الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعليق على الخبر:
ليس هناك شكٌّ في أن الأخبار في ذاتها لا تؤثر في حياة الناس، ما لم تكن لها صلاتٌ وثيقةٌ بمصالحهم الخاصة والعامة، ولذا يحتاج القراء إلى فهم هذه الأخبار وإدراكها إدراكًا صحيحًا على ضوء هذه المصالح، وهذا ما يسمى عند علماء الصحافة:"الوعي الصحافيّ"، وعلى الصحافة واجبٌ عظيمٌ هو الوصول بقرائها إلى هذا الوعي، ولا يكون ذلك إلّا عن طريق الشرح لمدلول الأخبار، وتكييفها بحيث تمس وجدان الناس، وتخاطب شعورهم ومصالحهم في وقت معًا، ولا يكون ذلك في أكثر الأحيان إلّا عن طريق "التعليق الصحفيّ".
والتعليق الصحفيّ على هذا النحو يجعل للأحداث التي تنشرها الجريدة معنًى ومغزًى، ويكسبها رائحة وطعمًا، وهو فوق هذا وذاك، يتحكم في نظرة القراء إلى هذه الأحداث؛ فمرةً يحكم التعليق الصحفيّ على بعض الأخبار بأنه تافه، وأخرى يحكم على بعضها بأنه خطير، وتارةً يصفها بأنها حوادث عابرة، وأخرى يصفها بأنها مقدمات لأزمةٍ حادةٍ تؤدي لنتيجة ما، وهكذا.
ومن هنا كان سلطان الصحافة عظيمًا على نفوس الجماهير، ومن هنا كانت الصحافة مسئولة إلى حد كبير عن الثورات، والانقلابات، والتغييرات التي تخضع لها الشعوب، وفي هذه المسئولية الأخيرة، يشترك الأدب مع الصحافة، فليس يكفي أن يقع الظلم على الشعوب حتى تثور، وإنما يشترط للثورة التي يقوم بها الشعب أن يحس هذا الشعب إحساسًا قويًّا بظلم الظالمين، ولن يكون هذا الإحساس الخطير إلّا عن طريق الأدب من
جانبٍ، والصحافة من جانب آخر، والأمثلة على هذا موفورة في التاريخ، فالثورة الفرنسية، والثورة المصرية، والثورة الإيطالية، والثورة الروسية، كلها مدينة لأقلام الكتاب في ميدان الأدب، والمحررين في ميدان الصحافة، ولولا هم لظل الناس يحتملون آلامهم، ويصبرون على بؤسهم وشقائهم، ولا يشعرون بهما يومًا ما.
وفي ذلك يقول علماء النفس:
"إن الحكم على الشيء جزء من تصوره، فلا تستطيع أن تحكم على شيء ما بأنه نافع أو ضار إلّا إذا تَمَّ تصورك له، وإدراكك لمعناه".
ثم إن القراء ليس لديهم الوقت الكافي دائمًا لإدارك الأخبار، وبعضهم عاجزٌ تمامًا عن مثل هذا الإدراك، ومن ثَمَّ كان على كتَّاب الصحف أن يقوموا لقرائهم بهذه المهمة العقلية والنفسية، وبها يستطيع القراء أن يضموا إلى معرفتهم "الخبر" معرفتهم كذلك بـ "ما وراء الخبر".
على أن التعليق الصحفيّ في ذاته، له أنواع كثيرة، والمعلقون الصحفيون فئات كثيرة أيضًا؛ فهناك المعلقون السياسيون، والمعلقون الاجتماعيون، والمعلقون في مجال العلم، والمعلقون في مجال الأدب، ولن يستطيع المعلق الصحفيّ أن يتذوق خبرًا من الأخبار كائنًا ما كان، ما لم يكن له رصيد كافٍ من العلم الذي يعنيه على إدراك هذا الخبر إدراكًا صحيحًا.
والصحفيُّ الذي حُرِمَ قدرًا من المعرفة يكفي لفهم نوعٍ من الأخبار المتقدمة، لا يستطيع بحالٍ ما أن يتصدى للتعليق على هذا النوع بالذات، وإن تَصَدَّى لذلك على غير علم منه أضل القراء، وجنى على صحيفته جناية تقضي بها إلى السقوط والاختفاء.
