الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمات:
تقديم:
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ:
لعلك قد سمعت من جيلنا من يقول: "نحن جيل بلا أساتذة". فهل يستطيع الأديب أو الإعلامي أن ينمو دون أن يكون له أستاذ من التراث في القديم، وفي الإبداع المعاصر والحديث؟
قال الأستاذ لتلميذه الفتى:
"ليس هذا الذي نلاحظه في جيلك شيئًا جديدًا، إنه قديمٌ قِدَمَ الإنسان، بل إن من الجيل الأكبر من يظن أن ذكاء الناس يتضاءل أمام ذكائه، فيتعامل في عالم الأدب والفكر بناءً على تصوره هو، ضاربًا بذكاء الآخرين عرض الحائط.. أذكر لك هنا يا بني قول عليّ بن أبي طالب -كرم الله وجهه- لعامر بن مرو الزهري: "من أحمق الناس؟
فأجابه: "مَنْ ظن أنه أعقل الناس"!
فقال الإمام عليّ: "صدقت، فمن أعقل الناس؟ "
فأجابه: "مَنْ لم يتجاوز الصمت في عقوبة الجهل".
ومع ذلك يا بني، فالأدباء الإعلاميون الشيوخ، هم أسعد الناس حين ينبغ من الشباب أديبٌ أو إعلاميٌّ، ألا ترى أنهم كالآباء يفرحون لنبوغ الأبناء؟
لقد مر البحتريّ الشاعر بجماعة من الشعراء، فرأى بينهم صبيًّا، فقال له: أشاعر أنت؟ فقال الصبيّ: نعم. وإني لأشعر منك!
قال البحتريُّ: مرحى.. فهل تستطيع أن تجيز قولي:
ليت ما بين من أحب وبيني
…
مثل ما بين ملتقى الخافقين
قال الطالب لأستاذه الشيخ:
ليت ما بين أجيال الأدباء والباحثين والمفكرين والإعلاميين والنقاد، ما بين الحاجب والعين، كما قال تلميذ البحتريّ!
تذكر "السندباء" هذه "الشوارد"، حين وُكِّلَ إليه تسجيل هذا الاستهلال في الطبعة الجديدة من السفر النفيس:"المدخل في فن التحرير الصحفيّ" الذي راد به مؤلفه دراسات الإعلام في اللغة العربية، ومهَّدَ الطرق لمن جاءوا بعده من الدارسين والباحثين، ولا يرى "السندباء أن من حقه أن يسمي هذا الاستهلال "بالتقديم" فإن أستاذه: الدكتور عبد اللطيف حمزة رحمه الله، مقدّم متقدّم، له من بحوثه ومؤلفاته وريادته، ومدرسته العلمية التي شيَّدَها، وأرسى دعائمها، له من ذلك كله، رسلٌ تتقدم به إلى كل مكان تصل إليه دراسات الإعلام في العصر الحديث.
وليس من حق "السندباء" أن يسمي استهلال هذا الكتاب بالتعريف، وهو يتمثل قول الفرزدق:"العرب تعرف من عرفت".. فلا حاجة بالأستاذ الدكتور عبد اللطيف حمزة إلى تعريف، ولكننا نحاول أن نقول عنه شيئًا جديدًا فيما يتصل بنا، من تمثل لنموذجٍ من أعظم نماذج التواصل بين الأجيال في العصر الحديث.
أستاذنا الجليل د. عبد اللطيف حمزة رحمه الله، أصح من عرفت بمصر فقهًا في علوم الإعلام، وأصدقهم رأيًا في الأدب، وأكثرهم درايةً بالنص الصحفيّ منذ نشأة الصحافة العربية في مصر، في أوائل القرن التاسع عشر، ومنذ تطورها في القرن العشرين، ودارسًا، حتى رحيله عن عالمنا، بداية الثلث الأخير من هذا القرن.
كان يدرس الصحافة في قسم الصحافة والتحرير والترجمة بكلية الآداب جامعة القاهرة منذ إنشاء هذا القسم، وقبله في معهد الصحافة والتحرير والترجمة بالجامعة نفسها.
بدأت أختلف إلى دروسه في كلية الآدابِ، فلزمته أربع سنين؛ لم أنقطع عن درسه في فن التحرير الصحفيّ، وتاريخ الصحافة المصرية، وعرفت فيه محبة الآباء لأبنائهم، ومبادلة الأبناء له محبةً بمحبةٍ تقترن بالإجلال والإكبار، وهي الصلة التي لخصها عميد الأدب العربيّ د. طه حسين في قوله، عن أثر العطف والحنان في نموذج الأستاذ، حين يتواصل مع تلاميذه، فيندفع الأستاذ والتلميذ على أن يتعصب كلاهما لصاحبه، ويناضل عنه، على نحو ما يكون بين الأبناء البررة والآباء المشفقين.
