المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقال العلمي: المقال العلميّ، من حيث هو نوعان، نوع يكتب للمتخصصين، - المدخل في فن التحرير الصحفي

[عبد اللطيف محمود حمزة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌تقديم:

- ‌من مؤلفات أستاذنا الدكتور عبد اللطيف حمزة وبحوثه:

- ‌هذا الكتاب:

- ‌الكتاب الأول: الرأي العام

- ‌الصحافة والرأي العام:

- ‌تعريف الرأي العام:

- ‌الفرق بين الرأي والسخط والعام والاتجاه العام

- ‌أنواع الرأي العام:

- ‌دور الصحافة في تكوين الرأي العام:

- ‌القانون والرأي العام:

- ‌الرقابة على الصحف:

- ‌نشأة الرأي العام في مصر:

- ‌مصادر الكتاب الأول:

- ‌الكتاب الثاني: فن الخبر

- ‌نشأة الخبر وأهميته

- ‌تعريف الخبر:

- ‌في سبيل الحصول على الخبر:

- ‌تقويم الخبر:

- ‌مذاهب نشر الخبر:

- ‌قوالب صياغة الخبر:

- ‌الحوادث الداخلية أو المحلية:

- ‌الأخبار الخارجية:

- ‌طبيعة اللغة التي يكتب بها الخبر:

- ‌تحرير العنوان

- ‌التعليق على الخبر:

- ‌الطرائف المتصلة بالخبر:

- ‌الخبر والمجتمع:

- ‌الأخبار من الزاوية الأخلاقية، وزاوية

- ‌الذوق الصحفيّ والخبر:

- ‌مصادر الكتاب الثاني:

- ‌الكتاب الثالث: فن المقال

- ‌فنون المقال

- ‌المقال القصصيُّ:

- ‌مقال الاعترافات:

- ‌المقال الكاريكاتوري:

- ‌مقال الخواطر والتأملات:

- ‌المقال العلمي:

- ‌المقال الصحفيّ:

- ‌المقال الافتتاحي:

- ‌العمود الصحفي:

- ‌عمود الموضوعات الإنسانية:

- ‌عمود الرياضة والفنون:

- ‌الحملة الصحفية:

- ‌الحيل الصحفية أو الصراع بين الصحيفة والرقيب:

- ‌الكتاب الرابع: فن التقرير

- ‌المجلة

- ‌المقال في المجلة:

- ‌القصة في المجلة:

- ‌وظيفة التقرير الصحفيّ وأهميته:

- ‌فن الحديث الصحفيّ وأنواعه:

- ‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

- ‌التحقيق الصحفي وأنواعه وقواليه

- ‌مصادر التحقيق الصحفيّ، ونموذج له:

- ‌الماجريات وطريقة تحريرها:

- ‌الماجريات البرلمانية:

- ‌الماجريات القضائية:

- ‌الماجريات الدبلوماسية:

- ‌الماجريات الدولية:

- ‌تحرير الصورة والإعلان:

- ‌مصادر الكتاب الرابع:

- ‌الخاتمة: مستقبل التحرير الصحفيّ في مصر

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ ‌المقال العلمي: المقال العلميّ، من حيث هو نوعان، نوع يكتب للمتخصصين،

‌المقال العلمي:

المقال العلميّ، من حيث هو نوعان، نوع يكتب للمتخصصين، ونوع يكتب لغيرهم من القراء، والأول مكانه الكاتب العلميّ، أو المجلة العلمية التي تصدرها الهيئات أو المؤسسات التي توفرت على نشر العلم، والثاني مكانه الصحيفة اليومية، والمجلة الدورية: أسبوعية كانت أم شهرية أم سنوية، والأول ليس موضوعًا لبحثنا هذا، أما الثاني فموضوع اهتمام الصحافة، ومدار عنايتها، ومادةً من موادها لا تستطيع الاستغناء عنها بحالٍ ما.

والمقال العلميّ الذي تنشره الصحف والمجلات، إنما يحقق غرضين من أغراض الصحافة الخمسة التي أشرنا إليها في غير هذا الفصل، وهذان الغرضان هما:

1-

التوجيه والإرشاد.

2 التسلية والإمتاع.

