) وقد جلس للمظالم، فاستعداه رجل على ابن له، فأمر بإحضاره، فأُحضر وأقامه إلى جنب الرجل، فسأله عما ادعاه عليه، فأقر به، فأمره بالخروج له من حقه، فكتب له بذلك كتابًا، فلما فرغ، قال له الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قال الشاعر:
حَكَّمْتُموه فقضى بينكمْ
…
أبلجُ مِثْلُ القمرِ الزاهرِ
لا يقبلُ الرشوة في حُكمه
…
ولا يبالي غَبَنَ الخاسر (5)
(1) وهذا باعتبار أن بعض السلف قد فسَّر التدبُّر بالعمل؛ وهو تفسير له بثمرته.
(2)
التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 17).
(3)
لعله عُبَيْد الله بن إبراهيم بن عَبْد المؤمن الإسكافي، عم الوزير: محمد بن أحمد بن إبراهيم القراريطي. انظر: ذيل تاريخ بغداد لابن النجار (2/ 3).
(4)
محمد بن هارون الواثق بن محمد المُعْتَصِم بن هارون الرشيد، أبو عبد الله، المهتدي بالله، العباسي، من خلفاء الدولة العباسية، توفي سنة: 256 هـ. انظر: الوافي بالوفيات (5/ 97 - 87)، والأعلام للزركلي (7/ 128).
(5)
البيت للأعشى، وهو في ديوانه (ص 92).
فقال له المُهْتَدي: أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك، وأما أنا فما جلست هذا المجلس حتى قرأت المصحف:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: 47)، فقال لي عمي: فما رأيت باكيًا أكثر من ذلك اليوم» (1).
3 -
4 -
قال أحدهم: كان لي موعد بعد صلاة العشاء مع معصية، وفي صلاة العشاء قرأ الإمام قولَه تعالى:{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: 34)، فتذكرت ما أنا فيه من الخير والنعيم .. واستحييت، فأحمد الله على التوبة (3).
5 -
قال أحدهم: أنا طالب علم، وذات مرة توقَّفْتُ عند قوله تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)، فبكيت كثيرًا على ضياع ليالٍ كثيرة في هذه الليالي الشاتية الطويلة، وأنا لم أشرّف نفسي بالانتصاب قائمًا لربي ولو لدقائق، فكان هذا البكاء مفتاحًا لبداية أرجو ألا تتوقف حتى ألقى ربي (4).
(1) تاريخ بغداد (4/ 553).
(2)
الآداب الشرعية (2/ 7).
(3)
ليدبروا آياته (4/ 203).
(4)
السابق (4/ 216).
6 -
7 -
كان أويس إذا نظرَ إلى الرؤوسِ المشويةِ يذكرُ هذه الآية: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)} ، فيقعُ مغشيًّا عليه؛ حتى يظنَّ الناظرون إليه أنه مجنونٌ (2). 8 - وكانَ لطاوس طريقانِ إذا رجعَ من المسجدِ أحدُهُما فيها روَّاس، وكان يرجعُ إذا صلَّى المغربَ، فإذا أخذَ الطريقَ الذي فيه الروَّاس لم يستطعْ أن يتعشى، فقيلَ لهُ: فقالَ: إذا رأيتُ الرؤوسَ كالحةً، لم أستطعْ آكلُ (3).
9 -
وقال الأصمعيُّ: حدثنا الصقرُ بنُ حبيب (4)
قالَ: مرَّ ابنُ سيرين بروَّاسٍ قد أخرجَ رأسًا، فغشي عليه (5).
(1) الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا (ص 50).
(2)
تاريخ دمشق لابن عساكر (34/ 25)، التخويف من النار لابن رجب (ص 172).
(3)
التخويف من النار لابن رجب (ص 171 - 172).
(4)
الصقر -وقيل الصَّعق- بن حبيب، السلولي البصري، شيخ من أهل البصرة. انظر: المجروحين لابن حبان (1/ 375).
(5)
التخويف من النار لابن رجب (ص 172).
10 -
عن عبد الله بن عمر أنه شرب ماء باردًا، فبكى واشتد بكاؤه، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت آية في كتاب الله وهي قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} (سبأ: 54)، فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئًا، شهوتهم الماء البارد، وقد قال الله تعالى:{أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} (الأعراف: 50)(1).
11 -
وأُتي الحسن بكُوز من الماء؛ ليفطر عليه، فلما أدناه إلى فيه بكى، وقال: ذَكَرتُ أُمنية أهل النار وقولهم: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} (الأعراف: 50)، وذكرت ما أُجيبوا به:{إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)} (الأعراف)(2).
12 -
وعن إبراهيم النخعي قال: قَلّما قرأتُ هَذِهِ الآية إلا ذكرتُ بَرْدَ الشَّرَابِ، وقرأ:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} (سبأ: 54)(3).
