المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مذاهب نشر الخبر: - المدخل في فن التحرير الصحفي

[عبد اللطيف محمود حمزة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌تقديم:

- ‌من مؤلفات أستاذنا الدكتور عبد اللطيف حمزة وبحوثه:

- ‌هذا الكتاب:

- ‌الكتاب الأول: الرأي العام

- ‌الصحافة والرأي العام:

- ‌تعريف الرأي العام:

- ‌الفرق بين الرأي والسخط والعام والاتجاه العام

- ‌أنواع الرأي العام:

- ‌دور الصحافة في تكوين الرأي العام:

- ‌القانون والرأي العام:

- ‌الرقابة على الصحف:

- ‌نشأة الرأي العام في مصر:

- ‌مصادر الكتاب الأول:

- ‌الكتاب الثاني: فن الخبر

- ‌نشأة الخبر وأهميته

- ‌تعريف الخبر:

- ‌في سبيل الحصول على الخبر:

- ‌تقويم الخبر:

- ‌مذاهب نشر الخبر:

- ‌قوالب صياغة الخبر:

- ‌الحوادث الداخلية أو المحلية:

- ‌الأخبار الخارجية:

- ‌طبيعة اللغة التي يكتب بها الخبر:

- ‌تحرير العنوان

- ‌التعليق على الخبر:

- ‌الطرائف المتصلة بالخبر:

- ‌الخبر والمجتمع:

- ‌الأخبار من الزاوية الأخلاقية، وزاوية

- ‌الذوق الصحفيّ والخبر:

- ‌مصادر الكتاب الثاني:

- ‌الكتاب الثالث: فن المقال

- ‌فنون المقال

- ‌المقال القصصيُّ:

- ‌مقال الاعترافات:

- ‌المقال الكاريكاتوري:

- ‌مقال الخواطر والتأملات:

- ‌المقال العلمي:

- ‌المقال الصحفيّ:

- ‌المقال الافتتاحي:

- ‌العمود الصحفي:

- ‌عمود الموضوعات الإنسانية:

- ‌عمود الرياضة والفنون:

- ‌الحملة الصحفية:

- ‌الحيل الصحفية أو الصراع بين الصحيفة والرقيب:

- ‌الكتاب الرابع: فن التقرير

- ‌المجلة

- ‌المقال في المجلة:

- ‌القصة في المجلة:

- ‌وظيفة التقرير الصحفيّ وأهميته:

- ‌فن الحديث الصحفيّ وأنواعه:

- ‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

- ‌التحقيق الصحفي وأنواعه وقواليه

- ‌مصادر التحقيق الصحفيّ، ونموذج له:

- ‌الماجريات وطريقة تحريرها:

- ‌الماجريات البرلمانية:

- ‌الماجريات القضائية:

- ‌الماجريات الدبلوماسية:

- ‌الماجريات الدولية:

- ‌تحرير الصورة والإعلان:

- ‌مصادر الكتاب الرابع:

- ‌الخاتمة: مستقبل التحرير الصحفيّ في مصر

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌مذاهب نشر الخبر:

‌مذاهب نشر الخبر:

عرضنا لطائفةٍ من التعريفات المختلفة للخبر، وعرفنا شيئًا من خصائص الخبر، أو الصفات الأساسية التي ينبغي أن تتصف بها هذه المادة من مواد الصحف، وأهم هذه الصفات أن يكون الخبر مثيرًا لأكبر عدد من القراء، ولكن ما السبيل إلى هذه الغاية؟ هناك اتجاهات ثلاثة في هذه المسألة:

الاتجاه الأول:

هو الاتجاه الذي يهدف أولًا وأخيرًا إلى إثارة القراء، وهو الاتجاه الذي تمتاز به الصحف الشعبية في كل بلد من بلاد العام في عصرنا هذا، وهذه الصحف الأخيرة لا تجاريها صحف أخرى في سعة الانتشار وضخامة التوزيع، ومثلها: صحف "أخبار اليوم" في مصر، وصحيفة "الديلي اكسبريس" في انجلترا.