وليس شكٌّ في أن الناس جميعًا في احتياجٍ إلى من يرشدهم على الدوام فيما يتصل بحياتهم العقلية، وحياتهم الفنية، أو بعبارة أخرى: في احتياج إلى الغذاء العقليّ، والغذاء الفنيّ، وهذا أو ذاك إنما يتم لهم عن طريق المقال العلميّ في الصحيفة أو الإذاعة.

والذي لا شك فيه أيضًا أننا في عصرنا هذا لا نستطيع -ولو حرصنا- أن نلم بجميع العلوم والفنون؛ لأننا في عصر التخصص العلميّ والفنيّ، لكل واحد منا شعبة خاصة من شعب المعرفة أو الفن، توفر عليها، واستأثرت بعقله وقلبه، بل امتزجت بروحه ودمه.

ص: 299

غير أنه إلى جانب هذا التخصص العلميّ أو الفنيّ لا غنى للمثقفين في الأمة عن الأخذ من كل علم من العلوم الإنسانية بطرفٍ، وبهذه الطريقة تستروح العقول البشرية من جهة، ويحدث التوازن العقليّ والروحيّ للمواطن المثقف من جهة ثانية.

وقد أدركت الصحافة منذ نشأتها هذه الحقيقة، فدرجت على إمداد قرائها من حينٍ لآخر بتلك الفصول العلمية المفيدة، والمقالات الفنية الطريفة يتعلمون منها حينًا، وتسلون بها أحيانًا، ويجدون في كلتا الحالتين لذة عقليةً، ربما لا تضار عنها لذة مادية من لذائذ الحياة.

ثم إن القراء أنفسهم -بالقياس إلى المقال العلميّ- طبقتان، كما سبقت الإشارة إلى ذلك:

طبقة لا تعرف إلّا علمًا واحدًا، أو فنًّا مفردًا، ولا صلة لها تقريبًا بغير ذلك من العلوم أو الفنون، وطبقة لا تعرف شيئًا من هذا أو ذاك، ولم يتخصص في شيء من هذا أو ذاك، ولكنها تميل إلى أن يكون لها بعض الإلمام بهذا الشتات من المعلومات.

وما دام الأمر كذلك، فلا مناص للصحيفة من الاعتراف بهذا الوضع، والتقيد بهذا القيد في كتابة هذا النوع من أنواع المقال، وبعبارة أخرى، ينبغي أن تتوافر في المقال العلميّ الذي تنشره الصحيفة شروط عدة، منها ما يلي:

أولّا: الإقلال جهد المستطاع من المصطلحات العلمية المعروفة عند أهل هذا العلم أو ذاك من العلوم التي يتعرض لها المقال.

ومعروف أن لكل علمٍ منها عشرات، بل مئات من المصطلحات، يعرفها المشتغلون بهذا العلم معرفةً جيدة، وكلما جَدَّ جديد من هذه المصطلحات، بادروا إلى معرفته، وأخذوا في تداوله، أما غيرهم

ص: 300

من الناس، فلا علم لهم بهذه المصطلحات، ولهذا وجب على كاتب المقال العلميّ بالذات أن يقصد -ما أمكنه- في ذكر هذه المصطلحات.

ومع هذا وذاك، ينبغي للمحرر العلميّ أن يدرك أن القارئ لا يضيره أن يقرأ لفظًا علميًّا غريبًا على مسامعه إذا دعت الضرورة إلى استعماله في المقالة.

ولا ينبغي للمحرر في هذه الحالة أن يعتذر عن استعمال هذا اللفظ، ولا أن يحاول شرحه شرحًا علميًّا مستفيضًا، فله -مثلًا- أن يستخدم لفظ الوحدة الحرارية، ولكن ليس عليه أن يشرح هذه الوحدة الحرارية من الوجهة العلمية، بل يقول مثلًا: إن ثلاث قطع من السكر، أو قطعة صغيرة من الزبد تولد مائة وحدة حرارية، وإن الإنسان يحتاج إلى مائة وحدة حرارية في الساعة عادة، وإلى مائة وستين وحدة إذا كان يقوم بعمل مجهد "1.

