المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له - المدخل في فن التحرير الصحفي

[عبد اللطيف محمود حمزة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌تقديم:

- ‌من مؤلفات أستاذنا الدكتور عبد اللطيف حمزة وبحوثه:

- ‌هذا الكتاب:

- ‌الكتاب الأول: الرأي العام

- ‌الصحافة والرأي العام:

- ‌تعريف الرأي العام:

- ‌الفرق بين الرأي والسخط والعام والاتجاه العام

- ‌أنواع الرأي العام:

- ‌دور الصحافة في تكوين الرأي العام:

- ‌القانون والرأي العام:

- ‌الرقابة على الصحف:

- ‌نشأة الرأي العام في مصر:

- ‌مصادر الكتاب الأول:

- ‌الكتاب الثاني: فن الخبر

- ‌نشأة الخبر وأهميته

- ‌تعريف الخبر:

- ‌في سبيل الحصول على الخبر:

- ‌تقويم الخبر:

- ‌مذاهب نشر الخبر:

- ‌قوالب صياغة الخبر:

- ‌الحوادث الداخلية أو المحلية:

- ‌الأخبار الخارجية:

- ‌طبيعة اللغة التي يكتب بها الخبر:

- ‌تحرير العنوان

- ‌التعليق على الخبر:

- ‌الطرائف المتصلة بالخبر:

- ‌الخبر والمجتمع:

- ‌الأخبار من الزاوية الأخلاقية، وزاوية

- ‌الذوق الصحفيّ والخبر:

- ‌مصادر الكتاب الثاني:

- ‌الكتاب الثالث: فن المقال

- ‌فنون المقال

- ‌المقال القصصيُّ:

- ‌مقال الاعترافات:

- ‌المقال الكاريكاتوري:

- ‌مقال الخواطر والتأملات:

- ‌المقال العلمي:

- ‌المقال الصحفيّ:

- ‌المقال الافتتاحي:

- ‌العمود الصحفي:

- ‌عمود الموضوعات الإنسانية:

- ‌عمود الرياضة والفنون:

- ‌الحملة الصحفية:

- ‌الحيل الصحفية أو الصراع بين الصحيفة والرقيب:

- ‌الكتاب الرابع: فن التقرير

- ‌المجلة

- ‌المقال في المجلة:

- ‌القصة في المجلة:

- ‌وظيفة التقرير الصحفيّ وأهميته:

- ‌فن الحديث الصحفيّ وأنواعه:

- ‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

- ‌التحقيق الصحفي وأنواعه وقواليه

- ‌مصادر التحقيق الصحفيّ، ونموذج له:

- ‌الماجريات وطريقة تحريرها:

- ‌الماجريات البرلمانية:

- ‌الماجريات القضائية:

- ‌الماجريات الدبلوماسية:

- ‌الماجريات الدولية:

- ‌تحرير الصورة والإعلان:

- ‌مصادر الكتاب الرابع:

- ‌الخاتمة: مستقبل التحرير الصحفيّ في مصر

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

أفلا ينتج عن هذا أن العمل الصغير التافة هو أشد ما يعترض الجنس البشريّ كله، وأن العقل يقوى على حلِّ أعظم المسائل وأشدها تعقيدًا وضخامةً، ولكنه يعجز عن مقاومة المشكلات الصغيرة التافهة؟

نعم، سنتمكن في آخر الأمر من إبادة الناموس، والذباب، وسائر الهوام الجالية للأمراض، وإذ ذاك نبدأ عراكًا من نوعٍ آخر نقاتل فيه الميكروبات، والجراثيم، والأشياء غير المنظورة، ونقاتل فيه ميكروبات الأمراض التي كان الناموس ينقلها، ويوصل أذاها إلينا، وهو عراك عنيف طويل، لا بد لنا من الفوز فيه بطريقةٍ أو بأخرى.

ولكن العبرة التي أسوق إليها القارئ من كل ذلك، هي أن الإنسان يجد مثل هذا العناء في المعارك الخلقية، والمعنوية التي تصادفه في حياته، فأصغر الأعداء فيها يحتاج إلى وقت طويل، وصبر أطول بما يحتاج إليه الإنسان في التغلب على أعظم الأعداء، وأقوى الأقوياء.

إنني أعتقد أننا لا نزال في دور الهمجية من حيث الأخلاق، والمعنويات، فنحن لا نزال نحارب جرائم القتل، وإحراق البيوت والزرع، ونحارب السرقة، وغيرها من الجرائم الكبيرة والعيوب الضخمة، وكما كان ساكن الكهوف يحارب الماموث، فنحن الآن نحارب هذه الوحوش الأخلاقية الشرسة الضخمة، وستزول هذه الوحوش الأخلاقية يومًا ما، وتتلاشى من الوجود، فلايرتكب الناس القتل، ولا يقترفون السرقة؛ إذ لا تكون هناك حاجة يومئذ إلى القتل، أو إلى السرقة متى أعيد تنظيم المجتمع على أسس أخرى!

عند ذلك فقط، نعود إلى محاربة المتاعب الخلقية والمعنوية الصغرى من حيث الإثم، والكبرى من حيث الخطر والفتك بالجنس البشرىّ، ونريد بهذه المتاعب الكثيرة، أو المخلوقات المعنوية الدقيقة: الرياء، والغطرسة، والأنانية، وحب الذات، وانعدام الرغبة في الإحسان،

ص: 357

وأشباه ذلك من العيوب الأخلاقية والاجتماعية التي تشبه الناموس والهوام، في عالم المعاني والأخلاق1.