وما دام القراء هم الهدف الأول والأخير في هذا المذهب من مذاهب نشر الخبر، فمعنى ذلك أنهم -أي: القراء- هم الذين يملون على الصحيفة نوع الأخبار، وهم الذين يكون لهم دخل كبير في اختيارها عادة، وفي ذلك يقول الإنجليز عن رائد الصحافة الشعبية في بلادهم، وهو "نور ثكليف"1.

لم يعد هذا الرجل هو الذي يحرر الجريدة؛ لأن محرريها الحقيقيين هم القراء.

1 هو صاحب جريدة The Evening news

ص: 114

ولا شك أن من أهم الصفات التي تثير رغبة القراء في الأخبار صفة الغرابة أولًا، وصفة الدراما ثانيًا، ومن الأخيرة صفات الجنس، والغموض والشهرة، والأمور الشخصية، ونحو ذلك1.

من أجل هذا يقول أصحاب الصحف المتمرسون بها إلى اليوم: إن الأخبار هي كل شيء خارج المألوف.

ويقول الصحفيّ المشهور "نور ثكليف" الذي تقدم ذكره:

"في شارع تسكنه مائة أسرة وأسرة، لا يلتفت الناس إلى مائة أسرة تعيش عيشة مألوفة هناك، بينما يلتفون إلى أسرة واحدة تكون لها حالة شاذة؛ كحالة طلاق، أو جريمة، ونحو ذلك".

ومعنى هذا بعبارة وجيزة: أن الصحيفة التي تؤثر هذا الاتجاه تقصد دائمًا إلى إشباع رغبات الجمهور عن هذا الطريق، وتعترف بحق الجمهور المطلق في السيطرة على الصحيفة على هذه الصورة، وتعتبر أن من أول ما يجب عليها البحث عما يعجب هذا الجمهور، ولا تعمد مطلقًا إلى مقاومته، أو إهمال رغباته وميوله من هذه الناحية.

ولهذا أيضًا نرى الصحف الشعبية التي من هذا النوع تتجنب صفة "الجفاف" في الأخبار، ولا تبدي عناية تامة بالأخبار الجدية التي تتصل بموضوعات العلم أو السياسة وما إليها.

والملاحظ عادة أن الأخبار الجدية تخلو من عنصر التشويق، ولهذا تقدم الصحف الشعبية أخبار الجريمة والجمال والمسرح أولًا، ثم تأتي أخبار المجتمعات الدولية، والهيئات الرسمية، والمؤتمرات، والميزانية، والقرارات الحكومية العامة فيها بعد ذلك.

1 إن الصحفيّ الأمريكيّ "جون بوجارت" من كتاب القرن الـ 19 ينسب القول المشهور: إذا عض كلب إنسانًا، فليس هذا هو الخبر، أما إذا عض إنسان كلبًا، فهذا هو الخبر، كتاب الصحفيّ الأمريكيّ.

ص: 115

ويبدو كذلك للمتأمل في الصحف الشعبية التي تؤثر هذا الاتجاه، نحو أنها تضطر في بعض الأحيان إلى أن تتجاوز هذه الحدود، إلى ما هو أخطر منها بكثير، ويكون من نتيجة ذلك أن تولي هذه الصحف كثيرًا من الأخبار التافهة عنايةً كبيرةً، وبدلًا من أن تبذل جهدها في الحصول على الخبر الهام، ثم التعليق عليه، ثم تفسير كل ما يتصل به، نراها تعمد غير مشكورة إلى تلك الأخبار ذلك الطعوم الحريفة، إثارةً لشهوة القراء، وانحرافًا بهم إلى العناية بهذه التوافه، وما تزال الصحافة الشعبية بقرائها تجذبهم إلى هذه الطعوم، وتعودهم الاكتفاء "بالتوابل" و"المشهيات" من ألوان الأخبار، حتى يعتاد القراء منها ذلك، وينصرفوا انصرافًا تامًّا عن الألوان الصحفية الأخرى.

