الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - المتشابه اللفظي
(1):
التطبيق:
1 -
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا (126)} (البقرة)، وقال:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا (35)} (إبراهيم).
2 -
(1) انظر الإتقان في علوم القرآن (3/ 390).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 425)، وانظر: الإتقان في علوم القرآن (3/ 394).
ففي الآية الأولى قال: {فَلَا تَقْرَبُوهَا} ، وفي الثانية قال:{فَلَا تَعْتَدُوهَا} ، فما وجه ذلك؟
قال السيوطي رحمه الله: «لأنَّ الأولَى وردت بعد نَوَاهٍ فناسب النهي عن قُربانِها، والثانية بعد أوامر فناسب النهي عن تعدِّيها وتجاوزها بِأن يُوقَف عندها» (1).
قال ابن عثيمين رحمه الله: «قوله تعالى: {فَلَا تَعْتَدُوهَا}؛ أي: لا تتجاوزوها، وقال العلماء: إذا كانت الحدود مما يجب فعله قال تعالى: {فَلَا تَعْتَدُوهَا}؛ وأما إذا كانت الحدود من المحرمات فإنه تعالى يقول: {فَلَا تَقْرَبُوهَا}» (2).
3 -
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} (البقرة).
قال ابن القيم رحمه الله: «تأمل كيف جَرَّد الخبر هنا عن الفاءِ فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (البقرة: 262)، وقَرَنه بالفاءِ في قوله تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (البقرة: 274)،
(1) الإتقان في علوم القرآن (3/ 394).
(2)
تفسير القرآن الكريم (البقرة) للعثيمين (3/ 109).
فإن الفاءَ الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تُفْهِم معنى الشرط والجزاءِ، وأن الخبر مُسْتَحَقّ بما تضمنه المبتدأُ من الصِّلَة أو الصفة، فلما كان هنا يقتضي بيان حَصْر المُسَتَحِق للجزاءِ دون غيره، جرد الخبر عن الفاءِ، فإن المعنى: أن الذي ينفق ماله لله ولا يَمُنّ ولا يُؤذي، هو الذي يستحق الأجر المذكور، لا الذي يُنفِق لغير الله
…
ويَمُن ويُؤذي بنفقته، فليس المقام مقام شرط وجزاءٍ بل مقام بيان للمُسْتَحِق من غيره، وفي الآية الأخرى للمستحق دون غيره.
وفى الآية الأخرى ذَكَر الإنفاق بالليل والنهار سرًّا وعلانية، فذَكَر عموم الأوقات وعموم الأحوال، فأتى بالفاءِ في الخبر؛ ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وُجِد من ليل أو نهار، وعلى أية حالة وُجِد من سر وعلانية، فإنه سبب للجزاء على كل حال، فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله، ولا يُؤخِّر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر، ولا بنفقة السر وقت العلانية، فإن نفقته فى أي وقت وعلى أي حال وُجِدَت سبب لأجره وثوابه، فتدبر هذه الأسرار في القرآن؛ فلعلك لا تظفر بها تمر بك في التفاسير، والمنة والفضل لله وحده لا شريك له» (1).
4 -
قال تعالى في سورة البقرة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} (البقرة)، وفي سورة إبراهيم:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)} (إبراهيم).
(1) طريق الهجرتين (ص 366).
قال ابن جماعة رحمه الله: «إن المَثَل هنا للعامل، فكان تقديم نَفْي قُدرته وصِلَتها أنسب؛ لأن {عَلَى} من صِلَة القُدرة، وآية (إبراهيم)؛ المثل للعمل؛ لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} (إبراهيم: 18)، تقديره: مَثَل أعمال الذين كفروا» (1).
5 -
قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (البقرة: 282).
وقال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (الطلاق: 2).
6 -
قال تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)} (آل عمران)، وقال تعالى:{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)} (آل عمران).
(1) كشف المعاني في المتشابه من المثاني (1/ 120).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 74).
7 -
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} (الأنعام)، وقال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} (الإسراء).
8 -
قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} (الأعراف)، وقال:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} (فصلت)، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} (غافر: 56).
(1) تفسير ابن كثير (2/ 44).
(2)
السابق (3/ 362).
