الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و. الربط بين المقاطع في السورة:
التطبيق:
1 -
قال السيوطي رحمه الله: «تقدم أن صورة السبب قطعية الدخول في العام، وقد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامة رعاية لنظم القرآن وحُسْن السياق، فيكون ذلك الخاص قريبًا من صورة السبب في كونه قطعي الدخول في العام، كما اختار السُّبْكِي أنه رُتْبَة متوسطة دون السبب وفوق المُجَرَّد.
مثالُه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}
…
إلى آخِرهِ، فإنها إشارة إلى كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لَمَّا قَدِموا مكة وشَاهدوا قتلى بدرٍ حَرَّضوا المُشركين على الأخذ بثأرهم ومحاربة النَّبي صلى الله عليه وسلم فَسَألوهم: من أهدى سبيلًا؟ محمد وأصحابه أم نحن؟ فقالوا: أنتم! !
مع علمهم بما في كتابهم من نعت النَّبي صلى الله عليه وسلم المُنْطَبِق عليه، وأخذ المواثيق عليهم ألا يكتموه، فكان ذلك أمانة لازمة لهم ولم يُؤَدُّوها حيث قالوا للكفار: أنتم أهدى سبيلًا، حسدًا للنبي صلى الله عليه وسلم. فقد تضمنت هذه الآية مع هذا القول: التَّوَعُّدَ عليه؛ المفيد للأمر بِمُقَابِلِه المُشْتَمِل على أداء الأمانة التي هي بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم بإفادة أنَّه الموصوف في كتابهم، وذلك مناسب لقوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، فهذا عام في كلِّ أمانة، وذلك خاص بأمانة هي صفة النبي صلى الله عليه وسلم بالطريق السابق، والعامُّ تَالٍ للخاص في الرَّسم مُتراخٍ عنه في النزول، والمناسبة تقتضي دخول ما دل عليه الخاص في العام؛ ولذا قال ابن العربي في تفسيره: وجه النظم: أنه أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد، وقولهم: إن المشركين أهدى سبيلًا، فكان ذلك خيانة منهم، فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات» (1).
ولمزيد من الإيضاح فإن هذه الآيات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}
…
إلى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} (النساء: 51 - 57) نزلت -فيما رُوي (2) - بسبب سؤال المشركين لليهود: أنحن أهدى أم محمد؟ فأجابهم اليهود: أنتم أهدى من محمد! ! وسجدوا لأصنامهم؛ فكان ذلك منهم كتمانًا للشهادة بالحق، وتضييعًا للأمانة التي حُمِّلُوها.
ثم قال بعد هذه الآيات: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فهذه الآية نزلت -فيما رُوي- بسبب مفاتيح الكعبة.
(1) الإتقان في علوم القرآن (1/ 113 - 114).
(2)
انظر: السنن الكبرى للنسائي (11643)، وللوقوف على المرويات الواردة في ذلك -وهي لا تخلو من ضعف- ينظر: الاستيعاب في بيان الأسباب (1/ 405 - 411).
قال الواحدي رحمه الله (1): «نزلت في ابن طلحة، قبض النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، فدخل الكعبة يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح وقال: «خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله لا ينزعها منكم إلا ظالم» (2).
فهذا هو سبب النزول -على فرض صحة الحديث- ويدخل في عموم الأمانات ما سبق من الشهادة بالحق، الأمر الذي ضيعه اليهود حينما سألهم المشركون.
2 -
قال تعالى في سورة الأعراف، بعد ذِكْرِ قصة آدم وما لقيه من وسوسة الشيطان:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} (الأعراف).
قال ابن عاشور رحمه الله: «وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرتين وَقْعٌ عجيب: بعد الفراغ من ذكر قصة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشيطان؛ وذلك أن شأن الذرية أن تَثْأر لآبائها، وتُعَادي عدوهم، وتحترس من الوقوع في شَرَكِه» (3).
(1) هو: علي بن أحمد بن محمد بن علي بن مَتُّويَة، أبو الحسن الواحدي، مفسر، عالم بالأدب، نعته الذهبي: بـ (إمام علماء التأويل)، كان من أولاد التجار، أصله من ساوة -بين الريّ وهمذان- ومولده ووفاته بنيسابور، توفي سنة: 468 هـ. انظر: وفيات الأعيان (3/ 304)، والأعلام للزركلي (4/ 255).
(2)
انظر: أخبار مكة للأزرقي (1/ 109)، (1/ 265)، أسباب النزول للواحدي (1/ 158)، المقاصد الحسنة (431)، جامع الأحاديث (30405)، الدر المنثور (2/ 570). وللوقوف على المرويات في ذلك -ولا تخلو من ضعف- ينظر: الاستيعاب في بيان الأسباب (1/ 412 - 416).
(3)
التحرير والتنوير (8/ 73).
3 -
قال ابن تيمية رحمه الله: «ذَكَرَ سبحانه آية النور عقيب آيات غضِّ البصر، فقال:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وكان شاه بن شُجَاع الكرماني لا تُخطئ له فِراسة، وكان يقول: مَن عَمَّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المُراقبة، وغضَّ بصره عن المَحارم، وكفَّ نفسه عن الشَّهوات، -وَذَكَرَ خَصْلَةً خامسة، وهي: أكْلُ الحلال- لم تُخْطِئ له فِرَاسَة.
والله تعالى يَجْزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله؛ فغضُّ بصره عمَّا حَرُم يُعَوِّضه الله عليه من جنسه بما هو خيرٌ منه؛ فَيُطْلِقُ نور بصيرته، ويَفتَحُ عليه باب العلم والمعرفة والكشوف، ونحو ذلك مِمَّا ينالُ ببصيرة القلب» (1).
وقال الشنقيطي رحمه الله: «لما أمر الله تعالى ببعض الأمور التي لا غنى للناس عنها، ونهى عن بعض الأمور التي بارتكابها يحصل الضرر على المجتمع والأفراد، وحث على بعض الآداب السماوية، بين سبحانه أن امتثال تلك الأوامر، واجتناب تلك النواهي، والتزام تلك الآداب؛ ينور لها قلوب عباده فيوفقهم لها، ويطمس قلوب آخرين، فلا يمتثلون أوامره، ويرتكبون نواهيه، فضرب للموفق هذا المثل، وضرب للضالين المثل الآتي في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ
…
} (النور: 40)» (2).
(1) مجموع الفتاوى (21/ 257 - 258)، وانظر ما ذكره في (15/ 282 - 283).
(2)
تفسير سورة النور للشنقيطي (ص 135).
4 -
(1) تفسير ابن كثير (6/ 330).