وهكذا نرى أن عمود الموضوعات الإنسانية لا يكاد يختلف كثيرًا عن المقال الأدبيّ، بل هو عبارة في الواقع عن مقال أدبيٍّ صغير، يشترط فيه أن يدور حول فكرة واحدة فقط، لا يعدوها إلى غيره من الأفكار الأخرى، كما يشترط فيه أيضًا أن يكون أدنى إلى الإيجاز في اللفظ، ذلك أن المساحة التي يشغلها العمود في الصحيفة أقل بكثير من المساحة التي يشغلها المقال الأدبيّ أو العلميّ أو الصحفيّ.

وثَمَّ فرق آخر بين العمود والمقال، هو أن الأخير لا غنى له في أكثر الأحيان عن الأمثلة والشواهد التي يأتي بها الكاتب لتقوية كلامه، والدفاع عن قضيته، في حين أن العمود لا يحتاج إلى شيء من ذلك إلّا في القليل النادر.

1 راجع صحيفة المؤيد العد 5203 بتاريخ 3 يونيه سنة 1907، وقد نقلنا عنها هذا المقال بشيء من التصرف.

ص: 358

‌عمود الرياضة والفنون:

قيل: إن القارئ العادي للصحيفة، كما دلت الإحصاءات الكثيرة على ذلك، يلقي نظرةً سريعةً على العنوانات البارزة فيها، ثم يقلب صفحاتها على عجلٍ بحثًا وراء الفكاهات، والصور الكاريكاتورية، ونحوها، وأخيرًا يستقر بصره في صفحتي المرأة والرياضة1.

ولسنا ندري إن كان هذا صحيحًا بالقياس إلى الشعب الأمريكيّ، أو الشعب الأوروبيّ، وإلى أيٍّ حدٍّ يكون صحيحًا كذلك بالقياس إلى الشعب المصريّ خصوصًا، والشعوب العربية عمومًا؟

والمعروف -على أية حالٍ- أن الصحف العربية تخصص للألعاب الرياضية والمسرح والسينما حيزًا يلفت أنظار الجمهور القارئ.

فلنقف وقفةً ما عند صفحتي الرياضة والفنون في الصحيفة، ولنشر إلى أهم القواعد والأصول المتبعة في تحريرها هاتين الصفحتين، أو العمودين في العادة.

صفحة الألعاب الرياضية:

نرى معظم الصحف التي تصدر في العالم -في الوقت الحاضر- تفرد صفحةً أو أكثر لأعمدة الألعاب الرياضية، ولعل السبب الحقيقيّ في اهتمام الصحافة الحديثة بهذه الصفحة بالذات، هو انتشار الألعاب الرياضة، والروح الرياضيّ في أكبر أقطار العالم المتحضر، ومن ثَمَّ كان على الصحف

1 راجع كتاب "كيف تصبح صحفيًّا" للأستاذ كارل وارين، الترجمة العربية للأستاذ عبد الحميد سرايا، ص 195.

ص: 359

أن تخضع خضوعًا تامًّا للأمر الواقع، وأن تستجيب لرغبات الجماهير في العناية التامة بهذه الأعمدة، ومعلوم أن أهم الألعاب الرياضية التي تسترعي نظر القارئ، هي: كرة القدم، وكرة السلة، ولعبة التنس، ولعبة الجولف، والسباحة، والمصارعة، والملاكمة، وسباق الخيل، وسباق السيارات، وسباق الدراجات، وصيد الحمام.

والذي لا شك فيه أن العنصر الرئيسيّ في جميع الألعاب هو: عنصر المنافسة، وأن الدافع الحقيقيّ إلى تتبع أخبارها في الصحف هو: الإعجاب بالبطولة.

والذي لا شك فيه أيضًا أن الجمهور في كل بلدٍ من بلاد العالم تقريبًا يتهافت -كما قلنا- على قراءة أخبار الرياضة، حتى لتشعر الصحيفة أنها لو أغلقت هذا الباب هبط توزيعها إلى درجة كبيرة، ولذلك اهتمت الصحف جميعها بصفحة الرياضة، وكان في هذا الاهتمام معنى الدعاية بالمجان، وهي دعاية يتدفق بها الذهب في جيوب مديري الملاعب، والمسارح على اختلاف ألوانها!

وكثيرًا ما نجد في الصحف الكبرى أن لكل نوعٍ من الأنواع الرياضية المتقدمة محررًا خاصًا به، يكتب أخباره ويحاول أن يأتي -عقب ذلك- بالنقد الفني لهذه الأخبار.

فإذا أعلن يومًا عن مباراة رياضيةٍ نهض المحرر المختص على الفور، وجمع المعلومات التامة عن المشتركين في هذه المباراة، وعني بالبطولات التي أحرزوها، ورجح كفة فريق على فريق، ووصف المباراة وصفًا دقيقًا من جميع الوجوه، ولم ينس أن يذكر موقف المتفجرين على المباراة، وطريقة تشجيعهم لهذا الفريق أو ذاك، وباختصار يذكر كل ما يرضي كلًّا من

ص: 360

اللاعب والقارئ الذي لم تتح له فرصة الحضور بنفسه لمشاهدة المبارة، أما القارئ الذي شهد المباراة ففي استطاعة المحرر الرياضيّ أن يمده بمعلومات جديدة، قلَّمَا يستطيع الحصول عليها بمجهوده الذاتيّ.

من أجل ذلك يعني كثير من الصحف في وقتنا هذا "بالمحرر المختص" وتتوخى فيه دائمًا أن يكون من ذوي الخبر العامة التامة، والمرانة المتصلة، حتى أننا لنرى المحرر الرياضيّ يرتفع في بعض الأحيان إلى مستوى المحرر السياسيّ أو المحرر الأدبيّ، أو المحرر العلميّ.