وثَمَّ سببٌ آخر من أسباب أهمية التعليق على الخبر، ولعله من أخطرها في الحقيقة، وهو سبب يتصل بوكالات الأنباء، وتفسير
ذلك أن بعض هذه الوكالات تهدف في كثير من الأحيان إلى خدمة المصالح الاستعمارية، ويدأب على نشر الأخبار بطريقةٍ ملتويةٍ تساعد على تحقيق هذه الغاية السياسة، وبذلك تلحق الضرر بمصالح البلاد الشرقية أو العربية، وفي هذه الحالة يصح للصحيفة أن تعلق على الأخبار الصادرة عن هذه الوكالات تعليقًا تميز به الجانب الصحيح من الجانب المغرض.
ولعله من أجل هذا السبب الخطير، فكرت الحكومة المصرية في إنشاء وكالة أنباء جديدة، وكانت شركة أنباء الشرق الأوسط أثرًا من آثار هذا التفكير، بل إن الجمهورية العربية المتحدة في هذا الوقت تمكنت من إنشاء وكالة أنباء عربية عالمية، سيكون مقرها جريدة الأهرام الحالية.
وهنا واجب آخر على الصحافة -من حيث التعليق- ونعني به واجبها نحو المجتمع في مجال الجريمة.
نعم، على الصحف في كل وقتٍ أن تعنى عنايةً تامَّةً بالتعليق على أخبار الجريمة، وعليها أن تهدف من وراء هذا التعليق دائمًا إلى بيان الدوافع الحقيقية لارتكاب الجريمة، وطرق الوقاية منها، ودفع أولي الرأي في الأمة لكي يعاونوها معاونةً صادقةً على أداء هذه المهمة الوقائية البحتة.
هذا هو التعليق الصحفيّ، وتلك هي أهميته للصحيفة وللقراء، وهو بهذا الوصف يعتبر نوعًا من أنواع المقال، ولا يصح -في نظرنا- أن يعتبر جزءًا من أجزاء الخبر بحالٍ من الأحوال، وسنرى أن التعليق على الأخبار كثيرًا ما يكون موضوع المقال الافتتاحيّ ذاته في الصحيفة.
أما الذي يعتبر جزءًا من أجزاء الخبر نفسه، فهو الجانب التفسيريّ الذي يتخلل الصلب عادةً، ويكون من جملة التفاصيل التي يتألف منها هذا القسم الهام من أقسام الخبر.
مثال ذلك: أن صحيفةً من الصحف قد تنشر خبرًا عن رئيس وزراء
في السويد أو النرويج، أو الصين الشعبية، أو الصين الوطنية، وتفترض الصحيفة؛ إذ ذاك أن القارئ العاديّ لا يعرف شيئًا ما عن هذا الرجل أو ذاك، وأنه لا يستطيع لذلك أن يفيد فائدةً من الخبر مالم تعمد الصحيفة في جزءٍ من أجزاء هذا الخبر -وهو الصلب عادةً- إلى ذكر شيءٍ عن هذا الرئيس، وكثيرًا ما يبدأ هذا الجزء التفسيريّ بقولها:"ومن المعروف عن هذا الرجل أن ميوله السياسية كذا وكذا" أو "والقراء يعلمون عن اتجاهاته السياسية كذا وكذا"، وبهذه الطريقة تضمن الصحيفة أن الخبر سيقرأ أولًا، وسينتفع به في هداية القارئ بعد ذلك.
وقد اصطلح العلماء على تسمية هذا اللون الصحفيّ باسم: "تفسير الأخبار"، وذلك في مقابل اللون المعروف في الصحافة باسم:"التعليق على الأخبار"، كما اصطلحوا على تسمية هذا الهدف في ذاته:"الوظيفة التفسيرية في الصحافة"، وهي شيء مخالف لوظيفة المقال، أو التعليق، أو العمود، ونحو ذلك، ولكنه يتصل اتصالًا تامًّا بالخبر، ويعتبر جزءًا هامًّا من أجزائه، أو تفصيلًا مهمًّا من تفصيلاته، بحيث إذا خلت منه بعض الأخبار أصبحت ناقصة من الناحية الفنية الخالصة.
