الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: تراجم المعتنين بالطبعة السلطانية
السلطان عبد الحميد الثاني
هو السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني بن السلطان عبد المجيد الأول، آخرُ السلاطين العظام الذين حكموا الدولة العثمانية.
كان له تأثير واسع في العالم الإسلامي، وكان خليفة المسلمين يدين له المسلمون في مشرق العالم الإسلامي من الصين والهند إلى مصر والشام والحجاز بالبيعة.
ولد في 16 شعبان سنة 1258 وتوفي في 29 ربيع الثاني سنة 1336. تولى الحكم ثلاثة وثلاثين عامًا من سنة 1876 إلى أن عُزل سنة 1909.
درس التاريخ والأدب، وكان خطاطًا وشاعرًا، وأتقن اللغة العربية والفارسية، وكان يهوى النِّجارة، وله ورشة في قصره مجهزة بجميع الآلات والأدوات، وقد أنتج قطعًا فنية بديعة.
كان محبًّا للعلم مكرمًا للعلماء والأدباء. وكان كأجداده سلاطين بني عثمان محبًّا للأولياء والصالحين فقرَّب مشايخ الطرق الصوفية وقدم الدعم للزوايا لتكون سياجًا للدولة العثمانية مما نتج عنه نشاط واسع للطرق الصوفية في التصدي للدول الاستعمارية. ومن أعظم الشيوخ الذين تأثر بهم السلطان: شيخ الإسلام السيد محمد أبو الهدى الصيادي (1266 - 1328) والشيخ محمود أبو الشامات (-1341) وكتب إليه
السلطان سنة خلعه رسالة شهيرة قال فيها:
"سيدي إني مداومٌ على قراءة الأوراد الشاذلية ليلًا ونهارًا، وأعرض أني ما زلت محتاجًا لدعواتكم القلبية بصورة دائمة.
بعد هذه المقدمة أعرض لرشادتكم وإلى أمثالكم أصحاب السماحة والعقول السليمة المسألة المهمة الآتية كأمانة فى ذمة التاريخ أننى لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما، سوى أننى بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الإتحاد المعروفة باسم جون تورك وتهديدهم اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة.
إن هؤلاء الإتحاديين قد أصروا وأصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود فى الأرض المقدسة فلسطين، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف. وأخيرًا وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة إنكليزية ذهبًا.، فرفضت بصورة قطعية أيضًا، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي.:«إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبًا فضلًا عن مائة وخمسين مليون ليرة إنكليزية ذهبًا، فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي. لقد خدمت المِلَّة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة، فلم أسوِّدْ صحائفَ المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعي أيضًا» .
وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سالونيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير. هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية فى الأراضي المقدسة فلسطين، وقد كان بعد ذلك
ما كان، ولذا فإني أكرر الحمد والثناء على الله المتعال، وأعتقد أن ما عرضتُه كافٍ فى هذا الموضوع الهام، وبه أختم رسالتي هذه.
ألثم على يديكم المباركتين، وأرجو وأسترحم أن تتفضلوا بقبول احترامي، وسلامي إلى جميع الإخوان والأصدقاء.
يا أستاذي المعظم لقد أطلت عليكم التحية، ولكن دفعني لهذه الإطالة أن أحيط سماحتكم علمًا وتحيط جماعتكم بذلك علمًا أيضًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في 22 أيلول 1329? ?
خادم المسلمين عبد الحميد عبد المجيد
وكان السلطان عبد الحميد الثاني محافظًا على الشعائر الإسلامية، شديد التعظيم للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بعيدًا عن الوقوع في الشهوات المحرمة كالنساء والخمر
تميز عهده بتحديث الدولة لمراعاة التطور الذي وصلت إليه أوروبا، وقام بمشاريع عظيمة في جميع المجالات، أعظمها: سكة حديد الحجاز التي ربطت دمشق بالمدينة المنورة، وكان من المقرر أن تمتد إلى إستنبول وبغداد. وكان يرى فيها أداة لجمع المسلمين في العالم الإسلامي وتوحيدهم خلف قيادته للتصدي للدول الطامعة في دولة الخلافة. فأسس لذلك فكرة الجامعة الإسلامية، أي الرابطة التي توحد بين المسلمين من جميع المذاهب والأعراق.