ولكن، كيف يؤدي هذا المحرر الرياضيّ عمله عادةً؟ وكيف يرضي فضول قرائه كذلك؟

دلت التجربة على أن هذا المحرر يتبع في كتابة مادته طائفة من القواعد، منها على سبيل المثال:

أولًا: تركيز الانتباه في نقطة واحدة على الدوام، هي السير اللعب في ذاته، وحركات اللاعبين أنفسهم، وذلك بغض النظر ما أمكن عن شعور النظارة.

ثانيًا: إن كان ولا بد من العناية بشعور النظارة، فليكن ذلك دائمًا لغايةٍ واحدةٍ فقط، هي وصف الجو الوجدانيّ المحيط باللعب، ومقدار الصلة بين هذا الجو العاطفيّ، وحركات اللاعبين في المباراة، ذلك أن لتشجيع الجمهور أثرًا لا سبيل إلى إنكاره في الفريقين المتنافسين على السواء.

ثالثًا: عرض الحقائق الخاصة باللعب عرضًا مجردًا عن الهوى، مجردًا كذلك عن مشاعر النظارة الذين لايصح بحالٍ من الأحوال- أن يعتبرهم المحرر الرياضيّ جزءًا من أجزاء المباراة.

رابعًا: من حق المحرر الرياضيّ -بعد ذلك- أن يكتب تعليقًا على المباراة، وينبغي له عندئذ أن يجعل هذا التعليق زاخرًا بالحياة، معبرًا عن الواقع.

ص: 361

خامسًا: كتابة الخبر والتعليق بأسلوب جذاب، يصف المباراة، ويذكر الأطوار التي مرت بها، ويصف النتيجة التي انتهت إليها.

على أن هذا الوصف يتطلب من المحرر قدرةً بلاغيةً من نوع معينٍ، ولكن مهما كانت هذه القدرة البلاغية التي ندعو إليها، فلا يصح أن تكون حائلًا دون استخدام الألفاظ الفنية -ولو كانت عامية- وهي الألفاظ التي اصطلح الرياضيون عليها، ولهذا السبب الأخير اشترطت الصحف في محررها الرياضيّ أن يكون عالمًا بتاريخ اللعبة الرياضية، وأن يكون ممارسًا لها منذ مدة.

سادسًا: في صياغة القصة الرياضية يحسن أن يتبع نظام القصة الخبرية، فيعني المحرر الرياضيّ بالأسئلة الستة المعروفة، ويصوغ القصة على شكل هرم مقلوب، تأتي فيه النتائج والأخبار المهمة أولًا، ثم تأتي التفاصيل بعد ذلك.

سابعًا: على المحرر الرياضيّ أن يعني العناية كلها بنتيجة المباراة، وعليه أن ينوه بالفائز دائمًا، كما أن عليه أن يشرح للقراء مغزى النتيجة التي انتهت بها المباراة، ولا بأس من التعرض في أثناء ذلك لبعض وجوه الضعف في الفريق الخاسر، والإشارة العابرة إلى المهم من أخطائه، ولكن بقصد التوجيه والإرشاد، لا بقصد السخرية والإيذاء، فإن السخرية في مثل هذه الحالة خطأ أدبيّ جسيمٌ لا يتفق مطلقًا والروح الرياضية.

وفي يدي عند كتابة هذا الفصل صحيفة "أخبار اليوم" الصادرة في 28 أكتوبر سنة 1956، وقد نشرت في صفحتها الرياضية أخبارًا كثيرةً؛ منها الخبر الآتي بالعنوانات الآتية:

ص: 362

الزمالك والمصري يتعادلان 2 إلى 2:

أحمد سليم يسجل هدف التعادل في الوقت الضائع

ثم أت الصحيفة بعد هذه العنوانات بـ "صدر الخبر" فكان على النحو الآتي:

تعادل الفريقان: الزمالك المصري 2-2، وسجل "أحمد سليم" هدف التعادل للزمالك في الوقت الضائع، كما سجل "عبده سليم" هدفي المصري، وأصاب "خليل" هدفًا للزمالك

جمهور الدرجة الثالثة يلقي بالفوراغ في الملعب.

ثم أتت الصحيفة على "صلب الخبر" وفيه التفاصيل على النحو الآتي:

الشوط الأول:

تبادل الفريقان الهجوم منذ البداية، وبعد 15 دقيقة شدد الزمالك الهجوم على دفاع المصري، ولكنه لم يستغل جناحه الأيمن، وتمكن دفاع المصري من صد هجمات الزمالك التي كانت جميعها غير محكمة.

شدد الدفاع المصري حراسته على "خليل" الذي اضطر لتغيير مركزه أكثر من مرة لمراوغة الدفاع، أضاع هجوم الفريقين فرصًا كثيرةً، وقبل نهاية الشوط الأول بدقيقة تمكن "العيوطي" حارس مرمى الفريق المصري من صد قذيفة قوية من قدم "شريف الفار" أرسلها على بعد 40 ياردة، وانتهى الشوط الأول بدون أهداف.