وهذه الوظيفة التفسيرية للصحافة هي التي دعت العلماء إلى مراجعة أنفسهم في البحث عن وظائف الصحافة، فقد اتفقوا قبل الآن على أنه للصحافة وظائف أربعًا هي:
1-
وظيفة الإعلام.
2-
وظيفة التوجيه والإرشاد.
3-
وظيفة التسلية والإمتاع.
4-
وظيفة التسويق أو الإعلان.
أما الآن، فقد اتفقوا على أن للصحافة الحديثة خمس وظائف، هي:
تلك التي ذكرناها مضافةً إليها وظيفة "تفسير الأخبار" التي فرغنا من شرحها بطريقة موجزة.
والخلاصة: أن الفرق كبير بين الخبر، وتفسير الخبر، والرأي المبنيّ على الخبر.
فالخبر هو الوقائع التي حدثت بالفعل، وتفسير الخبر جزءٌ هامٌّ من أجزاء الخبر، يراد به شرح نقطة المفاهيم، أو بعض المسميات الواردة في صلب هذا الخبر.
وأما الرأي المبنيّ على الخبر، فهو المراد بكلمة:"التعليق الصحفيّ".
يقول المستر "ماركل" رئيس المعهد الدولي للصحافة، ومعهد الصحافة الأمريكيّ، في شرح الفروق المتقدمة1:"إن ذُكِرَ أن الكرملين يشن حملة من أجل السلام يعتبر خبرًا، وإن شرح أسباب شن الكرملين لهذه الحملة في هذا الوقت بالذات، هو التفسير، والقول بأن كل حملة لسلام تصدر عن الكرملين يجب أن ترفض، هو الرأي، أما الشرح: فهو جزء هام من أجزاء الخبر، أما الرأي فلا مكان له غير أعمدة التعليقات".
وليس من شكٍّ في أنه كما يحتاج التعليق الصحفيّ إلى ثقافة واسعة ومنوعة من جانب المحرر، كذلك يحتاج التفسير الخبريّ إلى هذا القدر من الثقافة، وذلك من حيث السعة والتنوع، حتى يتمكن المخبر الصحفيّ من القيام بهذه الوظيفة الجديدة من وظائف الصحافة خير قيام.
على أن هذا الأمر الهام -وهو تفسير الأخبار- كثيرًا ما يقتضي
1 الصحفيّ المحترف: الترجمة العربية لكتاب "جون هوهبرج" ص35و 36.
من المحرر الصحفيّ أن يكون له "أرشيف خاص" عدا الأرشيف العام الذي للصحيفة، وفي هذا الأرشيف الخاص يستطيع المحرر الصحفيّ أن يجمع المعلومات الجديدة أولًا بأولٍ عن الشخصيات الجديدة عليه وعلى القراء، وهو يعلم علم اليقين أنه محتاج إليها يومًا ما، عند تفسير خبر من الأخبار التي تتصل بإحدى هذه الشخصيات.
ومن هنا تبدو أهمية هذه الإدارة من أدوات المحرر الصحفيّ، التي هي ألزم له من "كراسة التحضير للمدرس"، ونعنى بها المجمعات الإخبارية الخاصة والعامة، أو ما اصطلح الصحفيون أنفسهم على تسميته باسم:"الأرشيف".
وتستطيع الجريدة أن تجمع في التعليق على الأخبار -وخاصة السياسية منها- بين طريقتين:
الأولى: الطريقة المباشرة، وبها يتولى أحد المحررين كتابة التعليق الذي يتفق وسياسة الجريدة.
الثانية: الطريقة غير المباشرة، وهي التي تعمد فيها الجريدة إلى استعارة تعليق من التعليقات الهامة، من أية جهة من جهات الإعلام المعروفة، كالصحف والمجلات، والإذاعة، ووكالات الأنباء العالمية، ونحو ذلك.
ولقد كانت جريدة الأهرام المصرية -إلى وقت قريب- تتبع الطريقتين معًا، فتكتب تعليقًا خاصًّا على شكل مقال افتتاحيٍّ، أو عمودٍ صحفيٍّ عاديٍّ، وتستعير في الوقت نفسه تعليقًا آخر من وكالة أنباء أجنبية، وكانت تكتب هذا النوع الآخر من التعليق تحت عنوان:"العالم يفكر" وفيها -أي: في هذه المادة- تأتي بتعليق لجريدة أمريكية أو إنجليزية، وكثيرًا ما يكون هذا التعليق بقلم صحفيٍّ كبيرٍ متخصصٍ في التعليقات السياسية
كالأستاذ: ليبمان Lippmann وسنختصه بكلمة قصيرةٍ في نهاية هذا الفصل، وفي الجرائد العراقية تنشر أحيانًا تعليقات محمد حسين هيكل مأخوذةً من الأهرام.