وقد حدث في مصر أن صحيفةً شعبيةً نشرت أخبار عن الجن والشياطين الذين ظهورا بزعمها في حي شبرا، كما نشرت خبرًا عن شيخٍ أو درويشٍ مر على جسده القطار ولم يمت!!

ومن الحق أن يقال: إن التبعة في هذه الحالة لا تقع فقط على الصحافة، ولكنها تقع في الغالب على حالة القلق التي يعانيها الناس في العصر الحاضر، أو إلى حالة التوتر النفسيّ والإرهاق العصبيّ الذي يصيبهم في حياتهم العامة، أو إلى حالة الجهل التي عليها أكثر طبقات الشعب في وقتنا هذا، أو إلى الفراغ الذي تشعر به الكثرة من الشباب والفتيات والنساء، أو إلى جميع هذه الأسباب.

ومع هذا وذاك، فإن الصحف الشعبية التي تسير في هذا الاتجاه تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا؛ من حيث تقديرها للأخبار، أو من حيث حاسة الشم التي تميز بها بين مختلف هذه الأخبار، فبعض الصحف الشعبية تميل إلى شيء من الحكمة والرزانة، والشعور بتبعة الصحافة، ومن ثَمَّ تحتاط بعض الشيء في إيراد الأخبار التي تتصف بالدراما أو بالغرابة.

ولكن من الصحف الشعبية في نفس الوقت ما لا تقيم وزنًا ما لهذه

ص: 116

الأشياء، فتراها تندفع اندفاع السيل في إيراد الأخبار المثيرة، ولو كانت جارحةً للأخلاق، أو منافية لبعض القيم الإنسانية والاجتماعية والدينية في الأمة، وهذه الصحافة الأخيرة هي الصحافة الصارخة، أو صحافة الجاز Gass Journal ism كما يصفها بعضهم بهذا الوصف، أو الصحافة الصفراء، كما تسمى في أمريكا.

وإلى أتباع هذا الاتجاه من الصحفيين نوجه الانتباه إلى هذا السؤال: هل الأخبار دائمًا سيئة؟

ويجيب "جون هوهنبرج" صاحب كتاب "الصحفيّ المحترف" فيقول:

"يقال: إن الأزمات والكوارث والمصائب تستخدم دائمًا من أجل بيع الصحف، ويقولون: إن معظم الصحف تتألف بشكلٍ واضحٍ من مجموعة الفظائع التي تحدث للأفراد والمجتمعات على حَدٍّ سواء".

وفي هذه الأحوال تكون "طبيعة الحال شيء من الصدق" ولكن ليس كل الصدق، فالصحفيون -بتقريبهم من الناس- يفضلون الأخبار السارة على الأخبار السيئة.

وقد منحت جائزة "بوليتزر" إلى محرر صحفيٍّ كاد يفقد حياته أثناء محاولته إنقاذ حياة طفلة صغيرة، كما منحت هذه الجائزة إلى محرر نجح في إنهاء إضرابٍ عن طريق التقريب بين وجهات نظر الفريقين المتعارضين، كما منحت لمصور التقط صورة لأحد رجال الشرطة وهو يحادث طفلًا في استعراض عيد رأس السنة الصينية.

وليست هذه إلّا أمثلة بسيطة1.

أما الاتجاه الثاني: فهو الاتجاه المحافظ، وفيه تنظر الصحيفة إلى اعتباراتٍ أخرى، إلى جانب الاعتبار الأول الذي هو اهتمام القراء، ومن هذه الاعتبارات التي تنظر إليها الصحيفة:

1 الترجمة العربية للكتاب للأستاذ فؤاد ص69.

ص: 117

أولًا: توخي الصالح العام دائمًا، فإذا تعارض هذا الصالح العام مع عنصر الغرابة، أو عنصر الدراما، أو عنصر الجنس، أو عنصر الغموض، آثرت الصحيفة الصالح العام على هذه العناصر، وضحت في هذه الحالة بجزء كبير من القراء، أو بعبارة أخرى: بجزء من الربح الماديّ للجريدة.