وقال رحمه الله: «وتأمل سِرّ القرآن الكريم كيف أَكَّد الوصف بالسميع العليم بذِكْر صيغة {هُوَ} الدال على تأكيد النِّسْبة واختصاصها، وعَرَّف الوصف بالألف واللام في سورة {حم} (فصلت)؛ لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، وتركه في سورة الأعراف لاستغناء المقام عنه؛ فإن الأمر بالاستعاذة في سورة {حم} وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مُقَابَلة إساءة المُسيء بالإحسان إليه، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون، ولا يُلَقَّاه إلا ذو حظ عظيم كما قال الله تعالى.
والشيطان لا يَدَع العبد يفعل هذا، بل يُرِيه أن هذا ذُل وعجز، ويُسَلِّط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام ويزينه له، فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وألا
(1) بدائع الفوائد (2/ 238 - 239).
يُسيء إليه ولا يُحْسِن، فلا يُؤْثِر الإحسانَ إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله تعالى وما عنده على حَظّه العاجل.
فكان المقام مقام تأكيد وتحريض، فقال فيه:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} (فصلت)، وأما في سورة الأعراف فإنه أمره أن يُعرِض عن الجاهلين، وليس فيها الأمر بمُقَابَلة إساءتهم بالإحسان، بل بالإعراض، وهذا سَهْل على النفوس غير مُسْتَعْص عليها، فليس حِرْص الشيطان وسَعيه في دَفْع هذا كحِرْصِه على دَفْع المُقابَلة بالإحسان، فقال:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} (الأعراف)» (1).
وقال في موضع آخر: «وقال هاهنا: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (فصلت: 36)، فأكد بـ (إن)، وبضمير الفصل، وأتى باللام في:{السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وقال في الأعراف: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 200).
وسر ذلك -والله أعلم- أنه حيث اقتصر على مُجرد الاسم ولم يُؤكده أُريد إثبات مُجرد الوصف الكافي في الاستعاذة والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم، فيسمع استعاذتك فيجيبك، ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك؛ فالسمع لكلام المُستعيذ، والعلم بالفعل المُستعاذ منه، وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة، وهذا المعنى شامل للموضعين، وامتاز المذكور في سورة فصلت بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص؛ لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكوا في سمعه لقولهم وعلمهم به، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: «اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، كثيرٌ شَحْم بطونهم، قليلٌ فِقْه قلوبهم، فقالوا:
(1) السابق (2/ 267 - 268).
أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، فقال الآخر: إن سمع بعضه سمع كله. فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} (فصلت)» (1)؛ فجاء التوكيد في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . في سياق هذا الإنكار؛ أي: هو وحده الذي له كمال قوة السمع وإحاطة العلم، لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوا، وأنه لا يعلم كثيرًا مما يعملون. وحَسَّن ذلك أيضًا: أن المأمور به في سورة فصلت دَفْع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم، وذلك أشق على النفوس من مُجرد الإعراض عنهم؛ ولهذا عَقَّبه بقوله:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} (فصلت)، فحَسُن التأكيد لحاجة المُستعيذ.
وأيضًا، فإن السياق هاهنا لإثبات صفات كماله، وأدلة ثبوتها، وآيات ربوبيته، وشواهد توحيده؛ ولهذا عَقَّب ذلك بقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} (فصلت: 37)، وبقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} (فصلت: 39)» (2).
9 -
قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} (النحل: 121)، وقال:{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان: 20)، «فجَمَع النعمة في آية النحل جَمْع قِلَّة (أنعم)؛ لأن نعم الله لا تُحصى، وإنما يستطيع الإنسان معرفة بعضها وشكرها،
(1) أخرجه البخاري (4817، 7521)، ومسلم (2775).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 96 - 97).
وهو ما كان من إبراهيم عليه السلام، فَذَكَر جَمْع القِلَّة في هذا المقام، أما آية لقمان فجمعها جَمْع كَثْرة (نِعَمَه)؛ لأنها في مقام تعداد نعمه وفضله على الناس جميعًا» (1).
10 -
في سورة الكهف قال الخضر رحمه الله: «في الأولى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} (الكهف: 79)، وفي الثانية:{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)} (الكهف)، وفي الثالثة:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} (الكهف: 82) فما وجه كل واحدة من هذه الألفاظ؟
قلت: إنه لما ذكر العيب أضافه إلى نفسه على سبيل الأدب مع الله تعالى، فقال:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} ، ولما ذكر رعاية المصالح في مال اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن حفظ الأبناء وصلاح أحوالهم لرعاية حق الآباء ليس إلا لله سبحانه وتعالى؛ فلأجل ذلك أضافه إلى الله تعالى» (2).
