الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما كان من عادة المشايخ الإجازة في مجالس الختم فإن على كاتب السماع والطباق أن يشير إليها باختصار غيرِ مُخِلٍّ، فيذكر اسم المجيز، ونوع الإجازة، ومن دخل فيها. فيكتب مثلًا:"وأجاز لي روايته"، أو:"وأجاز للحاضرين عامة مروياته". ومن عادة العلماء الإجازة العامة في مجلس الختم للحاضرين.
حكم اللحن عند قراءة الحديث:
ازدادت في المدة الأخيرة بين طلبة العلم الرغبة في طلب الأسانيد والإجازات وسماع كتب الحديث، وهو أمرٌ حسنٌ، يُعدُّ إحياءً لعلم الرواية والإسناد في عصر صار الغالب على طلاب الشريعة فيه أخذ العلم من الجامعات والإنترنت. وازداد معه تعلق الطلبة بالإجازات، مع إهمال طلب علوم الآلات، وصارت الإجازات سلَّمًا للشهرة، وادعاء أهلية العلم، وهو خلاف ما عليه العلماء. قال العلامة أبو العباس أحمد بن علي البوسعيدي الهشتوكي (-1046):
"الحاصل أن مطلق الإجازة عندهم لا يدل على الإتقان.، ولا على الدراية، وإنما توسعوا مجازًا، إعادةً وإدماجًا لمن حصَّل الشرطَ ولو بعد حين". وقال الحافظ أبو طاهر السِّلفي في الوجيز مبيِّنًا شرط الأداء: "ولكن الشرط فيه المبالغة في الضبط والإتقان، والتوقي من الزيادة والنقصان".
فالمُجيز بالرواية لا يُشترط في صحة إجازته أهليته بمعرفة اللغة والنحو والصرف وغيرها من العلوم، فتصح الإجازة من عاميٍّ لمثله.، لأنها إذنٌ بالرواية، لا يشترط فيها إلا العدالة، لكن السماع لا يصح إلا على من وُجدت فيه أهلية الضبط لتمييز الخطأ من الصواب في العربية ليتجنَّب اللحن إذا قرأ الحديث، أو قُرئ عليه.
فإذا أراد المجيز أن يُسمع كتابًا سواء تحمله بالسماع أو الحضور حال الصغر أو تحمله
بالإجازة فلا بد له من تحقيق شرط الضبط والإتقان عند الأداء، وإلا لم يصح أداؤه.، ولم يصح سماع من سمع منه، لغياب شرط الضبط، ولما ينتج عن ذلك من الخطأ والتحريف في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة الشيخ عبد الهادي الأبياري في شرح مقدمة القسطلاني: "ينبغي للشيخ أن لا يروي الحديث بقراءة لحَّانٍ أو مصحِّفٍ، فقد قال الأصمعي: أخوفُ ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يَدخل في جملة قوله صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فمهما رويتَ عنه ولحنتَ فيه كذبتَ عليه" .. وقال العلامة الأبياريُّ أيضًا: "وينبغي لطالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يَسلم به من اللحن والتحريف. وقال شعبةُ: مثل الذي يطلب الحديث بلا عربية كمثل رجل عليه بُرْنُسٌ ولا رأسَ له".
وقد اشتهرت فتوى للإمام قاضي سِجِلْمَاسَةَ عبد الملك بن محمد التاجَمُّوعْتِيِّ (-1118) في حكم قراءة صحيح البخاري بالخطأ واللحن أجاب بها على استفتاء أرسل به إليه العلامة أحمد بن عبد القادر التستاوي المغربي (-1127) سنة ألف وست وتسعين، استشهد بما جاء فيها عدد من علماء المغرب، وهي في كتاب نزهة الناظر وبهجة الغصن الناضر للتستاوي نفسه، وهو مخطوط في خزانتنا، نسوق منها ما يتعلق بالغرض. قال العلامة التستاوي:
"أما بعد، أصلح الله شانك، وبالهداية والتوفيق زانك، فإنا رأينا أناسًا في قرى البادية يحرصون على قراءة الجامع الصحيح للبخاري، ويرون ذلك من تعظيم شعائر الله، وهم لا يعرفون ما يلزمهم في دينهم، وإن رأوا مجلس فقه يتعلمون منه أمر دينهم لا يعبأون بذلك، ويرون الحُرمةَ لقارئه سواء كان من أهل ذلك الشان إلخ.
