الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توفي اليونيني شهيدًا في رمضان ليلة الجمعة سنة 701 حيث دخل خزانة الكتب في مسجد الحنابلة ببعلبك، فدخل عليه شخص يدعى موسى المصري الناشف، وُصف بالفقير، فضربه بعصًا على رأسه عدة ضربات، ثم أخرج سكينًا صغيرة، فجرحه في رأسه أيضًا.، فاتقى الشيخ بيده فجرحه فيها. وأُمسك الضارب وأخذ إلى متولي بعبلك وضُرب ضربًا مبرِّحًا وحُبس فأظهر الجنون. وحُمل الشيخ إلى داره وأتم صيامه، ثم حصل له حُمَّى واشتد مرضه، حتى توفي يوم الخميس، وصُلِّيَ عليه بالجامع الأموي بدمشق صلاةَ الغائب.
قال الصلاح الصفدي في أعوان النصر: "عُني بالحديث وضبطه، وبالفقه واللغة. وحصَّل الكتب النفيسة، وكان في وقته عديم النظير في بابه، ليس له مشارك في عشرته لأصحابه". وقال الذهبي في السير: "واستنسخ صحيح البخاري، وحرره، حدثني أنه قابله في سنة واحدة وأسمعه إحدى عشرة مرة. وروى الكثير، وكان شيخًا مَهيبًا مُنوَّرًا، حلوَ المجالسة، كثيرَ الإفادة، قويَّ المشاركة في العلوم، حَسَنَ البِشر، مَليحَ التواضع". قرأ عليه الذهبي القراءاتِ العشرَ، والأحكام الكبرى للحافظ عبد الغني المقدسي، بسماعه من أبيه، بسماعه من مؤلفه.
المبحث الثاني: وصف النسخة اليونينية
هي نسخة خطية من الجامع الصحيح للإمام البخاري تُنسب للإمام الحافظ شرفِ الدِّينِ أبي الحُسينِ عليِّ بنِ مُحمَّدٍ اليُونِينيِّ الحنبليِّ (621 - 701). اتفق العلماء على أنها أصح نسخ الجامع الصحيح، لأسباب عديدة تتعلق بالجهود التي بذلها الحافظ اليونيني في مقابلة هذه النسخة على أهم الأصول المتوافرة في عصره، وذكر الفروق والاختلافات بين هذه الأصول، ثم لاعتنائه الشديد برواية الصحيح وإقرائه، خصوصًا في المجلس
الشهير الذي حضره عدد من كبار العلماء على رأسهم إمام العربية جمال الدين محمد بن عبد الله ابن مالك الطائي الجَياني الأندلسي (-672). وهي النسخة التي اعتمد عليها الحافظ شهاب الدين القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري.
قال الحافظ شمس الدين الذهبي في وصف عمل الإمام اليونيني:
"استنسخ صحيح البخاري وحرره، حدثني أنه قابله في سنة واحدة وأسمعه إحدى عشرة مرة. وقد ضبط رواية الجامع الصحيح، وقابل أصله الموقوف بمدرسة آقبغا آص بسويقة العزيِّ خارج باب زويلة من القاهرة المعزية، بأصل مسموع على الحافظ أبي ذرٍّ الهروي، وبأصل مسموع على الأَصيلي، وبأصل الحافظ مؤرخ الشام أبي القاسم ابن عساكر، وبأصل مسموع عن أبي الوقت، وذلك بحضرة الإمام اللغوي النحوي جمال الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الله ابن مالك الطَّائيِّ الجَيَّانيِّ الشَّافعيِّ صاحب الألفية في النحو. وقد حرر الإمام اليونيني نسخته أحسن تحرير، وكان ابن مالك حضر المقابلة، وكان إذا مرَّ بلفظٍ يتراءى له أنه مخالفٌ لقوانين العربية قال لليونيني: هل الرواية فيه كذلك؟ فإن أجاب بأنه منها شرع ابن مالك في توجيهها حسب إمكانه".
وكتب الإمام ابن مالك على النسخة اليونينية بخطه هذا السماع الذي نقله لنا الإمام شهاب الدين القسطلاني: "سمعت ما تضمنه هذا المجلدُ من صحيح البخاري رضي الله عنه، بقراءة سيدنا الشيخ الإمام العالم الحافظ المتقن شرف الدين أبي الحسين علي بن محمد بن أحمد اليونينيِّ رضي الله عنه وعن سلفه، وكان السماع بحضرة جماعة من الفضلاء، ناظرين في نسخ معتمد عليها، فكلما مر بهم لفظ ذو إشكال بَيَّنتُ فيه الصواب، وضبطته على ما اقتضاه علمي بالعربية .. وما افتقر إلى بسط عبارة وإقامة
دلالة أخَّرْتُ أمره إلى جزء أستوفي فيه الكلام مما يحتاج إليه من نظير وشاهد، ليكون الانتفاع به عامًّا.، والبيان تامًّا، إن شاء الله تعالى. وكتبه محمد بن عبد الله ابن مالك حامدًا لله تعالى".
