الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحوادث الداخلية أو المحلية:
كيف تصاغ في قصة إخبارية؟
تشغل الحوادث الداخلية أو الأخبار المحلية حيزًا هامًّا في الصحافة اليومية منذ نشأتها، غير أن طريقة صياغتها في الوقت الحاضر تختلف اختلافًا كبيرًا عنها في الماضي، ولذا يحرص الكثيرون من المشتغلين بالصحافة في وقتنا هذا على معرفة الأصول والقواعد التي يحسن اتباعها في كتابة هذا النوع من الأخبار بنوع خاص.
وقد يكون الحادث الداخليّ من الأهمية والخطورة في بعض الأحيان؛ بحيث يلفت أنظار القراء على اختلاف درجاتهم؛ وإذ ذاك تعنى الصحيفة اليومية بهذا الحادث الداخليّ عنايةً خاصةً، ونكتبه في الصفحة الأولى، وهي الصفحة المخصصة في الغالب للأخبار الخارجية، وتكتب له العنوانات الضخمة، وفي نفس المكان -أعني: بالصفحة الأولى- تنشر الصحيفة صورة قوية الدلالة على هذا الحادث، وتكتفي بكتابة صدر الخبر في هذا المكان الممتاز من الصفحة الأولى، ثم في الصفحات التالية يأتي الجسم، أو الصلب مشتملًا على التفاصيل.
وسنحاول في هذا الفصل أن نشير إلى بعض الأصول والقواعد التي تتبع في صياغة مثل هذا الخبر، وسنشفع ذلك ببعض الأمثلة من بيئتنا المصرية الحاضرة، ليقيس عليها الصحفيّ كلما تعرض للحالات المشابهة، ومن القواعد الصحفية التي يرددها الصحفيون دائمًا قولهم:
"إن الأسماء هي التي تصنع الخبر".
وهي قاعدة صحيحة لا اعتراض عليها، ولكن الخطأ يأتيها من جانب المبتدئين في التحرير غالبًا؛ إذ نرى هؤلاء يعمدون إلى المبالغة في تكديس الأسماء وازدحامها في صدر الخبر، فيشوشون بذلك على القارئ منذ اللحظة الأولى، فينصرف عن قراءة الخبر.
والحقيقة أنه كما تكون المبالغة في التفاصيل مسيئةً إلى الخبر متى احتلت مكان الصدارة منه على خلاف المتبع، فكذلك ازدحام الأسماء يسيء إلى الخبر إذا صدم به القارئ منذ بداية هذا الخبر، فالأحرى بالمحررين في هذه الحالة أن يقدموا الأسماء المهمة، أو المألوفة للقاريء العاديّ، ثم في أجزاء أخرى من صلب الخبر الداخليّ يصح لهم أن يذكروا الأسماء غير المألوفة له، وهكذا.
وليس معنى ذلك مطلقًا أن على الصحيفة اليومية أن تقلل من عنايتها بالأسماء، أو أن تغفل عن ذكرهم عمدًا في بعض الأحيان؟ كلَّا، فإن القاعدة التي أشرنا إليها صحيحة من جميع الوجوه، واتباعها واجب في جميع الظروف.
وإليك مثلًا يوضح هذا العنصر الهام من عناصر الخبر الداخليّ، ونعنى به عنصر الأسماء -أو بعبارة أخرى- عنصر الإجابة عن سؤال "من؟ " من الأسئلة الستة المعروفة.
وازن معي أيها القارئ بين صيغٍ أربعٍ للإخبار عن حادثة بسيطة على النحو الآتي:
الصيغة الأولى:
غرق صبيان ونجا ثالث مساء أمس عندما انقلب بهم زورق في النيل قرب الزمالك.
الصيغة الثانية:
غرق صبيان من سكان شارع عباس بالجيزة، ونجا ثالث لهم، عندما انقلب بهم زورق في النيل قرب الزمالك.