11 -
قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} (الأنبياء).
وقال تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} (الصافات).
(1) أسرار البيان في التعبير القرآني (باب: البنية في التعبير القرآني).
(2)
تفسير الخازن (4/ 228).
قال الإسكافي رحمه الله (1): «للسائل أن يسأل فيقول: هذا في قصة واحدة، فجاء في موضع:{الْأَخْسَرِينَ} (الأنبياء: 70)، وفي موضع:{الْأَسْفَلِينَ} (الصافات: 98)، فهل في كلٍّ من المكانين ما يختص باللفظ الذي خصّ به؟
والجواب أن يقال: أمّا في سورة الأنبياء فإن الله تعالى أخبر فيها عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (الأنبياء: 75)، ثم أخبر عن الكفار لمّا ألقوه في النار وأرادوا به كيدًا:{فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (الأنبياء: 70)، والكيد: سعي في مضرة لِتُورَد على غفلة، فذكر مُكَايَدَة بينهم وبين إبراهيم عليه السلام، فكادهم ولم يكيدوه فخسرت تجارتهم وعادت عليهم مُكَايَدَتُهم؛ لأنه كسّر أصنامهم ولم يبلغوا من إحراقه مرادهم، فذكر الأخسرين؛ لأنهم خسروا فيما عاملهم به وعاملوه من المُكَايَدة التي أُضيفت إليهما.
وأما الآية التي في سورة الصافات فإن الله تعالى أخبر عن الكفار فيها بما اقتضى من الأسفلين، وهو أنه قال:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)} ، فبنوا له بناء عاليًا ورفعوه فوقه ليرموا به من هناك إلى النار التي أَجَّجُوها، فلما عَلَوا ذلك البناءَ وحطّوه منه إلى أسفل، عادوا هم الأسفلين؛ لأنهم أُهلِكُوا في الدنيا وسَفُل أمرهم في الأُخْرى، والله تعالى نجّى نبيّه عليه السلام وأعلاه عليهم، فانقلب عالي أمرهم في صعود البناء وسافل أمر إبراهيم عليه السلام.
فلمّا حُطّ إلى النار، صار ذلك سَافِلًا، وأمر النبي عليه السلام عاليًا؛ فلذلك اختصت هذه الآية بقوله:{فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} (الصافات)» (2).
(1) هو: محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي، أبو عبد الله، عالم بالأدب واللغة، من أهل أصبهان. كان إسكافًا -يُقال للخَرَّاز أو الصانع- ثم خطيبًا بالريّ. توفي سنة: 420 هـ. انظر: الوافي بالوفيات (3/ 271)، والأعلام للزركلي (6/ 227 - 228).
(2)
درة التنزيل (1/ 905 - 906).
12 -
قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} (القصص).
وقال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} (الفرقان).
قال ابن القيم رحمه الله: «وكان رَفْع السلام مُتعينًا؛ لأنه حكاية ما قد وقع، ونَصْب السلام في آية الفرقان مُتعينًا؛ لأنه تعليم وإرشاد لما هو الأكمل والأولى للمؤمن أن يَعْتَمِدَه إذا خاطبه الجاهل» (1).
13 -
قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ (24)} (سبأ).
قال ابن القيم رحمه الله: «هل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} (يونس: 31)، وبين قوله في سورة سبأ:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} (سبأ: 24)؟
قيل: هذا من أدق هذه المواضع وأغمضها وألطفها فَرْقًا، فَتَدَبَّر السياق تجده نَقِيضًا لما وقع، فإن الآيات التي في يونس سِيقَت مَسَاق الاحتجاج عليهم بما أقروا به ولم يمكنهم إنكاره، من كون الرب تعالى هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم ومُدَبِّر أمورهم وغيرها، ومُخْرِج الحي من الميت والميت من الحي، فلما كانوا مُقِرِّين بهذا كله، حَسُن الاحتجاج به عليهم، أن فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره،
(1) بدائع الفوائد (2/ 160).
فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له شركاء لا يملكون شيئًا من هذا ولا يستطيعون فِعْل شيء منه؟ ! ولهذا قال بعد أن ذَكَر ذلك من شأنه تعالى: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ؛ أي: لا بُد أنهم يُقِرُّون بذلك ولا يجحدونه، فلا بُد أن يكون المذكور مما يُقِرُّون به، والمُخَاطَبون المُحْتَج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مُقِرِّين بنزول الرزق من قِبَل هذه السماء التي يشاهدونها بالحس، ولم يكونوا مُقِرِّين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى تنتهي إليهم، ولم يَصِل علمهم إلى هذا، فأُفردت لفظ السماء هنا، فإنه لا يمكنهم إنكار مجيء الرزق منها، لا سيما والرزق هاهنا إن كان هو المطر فمجيئه من السماء التي هي السحاب، فإنه يُسَمَّى سماء؛ لِعُلُوِّه، وقد أخبر سبحانه أنه بَسَط السحاب في السماء بقوله:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} (الروم: 48)، والسحاب إنما هو مبسوط في جهة العلو لا في نفس الفلك، وهذا معلوم بالحس فلا يُلتفت إلى غيره.
فلما انتظم هذا بذِكْر الاحتجاج عليهم، لم يصلح فيه إلا إفراد السماء؛ لأنهم لا يُقِرُّون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح، ولا بد من الوحي الذي به الحياة الحقيقية الأبدية، وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المُنْقَضِية، فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف والموارد الربانية والتَّنَزُّلات الإلهية وما به قِوَام العالَم العُلوي والسُّفْلي من أعظم أنواع الرزق، ولكن القوم لم يكونوا مُقرين به، فخُوطِبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم بحيث لا يمكنهم إنكاره.
وأما الآية التي في سورة سبأ، فلم ينتظم بها ذِكْر إقرارهم بما ينزل من السموات؛ ولهذا أَمَر رسوله بأن يتولى الجواب فيها، ولم يذكر عنهم أنهم المُجيبون المُقِرُّون، فقال:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ، ولم يَقُل:{فسيقولون الله} ، فأمر
تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُجيب بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السموات السبع. وأما الأرض فلم يَدْعُ السياق إلى جمعها في واحدة من الاثنين؛ إذ يُقر به كل أحد مؤمن وكافر وبَر وفاجر» (1).
14 -
قال تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)} (الواقعة).
وقوله سبحانه: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا (70)} (الواقعة).
قال ابن هبيرة رحمه الله: «تأملت دخول اللام وخروجها، فرأيت المعنى: أن اللام تقع للاستقبال؛ تقول: لأَضْرِبَنَّك؛ أي: فيما بَعْد لا في الحال. والمعنى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} (الواقعة)؛ أي: في مُسْتَقْبَل الزمان إذا تم فاستحصد، وذلك أشد العذاب؛ لأنها حالة انتهاء تعب الزارع واجتماع الدَّيْن عليه؛ لرجاء القضاء بعد الحصاد، مع فراغ البيوت من الأقوات.
وأما في الماء، فقال:{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} (الواقعة: 70)؛ أي: الآن؛ لأنا لو أَخَّرنا ذلك، لشرب العطشان وادخر الإنسان» (2).
15 -
قال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} (المجادلة)، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)} (المجادلة).
قال الإسكافي رحمه الله: «للسائل أن يسأل عن خاتمتي الآيتين، وهما:{عَذَابٌ أَلِيمٌ} و {عَذَابٌ مُهِينٌ} وعما أوجب اختصاص كل واحدة منهما بما ذُكِر فيها؟
(1) السابق (1/ 117 - 118).
(2)
ذيل طبقات الحنابلة (2/ 150 - 151).
والجواب أن يُقال: لَمَّا قال في الأُولى: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ؛ أي: يُبين لكم ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله، وذَكَر الحدود التي حَدَّها لِعِبَادِه، ثُم سَمَّى مَن لم يُؤمِن كافرًا باسمه وتَوَعَّدَه بالعذاب المُوجِع المُبَالغ فيه، وهو ما يُخوّف الله تعالى به عباده، نعوذ بالله منه.
وأما قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ} فلأن قبله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا} ؛ فَضُمِّن معنى الفعلين الشرط والجزاء، فجعل الكَبْت جزاء مَن آثر حِزْبًا غير حِزْب الله ورسوله، وحَدًّا غير حَدّهما، والكَبْت: الإذلال، وقيل: الغَلْبُ والقَهْر والتَّخْيِيب؛ وكل ذلك مُتَقَارِب» (1).
16 -
قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} (الذاريات)، وفي سورة المعارج:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} (المعارج).