وهذا مثال ما كتبه الحافظ شرف الدين اليونيني نفسه في آخر نسخته بعد انتهاء مجالس السماع بالمدرسة السميساطية الملاصقة لجامع بني أمية بدمشق: "بلغْتُ مقابلةً وتصحيحًا وإسماعًا بين يدَي شيخنا شيخ الإسلام، حجة العرب، مالك أزمة الأدب، الإمام العلامة أبي عبد الله ابن مالك الطائي الجَيَّانيِّ أمدَّ الله تعالى عمرَه.، في المجلس الحادي والسبعين، وهو يُراعي قراءتي، ويلاحظُ نطقي. فما اختاره ورجَّحه وأمر بإصلاحه أصلحته وصححتُ عليه، وما ذكر أنه يجوز فيه إعرابان أو ثلاثة كتبت عليه معًا، فأعملت ذلك على ما أمر ورجَّح، وأنا أقابل بأصل الحافظ أبي ذر، والحافظ أبي محمد الأصيلي، والحافظ أبي القاسم الدمشقي، ما خلا الجزءَ الثالثَ عشر والثالث والثلاثين فإنهما معدومان، وبأصل مسموع على الشيخ أبي الوقت، بقراءة الحافظ أبي [كذا والصواب ابن وهو أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور] منصور السمعاني وغيره من الحفاظ، وهو وقف بخانكاه السميساطي، وعلاماتُ ما وافقت أبا ذرٍّ: (هـ)، والأصيلي: (ص)، والدمشقي: (ش)، وأبا الوقت: (ظ) فيعلم ذلك. وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب في فرخة لتُعلَم الرموز. كتبه علي بن محمد الهاشمي اليونيني عفا الله عنه".
وشرح اليونيني منهجه في المقابلة بين الأصول التي قابل عليها، ومزايا كل أصل، والطرق التي روي بها، والأصول التي قدمها على غيرها، والرموز التي استعملها، لكل أصل، شرح كل ذلك كما ذكر في بضع ورقات، هي بمثابة مقدمة للنسخة اليونينية. وهذه الورقات عزيزة الوجود، منها بضع نسخ خطية، إحداها في آخر نسخة من
الصحيح في مكتبة نور عثمانية برقم (701) تمت كتابتها في الثالث من شهر جمادى الآخرة سنة 1121. وهي في أربع صفحات تبدأ من الصفحة المقابلة لآخر الصحيح.
إن عمل اليونيني هذا لأوضح مثال على سبق المسلمين في ميدان التحقيق للنصوص والتوثيق للاختلافات والتحرير للأصول وفق منهج عملي يحترم مبادئ الدقة والأمانة والصواب. قال الدكتور شوقي ضيف في وصف عمل اليونيني: "وإخراج اليونيني لصحيح البخاري على هذا النحو يدل بوضوح على أن أسلافنا لم يُبقوا لنا ولا للمستشرقين شيئًا مما يمكن أن يضاف بوضوح في عالم تحقيق النصوص".
وقول الذهبي: "استنسخ صحيح البخاري وحرره" يشير إلى أمرٍ دقيق، وهو أن النسخة اليونينية على شهرتها ليست بخط اليونيني، ولذلك قال الذهبي:"استنسخ" أي كلَّف ناسخًا، وسبب ذلك أنه أراد أن تكون بخط حسنٍ، فكلَّف ناسخًا يكتبها له بخط حسن واسم هذا الناسخ: أبو عبد الله محمد بن عبد المجيد بن أبي الفضل بن عبد الرحمن بن زيد، فنسخها من أصل الحافظ عبد الغني المقدسي الذي هو في ست مجلدات المسموع على الزبيدي. فشهرة اليونينية ليست لأنه كتبها بخطه، وإنما بسبب التحريرات التي أضافها إليها والمقابلات التي قام بها، والاختلافات التي أثبتها، حتى قال النويري في آخر نسخته:"وقد اعتنى بمقابلة هذا الأصل الذي نقلت منه وقابلت به، وتحريره وضبطه وإتقانه الشيخ الإمام العلامة شرف الدين أبو الحسين علي بن الشيخ الإمام تقي الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله اليونيني أثابه الله الجنة.، حتى صار مفزعًا يُلجَأُ إليه، وأصلًا يُعتمد عليه".
والأصول التي قابل عليها اليوينيني أربعة: أصلٌ مسموع على أبي ذرٍّ الهروي، وأصل بخط الأصيلي عليه حواشٍ بخط ابن عبد البر، وأصل أبي القاسم بن عساكر، وأصل