الصيغة الثالثة:
غرق صبيان من سكان شارع عباس بالجيزة، ومن تلاميذ المدرسة الإعدادية الأميرية، ونجا الثالث، وهو من سكان هذا الشارع، ومن تلاميذ المدرسة نفسها، عندما انقلب بهم زورق في النيل قرب الزمالك.
الصيغة الرابعة:
غرق صبيان هما فلان وفلان، ونجا الثالث وهو فلان، وثلاثتهم من شارع عباس بالجيزة، ومن تلاميذ المدرسة الإعدادية الأميرية، وكانوا مساء أمس يستقلون زورقًا في النيل، انقلب بهم قرب الزمالك.
هذه صورة أربع لصدر هذا الخبر المفزع، ولكن ليس شك هناك في أن الصيغة الأخيرة هي الأقرب إلى الفن الصحفيّ بالمعنى الصحيح؛ إذ هي الصورة التي عُنِيَ فيها المحرر بذكر أسماء الصبية واحدًا واحدًا، وذكر عنوان كل منهم ومدرسته، وهكذا، وهذه الأسماء -وإن كانت في ذاتها مجهولةً لأغلبية القراء، باستثناء سكان شارع عباس، وتلاميذ المدرسة الأميرية الإعدادية- إلَّا أنها تعطي الخبر أهمية خاصة، وتكمله من الناحية الفنية الصحفية الخالصة، وبدونها يعتبر الخبر ناقصًا، ولا يجذب انتباه العدد الكافي من قراء الصحيفة.
وكالحوادث الخاصة بالغرق، أو التصادم، أو التشاجر، أو السرقة، أوالقتل والانتحار، تكون الحوادث الداخلية الخاصة بالحريق.
غير أن حوادث الحريق بالذات، يجب أن يعني بها المحرر الصحفيّ عنايةً من نوعٍ آخر، ذلك أن عنصر "المكان" أو الإجابة عن السؤال "أين؟ " هو الذي ينبغي أن يقدم في هذه الحالة، وهنا يجب على المحرر الصحفيّ أن يكون واضحًا كل الوضوح في تحديد هذا الموقع.
فإذا قال مثلًا: إن نارًا شبت في العمارة رقم 50 بشارع 23 يوليو، وجب عليه في هذه الحالة أن يتبع ذلك بكلمة "فؤاد سابقًا"، فليس كل الناس يعرفون أن اسم هذا الشارع الرئيسيّ من شوارع القاهرة حدث فيه مثل هذا التغيير في التسمية، وأكثر من هذا وجوبًا على المحرر في تحديد موقع الحريق أن يعني بتعريف هذا الموقع، أو المكان للقراء باسم موقع، أو مكان آخر يجاوره، ويكون أعظم منه شهرةً لدى الخاص والعام، كأن يقول المحرر في هذه الحالة:"شبت النار بالعمارة رقم كذا، شارع 23 يوليو "فؤاد سابقا" وهي العمارة المجاورة لسينما ريفولي أو الأمريكيين، أو محلات شملا، وهكذا.
وثَمَّ قاعدة صحيفة ثالثة لا بُدَّ من الاهتمام بها فيما يتصل بالحوادث اليومية، وهذه القاعدة هي:
أن الإنسان أغلى ما في الوجود، وفيه ينبغي أن يتركز اهتمام الجريدة.
واتباعًا لهذه القاعدة يجب على الصحيفة أن تعني دائمًا بذكر الضحايا من الناس قبل الضحايا من الأموال والمتاع.
بل إن الضحايا البشرية ذاتها تتفاوت في نظر القراء، فيكون موت طالب من طلاب المدارس الثانوية، أو الجامعات في مظاهرة سياسية، أهم في نظر القراء، من موت رجلٍ من رجال الأمن الذين عهد إليهم إخماد هذه المظاهرات.