ثانيًا: تبسيط المعلومات التي يقدمها الكاتب للقراء مراعاةً منه لهذه الحقيقة -التي أشرنا إليها الآن- وهي أنه إنما يكتب لغير المتخصصين من القراء.

والكتاب والمحررون في مجال التبسيط درجات؛ فمنهم من وهب المقدرة على شرح المادة العلمية الصعبة بطريقةٍ سهلةٍ على الأسماع، تعرف طريقها إلى الأذهان، ومنهم من غلبت عليه الصبغة العلمية الخالصة، وعجز عن التخفف منها، ولم يستطع أن يقدم للصحيفة غذاءً ما في هذه الناحية.

ثالثًا: اصطناع القوالب الأدبية -كلما أمكن ذلك- في التعبير عن المادة العلمية، ومن هذه القوالب -على سبيل المثال- قالب القصة، وبها

1 كيف تصبح صحفيًّا، لكارل وارين، ترجمة عبد الحميد سرايا، الصفحة الأخيرة.

ص: 301

يستطيع الكاتب القدير أن يحيل هذه المواد الجافة، إلى قصص حيةٍ تحس فيها كأن الطبيعة نفسها تتكلم وتتحرك، أو كأن الحقائق العلمية ذاتها أشخاص تذهب وتجيء، ثم تؤدي أدوارها كأحسن ما يكون الأداء،

وبهذا الأسلوب الجذاب يستطيع الكاتب المتمرن أن يحدثنا عن الطبيعة وظواهرها في قصص:

فقصة المطر، وقصة للقمر، وقصة للبركان، وقصص للجبال أو الوديان، وهكذا.

ثم بهذا الأسلوب الجذاب يستطيع الكاتب أيضًا أن يحدثنا عن الإنسان، وعما يعرض له من حالات الصحة والمرض، وكل ذلك في قصص ممتع.

فقصة عن السرطان، وقصة عن الشلل، وقصة عن الجراثيم، وقصة عن الميكروب، وقصة عن الأنسولين، وأخرى عن البنسلين، وثالثة عن أنواع الفيتامين، وهكذا.

رابعًا: ربط المعومات الطريفة التي يأتي بها الكاتب في مقاله بحاجة من حاجات القراء، أو رغبة من رغباتهم، حتى ولوكانت هذه النزعة مجرد التأمل في قدرة الخالق، وكثير من الناس تحفزهم هذه النزعة الأخيرة إلى القراءة.

خامسًا: عدم طغيان الصفة الذاتية على الصفة الموضوعية، وإن كان ذلك لا يمنع من وجود مسحة ذاتية صريحة تبث في المقال شيئًا من الحياة والإشراق.

ومهما يكن من شيءٍ، ففي مجال المقال العلميّ الآن، تتنافس الصحافة والإذاعة أيهما أجدى على القارئ أو السامع، وأيهما أقدر من الأخرى على تثقيفه بشتَّى المعارف التي تجمعها أفلاك ثلاثة يسبح فيها العالم، وهي:

ص: 302

الله، والطبيعة، والإنسان.

قيمة المحرر العلميّ:

ومعنى ذلك أن أمام المحرر العلميّ مجالات كثيرة يتجه فيها إلى القراء والمستمعين والمشاهدين عن قصة العلم، وهي قصة من أمتع القصص التي يمكن أن يتتبعها المواطنون الراغبون في أذهانهم بالثقافات العلمية على اختلافها.

لقد مرَّ العالم إلى يومنا هذا بثلاثة عصور علمية كبيرة، وهي عصر التجارة، وعصر الكهرباء، وعصر الذرة، والمؤلم في كل ذلك أن للغربيين دون العرب الفضل كل الفضل في هذه العصور الثلاثة، أما العرب فقد ظلوا متفرجين طوال هذه العصور، ولم يكن إلّا في النصف الثاني من القرن الثاني من القرن العشرين أن بدأ العرب يشاركون في الميادين العلمية.

ومهما يكن من شيءٍ، فقد كان على الصحيفة الحديثة أن تقوم بواجبها نحو تزويد المواطن الحديث بالمعلومات الكثيرة عن قصة العلم التي أشرنا إليها.