والحق أن شهرةَ رجلٍ كالأستاذ "ليبمان" في كتابة التعليق السياسيِّ آتيةً من ثقافته الواسعة من جهةٍ، ومن علمه الدقيق بالاتجاهات السياسية في العالم كله من جهةٍ ثانيةٍ، ومن معرفته الدقيقة كذلك بأخلاق الشعوب التي يكتب عنها، وأخلاق الزعماء والقادة الذين يشير إليهم، ونيات الحكومات التي يتعرض لنقد سياستها آخر الأمر.
ومن هنا تعدت شهرة هذه التعليقات جريدة "الهرالدتربيون" التي يكتب فيها "ليبمان" إلى جرائد كبرى في شَتَّى أنحاء العالم المتمدن، فضلًا عن وكالات الأنباء في جميع هذه الأنحاء.
وكالأستاذ "ليبمان" في فن التعليق الصحفيِّ كل من:
جون ديفي في جريدة الأوبزرفر، ووليم كلارك بنفس الجريدة، وديفيد بورانس في جريدة الهرالد تربيون، ومار جريت هيجنز بنفس الجريدة، ومحمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام، وذلك بالنسبة للقضايا العربية بنوعٍ خاصٍّ، وهكذا.
وبعد أن اختلفت صحيفة ورق عام 1931 تحول "ولترليمان" إلى كاتب رواية، وكاتب عمود صحفي، وغزت كتاباته في عموده المعروف "اليوم وغدًا" قطاعًا واسعًا من جمهور القراء، فهو كثيرًا ما يوفق في القاء الضوء أمام القارئ العاديّ، وكثيرًا ما يمهد له الأرض الصلبة التي أمامه؛ حيث تلتقي السياسة بالاقتصاد، فإذا القارئ العاديّ قادرٌ على أن
يفهم هذه المسائل الصعبة فهمًا مستقيمًا في أكثر الأحيان.
تتبع الخبر. Folloing Up:
على الصحيفة -فضلًا عن واجب التعليق- واجباتٌ أخرى كثيرةٌ؛ منها: المهمة الخاصة بتتبع الأخبار، ولها في ذلك طرقٌ كثيرةٌ، فهي تستطيع أن تتبع الخبر الصحفيّ:
أولًا: بنشر تفاصيل جديدة لم يسبق نشرها في المرة الأولى.
ثانيًا: بنشر أحاديث صحفية يدلي بها المسئولون، أو الأشخاص المشتركون في الحادث بأحاديثهم.
ثالثًا: بكتابة التحقيقات الصحفية، إن احتاج الأمر إلى ذلك.
رابعًا: بكتابة الطرائف الصحفية Peatures.
وهذه الأخيرة هي التي سنتحدث عنها أولًا في الفصل التالي:
إن أول من اشتهر بذلك هو "ولتر ليبمان" الذي يملك صحيفةً علميةً وخبرة صحفيةً تمكنه دائمًا من أن يكتب بثقة، وهو يملك فوق ذلك براعةً غير عاديةٍ في التعبير عن رأيه بوضوحٍ وبساطةٍ، ذلك أن "ولتر ليبمان" -وهو ثمرة دراسات ورحلات كثيرة في ربوع أوروبا- استطاع وهو صغير السن، أن يغدو طالبًا عمليًّا، ثم طفر فكان باحثًا اختصاصيًّا في الإدارة العامة والاقتصاد، وفاز بتدريبات صحفيةٍ مبكرةٍ ونافعةٍ في جريدة "نيوزبابليك"، ورأس تحرير جريدة "نيويورك ورلد" القديمة، عندما كانت هي الصحيفة الأولى الحرة في البلاد1.
1 نقلَا عن فريزر بوند: مدخل إلى الصحافة، الترجمة العربية للكتاب ص237و 328.