فالمعروف أن عمل الشرطيّ في مثل هذه الظروف عملٌ محفوفٌ بالخطر دائمًا، وموت الشرطيّ في هذه الحالة، قد يكون نتيجةً من نتائج هذا العمل المحفوف بالخطر، ثم إن موته في مثل هذه الحالة يعتبر في نظرالحكومة والجمهور موتًا في سبيل الواجب الذي قام به.
أمَّا موت طالب أو طالبين، أو عامل، أو عاملين، في مظاهرة سياسية، فإنه ليس متوقعًا دائمًا، فوق أنه يتصل اتصالًا قويًّا بالمعنى أو الغرض الذي قامت من أجله المظاهرة، وهو غرض يلفت نظر القراء قبل أي غرض سواه. ومعنى ذلك باختصارٍ أنه ينبغي للصحيفة اليومية أن تعنى بذكر "الضحايا المدنيين" قبل"الضحايا الرسميين" وذلك في الجمل الافتتاحية، أو الفقرات الاستهلالية التي يتألف منها صدر الخبر، وللصحيفة بعد هذا وذاك أن تذكر الضحايا الرسميين في الفقرة التالية للفقرة الأولى مباشرةً، وقد لا يجوز إرجاء ذلك إلى الفقرة الثالثة أو الرابعة.
هذه طائفةٌ من القواعد المتبعة في تحرير الخبر الداخليّ عادةً، أما الطرق المتبعة في صياغته على شكل قصة فكثيرة، سنشرح بعضها فيما يلي:
طرق صياغة القصة الخبرية لحادث داخليٍّ:
من الأصول التي يجب اتباعها في كتابة القصة الخبرية -على وجه العموم- تقسيم الخبر نفسه إلى أجزاء، يستقل كل منها بجانب من جوانبه، أو بحقيقة من حقائقه، وإذا كانت هذه القاعدة ضروريةً في كتابة الأخبار بوجه عام، فإنها أكثر ضرورة في الواقع للخبر المحلي بوجه خاص، ذلك أن الأخبار المحلية عرضةٌ للتغيير المستمر من لحظة إلى أخرى، والمطبعة لا تمهل المحرر حتى يعيد صياغة الخبر المحلي من أوله إلى آخره، فهي لا تدع له أكثر من الوقت الذي يسمح له بحذف فقرة، وإثبات أخرى مكانها، أو إضافة في فقرة جديدة لم تكن موجودة في الأصل إذا لزم هذا الإجراء.
وندع هذه القاعدة جانبًا لننظر في الطرق التي يمكن أن نتبعها في كتابة الخبر الداخليّ، أو صياغة القصة الإخبارية التي تمد القراء بحقائق هذا الخبر.
وهنا نستطيع أن نضع أيدينا على طرق ثلاث، هي:
1-
طريقة الترتيب الزمنيّ المعدول.
2-
طريقة الترتيب الزمنيّ المعكوس.
3-
"التشويق المسرحي "أو التغلب على فتور القارئ".
وإليك الأمثلة:
1-
بطريقة الترتيب الزمنيّ المعدول:
يمكننا أن ننشر الخبر الآتي بالصيغة التالية:
ا- حدث أمس -في طريق مصر الجديدة- أن أخرج سائق "المترو" رأسه من العربة، وكان المترو سائرًا بسرعة كبيرة، فاصطدم رأس السائق بعمود من أعمدة الكهرباء، فقتله في الحال، وقذف به في الطريق وبقي المترو سائرًا إلى الأمام بنفس السرعة.
ب- وشد ما انزعجت سيدة في غرفة "السيدات" حين رأت المترو يسير وحده بدون سائق في الطريق، فصرخت صرخات عاليةٍ لفتت إليها أنظار الركاب الذين ارتكبوا ارتباكًا شديدًا، وصرخ النساء بعدها صرخاتٍ مدويةٍ كذلك.
جـ- وتقدم الكمساري -وهو لا يعرف شيئًا عن القيادة- وطفق يحاول وقف المترو حتى وقف لحسن الحظ في تلك اللحظة الدقيقة.