فمتى اخترعت المطبعة، ومتى اكتشفت أمريكا، ومتى نادى العلماء بكروية الأرض ودورانها حول الشمس، ومتى عرف العلماء شيئًا عن الدورة الدموية، ومتى عرفوا قانون الجاذبية؟ وما هي قصة الآلة البخارية، وإلى أي حدٍّ انتفعت الصناعة بهذه الآلة الجديدة، وما هو التلغراف الكهربائيّ، ومتى نجح الإنسان في تحويل الحديد إلى صلب، ومتى استخدمت الإبرة المغناطيسية في جهاز الاستقبال التلغرافي؟ وكيف واجه "داروين" جميع الناس في عصره بنظريته في أصل الأنواع؟

ص: 303

وما هو صدى هذه النظرية الغربية؟ ومتى عرف العلم الدينامو الكهربائي والمصباح المتألق؟ ومتى عرف التليفون، ومتى عرفت السيارة؟ ومتى ظهر الترام الكهربائي؟ ومتى عرفت الآلة الكاتبة أو الطابعة؟ ومتى سمع الفوتوغراف أو "الحاكي"؟ ومتى وصل العرب إلى الأشعة السينية؟ وما هو أثر ذلك في الطب؟ ومتى كشف العلم عن الإلكترونات، ومتى ظهرت السينما، ثم الراديو، ثم التلفزيون؟ وماذا نعرف عن الأقمار الصناعية؟ وكيف تستخدم الذرة في السلم لا في الحرب؟

وكل موضوع من هذه الموضوعات يصلح لأن يكون قصةً علميةً متى ظفر بالمحرر العلميّ الذي يستطيع أن يصوغ المعلومات الخاصة بها بطريقة تجذب إليها أكبر عدد من القراء، وتوسع في الوقت نفسه مدارك المواطنين، وتخلق بينهم تجانسًا عقليًّا لا بد منه في المجتمع الواحد.

من أجل هذا كان للصحافة المصرية منذ نشأتها عنايةً كبيرةً بالمقال العلميِّ الذي يهدف إلى تزويد القراء بالمعلومات في شتَّى ألوان المعرفة على اختلافها، فعنيت بهذا المقال الصحف الآتية، وهي:

الوقائع المصرية، وروضة المدارس، ووادي النيل، وروضة الأخبار، ويعسوب الطب، ومصباح الشرق، والمؤيد، واللواء، والأهرام، والجريدة، وما زال اهتمام الصحافة المصرية باديًا بهذه الناحية إلى اليوم.

ولكن من الحق أن يقال: إن من أكثر المجلات المصرية احتفالًا بالمقال العلميّ، مجلتا: المقتطف والهلال، ويصح أن تضاف إليهما مجلتا الرسالة والثقافة.

غير أن القدح المعلى في هذا الميدان، إنما كان للمقتطف بالذات، فقد استطاعت هذه المجلة المصرية العتيدة أن تقدم للعلم في مصر والشرق خدمة جليلة، وذلك منذ سبعين عامًّا إلى الوقت الذي احتجبت فيه عن سماء الفكر العربيِّ، ثم تليها في الدرجة العلمية مجلة "الهلال" التي انشئت عام 1892.

ص: 304

وما زالت تخدم العلم والثقافة والأدب إلى اليوم، وقد اعتادت هذه المجلة الأخيرة أن تتحف قراءها في كل عدد من أعدادها بمقالٍ طريف في موضوع من الموضوعات العلمية الدقيقة، وكثيرًا ما تنقل الهلال هذه المقالة أو تلك، إما عن كتاب معروف في الأوساط العلمية، وإما عن إحدى المجلات الأوروبية أو الأمريكية، مثل مجلة "الريدرز دايجست" وقد يكون المقال من تأليف عالم من العلماء في مصر، أو الشرق، أو عضو من أعضاء أسرة التحرير بالمجلة ذاتها.

أما الصحف اليومية الحديثة في مصر، فلم تغفل هي الأخرى ما يجب عليها نحو المقال العلميّ، ومن هذه الصحف المعاصرة صحيفة "الأهرام"، وصحيفة "أخبار اليوم"، وفي الأخيرة ظل الدكتور "سعيد عبده" يكتب فترة طويلة عن الأمراض الكثيرة بعنوان:"خدعوك فقالوا".