وللسطان عبد الحميد رحمه الله تعالى مآثر عظيمة في جميع المجالات من العلوم والفنون والعمارة والطباعة، لعل من أعظمها طباعته للجامع الصحيح للبخاري على
النسخة اليونينية وجعله جميع نسخ الطبعة وقفًا عامًّا للمسلمين.
وهي هذه النسخة التي تعاد طباعتها اليوم إحياءً لذكراه وتخليدًا لمآثره، واستجلابًا للدعاء له، واستدعاءً للترحم عليه.
ومن أعظم مآثره رفضه بيع فلسطين لليهود لما عرض عليه ذلك تيودور هرتزل، ولعله دفع ثمن ذلك بعزله. وقام بالتصدي للأطماع الأوروبية في العالم الإسلامي.
ومن مآثره أنه أراد البحث عن المخطوطات العربية في بلاد الأندلس المفقودة، فكلَّف بتلك المهمة سنة 1304 العلامة الشيخ محمد محمود بن التلاميذ الشنقيطي، ووضع تحت تصرفه سفينة وكاتبًا ومؤذنًا وطباخًا يرافقونه. وأنجز المهمة، وكتب فيها كتابه: أشهر الكتب العربية الموجودة في خزائن مكاتب دولة إسبانيا. انتهى من جمعه في شهر الله المحرم سنة 1305 في قصر الحمراء بمدينة غرناطة.
ورغم أن السلطان عبد الحميد الثاني كان من السلاطين العظام، إلا أنه ورث دولة قد أنهك جسمها الضعف، وتكالب عليها الأعداء، فقام بالحفاظ عليها وتطويرها، وإبعاد خطر الأعداء عنها، ولا شك أن فترة حكمه كانت ذات أهمية كبرى فقد تماسكت الدولة الدولة العثمانية خلالها وتأخر سقوطها ثلاثين سنة.
عُرف بالتسامح مع غير المسلمين، رغم محاولة اغتياله التي وقفت وراءها بعض الأقليات، وحارب الرشوة، وأصلح القضاء وجعل همه إقامة العدل.
وكان داهية في السياسة، عرف كيف يستثمر العلاقات السياسية الدولية، ويستغل مواقع الضعف في التحالفات الدولية لإبعاد الخطر عن الدولة العثمانية.
ومن أعظم إنجازات السلطان عبد الحميد الثاني مجلة الأحكام العدلية، وهي أهم إنتاج فقهي في العصور العثمانية المتأخرة. فقد رأى السلطان المتغيرات الدولية، ولاحظ التطورات الداخلية والخارجية التي تدعو إلى صياغة الفقه الإسلامي على شكل قوانين عصرية تنضبط بها أحكام القضاة في المحاكم المدنية. فأنشأ لجنة من كبار فقهاء الحنفية مع عدد من فقهاء المذاهب الثلاثة الأخرى بصفة مراقبين، لتقنين القضاء والأحكام الفقهية الإسلامية، فصدرت مجلة الأحكام العدلية، وكان من جملة أعضاء تلك اللجنة العلامة الكبير علاء الدين عابدين، الذي ألف قرة عيون الأخيار في تكملة رد المحتار، أكمل فيها حاشية والده العلامة المحقق محمد أمين ابن عمر عابدين (-1252) على الدر المختار.
وصدر قرار السلطان عبد الحميد الثاني بالعمل بمواد المجلة في 26 شعبان سنة 1293 هجرية، الموافق لـ 15 أيلول (سبتمبر) سنة 1876. فكانت مجلة الأحكام العدلية بذلك أول محاولة قامت بها الدولة العثمانية في العصر الحديث لتطوير الفقه وتقنينه، بعد أن بدأ السلطان عبد الحميد نهضة شاملة للنهوض بالدولة ومواجهة التحديات، لا في العلوم والصناعات فحسب، وإنما في ميدان الفقه والتشريع.
وقد بكى العلماء والصالحون والفقراء والضعفاء عند عزل السلطان عبد الحميد وحزنوا عليه عند وفاته، ورثاه كبار شعراء العرب، من ذلك قصيدة لشاعر العراق جميل صدقي الزهاوي يقول فيها:
سلامٌ على العهدِ الحَميديِّ إنه لَأسعدُ عهدٍ في الزمانِ وأَنْعَمُ