د- وكان وقوف المترو -لحسن الحظ أيضًا- قبيل المنحنى السابق لمحطة روكسي مباشرةً، بما لا يزيد عن ثلاثين بوصة.
هـ- ولو وصل المترو بسرعته إلى هذا المنحنى الحاد قبيل محطة روكسي لانقلب بركابه، ولأصبح ضحايا الحادث يعدون بالعشرات.
2-
بطريق الترتيب الزمنيّ المعكوس:
يمكننا أن ننشر الخبر بالصيغة التالية:
1-
نجا ركاب المترو في طريق مصر الجديدة من الموت بأعجوبة، حين وقف المترو فجأةً عن السير قبيل المنحنى السابق لمحطة روكسي، بما لا يزيد عن ثلاثين بوصة.
ب- ولو وصل المترو بسرعته السابقة إلى هذا المنحنى الحادِّ قبيل محطة روكسي لانقلب بركابه، ولأصبح ضحايا الحادث يعدون بالعشرات.
جـ- أما الذي تنبه إلى ذلك فسيدة في الحريم، صرخت صراخًا عاليًا حين لاحظت أن المترو يسير وحده بدون سائق، وبسرعة عظيمة، فلفتت إليها أنظار الركاب الذين اضطربوا اضطرابًا شديدًا، وصرخ النساء منهم صرخاتٍ مدويةً كذلك.
د- وإذ ذاك تقدَّم الكمساري -وهو لا يعرف شيئًا عن القيادة- وطفق يحاول وقف المترو حتى وقف لحسن الحظِّ في تلك اللحظة الدقيقة.
هـ- أما السبب في سير المترو بهذه الصورة، فهو أن السائق كان قد أخرج رأسه من العربه، فاصطدم بعمود من أعمدة الكهرباء، فقتله في الحال، وقذف به بعيدًا عن مكانه.
3-
بطريقة التشويق المسرحي:
تستطيع الصحيفة أن تنشر الخبر بالصيغة الآتية:
1-
صرخت سيدة في غرفة السيدات بالمترو، في طريق مصر الجديدة، حين رأت أن هذا المترو يسير وحده بدون سائق، وبسرعة عظيمة.
ب- واضطرب الركاب، وعلا صراخ النساء والأطفال، وشعر الجميع بالخطر الداهم، خصوصًا أن المترو يقترب سريعًا من المنحنى السابق لمحطة روكسي، التي هي أولى محطات مصر الجديدة.
حـ- ولو وصل المترو إلى هذا المنحنى الحادِّ لانقلب بركابه جميعًا، ولعظمت فداحة الحادث، وأصبح الضحايا يعدون بالعشرات.
د- وشاءت الأقدار أن يجري الكمساري إلى مكان السائق، وعلى الرغم من أنه يجهل كل شيءٍ عن القيادة، فإنه أخذ يحاول وقف المترو عن السير، والعجيب أن المترو وقف في تلك اللحظة الدقيقة، وكان وقوفه قبل المنحنى الحادِّ بما لا يزيد عن ثلاثين بوصة.
هـ- واتضح فيما بعد أن السبب في سير المترو على هذه الصورة، هو أن السائق كان قد أخرج رأسه من العربة، فاصطدم بعمود من أعمدة الكهرباء، فقتل في الحال، وقذف به بعيدًا عن القضبان.
تعليق على الطرق الثلاث:
إذا نظرت معي أيها القارئ إلى الطريقة الأولى -وهي طريقة الترتيب الزمنيّ المعدول- لاحظت أنها أسهل الطرق جميعًا بالنسبة للمحرر وللقارئ في وقت معًا، أما المحرر: فإنه لم يعمل فكره كثيرًا في تقسيم الخبر إلى وقائع، وترتيبها بحسب وقوعها ترتيبًا زمنيًّا لا تصرف فيه، وأما القارئ: فإنه لم يجد عسرًا في تتبع القصة الخيرية على هذا الوجه.