وما دمنا نشير إلى فحول الكتاب في هذا المجال، فلا مَفَرَّ لنا من الإشادة برائد هذا النوع من المقالات في العصر الحديث، وهو الأستاذ هولدين Holldane في كتابه. "العلم في خدمة الحياة اليومية" Seience for every day life: وهو حلقة من سلسلة كتب بينجوين Pingwin المعروفة، ولعل هذا الأخير من أوائل من اهتدوا إلى أكثر من طريق لتبسيط العلم وتيسيره على القارئ العاديّ.

يتضح مما سبق أنه لا غنى للصحيفة في عصرنا الحاضر عن "المحرر العلميّ" وهو عضو من أعضاء أسرة التحرير، يمتاز غالبًا بخبرة واسعة في العلوم، وإليه تلجأ الصحيفة في كل ما يتصل بالمادة العلمية التي تسوقها إلى القراء، سواء أكانت في شكل مقال علميّ، أم في شكل عمود إخباريّ، أم في شكل عدد ممتاز يختص بناحية من النواحي العلمية، أو بمرفق من مرافق الأمة، خذ لك مثلًا -صحيفة الأهرام- فإنها تصدر "الأهرام الاقتصاديّ"

ص: 305

مرةً كل شهر في الغالب، وتصدر كذلك عدد خاصًّا باسم:"البلاد العربية" في مواعيد غير محدودة، ولا مضبوطة، لأن أمثال هذه الدوريات إنما تخضع خضوعًا تامًّا للمناسبات، وذلك كله فضلًا عن العمود أو المقال العلميّ الذي تنشره الأهرام اليومية بين حين وآخر1.

وهكذا تتسع دائرة المعارف الإنسانية يومًا بعد يوم، لكنها مهما اتسعت تظل على الدوام ناقصة، وذلك ما يدعو الصحف والمجلات إلى الكتابة العلمية التي تصل الجمهور بكل جديد في العلم من حيث هو.

والناظر إلى "المقال العلميّ" الذي تراد به خدمة الجمهور من قراء الصحف، يرى أن لصياغته طرائق شتَّى منها:

طريقة السرد، وطريقة الحوار، وطريقة القصة، وطريقة الأمثلة والشواهد، وطريقة تصحيح الأخطاء والأفكار، وطريقة الرسوم الكاريكاتورية التي تصور بعض الشخصيات الهامة في الميدان العلميّ، ونحو ذلك.

وقد نبهنا الأستاذ "كارل وارين" في كتابه "كيف تصبح صحفيًّا" إلى طائفةٍ من الوصايا التي يحسن الالتفات إليها عند كتابة المقال العلميّ، ومنها ما يلي:

أولًا: لا تحسن الظن دائمًا بمعلومات القارئ، ولكن في الوقت نفسه لا تحتقر ذكاءه، أو تفترض أنه غبيّ.

ثانيًا: لا تظن أن هذا الخبر أو ذاك قديم على القارئ، كما هو قديم ومألوف لديك، فهناك قراء كثيرون لا يزالون يعيشون في القرن التاسع عشر، أو في القرن الثامن عشر.

1 يشرف على التحرير العلميّ لصحيفة الأهرام، فيما نعلم، الأستاذ عزيز ميرزا، والمسيو ديبونو Deponoo.

ص: 306

ثالثًا: لا تخرج عن دائرة الحياة الإنسانية، فالقارئ آدميٌّ دائمًا، ولا تعنيه غير هذه الموضوعات.

رابعًا: لا تنس كذلك أن القارئ يقاطعك في كل عشرة سطور ليسألك: لماذا، وماذا؟ فإذا لم تجب عن تلك الأسئلة وأمثالها، فلن يتم قراءة موضوعك.

خامسًا: لا تعتقد أنك تجعل الموضوع أكثر جاذبية إذا حشوته بخرافاتٍ أو أشياء خيالية، أو بألفاظٍ تدل على التهويل والمبالغة.

سادسًا: لا تقل: هذا كشف هام، فما دمت قادرًا على ذلك، فلست في حاجة إلى كتابة هذه العبارة.