الشوط الثاني:

بدأ الشوط الثاني بهجوم الزمالك، وبعد 7 دقائق رد "شريف" الكرة إلى "خليل" الذي انفرد بمرمى المصري، فسدد كرةً مرت بجوار القائم

ص: 363

الخشبي، وبعد 14 دقيقة أحرز "عبده سليم" متوسط هجوم الفريق المصري الهدف الأول من قذيفة قوية لم يستطع "محمد عبد الله" صدها، وبعد 22 دقيقة أحرز "خليل" هدف التعادل للزمالك إثر تمريرة من "شريف الفار"، وبعد دقيقة احتسب الحكم ضربة جزاء لصالح المصري، سجل بعدها "عبده سليم" الهدف الثاني للمصري، وعلى الأثر تكتل فريق المصري أمام مرماه للاحتفاظ بفوزه، ولعب "عبده سليم" متوسط هجوم بمفرده، وقبل نهاية الشوط الثاني بعشر دقائق سيطر فريق الزمالك على الكرة حتى نهاية المباراة، وتمكن "أحمد سليم" من إصابة هدف التعادل للزمالك قبل النهاية بنصف دقيقة، وذلك في الوقت الضائع إثر قذيفة من "علاء" صدت في الدفاع المصري، فتلقفها "أحمد سليم" وسجل الهدف الثاني للزمالك.

هكذا ركز المحرر الرياضي انتباهه في نقطة واحدة هي سير اللعب، وحركات اللاعبين، وغض النظر عن شعور النظارة.

بل إن المحرر الرياضيّ أغفل هذا الشعور تمامًا في مقاله أو عموده، فلم يذكر عنه كلمة واحدة، واكتفى إذ ذاك بصورةٍ شمسيةٍ كبيرةٍ نشرها في أقصى الشمال من يسار صفحة الرياضة، وجاء بها على خمسة أعمدة من هذه الصفحة، وكتب تحتها العبارة الآتية:

"ثورة الجمهور على الحكم في مباريات الزمالك والمصري، ثار الجمهور عندما احتسب الحكم ضربة جزاء ضد الزمالك، وأخذ يلقي الفوارغ، وهجم على الملعب، ويرى رجال البوليس وهم يحاولون تهدئة الحالة".

وبهذه الصورة الشمسية استغنى المحرر -كما قلنا- عن وصف مشاعر النظارة، وأعطى فكرة عن الجو المحيط باللعب، وأوضح مقدار الصلة بين حركات اللاعبين وتشجيع الجمهور.

ص: 364

ثم هكذا عرض المحرر الرياضيّ بصحيفة "أخبار اليوم" الحقائق الخاصة بالمباراة التي أجريت بين فريق الزمالك وفريق المصري، وتجرَّدَ المحرر في أثناء ذلك عن التحيز لأحد الفريقين، كما تجرَّدَ أيضًا عن مشاعر النظارة، ثم إن المحرر الرياضيّ الذي أمامنا، توخى أن يكتب خبر المباراة على شكل قصة خبرية لها "صدر" ولها "صلب" وأجاب عن بعض الأسئلة الستة، وعني بذكر النتيجة ووصفها، ولم ينس في أثناء ذلك كله أن يوجه النقد من حينٍ لآخر إلى اللاعبين، ويلفت أنظارهم إلى الأخطاء التي كانوا يرتكبونها، ولم ينس هذا المحرر مطلقًا أن ينوه ببعض الممتازين من اللاعبين، وأن يسجل حركاتهم في الملعب، وأن يستخدم في أثناء ذلك كله الألفاظ المصطلح عليها بين الرياضيين أنفسهم، كألفاظ:

هدف التعادل، والتعادل، والمرمى، والجناح، ومتوسط هجوم، وضربة جزاء، إلخ، ولا يكاد يعاب على هذا العمود الرياضيّ الذي أتى على شكل قصة خبرية أكثر من أن محرره لم يُقَسِّمْ "صلب الخبر" إلى فقرات، تبدأ كل فقرةٍ منها بسطرٍ جديدٍ، فإنه بدلًا من أن يفعل ذلك، اكتفى بالفصل بين كل فقرةٍ وأخرى، بنقطة أفقية هكذا "..... ".

ولا شك أن هذه الصفحة الرياضية التي ينشر فيها هذا العمود الرياضيّ لم تتسع -فيما يظهر- للتعليق الفنيّ على المباراة، بما يعطي للقارئ فكرةً كاملة الوضوح، تامة البناء، ظاهرة المعالم.

صحفة الفن:

الفن تعبير شخصيٌّ حرٌّ، يشيع الفرح والبهجة والهدوء والاطمئنان في النفس البشرية، والفن تعبير عن الحياة في جميع العصور التي مرت بها، ورسالة الفنان مطابقة دائمًا لشعوره وإحساساته، وهي تقص علينا قصته كما تخيلها وأحس بها.

ص: 365

والفنان هو وحده صاحب الحق في أن يتصرف في الطبيعة من حوله، فيرسمها لنفسه وللناس بالصورة التي يمليها عليه إحساسه وشعوره.

نظرت سيدةٌ إلى لوحةٍ فنيةٍ رائعةٍ، لمنظر من مناظر الطبيعة في أبهى مظاهرها، فصاحت في وجه الرسام قائلةً:

لكن الطبيعة يا سيدي ليست كذلك!، فأجابها الفنان من فوره قائلًا:"لكن، ألَا تحبين يا سيدتي أن تكون الطبيعة كذلك"؟

تلك هي بعض الأسباب التي من أجلها تعنى البشرية كلها بالفن من حيث هو، وتلك هي بعض الأسباب التي من أجلها تزيد الصحافة من عنايتها بالفنون على اختلافها، وهذه الفنون في ذاتها قسمان: قسم خيالي، وآخر واقعي.

أما الخياليّ: فلا يتقيد بقيود من أي نوع، ومن هنا كانت الحرية أصلًا من أصول الفن، وسببًا من أسباب بقائه ونمائه، بحيث إذا حرمها الفن حرم الحياة كلها على الفور.