غير أن الطريقة الأولى تفتقر إلى العنصر الدراميّ، والعناية فيها بجميع أجزاء الخبر متساويةً تقريبًا، مع أن المتبع عادةً هو المخالفة في هذه العناية، وذلك بتقديم بعض الأجزاء وتأخير الأخرى، والاهتمام ببعض الأجزاء أكثر من الاهتمام بالأخرى، وهكذا.
على أن أهم ما يوجَّه إلى هذه الطريقة الأولى من نقدٍ، هو أنها مبنيةٌ في الواقع على نظام الهرم المعتدل. وقد سبق أن قلنا عن هذا النظام إنه يصلح لنشر المقال، ولكنه لا يصلح دائمًا لكتابة الأخبار، ومعنى ذلك أن اتباع هذه الطريقة الأولى في صياغة الأخبارمن شأنه ألّا يجعل الفرق واضحًا أو مفهومًا بين صياغة الخبر وصياغة المقال، وفي ذلك ما فيه من الخلط بين الفنون الصحفية من حيث الصياغة.
والقائل بهذه الطريقة الأولى من أساتذة الصحافة، هو الأستاذ نيل NELA، ولكنا لا نوافقه على ما ذهب إليه من الإشارة إليها، على أنها من بين الطرق الثلاث المتبعة في صياغة القصة الخبرية، بل نميل إلى القول بالطريقتين الأخيرتين إلى أن يأتي الوقت الذي يبتدع فيه المحررون النابهون طائفة من الطرق الأخرى.
وإذا نظرت معي أيها القارئ في الطريقة الثانية -وهي طريقة الترتيب الزمنيّ المعكوس- وجدتها تُعْنِي بنتيجة الحادثة أولًا- فتأتي بها في أول القصة، ثم تندرج منها إلى الوقائع التي أدت إليها.
وهذه الطريقة الثانية أكثر اتباعًا في الصحف السيّارة، وإن احتاجت من المحرر إلى جهدٍ أكبر، ووقتٍ أطول.
أما الطريقة الثالثة والأخيرة -وهي طريقة التشويق- فإنها أفضل الطرق جميعًا، وفيها يستطيع المحرر أن يغلب على فتور القارئ، وذلك بأن يوفر له العنصر الدراميّ، وفيها كذلك إهمال تام للعنصر الزمنيّ؛ إذ المهم في هذه الحالة هوالحادث نفسه وصورة وقوعه، وحتى النتيجة نفسها تأتي في الأهمية بعد الصورة، أو الكيفية، أو العنصر الدراميّ في مثل هذه القصة.
غير أن هذه الطريقة الأخيرة تتطلب من التحرير تفكيرًا أطول،
ومهارة أكبر، وإنها لا يحسنها في الواقع إلّا كاتب بارع، أو محرر متمرن، وهو بهذه البراعة، وهذه المرانة، قادر على التصرف في القصة الخبرية تصرفًا صحفيًّا سليمًا جاريًّا في الوقت نفسه مع الأصول والقواعد التي أشرنا إليها.
وقبل الفراغ من هذا الفصل يجدر بنا أن ننبه القارئ هنا إلى أننا في تطبيق الطرق الثلاث على صياغة الخبر، إنما عنينا بشيءٍ واحد فقط، وهو كتابة صدر الخبر، والطرق المتبعة غالبًا في كتابة هذا الصدر، وأهملنا العناية بالعنوان من جهةٍ، وصلب الخبر من جهةٍ ثانيةٍ.