وعلى أية حالٍ، ليس المحرر العلميّ في الصحيفة عالِمًا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنًى، ولكنه رجل قادر على تفهم المعنى العام لأي اختراع، أو كشفٍ، أو نظريةٍ علميةٍ، ونحو ذلك، وقد لا يتطلب منه ذلك غير دراسات عامة، وتجارب منوعة1.

وبعد، فقد كنا نود أن نورد للقارئ نموذجًا للكتابة العلمية، بقلم الأستاذ "هولدين" أستاذ العلوم بجامعة كمبردج، الذي تقدم ذكره، ولكن منعنا من ذلك أنه غير مصريّ، ونحن إنما نسوق أمثله مصرية بحتة كلما أمكن ذلك.

وعلى هذا، نكتفي بمثال من مجلة "الهلال" هو بالصدفة منشور في العدد الخامس من المجلد الثامن والخمسين، ويتناول موضوعًا طريفًا، هو موضوع "الرادار" وقد اختار له الكاتب هذا العنوان جاء فيه2:

1 المقال "الترجمة العربية" للكتاب بقلم عبد الحميد سرايا ص59.

2 بقلم الدكتور "محمد رشاد الطوبي" بكلية العلوم في جامعة القاهرة.

ص: 307

الأذن السحرية

كلما اكفهر جو السياسة الدولية، وتلبدت فيه الغيوم منذرة باحتمال وقوع الحرب، نشطت السلطات المختصة في كل دولةٍ لتجنيد الرجال العسكريين والعلماء معًا.

والواقع أن تجنيد العلماء للبحث والاختراع، لا يقل أهميةً من الوجهة الحربية عن تجنيد العسكريين، وما زالت معركة بريطانيا الجوية ماثلة في الأذهان؛ إذ جند الألمان ما لا يحصى عدده من الطائرات لكي يقضوا على انجلترا القضاء الأخير، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكسبوا تلك المعركة رغم استعدادهم الضخم الرهيب، وإحكامهم وضع الخطط لتنفيذه، وما كان فشلهم غير المنتظر إلّا نتيجة اختراع "الرادار" أو الأذن السحرية الذى استطاع الإنجليز بها معرفة الطائرات المعادية قبل وصولها بوقتٍ كافٍ لاستعداد قوات الدفاع التي أصلتها نارًا حاميةً عند وصولها، وبذلك فقدت هذه الطائرة عنصر المفاجأة.

ويضع المختصون آمالهم الآن في جهاز "الرادار" لدرء خطر القنبلة الذرية التي ينتظر أن تكون هي السلاح الأول في أية حرب قادمة.

وللرادار جهاز لاسلكي يبعث موجات لاسلكية قوية، يسيرها بسرعة عظيمة في اتجاه محدد، فإذا اصطدمت هذه الموجات بجسم صلب، كطائرة تشق عنان السماء، أو باخرة تمخر عباب الماء، انعكست وعادت إلى الرادار ثانية، وبمعرفة الزمن الذي استغرقته في ذهابها وعودتها يعرف موقع الطائرة أو الباخرة، وتعرف المسافة بينهما وبين محطة الرادار.

ومن المدهش أن الخفاش أو "الوطواط" سبق إلى أسلوب جهاز الرادار منذ أزمنة بعيدة، وقام باستخدامه بنجاح عجيب قبل أن يدرك الإنسان من أمره شيئًا.

ص: 308

فالمعروف أن الخفاش يختفي بالنهار، فإذا أقبل الليل خرج للبحث عن الغذاء طائرًا بسرعةٍ كبيرةٍ في الظلام الحالك، دون أن يصطدم بتاتًا بالأشجار أو بالأبنية التي تعترض طريقه، وكثيرًا ما يخترق الغابات الكثيقة التي تمتليء بالأشجار المتقاربة والأغصان المتشابكة، فيمرق بينها مروق السهم، في سهولة وأمان!

وقد كانت هذه الظاهرة العجيبة -ونعنى بها: تحاشي الخفاش تلك العوائق المتقاربة، وعدم اصطدامه بها- مما آثار دهشة الباحثين زمنًا طويلًا، لما ثبت من أنه لا يستطيع أن يراها في الظلام، فهو إذن لا يعتمد في تجنبها على حاسة النظر، بل هناك -ولاشك- حاسة أخرى، هي التي تنير له السبيل، وتجنبه الاصطدام بتلك العقبات.