وأما الفن الواقعيّ: ففيه تشترك اليد مع الذهن، أي: أنه فنُّ يحتاج إلى مادةٍ تعمل فيها اليد بوحيٍ من الذهن، ومن هنا أطلق على الفنون الخيالية اسم:"الفنون الجميلة" أو "الفنون الرفيعة"، كما أطلق على الفنون الواقعية اسم:"الفنون العملية"، أو الفنون التطبيقية":

فمن الفنون الخيالية: الشعر، والرسم، والتصوير، والزخرفة، والتمثيل، والموسيقى، ومن الفنون التطبيقية: صناعة السجاد، وصناعة الأثاث، ونحو ذلك.

وللصحف -في الأعم الأغلب- عناية بالفنون الجميلة أو الفنون الرفيعة

ص: 366

تهتم بأخبارها، وتتصل بذويها، وتحرص على تتبع ما يخرجون من ثمرات قرائحهم، وما يعملون فيه أذواقهم، ومواهبهم، ولعلها -أي: الصحف- بالموسيقي، والمسرح، والغناء، والسينما، أشد عنايةً، وأعظم اهتمامًا، ولذا تراها غاصةً بالأعمدة الفنية حول حفلة غنائية لسيدة الغناء السيدة "أم كلثوم"، أو الموسيقار "محمد عبد الوهاب"، أو رواية من الروايات التي تمثل على مسرح الأوبرا، أو الأزبكية، أو التي تظهر كل يوم في دور السينما بنوع أخصّ.

وإنك لترى هذا الرجل الذي يحضر الحفلة الأولى لكل تمثيلية، أو لكل فيلمٍ سينمائيٍّ، أو هذا الرجل الذي يحييه الجمهور بين حين وآخر بابتسامة لطيفة، وهو جالس في الصف الأول، أو "اللوج" الظاهر من"ألواج" المسرح، فتعلم أنه "الناقد المسرحيّ"، وهو معروف لأكثر النظارة، لأن اسمه يظهر يوميًّا في باب السينما والمسرح، من أبواب الصحف الكبرى في العاصمة.

فما السبب -يا ترى- في هذا الاحترام الذي يتمتع به هذا الرجل من جانب النظارة؟

إن السبب في ذلك -غالبًا- هو الخوف من قلم هذا الكاتب، حتى لكأن نجاح "التمثيلية" أو "الفيلم" مرهون بنقده، فإذا أهمل الناقد المسرحيّ الكتابة عن إحدى المسرحيات، أو قال عنها: إنها رديئة، سقطت من أعين الناس، وانزعج لذلك المشتغلون بالمسرح، أو القائمون على إخراج الرواية، أما إذا كتب الناقد المسرحيّ رأيه في المسرحية، وأثنى عليها بوجهٍ ما، فإن الجمهور يقبل عليها، ورجال المسرح يربحون من وراء ذلك الأموال الطائلة، وكثيرًا ما يأتي نجاح الرواية بسبب تحامل الناقد المسرحيّ عليها، وقسوته في نقدها، فقد يدفع ذلك بالكثير من الناس إلى رؤية الرواية بنفسه، ومحاولة الحكم عليها بنفسه، فإمَّا وافق الناقد المسرحيّ، وإما خالفه، ولكن كيف يؤدي الناقد المسرحيّ عمله غالبًا، وما الشروط التي لا بد من توافرها في النقد؟

ص: 367

أولًا: يبادر الناقد المسرحيّ إلى حضور المسرحية التي يريد نقدها، ولكنه قبل الذهاب إلى المسرح لهذا الغرض، عليه أن يحرص كل الحرص على قراءة القصة التي سيشهد إخراجها في المسرح أو في السينما، وعليه أيضًا أن يطَّلِعَ على المقالات التي كتبت عن هذه القصة في الصحف، أو المحاضرات والأحاديث التي أذيعت عنها في الإذاعة، أو النوادي العامة والخاصة، ما أمكنه ذلك، ومتى تجمع لديه -من وراء هذه الجهود- قدر كبير من المعلومات، أمكنه أن ينقد الرواية نقدًا جيدًا، ويسير غورها جيدًا، ويعطي كل ذي حقٍّ حقَّه من المؤلفين أو المخرجين أو الممثلين، وغيرهم.

ثانيًا: يشترط في الناقد المسرحي أن تكون لديه ثقافة مسرحية واسعة، وذلك فضلًا عن علمه التام بالمسرحية التي أمامه من حيث المبنى والمعنى، وكم يكون جميلًا -في ذلك الوقت- أن يكون الناقد المسرحيّ مؤلفًا مسرحيًّا قد مارس هذا الفن منذ مدةٍ كافيةٍ، ذلك أن الفرق كبير بين الناقد الأدبيّ، والناقد المسرحيّ.

فهذا الأخير لا يكتفي بدرس المسرحية وحدها، بل عليه أن يهتم بالممثلين أنفسهم، ويعني بنقد طرائقهم في التمثيل والإلقاء، كما عليه أن يتعرض كذلك لنقد ملابس الممثلين، وزخارف المسرح، وحركة الإضاءة، وليس له العذر -مع هذا وذاك- في أن ينسى أن يسجل آراء الجمهور، ويصف الجو الوجدانيّ الذي صحب مشاهدة التمثيل، وأصوات الموسيقى التي صحبت الممثلين، أو تلك التي تسمع في الفترات الفاصلة بين فصول الرواية، ونحو ذلك.

والحق أن واجب الناقد المسرحيّ ثقيلٌ جدًّا، فعليه أن يعد نفسه للقيام بهذا الواجب إعدادًا حسنًا، وإلّا فشل فشلًا ذريعًا في أداء مهمته.