والحقيقة التي لا نزاع فيها، أن صدر الخبر أهم في نظر الصحيفة ونظر القارئ من صلب الخبر؛ لأن هذا الأخير -وهو الصلب- هو مكان التفاصيل التي تملأ بها الصحيفة فراغها غالبًا، وهي لذلك إنما نكتب دائمًا "البنط" الدقيق أو الخفيف، ويقع جزء منها في الصحيفة التي كتب فيها صدر الخبر، وتقع الأجزاء الباقية من هذه التفاصيل في الصفحات الأخرى من الصحيفة، أما القرّاء فلا يمضي منهم في قراءة هذه التفاصيل عادةً إلّا مَنْ يسمح له وقته بهذه القراءة، ومن هنا جاء اهتمام الصحيفة دائمًا بصدور الأخبار دون جسومها أو أصلابها، وكان الجهد الفنيّ الذي يبذل في كتابة هذه الأصلاب أقل بكثير جدًّا من الجهد الفنيِّ الذي يبذل في كتابة الصدور.
وذلك ما أردنا أن نلفت إليه نظر القارئ حتى يفهم أن القصة الإخبارية على الصورة التي قدمناها له، يجب أن تكون لها بقيةٌ تقصر وتطول حسب التفاصيل التي استطاع مخبر الصحيفة جمعها، وتزويد صحيفته بها، حتى تستطيع كتابة القصة كاملة.
وللصحيفة ذاتها بعد ذلك أن تتصرف في هذه التفاصيل، فتكتب منها ما تريد في الطبعة الخاصة بالعاصمة، وتكتب منها ما تريد أيضًا في الطبعة
خاصةً بالأقاليم، وإن كان المتبع في الغالب أن طبعة الأقاليم -حيث يتسع الوقت أمام الجمهور القارئ- تكون مزودةً بقدرٍ أكبر من التفاصيل التي لا تتسع لها طبعة العاصمة، وحيث لا يتسع الوقت فيها للقارئ لكي يأتي على هذه التفاصيل من أولها إلى آخرها.
الأخبار الكبيرة، أو الأخبار ذات الزوايا المتعددة:
من الأخبار الداخلية، أو الخارجية، مما يمس عددًا محدودًا من القراء، ومنها ما يمس عددًا كبيرًا منهم، وقد ألمعنا إلى ذلك عند الكلام عن "تقويم الخبر"، وسمينا النوع الأخير بالأخبار الضخمة، أي: التي يهتم بها أكبر عدد ممكن من القراء، أو التي تمس مشكلةً من أهم المشكلات السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
وهذا النوع الأخير من الأخبار فوق أنه يوصف بالفخامة، فإنه يوصف كذلك بأنه متعدد الزوايا، والمقصود بالزوايا هنا: الوحدات أو النواحي الكثيرة التي يتألف منها الخبر الصحفيّ، أو الجهات العديدة التي يهمها الخبر، وهنا تحتاج كل وحدة من هذه الوحدات، أو ناحية من النواحي، إلى مندوبٍ صحفيٍّ خاصٍّ يأتي بمعلوماتٍ عنها، وعلى الصحيفة في النهاية أن تؤلف من جميع هذه الزوايا أو النواحي خبرًا كبيرًا يهم القراء أن يقفوا عليه، وكثيرًا ما يقوم رئيس التحرير بدراسة الموضوع الخبريّ في ذاته، ثم يتولى تقسيم المحررين أو المندوبين الإخباريين على نواحي هذا الخبر وزواياه بعد ذلك.
ولنبدأ أولًا بضرب الأمثلة على هذه الأخبار الضخمة، أو الأخبار المتعددة الزوايا، فمنها على سبيل المثال:
* خبر ثورة داخلية كبرى؛ كثورة مصر في 23 "تموز" يوليه 1952، وثورة العراق في 14 تموز "يوليه" سنة 1958.
* خبر عدوان خارجيّ على البلاد؛ كالعدوان الثلاثيّ على مصر سنة 1956.
خبر حادث كبير؛ كحادث تأميم قناة السويس الذي كان سببًا في العدوان الثلاثيّ على مصر كما هو معروف.
- حادث انتشار وباء خطير؛ كالطاعون أو الكوليرا.
- حادث زلزال، أو انفجار بركان.