وقام كثير من الباحثين بإجراء تجارب عدة، أظهرت في وضوحٍ تامٍّ أن الخفاش لا يعتمد على الإبصار في طيرانه ليلًا، فقد أحضر العالم "سبالانزاني" عددًا من الخفافيش، وفقأ عيونها، ثم تركها بعد ذلك تطير في الهواء، فتبين له من حركتها المتزنة أنها لم تتأثر على الإطلاق بفقدها الإبصار!

ووضع بعض الباحثين خفاشًا في غرفةٍ كبيرةٍ، وثبت في جميع أرجائها أسلاكًا متقاطعة على شكل شبكة، وعلى في تلك الأسلاك أجراسًا صغيرة تدق إذا لمس أي جسم هذه الأسلاك، ثم أطفئت أنوار الغرفة، ووقف الباحثون في ركن منها، لا يرون شيئًا، ولكنهم يسمعون ويحسون بما يجري فيها، وظلوا كذلك حوالي نصف ساعة، والخفاش يطير من مكان إلى مكان متنقلًا بين فتحات تلك الشبكة، دون أن يمسَّ أي جزء فيها، وكان في بعض الأحيان يقترب من وجوههم حتى ليحسون بحركة الهواء الذي تدفعه الأجنحة.

وحينما أضيئت الأنوار انقطع الخفاش عن الطيران، وتراجع إلى أعتم مكان في الغرفة حيث قبع ساكنًا لا يبدي أي حراك.

ص: 309

وبدأ الباحثون يعللون هذه الظاهرة بشتَّى التعلليلات دون أن يهتدوا إلى الدليل الكافي الذي تدعمه التجارب والمشاهدات العملية، وكان التعليل الذي قدمه العالم "هارد تردج" سنة 1920، أول تعليل استساغه أغلب الباحثين، وقد رجح فيه استخدام الخفاش موجات صوتية لا تدركها أذن الإنسان، ثم أيدت الأبحاث الحديثة صحة هذا التعليل.

ولتفسير ذلك نقول: إن الأصوات المختلفة التي نسمعها ننتقل في الهواء على صورة موجات صوتية، ويدرك الإنسان تلك الأصوات فور وصولها إلى طبلة الأذن، ولا تستطيع أذنه أن تدرك من الأصوات إلّا ما كانت اهتزازاتها تتراوح بين 20 و 30 ألف اهتزازة في الثانية، وهي تعرف "بالأصوات المسموعة"، أما الموجات الصوتية التي تزيد اهتزازاتها على هذا، فلا تدركها الأذن، وقد أطلق عليها العلماء اسم:"الأصوات فوق السمعية".

وأثبت بعض العلماء الأمريكيين حديثًا، أن الخفاش لا يصدر الأصوات المعروفة التي نسمعها فحسب، بل يصدر كذلك أصواتًا أخرى "فوق سمعية"، كما أثبتوا أن في استطاعته سماع تلك الأصوات التي تدركها أذن الإنسان، فهو يقوم بإصدار هذه الأصوات التي تنتقل في الهواء، حتى إذا اعترض طريقها بعض العوائق كالأشجار وغيرها، انعكست كما تنعكس أشعة الشمس على سطح مرآة، فإذا ما وقعت تلك الموجات الصوتية المنعكسة على أذنه، أمكنه أن يدرك وجود تلك العوائق، ويعتمد الخفاش في تقدير المسافة التي بينه وبين السطح الذي ينعكس منه الصوت على الزمن الذي يستغرقه الصوت في الذهاب إلى هذا السطح والعودة منه بعد انعكاسه، وهذا ما يحدث تمامًا في جهاز الرادار.

ومن بين التجارب التي أجريت لإثبات وجود تلك الأصوات التي لا نسمعها أنهم وضعوا "ميكروفونات" بالقرب من الخفافيش.