ص: 368

ثالثًا: يشترط في الناقد المسرحيّ كذلك، أن يكون نزيهًا في الحكم، عفَّ اللفظ في النقد، مهذَّبَ العبارة في التوجيه، وإلّا سقطت هيبته، من أعين الجمهور، وسقطت معه "صفحة الفنون"، ثم ما أسرع ما يتهمه الناس بعدئذ بأنه لا يكتب للفن، وإنما يكتب سعيًا وراء الربح الماديّ البحت، وربما بالغ أعداؤه كذلك فاتهموه بمد يده إلى أصحاب المسارح ودور السينما، يأخذ منهم الرشوة في سبيل كلمةٍ طيبةٍ يمدح بها عملهم؛ من حيث لا يستحقون شيئًا من هذا المدح.

رابعًا: أما اللغة التي تستخدم في نقد المسرح والسينما، فلسنا بحاجةٍ إلى القول بأنها ينبغي أن تكون في مستوى أعلى من اللغة التي يستخدمها المحرر الرياضيّ؛ إذ المسرح والسينما كالشعر والموسيقي من الفنون الرفيعة التي يجب أن يصطنع لها الكاتب لغةً مكافئةً لها، من حيث السموِّ والرفعةِ، وتصل هذه اللغة إلى الذروة على أيدي النقاد المثقفين الذين يتعرضون لنقد الروايات الإنسانية الخالدة، وللقصص الفلسفية الرائعة.

وفي باب المسرح والسينما -من أبواب الصحيفة الحديثة- يجد القارئ أخبارًا عن الممثلين والممثلات، وملخصًا لبعض القصص السينمائية أحيانًا، وإن وجدت فرقة موسيقية، أو فرقة "باليه" بالمدينة، كان على الصحيفة أن تبادر إلى نشر كل ما يتصل بهذه الفرق، من ذكر أسماء القطع الفنية، وأسماء العازفين، والراقصين، وطرق العزف أو الرقص، وغير ذلك من المعلومات التي يرحب بها قراءة هذه الصحفة من صفحات الجريدة.

ويعنى هذا الباب -فيما يعنى به كذلك- بالفرق الاستعراضية على اختلافها، وإن كانت السينما قد طغت على الصحف في هذا الميدان طغيانًا مبينًا، بحيث لم تدع لها فرصةً للتنافس معها في شيء من ذلك.

ص: 369

‌الحملة الصحفية:

لعل أبسط تعريف للحملة الصحفية أنها تتكون من عدد من المقالات أو التحقيقات الصحفية يتبع بعضها بعضًا بلا انقطاع، ويكتبها محرر واحد، أو عدد من المحررين المنتمين إلى صحيفةٍ واحدةٍ، وتكون في معنًى واحدٍ، ولهدفٍ معينٍ، يعود بالنفع على المجتمع المقصود بهذه الحملة.

ولكن يظهر أنه ليس من السهل على الباحث أن يفصل فصلًا تامًّا بين المقال الصحفيّ والتحقيق الصحفيّ والحملة الصحفية، فالواقع أن كل فنٍّ من هذه الفنون الصحفية يتصل بالفنَّين الآخرين اتصالًا قويًّا، أو أننا بعبارةٍ أخرى أن التحقيق الصحفيّ يتولد عن الخبر أو المقال، والحملة الصحفية تتولد عن التحقيق، وهكذا.

ولنضرب المثل أولًا بما يلي:

نجد الفتاة الإنجليزية عارضة الأزياء المعروفة باسم: "كريستيان كيلر" قد قالت عنها الأخبار: إنها كانت على صلة بوزير الحربية البريطانيّ، وبالملحق العسكريّ الروسي في لندن، وتقول الأخبار أيضًا: إن هذه الصلة كانت سببًا في استقالة الوزير، وفي تعديل الوزارة البريطانية سنة 1963.

وقد نشرت الصحف البريطانية ما وصل إليها من هذه الأنباء، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، وهو مرحلة الخبر الصحفيّ، بل تعدَّاه إلى مرحلة

ص: 370

المقال الصحفيّ، ثم كثرت البيانات الخاصة بهذا الموضوع، وفتحت هذه البيانات طريقًا إلى المناقشات العامة، ثم كانت هذه البيانات والمناقشات هي السبيل إلى تحقيقات صحفية، وكشفت هذه التحقيقات أن تتحول إلى حملة ضعيفة، وجاءت هذه الحملة على شكل مقالات وتحقيقات متتابعة تهدف كلها إلى البحث عن أخطاء الوزارة البريطانية القائمة، وتستدل على ذلك بالبيانات الموجودة تحت يد الصحف.

ولكن، ليس معنى ذلك مطلقًا أن هذه الفنون الثلاثة: المقال، والتحقيق، والحملة الصحفية، متشابهةً في طريقة تحريرها، وإن تشابهت في الهدف من هذا التحرير، فقد رأينا فيما سبق كيف يختلف المقال عن التحقيق من حيث الكتابة أو التحرير، أما الحملة الصحفية: فهي قمة هذه الجهود التي تبذلها الصحيفة، وهي المرحلة الأخيرة التي تصل إليها هذه الجهود بعد أن تقطع الصحيفة مرحلة الخبر، والتعليق على الخبر، والتحقيق المتولد عن هذا الخبر، وأخيرًا تأتي بعد كل ذلك مرحلة الحملة الصحفية إن كانت هناك ضرورة؛ إذ الفائدة من وراء هذه الحملة، والضرورة التي تدعو إلى تنظيم حملة صحفية، كثيرًا ما تكون نتيجة للشعور العميق بالمطالبة بإصلاح وضع من الأوضاع الفاسدة، سياسيًّا كان أو اجتماعيًّا أو مذهبيًّا، ونحو ذلك.