سعدت بهذا الأستاذ قديمًا، وسأظل سعيدًا به طول الدهر؛ لأنه صادف القلب، في نضارة الشباب؛ ولأنه حبٌّ مصدره العلم، لم تفسد عنصره المادة، ولم تكدر جوهره مآثم هذه الحياة.. حب الأستاذ ودرسه قد أثَّرَا في نفسي تأثيرًا شديدًا، فصاغها على مثاله، وكوَّنَا لها في الأدب والنقد والصحافة والتحرير ذوقًا على مثال ذوقه، ومنهجًا على نحو منهجه.. إيثارٌ للتأصيل في الفكر والإبداع، وكَلَفٌ بمناحي التجديد في مدارس الإعلام والاتصال بالجماهير، وبغض شديد لما يعارض الضمير الصحفيّ، استجابةً لدعم الصلات بين المجتمع وصحافته، وما ينبغي أن تكون عليه هذه الصحافة.. كان دافعه لتأليف الكتاب إذ ذاك، كثرة ما نشر في نقد الصحافة، وقد انزلقت يومئذ إلى الإثارة والبعد عن النزاهة والاستقامة، والجنوح بالصحف إلى الأخبار الهشة، والموضوعات التافهة، والتسلية الرخيصة، والخوض أحيانًا في أعراض الناس بحقٍّ وبدون حقٍّ..
لذلك كانت قضية "التأهيل الصحفيّ" من أهم القضايا المحورية في عمله العلميّ بالجامعة، منذ انتقل إلى معهد الصحافة والتحرير في كلية الآداب، إلى أن عُيِّنَ رئيسًا لقسم الصحافة بعد ذلك في كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1962.
تظهرنا السيرة الغيرية للدكتور عبد اللطيف حمزة، على أنه قد وُلِدَ في 7 يوليو سنة 1907 في طنا، بني سويف، ثم تخرج في كلية الآداب سنة 1931، ووفي سنة 1923 حصل على دبلوم معهد التربية العالي، وعُيِّنَ مدرسًا بمعهد التربية، ثم حصل على
درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، وعُيِّنَ مدرسًا بكلية الأداب جامعة القاهرة، أستاذًا بقسم اللغة العربية فيها، ثم في سنة 1962 عُيِّنَ رئيسًا لقسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة.
وفي 9 نوفمبر سنة 1964 انتدب للتدريس بجامعة بغداد؛ كرئيسٍ لقسم الصحافة بها، إلى أن رحل عن عالمنا في منتصف عام 1970 رحمه الله، بعد رحلة جهادٍ علميٍّ كان من ثمارها أجيالٌ تخرجت على يديه، لتعمل في وسائل الإعلام على اختلافها، ولتواصل رحلة البحث العلميِّ في الدراسات الإعلامية، مؤكدةً المغزى الذي تلخصه سيرته في النموذج الإيجابيِّ للتواصل بين الأجيال.
وتظهرنا سيرته الذاتية، على صورة رائعة من صورة الجهاد في البحث العلميّ، وفي المهنة الجامعية نفسها، وهو يواجه مشقات الحياة والمهنة بقلبٍ مطمئنٍ، وضميرٍ نقيٍّ، لا يبالي بمشقة الحرمان.
عرفت أستاذي الدكتور عبد اللطيف حمزة رحمه الله، منذ نيف وأربعين سنة، أي: منذ جيل كامل في النهضة الإعلامية والعلمية الحديثة، تتلمذ على يديه، ورأى فيه نموذج المجاهد العالم، وهو يعلم الأبناء كيفية تحرير الشعوب من العبودية والجهل، كما يعلمهم كيف يحاربون الطغاة والمفسدين؛ ليحرروا الناس من الظلم والذل والحرمان! رأوا فيه نموذج العالم والأديب والمعلم؛ الذي يتمثل في صورة المستكشف، مساهمًا في تقدم المدنية، والمفكر الذي يُبَصِّرُ الناس بحقائق الحياة، والمبدع الذي يملأ حياة الناس بالحب والإبداع، متوسلًا بوسيلةٍ من أعمق وسائل الاتصال بالجماهير، هي وسيلة الاتصال الصحفيّ، وقد عَلَّمَ تلاميذه أن يتخذوا منها وسيلةً تغطي الجدران العارية، للحياة الكئيبة على حد تعبير "والترسكوت" بثمار عبقرياتهم البهيجة الجميلة! مقدمًا النموذج الذي لا يسعى وراء ثناء الناس ومديحهم، ولا وراء الشهرة والمظاهر الزائفة، وإنما وكده دائمًا: السعى وراء الحرية والحق، وإنارة الطريق الذي يؤدي بالناس إلى السعادة والأمن والاطمئنان.