ص: 310

الطائرة، ووصلوا هذه الميكروفوات بأجهزة دقيقة تقوم بتحويل الاهتزازات الصوتية التي لا نسمعها إلى اهتزازات كهربائية يمكن إدراكها بطريقة خاصة، فأثبتت هذه التجارب أن الخفافيش تصدر أصواتًا تتراوح بين 30 و 70 ألف اهتزازة في الثانية، أي: أنها فوق القدرة السمعية للأذن البشرية، وفي الوقت نفسه قام هؤلاء العلماء الباحثون بفحص أذن الخفاش، فظهر لهم أن لها من الميزات ما يجعلها قادرة على سماع مثل تلك الأصوات.

ويقال: إن الحاسة التي يتفادى بها الخفاش جميع الحواجز التي تعترضه تتركز في لسانه، فقد لجأ العلماء إلى قطع عصب تحت لسانه، فاكتشفوا أنه يصدر أصواتًا يتعرف بها على الحواجز التي أمامه بواسطة حركات لسان1

من ذلك نرى أن الطبيعة قد وضعت سرًّا من أدق أسرارها في مخلوقٍ ضعيفٍ لا يكاد يعيره الإنسان هو جدير به من تقدير وإعجاب، فقد استخدم هذه الطريقة العجيبة في كفاحه من أجل الحياة، وتغلب على الصعوبات التي تعترض طريقة أثناء تجواله الليليّ الذي يمارسه بحثًا عن الغذاء.

وهكذا انتهى هذا المقال العلميّ، في شرح نظرية من أدق نظريات العلم، وهي نظرية "الرادار" واصطنع الكاتب في مقاله هذا لغةً سهلةً، تجنب فيها الإكثار من المصطلحات العلمية التي يشق فهمها على القراء، وسرد في سبيل ذلك طائقة صالحة من التجارب التي مارسها العلماء، وشرح هذه التجارب الكثيرة بأسلوب يمتاز بالوضوح والبساطة، كما يمتاز كذلك بربط ما اشتمل عليه من المعلومات الطريفة بحاجة من حاجات القراء، هي الرغبة في السلام، ونزعة من نزعاتهم، أو غريزة من غرائزهم، هي غريرزة حب الاستطلاع، وفي ذلك ما أغنى الكاتب عن

1 راجع مقال "عندما يسمع اللسان " في الصحيفة الزراعية عدد ديسمبر1959.

ص: 311

سلوك سبيل "القصة" أو "الحوار" أو غيرهما من الوسائل الأدبية التي أشرنا إلى بعضها في غضون هذا الفصل.

ومثل هذه المقالات كثير مما كتبه الدكتور أحمد زكي في الصحف والمجلات، وكثير مما أذاعه كذلك من إذاعات، ساردًا في هذه وتلك شيئًا من قصص العلوم والمخترعات.

ولا يتسع الفصل الذي بين يديك لإيراد أمثلة أخرى توضح لك الطرق التي سلكها الكتاب في تبسيط العلم، وتقريبه إلى أذهان العامة، سعيًا وراء هذه الغاية التي تهدف إليها الصحافة، وهي تثقيف رجل الشارع بمختلف الثقافات، وتزويده بشتَّى المعلومات.

كما لا يتسع هذا الفصل لاستيعاب الأنواع الكثيرة للمقال العلميّ، فإن المقالات العلمية تتنوع بتنوع العلوم ذاتها، وما أكثرها كما نعرف، غير أن أشهر ما عنيت، وتُعْنَى به الصحف والمجلات المصرية إلى اليوم من أنواع المقال العلميّ ما يلي:

1-

المقالة النقدية، ومن أشهر كتابها: العقاد، والمازني، وطه حسين.

2-

المقالة الفلسفية، ومن أشهر كتابها: أحمد لطفي السيد، والدكتور منصور فهمي، والدكتور زكي نجيب محمود.

3-

المقالةا لتاريخية، وهي كثيرة الورود في الصحافة المصرية، ولها كتاب عديدون.

4-

المقالةالعلمية، ومن أشهر كتابها: الدكتور صروف، والدكتور أحمد زكي.

5-

المقالة الاجتماعية، وكتابها كثيرون أيضًا في الصحف والمجلات في الوقت الحاضر، وكل ذلك تنشره المجلات أكثر مما تنشره الصحف اليومية.

ص: 312