ومعنى هذا مرة أخرى: أن الهدف من الحملة الصحفية في الواقع إنما الكشف عن الأخطاء التي تسبب منها فساد واضح في المجتمع، وهو تأكيد لوجود هذه الأخطاء بطريق الإلحاح عليها، والإلحاح على المسئولين عنها، ولذلك نرى أن كاتب الجملة يحرص أكثر ما يحرص على تنبيه المسئول الحقيقيّ عن هذه الأخطاء، وبدون ذلك لا تكون لحمة الصحيفة أية فائدة مرجوة.

ولنضرب المثل هنا بسوء نتائج الامتحانات العامة مع وزارة التربية

ص: 371

والتعليم في بعض البلاد العربية، إن أمرًا كهذا، إذا حدث فإننا نجد الصحف تبدأ أولًا بنشر هذه النتائج العامة، ثم يلي ذلك دور التعليق الصحفيّ، أو كتابة المقال الذي يعبر في الصحيفة عن أسفها، أو عجبها من هذه النتيجة، ثم تعقب ذلك مرحلة ثالثة، فيها نجد الصحيفة تسعى وراء البيانات الخاصة بهذا الموضوع، ثم ترى أن هذه البيانات تصلح لأن يُسَْعانَ بها في كتابة تحقيق صحفيٍّ في الموضوع، ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الرابعة والأخيرة، وهي قيام الصحيفة بالتنبيه إلى الأخطاء الحقيقية التي أدت إلى سوء النتائج العامة، وفي سبيل هذه الغاية الأخيرة تقوم الصحيفة بدراسة تفصيلية للموضوع، فتقسمه إلى أجزاء، وتوزع هذه الأجزاء على عدد من الصحفيين المتمرسين، ثم تقترح لذلك الحلول، وتلقي المسئولية الحقيقية -إن وجدت- على الذين ارتكبوا هذه الأخطاء، فهل كانت هذه الأخطاء صادرةً عن المعلمين؛ لأنهم غير متخصصين كُلٌّ في المادة التي يقوم بتدريسها، أم كانت هذه الأخطاء ناجمة عن الهيئة الإدارية التي تقوم بالإشراف على المدرسة، وما يجري فيها من أحداث؟

أم أن مردَّ هذه الأخطاء في الواقع، هو فساد الحياة السياسية القائمة، أو الحياة الاجتماعية المضطربة لسبب من الأسباب؟ إلخ، هذه الأسئلة وأمثالها مما يرد إلى ذلك الصحفيّ الذي يعمد إلى كتابة التحقيقات المؤدية إلى كتابة الحملة الصحفية المقصودة، ومعنى ذلك أن الصحيفة تستطيع في النهاية أن تضع يدها على الأسباب الحقيقية لسوء النتائج العامة، وهذه الأسباب في ذاتها هي المقوّم الأساسيّ للحملة الصحفية التي تريد الصحيفة أن تطلع بها على القراء، ومتى نجحت هذه الحملة، فإنها تخدم قضية التعليم، وتخدم كذلك أسر التلاميذ.

الخطة في كتابة الحملة:

الخطة التي تتبع في تحرير الحملة، إنما تقوم على تقسيم هذه الحملة إلى

ص: 372

موضوعاتٍ تكتب فيها مقالات يتبع بعضها بعضًا بدون انقطاع، بشرط أن يتناول كل مقال من هذه المقالات مشكلةً بعينها، أو خطأ بعينه، أو زاويةً معينةً من زوايا القضية التي كتبت من أجلها الحملة الصحفية، وما زال الشعب المصريّ يذكر تلك الحملات الصحفية التي قامت بها صحيفة "روز اليوسف"، ومن أخطرها الحملة التي قامت بها هذه الصحيفة ضد الأسلحة الفاسدة، وهي الأسلحة التي كانت ترسل إلى الجنود المصريين في أثناء حرب فلسطين 1948، ثم ثبت أنها غير صالحة للاستعمال، وكثيرٌ من المراقبين يرون أن هذه الحملة التي شنتها صحيفة "روز اليوسف" هي من أقوى الأسباب الحقيقية في قيام ثورة الجيش سنة 1952، تلك الثورة التي أطاحت بالملكية، وقضت على نظام الإقطاع، وبشَّرَت بالاشتراكية، إلى آخر ما نعرف من تاريخ هذه الثورة، وفي كتاب الرئيس جمال عبد الناصر ما يؤيد ذلك.

وفن الحملة الصحفية معروف في الصحافة العربية منذ فارقت هذه الصحافة دور الطفولة، ودخلت في دور الشباب، وقد عرف القدماء من الصحفيين العرب فن الحملة الصحفية، وما رسوه في صحفهم بنجاح تامٍّ، ونذكر من هؤلاء الصحفيين على سبيل المثال: السيد "علي يوسف" صاحب "المؤيد" وهي الجريدة التي صدرت في مصر سنة 1889، وامتدَّ بها الأجل بعد ذلك حتى شهدت قيام الحرب العالمية الأولى، والمعروف عن تاريخ السيد "علي يوسف" أنه كان في خصومةٍ شديدةٍ مع عميد الاحتلال البريطاني في مصر "اللورد كرومر" وبسبب هذه الخصومة الطبيعية بين الرجلين، نشرت "المؤيد" هذه الحملة ضد كرومر، وكان السبب في ذلك خبرًا نشرته الصحف عن استقالة اللورد "كرومر" من منصبه بالقاهرة، وإذ ذاك نشر السيد "علي يوسف" طائفةً من المقالات المتتابعة في نقد سياسة "كرومر"،

ص: 373

لفت بها أنظار الشعب المصريّ، واشتهرت هذه المقالات وعددها يربو على اثنتي عشرة مقالة باسم:"مقالات قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء".