- حادث عصابة كبيرة تتجر في المخدرات.
- حادث سقوط جسر من الجسور، في جهةٍ كالقناطر الخيرية بالقاهرة، وهو المعروف هناك "بالكبري الهزاز".
وسنضرب المثل هنا أولًا، بحادث تأميم قناة السويس:
عندما أعلن الرئيس عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس، وكان ذلك في مساء اليوم السادس والعشرين من يوليو "تموز" سنة 1956"، شعرت الصحافة العالمية عامَّةً، والصحافة المصرية بوجهٍ خاصٍّ أنها أمام خبر في غاية الضخامة، واهتمت الصحف المصرية يومئذ بالنواحي الآتية وهي:
الناحية الأولى: الخطبة التي ألقاها الرئيس عبد الناصر واستمعت إليها الجماهير بأعصابٍ متوترةٍ وأنفاس مبهورة، بينما كان الملايين من الناس في الإسكندرية وغيرها من المدن المصرية يحدقون بأجهزة الراديو، أما المعلقون السياسيون من الأوربيين، فوصفوا هذه الخطبة بأنها كانت أقوى من قنبلة مدوية أصمت آذان الاستعمار، وأذهلته عن نفسه.
الناحية الثانية: كيف تَمَّ الاستيلاء على مركز الشركة في السويس، وذلك في أثناء الخطاب الذي ألقاه الرئيس، أو كيف طرد الضباط المصريون جميع الأجانب التابعين لهذه الشركة من مكاتبهم، واحتلوا هذه المكاتب.
الناحية الثالثة: كيف تَمَّ الاستيلاء كذلك على مكاتب المركز العام للشركة في القاهرة نفسها.
الناحية الرابعة: من هم أعضاء الإدارة الجديد بعد أن ألغى القرار الذي أصدره جمال عبد الناصر مجلس الإدارة القديم.
الناحية الخامسة: ماذا تقول وكالات الأنباء الخارجية عن هذا الحادث، وماذا تقول الصحف والإذاعات الأجنبية كذلك؟
كل هذه الأمور تشعبت عن حادثٍ واحدٍ، هو حادث تأميم قناة السويس، وثَمَّ أمورٌ أخرى تشعبت عنه كذلك لا نريد الإطالة فيها، وكل واحد من هذه الأمور، أو كل زاوية من هذه الزوايا تحتاج إلى محرر مسئول لتغطية الأخبار والمعلومات التي تتصل بهذه الناحية أو الزاوية.
ومن مجموعة هذه الأخبار والمعلومات تتألف القصة الإخبارية الضخمة ذات الزوايا المتعددة، وتبذل هيئة التحرير مجهودًا فنيًّا كبيرًا في صياغتها، حتى يفهمهما القارئ فهمًا مستقيمًا من جهةٍ، وكاملًا من جهةٍ ثانيةٍ، وحتى لا تحمل القارئ مهمة ترتيب الوقائع، أو استخلاص النتائج، وتفسير البيانات والتصريحات، ونحو ذلك.
كيف تصاغ القصة المتعددة الزوايا:
قلنا: إن على رئيس التحرير أن يوزع محرريه في الصحيفة على جوانب الموضوع الإخباريّ الكبير؛ بحيث يستقل كل واحد منهم بجانبٍ واحدٍ فقط من جوانبه، ويستطيع كل واحد من أولئك المحررين بعد ذلك أن يكتب الموضوع كما لو كان هذا الموضوع سينشر في الجريدة مستقلًا عن سائر الموضوعات، أو الأجزاء التي يتألف منها الخبر، وبهذه الطريقة يستطيع المحرر المختص بزاويةٍ من الزوايا أن يضع خلاصةً لأهم ما حصل عليه من المعلومات خاصًّا بزاوية، ثم يقدم كل هذه الجوانب، أو الزوايا إلى رئيس التحرير، وفي استطاعة هذا الأخير بعد ذلك أن ينظر في صدور هذه الموضوعات الخبرية؛ ليعرف من أين يبدأ كتابة الخبر الكبير في الصحيفة، كما يستطيع رئيس التحرير بعد ذلك أن ينظر
في جسوم هذه الموضوعات الإخبارية؛ ليعرف أيَّ التفاصيل أهم من الأخرى، ويرتبها ترتيبًا خاصًّا؛ بحيث يقدم الأهم على المهم منها، وهكذا.