ثانيًا: أن تكون المادة الصحفية نفسها -خبرًا كانت أم مقالًا- مما يرشد الأفراد ويعلمهم ويثقفهم، ويهديهم في علاقاتهم بالناس، وبالحكومة، وبالعالم.

ثالثًا: أن تكون هذه المادة الصحفية مما يتفق وقواعد العرف أو الذوق، ولا يخالف قانون البلاد.

وعلى ذلك فأصحاب هذا المذهب الثاني، من مذاهب نشر الخبر، لا يعترفون بالمبدأ القائل:"قدم إلى قرائك ما يحبونه فقط"، ولكنهم يرون أن على عاتق الصحف واجبًا كبيرًا، هو أن تخلق في نفوس قرائها الاهتمام بالأخبار الهامة، والمسائل العامة، والأمور التي تتصل بسعادة الجماهير، ورفاهية الشعوب، وتقدم الجماعات الإنسانية، ونحو ذلك، وفي هذه الحالة -أي: باتباع الاتجاه الثاني من اتجاهات نشر الأخبار- يصبح للخبر الصحفيّ عندهم، تعريف آخر يخالف التعريفات المتقدمة من بعض النواحي، وهذا التعريف الجديد هو قولهم:

"الخبر الصحفيّ هو كل شيء يهتم به القراء، ويكون ذا صلة واضحة بشئونهم الشخصية، وأحوالهم الاجتماعية، وعلاقاتهم بالدولة، وبالأشخاص.

وهكذا تتسع هوة الخلاف بين الاتجاه الأول المسرف في التحديد، والاتجاه الثاني المائل إلى المحافظة والتقييد، ويظهر هذا الخلاف بينهما لا من حيث مادة الخبر ذاتها فقط، ولكن من حيث طريقة العرض أيضًا، فبينما تهتم الصحف الأولى عند شر الأخبار بإثارة الغرائز، وتعتمد دائمًا على رغبة القراء في معرفة الأسرار، والوقوف على الخبايا؛ إذ بالصحف

ص: 118

المحافظة تؤثر العناية بالموضوع الهام؛ من حيث هو دون نظر القراء، مراعيةً في ذلك المطابقة التامة لقواعد الذوق والأخلاق، وما يتطلبه منها الحرص على الصالح والتثقيف العام.

لقد اتسع ميدان الأخبار اتساعًا لا يقاس بما كان عليه في بداية هذا القرن، وقديمًا كانت دوائر الشرطة والمحاكم، ودوائر الحكومة، تقدم معظم مصادر الأخبار للصحف، أما اليوم فلا يمكن لأي محرر يحترم نفسه أن يتجاهل العلوم والصحة والتعليم وشئون المنزل، وإعادة إصلاح الضواحي، وأخبار الإذاعات ومحطات التليفزيون، وعشرات من الميادين الأخرى التي قلما عولجت في السنوات الماضية، وقد انتقلت أخبار العمل والعمال من الصفحة المالية حتى استقرت في الصفحة الأولى، جنبًا إلى جنبٍ مع أخبار الثورات والانقلابات، كما أصبحت أخبار العمال شاملةً لأشياء أكثر من الاضرابات وما إليها، أما أخبار الحريات المدنية فتأتي في الدرجة الأولى من الأهمية:

"وقد كانت جمهرة القراء يومًا تهتم بأخبار الأثرياء والمشاهير، وأخبار الحسان والأشرار من بني الإنسان فيما مضى، غير أن هذه الأخبارلم تعد كافية في وقتنا هذا"1.

خذ لذلك مثلًا -خطبة لزعيم من الزعماء- فالصحيفة الأولى تنشرها مراعيةً في ذلك النواحي التي تجتذب القراء، معنيةً في ذلك بالمظهر الخارجيِّ للخطيب، فتصف لنا ملابسه ووقفته وحركته، وصوته، ونبراته، وما يتخلل خطبته أحيانًا من النكات، وما يقابل السامعون به ذلك من شتَّى الحركات أو التعبيرات، على حين نجد الصحيفة المحافظة تُعْنَى عنايةً تامةً بالخطبة ذاتها.