قال الغرناطي رحمه الله: «يُسأل عن وجه زيادة الصفة في سورة المعارج من قوله: {مَعْلُومٌ} وسقوط ذلك في الذاريات؟ وهل كان يُنَاسِب عكس الوارد؟
والجواب، والله أعلم: أن آية المعارج قد تَقَدَّمها مُتَّصِلًا بها قوله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} (المعارج)، والمُراد بالصلاة هنا: المكتوبة، وأيضًا يُقْرَن بها في آي الكتاب الزكاة المفروضة، وبها فَسَّر المُفسِّرون الحق المعلوم في آية المعارج.
قال الزمخشري: لأنها مُقَدَّرة معلومة.
قلت: وليس في المال حق مُقَدَّر معلوم وقتًا ونِصَابًا ووجوبًا غيرها، فلما أُرِيد بالحق هنا الزكاة أُتبع بوصف يُحْرِز المقصود» (2).
(1) درة التنزيل (1/ 1257 - 1258).
(2)
ملاك التأويل (2/ 450).
17 -
قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} (المعارج).
وقال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)} (الرحمن).
وقال تعالى: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)} (الشعراء).
وقال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} (المزمل).
قال ابن القيم رحمه الله: «مَجيء المَشْرِق والمَغْرِب في القرآن تارة مجموعين، وتارة مُثَنَّيين، وتارة مُفْرَدين؛ لاختصاص كل محل بما يقتضيه من ذلك؛ فالأول كقوله:{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (المعارج: 40)، والثاني كقوله:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)} (الرحمن)، والثالث كقوله:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} (المزمل).
فَتَأَمُّلُ هذه الحكمة البالغة في تَغَايُر هذه المواضع في الإفراد والجمع والتثنية بحسب مَوَادِّها، يُطْلِعك على عظمة القرآن الكريم وجلالته، وأنه تنزيل من حكيم حميد.
فحيث جُمِعَت، كان المُراد بها مَشَارِق الشمس ومَغَارِبها في أيام السنة؛ وهي مُتعددة.
وحيث أُفردت كان المُراد أُفُقَي المَشْرِق والمَغْرِب.
وحيث ثُنّيا كان المُراد مَشْرِقَي صُعودها وهُبوطها ومَغْرِبيهما، فإنها تَبتدئ صاعدة حتى تنتهي إلى غاية أَوْجِها وارتفاعها، فهذا مَشْرِق صُعُودِها، وينشأ منه فصلا الخريف والشتاء. فجعل مَشْرِق صُعودها بجُملته مَشْرِقًا واحدًا، ومَشْرِق
هُبوطها بجُملته مَشْرِقًا واحدًا، ويُقابِلها مَغْرِباها؛ فهذا وجه اختلاف هذه في الإفراد والتثنية والجمع.
وأما وجه اختصاص كل موضع بما وقع فيه، فلم أَرَ أحدًا تعرض له ولا فتح بابه، وهو بحمد الله بَيِّن من السِّيَاق، فتأمل وُرُوده مُثَنًّى في سورة الرحمن؛ لما كان مَسَاق السورة مَسَاق المثاني المُزْدَوَجَات، فَذَكَر أولًا نوعي الإيجاد: وهما الخلق والتعليم، ثم ذَكَر سِرَاجَي العالم ومَظْهَري نوره: وهما الشمس والقمر، ثم ذَكَر نَوْعَي النبات، ما قام منه على ساق وما انبسط منه على وجه الأرض: وهما النجم والشجر، ثم ذَكَر نَوعَي السماء المرفوعة والأرض الموضوعة، وأخبر أنه رفع هذه ووضع هذه ووسَّطَ بينهما ذِكْر الميزان، ثم ذَكَر العدل والظلم في الميزان، فأمر بالعدل ونهى عن الظلم، ثم ذَكَر نَوعَي الخارج من الأرض: وهما الحبوب والثمار، ثم ذكر خَلْق نوعي المكلفين: وهما نوع الإنسان ونوع الجان، ثم ذَكَر نوعي المَشرِقَين ونَوعَي المَغْرِبين، ثم ذكر بعد ذلك البحرين: الملح والعذب.
فتأمل حُسْن تثنية المَشْرِق والمَغْرِب في هذه السورة وجلالة ورُودهما لذلك، وقدِّر موضعهما اللفظ مُفْرَدًا ومجموعًا، تجد السمع يَنْبُو عنه، ويشهد العقل بمُنَافَرَته للنَّظْم.