ومرةً أخرى نعود إلى شرح الطريقة التي تكتب بها القصة الكبيرة، أو الضخمة، أو ذات الزوايا المتعددة.
فكيف يكتب الصدر أولًا؟:
يمكن لرئيس التحرير أن يكشف بذوقه الصحفيّ عن المحور الذي تدور عليه القصة، ويبدأ به كتابتها، كما يمكن لرئيس التحرير بعد ذلك أن يعرف أبرز ما في القصة كلها من موضوعاتٍ لكي يقدمها للقارئ، ثم يأتي بما هو أقل أهميةً، ومن الجائز أن يتسع صدر الخبر الكبير لأكثر من موضوع واحد، بل إنه ليتسع أحيانًا إلى موضوعاتٍ كثيرةٍ في وقت واحدٍ متى رأى رئيس التحرير أنها متساوية في الأهمية.
مثل للخبر المتعدد الزوايا:
يضرب أحد الصحفيين مثلًا لذلك، خبرًا عن إضراب سائقي السيارات المسماة "باللوري" احتجاجًا على إجراءٍ معينٍ اتخذه أصحاب هذه السيارات ضد سائقيها، ولذلك اتفق السائقون على الالتجاء إلى العنف في حركة الإضراب التي سيقومون بها.
وبدأ الإضراب فعلًا، وجاءت الأنباء إلى المحرر المسئول من مختلف المندوبين الموزعين في أماكن مختلفة.
وينظر المحرر المسئول في كافة العناصر التي وصلت إليه، ثم يختار منها واحدًا يدل على العنف الذي اتفق العمال عليه، فيجعل منه أول جملة، أو فقرة من فقرات الصدر، أو الجمل التي يتألف منها، كأن يكتب الفقرة الأولى بهذه الصورة:
"خمسمائة جالون من اللبن سكبت في الطريق الزراعيّ العام بين القاهرة وقليوب، عندما هاجم عدد كبير من العمال ست سيارات لوري محملة باللبن، وهي في طريقها إلى مصنع الألبان.
أو أن يقول:
وقف العمال القافلة وأرغموا السائقين على النزول من السيارات، وبدءوا في سكب اللبن قبل أن يتدخل رجال الشرطة الذين أسرعوا إلى مكان الحادث، وفي الفقرة التالية من فقرات الصدر يقول:
"كان هذا الحادث أبرز ما وقع أمس ،بعد أن أعلن سائقو سيارات اللوري إضرابهم"1.
وإلى الآن عنيت القصة الإخبارية بجانبٍ واحدٍ فقط، هو حركة الإضراب في ذاتها، غير أن على رئيس التحرير ومعاونيه أن يعنوا فوق ذلك بالجوانب أو الزوايا الأخرى من زوايا هذه القصة الإخبارية الكبيرة، ومنها الزاوية الإخبارية التي تهم أصحاب المصنع، والزاوية الإخبارية التي تهم الجمهور المنتفع، والزاوية الإخبارية التي تهم الحكومة.
وينبغي أن يشتمل صدر الخبر على جملٍ أو فقراتٍ توضح هذه الزوايا الأخيرة، ثم يأتي جسم القصة الإخبارية بعد كل ذلك، وبه جميع التفاصيل التي وردت إلى الصحيفة عن كل زاوية من زوايا القصة الإخبارية كلها، وبذلك تنتهي هذه القصة.
1 جلال الدين الحمامصي "المندوب الصحفيّ" ص125و 126.