تقسمها إلى موضوعاتها، وتهتم بنص الخطبة نفسها، فتأتي بها كاملة في أغلب الأحيان، وباختصار تعتمد الصحف المحافظة على عنصر الدقة والجدة

2 المصدر السابق ص70، بتصرف.

ص: 119

في إيراد الخبر، على حين أن الصحيفة الشعبية لا تهتم بهذا الجوهر، وإنما تكتفي بالطلاء الخارجيّ فقط، وفي هذه الحالة تصل الصحف الشعبية أحيانًا إلى اختراع التفاصيل، والاهتمام الزائد بشتَّى عوامل الإثارة والتشويق.

ومهما يكن من شيءٍ، فعلى هذا النوع المحافظ من الصحف تعتمد الحكومات دائمًا في توضيح سياستها وإقناع الجماهير بها، فجريدة "التيمس" الإنجليزية، تعتمد عليها الحكومة البريطانية في وضع سياستها الداخلية وسياستها الخارجية، وجريدة "الطان" الفرنسية، تعتمد عليها الحكومة الفرنسية في مثل ذلك.

وهذه الصحف المحافظة، وإن كانت قليلة الانتشار، محدودة التوزيع، إلّا أنها ضرورة للشعوب والحكومات معًا، ولا تستطيع حكومة منها أن تجد في نفسها غنًى عن مثلها في وقت من الأوقات1.

ولذلك تتمتع الصحف المحافظة بسعة النفوذ والسلطان، حتى لقد يتجاوز نفوذها الإقليم الذي تطبع فيه إلى بلاد الدنيا كلها، ويصيح لها صوت مسموع في كل بلد منها، ويهتم بها الرجال الرسميون، وغير الرسميين في أنحاء العالم المتمدين.

ولا شك أن هذه الصحف المحافظة إنما تستمد سلطانها ونفوذها من دقتها أولًا، وتوخيها المصلحة العامة ثانيًا، وارتفاع مستوى مادتها، ومستوى قرائها آخر الآمر، وكثيرًا ما يكون قراؤها من أفراد الطبقة الحاكمة، أو من الذين يمثلون الرأي العام المستنير في الشعب.

1 يقال: إن جريدة "التيمس" كما لا يكاد توزيعها يزيد على 350 ألف نسخة في انجلترا، في حين أن جريدة "الديلي ميرور" يرتفع توزيعها عادةً إلى خمسة ملايين نسخة في كل يوم، ومع ذلك، فإن "التيمس" تتمتع بميزات كثيرة؛ منها: جلال القدم، والسيطرة التامة على سياسة الحكومة هناك.

ص: 120

والاتجاه الثالث والأخير من اتجاهات نشر الخبر، هو الاتجاه الذي عليه الآن أحدث الصحف، والصحافة الحديثة -كما يقول بعضهم- كائنٌ حيٌّ يتطور بتطور المجتمع، ولذلك يرى أصحاب هذا الاتجاه الثالث والأخير، أن السياسة الخبرية الصحيحة ليست في الجمود على طريقة واحدة، ولكن في التطور والتجدد بتجديد المجتمعات الإنسانية ذاتها، وتغير الظروف المحيطة بها، ومعنى ذلك باختصار أن أصحاب هذا المذهب الأخير في نشر الخبر يحاولون المزج بين المذهبين السابقين، والتقريب بين الاتجاهين السالفين.

والسبب في انتهاج هذا المذهب الثالث والأخير، هو التقدم الذي أصاب المجتمعات الحديثة في العلم والحضارة، وثَمَّ سببٌ آخر لانتهاج هذا المذهب أيضًا، هو أن الصحافة كانت من العوامل الكبيرة التي قربت بين طبقات المجتمعات، وانتهت إلى إيجاد نوعٍ من التجانس العقليِّ بين أفراده كلهم، بحيث لم يعد الفرق كبيرًا في الثقافة بين طبقة وأخرى، كما كان الشأن في الأجيال القديمة.