فأردنا منك أن تبين للناس ما نُزِّل إليهم، وما تقرر عند العلماء لعلهم يتذكرون.
وهل جاهلٌ بالعربية يُقدَّم لذلك، أم لا؟
وما الحدُّ الذي يكفيه، ولا بد منه؟
وهل يحرم الاستماع له، أم لا؟
وهل يتعين على الفقيه نُصح من أراد قراءته وحضوره من العامة، أم لا؟
وهل يلزمه أن يأمرهم بالكتب التي يتعلمون منها فرائضهم كالرسالة أو غيرها، ولا يساعدهم فيما لا ينبغي شرعًا؟
وهل فاعل ذلك وهو يعلم من نفسه الجهل متجاسرٌ بالمنصب النبوي؟
وهل يتعين على قاضي البلد زجرُهم وحملُهم على ما ينبغي شرعًا، أم لا؟
بَيِّن لنا ذلك كله، وابسطه بسطًا يليق بنا، وامزج كلامك بمقامع موافقة للحق، يعرف منها الجاهل قدره، ولا يتعدَّى طوره".
ومما جاء في الجواب: "الجواب والله ولي التوفيق: أن قراءة الجامع الصحيح لأمير المؤمنين سيدي أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي بقصد التيمُّن والتبرك بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، والتفقه فيه والتفطن لمآخذ الأئمة ومدارك أقوالهم بقدر الاستطاعة لا بقصد الاستنباط - إذ هو شيء مفروغٌ منه تولاه النُّقَّاد من الأئمة المجتهدين كالإمام مالك وأصحابه كالشافعي وصاحبه الإمام أحمد والإمام النعمان أبي حنيفة وغيرهم - من أفضل القربات وأعمال البر لمن يتقن ذلك ويُحسنه نحوًا ولغةً وأخذًا من أفواه علماء هذا الشان، لا من الكتب من غير تدريب المشايخ.
وقد سُئل الإمام الجويني والد إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك عمن يتصدر لتعاطي الحديث الشريف وقراءته وهو يعلم من نفسه أنه لا يُحسن فأجاب: بأنه داخلٌ تحت وعيد قوله صلى الله عليه وسلم: «من كذب عليَّ متعمدًا» ، وهو حديث متواترٌ، وهو ظاهرٌ ضرورةً [فيمن] علم من نفسه عدم الأهليه لذلك ثم أقدم عليه جراءةً وتعمُّدًا. اللهم سَلِّمْ، اللهم سلِّمْ" .. ثم قال في آخر الجواب:
"والمقدم على قراءة البخاري جراءةً وجسارةً - وهم غالب أهل وقتنا، ما أقلَّ حياءَهم - من غير تحصيل أدواته، والأخذِ عن أهله، لا يحلُّ الجلوس ولا الإيواء إليه، ولا سماع ذلك، خشية أن يحملَ عنه شيئًا على غير وجهه.، فيكون مثلَه إذا حدَّث به، وهو ممن لا أهلية فيه كذلك. وينبغي بل ويجب على من يُسمع منه زجر من لا أهلية ولا قابلية فيه عن تناول ذلك وتعاطيه والتصدُّر به، وأدبُه إن لم ينتهِ بما يراه كافيًا في حقِّه من السجن وغيره".
والاعتماد في ذلك على إجازة الشيوخ مجردةً عن تحصيل ما لا مَنْدُوحَةَ عنه من الأدوات، ومعرفة مصطلح أهل هذا الشان اغترارٌ وجهالةٌ بتعليق المجيزين ذلك على الشرط المعتبر عند أهل الأثر، وبالضرورة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه
…
".
وقال بعد كلامٍ نقلناه قبل: "والحاصلُ أن تناول المجترئين على الله ورسوله صحيحَ البخاري وقراءَته لتحصل لهم الجلالة والمَهابةُ في عيون العامة وقلوبها بالبادية وغيرها سببٌ في خراب الديار وقِلَّة العمران. ولقد شاهدنا كثيرًا من البلدان كان يُقرأ فيها على غير وجهه قد خربت [واندثرت]، وكيف لا وهو عماد الدين وقول سيد المرسلين، [ففي] تحويله وتحريفه تخريب له، وكذلك كان الجزاء جزاءً وِفاقًا.