ثم تأمل ورُودهما مُفْرَدين في سورة المُزَّمِّل؛ لمَّا تقدمهما ذِكْر الليل والنهار، فأَمَر رسولَه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، ثم أخبره أن له في النهار سَبْحًا طويلًا، فلما تقدم ذِكْر الليل وما أُمِر به فيه، وذِكْر النهار وما يكون منه فيه، عَقَّب ذلك بذِكْر المَشْرِق والمَغْرِب اللذين هما مَظْهَر الليل والنهار، فكان ورُودُهما مُفَردين في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع؛ لأن ظهور الليل والنهار هما واحد، فالنهار أبدًا يظهر
من المَشْرِق، والليل أبدًا يظهر من المَغْرِب (1).
ثم تأمل مجيئهما مجموعين في سورة المعارج في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} (المعارج)، لما كان هذا القَسَم في سياق سَعَة ربوبيته وإحاطة قُدرته، والمُقسَم عليه أرباب هؤلاء، والإتيان بخير منهم؛ ذَكَر المَشَارِق والمَغَارِب؛ لتَضَمُّنِهما انتقال الشمس التي هي أحد آياته العظيمة الكبيرة ونَقْله سبحانه لها وتصريفها كل يوم في مَشْرِق ومَغْرِب، فمَن فعل هذا كيف يُعجِزه أن يُبدِّل هؤلاء وينقل إلى أمكنتهم خيًرا منهم، وأيضًا فإن تأثير مَشَارِق الشمس ومَغَارِبها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر مشهور، وقد جعل الله تعالى ذلك بحكمته سببًا لِتَبَدُّل أجسام النبات وأحوال الحيوانات وانتقالها من حال إلى غيره، ويبدل الحر بالبرد والبرد بالحر، والصيف بالشتاء والشتاء بالصيف، إلى سائر تَبَدُّل أحوال الحيوان والنبات والرياح والأمطار والثلوج وغير ذلك من التَّبَدُّلات والتَّغيرات الواقعة في العالم بسبب اختلاف مَشَارِق الشمس ومَغَارِبها، كان ذلك تقدير العزيز العليم، فكيف لا يَقْدِر مع ما يَشْهَدُونه من ذلك على أن يُبدِّل خيرًا منهم، وأكد هذا المعنى بقوله:{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} ، فلا يليق بهذا الموضع سوى لفظة الجمع.
(1) وقال أيضًا: «وأما في سورة المُزَّمِّل فَذَكَر المَشْرِق والمَغْرِب بلفظ الإفراد؛ لما كان المقصود ذِكْر ربوبيته ووحدانيته، وكما أنه تَفَرَّد بربوبية المَشْرِق والمَغْرِب وحده، فكذلك يُحِب أن يتفرد بالربوبية والتوكل عليه وحده، فليس للمَشْرِق والمَغْرِب رب سواه، فكذلك ينبغي ألا يُتَّخَذ إله ولا وكيل سواه.
وكذلك قال موسى لفرعون حين سأله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)} (الشعراء)، فقال:{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)} (الشعراء)، وفي ربوبيته سبحانه للمشارق والمَغَارِب تنبيه على ربوبيته السموات وما حوته من الشمس والقمر والنجوم، وربوبيته ما بين الجهتين، وربوبيته الليل والنهار وما تضمناه
…
» اهـ. التبيان في أقسام القرآن (ص 195 - 196).
ثم تأمل كيف جاءت أيضًا في سورة الصافات مجموعة في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} (الصافات)، لَمَّا جاءت مع جملة المربوبات المُتعددة وهي السموات والأرض وما بينهما، كان الأحسن مجيئها مجموعة؛ لينتظم مع ما تقدم من الجمع والتَّعَدُّد.
ثم تأمل كيف اقتصر على المَشَارِق دون المَغَارِب؛ لاقتضاء الحال لذلك، فإن المَشَارِق مَظْهَر الأنوار وأسباب انتشار الحيوان وحياته وتَصَرُّفه ومَعَاشِه وانبساطه، فهو إنشاء مَشْهُود، فَقَدَّمه بين يدي الرد على مُنْكِري البعث، ثم ذَكَر تَعجُّب نَبِيّه من تكذيبهم واستبعادهم البعث بعد الموت، ثم قرر البعث وحالهم فيه، وكان الاقتصار على ذكر المشارق هاهنا في غاية المُناسَبة للغرض المطلوب والله أعلم» (1).
18 -
(1) بدائع الفوائد (1/ 121 - 123). وانظر: التبيان في أقسام القرآن (ص 194 - 196).
(2)
مجموع الفتاوى (8/ 511 - 512). وانظر: منهاج السنة (3/ 143)، (5/ 410).