والذي لا ريب فيه أن هذه المشاكلة بين طبقات الأمة دليلٌ على الصحة العقلية لهذه الأمة، والذي لا ريب فيه أيضًا، أن الصحافة صاحبة الفضل الأول في استمتاع المجتمعات الحديثة بهذه الصفة.

فإذا صح ما نقول -وهو صحيح في كثير من مجتمعات العالم الحديث- فقد وجب على الصحافة الحديثة أن تعنى بأمرين اثنين عنايةً متساويةً في كليهما:

الأمر الأول: هو تسلية الجمهور.

الأمر الثاني: هو تثقيف الجمهور.

والعناية المتساوية بهذين الأمرين معًا، تحمل الجريدة على الجمع بين المذهبين السابقين من مذاهب نشر الخبر، فإن المذهب الأول لا يصلح إلّا لمخاطبة العوامِّ من الناس، والمذهب الثاني ممعنٌ في سموِّه وترفعه على الناس.

ص: 121

والمزج هو الطريقة المثلى لمخاطبة العدد الأكبر من جمهور الشعب على اختلاف طبقاته.

كان الصحفيون قديمًا يقولون:

"إن كلبًا عض رجلًا" ليس خبرًا يستحق النشر، ولكن "رجلًا عض كلبًا" هو الخبر الذي يستحق النشر،

فأصبح الصحفيون حديثًا يقولون:

"إن رجلًا عض كلبًا" ليس خبرًا يُنْشَرُ لخلوه من الدلالة والقيمة بالنسبة للقراء الذين لا يهتمون بهذا الخبر إلّا إذا عرفوا: "أن هذا الكلب مسعور، أو أنه أصبح خطرًا يهدد سكان المدينة أجمعين".

وهكذا أصبح جمهور القارئين لا يعبأ بالمبالغات الصحفية التي تظهره بمظهر الأطفال أو المغفلين، بل أصبح هذا الجمهور يسعى وراء الدقة والعناية بالجوهر، وبغير ذلك من الأمور التي تظهر قراء الجريدة بمظهر الكبار الراشدين، ولعل هذا الشعور هو ما أفضى بجريدة فرنسية يقال لها La Press إلى التوقف تمامًا عن الصدور، وذلك في سنة 1927، بعد أن بالغت في التغرير بالجمهور، وأمعنت في تزويده بالأخبار الشاذة الغريبة التي خلا أكثرها من الصحة، فاضطر الجمهور إلى مهاجمة هذه الجريدة الكاذبة في دارها، وحكم عليها بالتوقف عن الصدور1.

وحدث مرةً أن نشرت جريدة "كوكب الشرق" في مصر خبرًا عن زيارة الرئيس السابق مصطفى النحاس لبني سويف، وبالغت في وصف الزيارة، وجرت وراء الخيال في هذه المبالغة، ثم ظهر أن النحاس لم يغادر مدينة القاهرة، فسقطت الجريدة من أعين القراء، وعانت كثيرًا من هذه الحالة.

1 من الأخبار التي نشرتها هذه الجريدة خبر عن وصول طيارين مغامرين إلى نيويورك، بعد أن عبرا المحيط الأطلنطي لأول مرة، ثم تبين فيما بعد أن الطائرة سقطت في المحيط!

ص: 122

الحق أن موضوعية الخبر -أو بعبارة أخرى- الاهتمام به من حيث الموضوع، أهم في نظر الصحافة الصحيحة من ذاتية الخبر، بمعنى: ترك الخبر يحمل رأي ناشره، والذي لا شك فيه أن الاتجاه الثالث والأخير أضمن لموضوعية الخبر من الاتجاهين السابقين.