13 -
عن عبد الملك بن مروان، أنه شرب ماءً باردًا، فقطعه وبكى، فقيل: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ ! قال: ذكرت العطش يوم القيامة، وذكرت أهل النار وما مُنعِوا من ماء بارد الشراب، ثم قرأ:{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} (إبراهيم: 17)(4).
(1) تاريخ دمشق لابن عساكر (53/ 211)، التخويف من النار لابن رجب (ص 158)، وبنحوه في التاريخ الكبير للبخاري (7/ 52 - 53).
(2)
التخويف من النار لابن رجب (ص 158)، حلية الأولياء لأبي نعيم (6/ 189).
(3)
مصنف ابن أبي شيبة (7/ 208).
(4)
التخويف من النار لابن رجب (ص 158).
14 -
استقى محمد بن مصعب العابد (1) ماء، فسمع صوت البرادة فصاح، وقال لنفسه: من أين لك في النار برادة؟ ! ثم قرأ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} (الكهف: 29)(2).
15 -
أُتي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعشائه وهو صائم، فقرأ:{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)} (المزمل)، فلم يزل يبكي حتى رُفِع طعامه، وما تعشى، وإنه لصائم (3).
16 -
أمسى الحسن صائمًا فأُتي بعشائه، فَعَرَضَت له هذه الآية:{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)} فَقَلَصَت يَدُه، وقال: ارفعوه، فأصبح صائمًا، فلما أمسى، أُتي بإفطاره، فَعَرَضَتْ له الآية، فقيل له: يا أبا سعيد، تهلك وتضعف! ! فأصبح اليوم الثالث صائمًا، فذهب ابنه إلى يحيى البَكَّاء وثابت البُنَاني ويزيد الضَّبي، فقال: أَدْرِكُوا أبي، فإنه هالك، فلم يزالوا به، حتى سقوه شربة ماء من سويق (4).
(1) هو: محمد بن مصعب أبو جعفر الدَّعَّاء، العابد، وكان أحمد بن حنبل يثني عليه ويقول: كان رجلا صالحًا. توفي ببغداد في ذي القعدة سنة: 228 هـ. انظر: طبقات الحنابلة (1/ 320).
(2)
التخويف من النار لابن رجب (ص 159).
(3)
السابق (ص 155).
(4)
رواه أحمد في الزهد (1640). وانظر: التخويف من النار لابن رجب (ص 156).
17 -
عن صالح المُرِّي (1) قال: كان عطاء السَّلِيمِي (2)،
قد أضر بنفسه حتى ضعف، فقلت له: إنك قد أضررت بنفسك، وأنا متكلف لك بشيء، فلا ترد كرامتي، قال: أَفْعَل، قال: فاشتريت سويقًا، من أجود ما وجدت، وسمنًا، قال: فجعلت له شُرَيبة، فَلَتَّيْتُها وحَلَّيْتُها، وأرسلت بها مع ابني وكُوزًا من ماء، فقلت له: لا تبرح حتى يشربها، فرجع فقال: قد شربها، فلما كان من الغد، جعلت له نحوها، ثم سَرَّحْتُ بها مع ابني، فرجع بها لم يشربها، قال: فأتيته فَلُمْتُه، وقلت: سبحان الله! أَردَدْتَّ علي كرامتي؟ ! إن هذا مما يُعينك ويقويك على الصلاة، وعلى ذِكْر الله تعالى، فلما رآني قد وجدت من ذلك، قال: يا أبا بشر، لا يَسُؤك، والله لقد شَرِبْتُها أول ما بعثت بها، فلما كان الغد راودتُّ نفسي على أن أسيغها، فما قدرت على ذلك، إذا أردت شربه ذكرت هذه الآية:{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} (إبراهيم).
فبكى صالح عند هذا، وقال: قلت لنفسي: ألا أراني في واد وأنت في آخر! (3)(4).
18 -
وآخر بكى في وليمة رأى فيها الخدم يطوفون على الحضور بالطعام والشراب، وتذكر قوله تعالى:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} (الإنسان: 19).
(1) هو: صالح بن بشير بن وادع بن أبي الأقعس أبو بشر البصري، القاص الواعظ الزاهد، المعروف بالمُرِّي، ضعيف الحديث، توفي سنة: 172 هـ، وقيل: 176 هـ. انظر: صفة الصفوة (2/ 207).
(2)
هو: عطاء السَّليمي البصري، العابد الزاهد، من صغار التابعين، توفي سنة: 140 هـ. انظر: صفة الصفوة (2/ 192).
(3)
رواه أبو نعيم في الحلية (6/ 218)، وانظر: التخويف من النار لابن رجب (ص 156، 157).
(4)
للاستزادة من هذه الأمثلة؛ راجع: التخويف من النار لابن رجب (ص 155 - 159).