والحق أن الدقة في نشر الخبر من ألزم الصفات لنجاح الصحف، وفي ذلك يقول الصحفيّ "جوزيف بولتيزر" صاحب جريدة العالم "The world":"الدقة للصحيفة كالعفة للمرأة".

وإذن، فلا عذر لصحيفة من الصحف في تساهلها بعض الشيء في صفة الدقة، إلَّا في حالةٍ واحدةٍ فقط، هي توخي الصالح العام للمجتمع، وفي هذا الحالة تستطيع الصحف أن تقصد إلى بعض التحريف في الخبر، وهذا ما يسمى عند الصحفيين:"الأكاذيب البيضاء" فإذا فرض أن وباءً عامًّا انتشر في البلد، وخافت الحكومة من نشر الأخبار الصادقة الدقيقة عن هذا الوباء، حتى لا يستولي على الناس الهلع، فهنا توحي الحكومة إلى الصحف باستعمال الكذب، وهو حلال في هذه الحالة، وأمثالها فقط.

وباختصارٍ ينبغي للصحف الحديثة أن تؤثر الاتجاه الثالث والأخير من اتجاهات نشر الخير، ولا بُدَّ لهذا الاتجاه الأخير من أن يتصف بطائفةٍ أخرى من الصفات، فضلًا عن صفتي الموضوعية والدقة اللتين تحدثنا عنهما، ومن هذه الصفات الأخرى:

1-

صفة "التنوع": فلا يَجْمُل بصحيفةٍ ما، أن تكتفي بطعام واحد من الطعوم التي تقدمها للقراء، بل عليها أن تتخذ من نفسها مائدةً حافلةً بألوان مختلفةٍ من الطعام، حتى يقبل عليها القراء، ويصيب كل منهم ما يرغب فيه من هذه الألوان.

2-

صفة "الشمول": وهي تلك النزعة الحديثة في الصحافة، وباتباعها يصبح على الصحف أن تكون واسعة الأفق، حاويةً لكثير

ص: 123

من المعلومات التي تتصل بالمكان الذي تصدر به، والأماكن الأخرى البعيدة عنها في أطراف هذا العالم المتحضر، والقراء في حاجة مستمرة إلى الإحاطة بكل ما يَجِدُّ في جميع أنحاء العالم.

ويلاحظ الكثيرون أن الأخبار ذات الصبغة العالمية أصبحت تحتل مكانًا عظيمًا في أكثر الصحف، وفي ذلك تقول مجموعة صحف "هرست" الأمريكية، التي أربى توزيعها على 20 مليونًا من النسخ: "إن أمريكا تلح في أن تعلم كل ما يحدث، وكل ما هو خطير وحيويّ، وكل ما هو أقل خطوة وحيوية، إنها يجب أن تعلم ما إذا كان ملك من ملوك البلقان قد أزيح عن عرشه أم لا؟ كما يجب أن تعلم في الوقت نفسه بما حدث أمس في المدينة أو الدولة، وبمن مات، وبمن تزوج، ونحو ذلك، فإنه من تلك الأشياء الدقيقة والجليلة والتافهة، والخطيرة، تتألف مجموعة الأخبار اليومية التي لا بد أن تملأ بها الصحف.

على أن الخبر الصحفيّ مهما كانت الطريقة التي ينشر بها، أو المذهب الذي يتبع في ذلك، لا بُدَّ له من صفتين هما: التشويق والإيجاز، فقد مضى الوقت الذي كانت تسلك فيه الأخبار مسلك الإسهاب، وأصبحنا في زمنٍ ينبغي ألَّا نقدِّم فيه هذا الطعام الصحفيَّ في أطباقٍ يجلس لها الطاعمون إلى الموائد العظيمة، بل يجب تقديم هذا الطعام الصحفيّ على شكل شطائر كلما أمكن ذلك.

وهذا وذاك يَجُرُّنَا إلى الخوض في موضوعٍ جديدٍ من الموضوعات التي تتصل بالخبر الصحفيّ، وهو موضوع، "صياغة الخبر"، أو "القوالب الفنية لصياغته".

ص: 124