وقد نالت هذه المقالات أعجاب القارئ المصريّ، وانهالت بسبب ذلك التهنئات على كاتبها، ثم أضيفت إليها المقالة الرائعة، التي رد بها السيد "علي يوسف" على خطبة الوداع للورد "كرومر"، وهي الخطبة التي نال فيها "كرومر" من كرامة المصريين منالًا عظيمًا، وجاء مقال السيد "علي يوسف" فمسح عن المصريين كل هذه الإهانة.

وتعبر هذه الحملة الصحفية من أنجح الحملات في تاريخ الصحافة المصرية التي ضربت رقمًا قياسيًّا في مكافحة الاحتلال البريطانيّ في عهد أطلق التاريخ عليه اسم: "الطور الصحافيّ من أطوار الحركة الوطنية"، وهو الطور الذي حرمت فيه البلاد من جيش يدافع عنها، ومن أية قوةٍ أخرى تقوم بهذا الدفاع، خلا قوة الصحافة1.

وهكذا نستطيع أن نضرب الأمثلة الكثيرة من الصحف المصرية على الحملات الصحفية التي قامت بها هذه الصحف في مناسباتٍ شتَّى، ومنها الحملات الصحفية التي كان يشنها العقاد ضد حكومة الوفد بعد خروجه على هذا الحزب.

غير أن أخشى ما نخشاه أن يفهم من ذلك أن الحملة الصحفية لا يرتفع صوتها، ولا تظهر أقلام كتابها إلّا في مجالات السياسة وحدها، ذلك أن الحملات الصحفية في مجال الاجتماع أوسع وأعمق.

1 راجع الجزء الرابع من "أدب المقالة الصحفية في مصر" للمؤلف، من ص192-221.

ص: 374

ومما لا شكَّ فيه أن أنجح الحملات الصحفية ما تعاون في كتاباتها أكبر عددٍ ممكنٍ من المشتغلين في الصحيفة، وهذا هو الفرق بين الصحف الحديثة والقديمة؛ من حيث كتابة الحملات، ففي الصحف القديمة كالمؤيد أو اللواء، كان صاحب الجريدة يتولى وحده كتابة هذه الحملة، أما في الصحف الحديثة فلا بد من اشتراك مندوب الأخبار، وسكرتير التحرير، والمحرر المختص في تحرير الحملة الصحفية، حتى يضمن لها النجاح، ومع هذا وذاك، فقد كان تحرير الحملة الصحفية في الصحف القديمة بنظامٍ واحدٍ، وصدورها عن روحٍ واحدةٍ، وطريقةٍ واحدةٍ، سببًا من أسباب قوتها ونجاحها في أداء مهمتها.

ص: 375

‌الحيل الصحفية أو الصراع بين الصحيفة والرقيب:

منذ القدم والمعركة حامية بين الحاكم والمحكوم حول مسألة "حرية الرأي"، وتشتد هذه المعركة دائمًا كلما تأزمت الأمور أمام الحاكم، وخاصةً في ظروف الحرب، أو الثورة أو الانقلاب، أو الظروف التي تخضع فيها الأمة لحكومةٍ أجنبيةٍ عنها، وفي كل واحدٍ من تلك الظروف يشعر الحاكم بأنه في غاية الحرج، فلا هو يستطيع أن يكاشف الأمة بأسرار الموقف السياسيّ، ولا الشعب صابرٌ على أن يقاد في الطريق كما تقاد الأنعام، وفي كل ظرف من الظروف المتقدمة يضطر الحاكم إلى فرض الرقابة التامة على الصحف والكتب، وذلك أقصى ما يستطيع الحاكم نفسه أن يفعله في مثل هذه الظروف.

أما الشعب -ممثلًا في الكتب والصحافة- فإنه يسلك في سبيل غايته طرقًا خاصةً، ليس هنا موضع إحصائها، ولكنا نسوق طرقًا منها على سبيل المثال.

نحن نعرف أن الأدب أسبق في ظهوره من الصحافة، ونذكر أن الأدباء -في عصور الاضطهاد الدينيّ والسياسيّ- ذهبوا مذاهب شتَّى في مقاومة الاضطهاد، على أي شكل من أشكاله، ولعل أقدم صورة من صور النقد السياسيّ حفظها لنا التاريخ، هي صورة "القصص على ألسنة الحيوان" كما تظهر لنا في كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع.

وقد صرَّحَ لنا هذا الكاتب بأن له أغراضًا أربعةً من وضع هذا الكتاب:

ص: 376

أولها: إقبال العامة على قراءته.

ثانيها: انتفاع الخاصة بهذه القراءة.

ثالثها: رغبة النساخ في انتساخه على مدى العصور.

رابعها: وهو "الأقصى" خاصٌّ بالفيلسوف نفسه.

وهنا سكت "ابن المقفع" عن بيان هذا الغرض الرابع الذي وصفه "بالأقصى"، وفهم القراء، وفهم الخليفة العباسيّ إذ ذاك، وكان "أبو جعفر المنصور" أن الكتاب موجه إليه، وإلى حكومته، وأن القصد منه توجيه اللوم إليه، وإلى حكومته.

وثَمَّ طريقةٌ أخرى من الطرق الأدبية الخالصة في التعبير عن الآراء والنظريات والمذاهب المخالفة، وهي:"طريقة الرؤيا والأحلام"، وهي وسيلة الكتاب والشعراء إلى نقد المجتمعات، والحكومات، ومن الأمثلة عليها "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعَرِّي، ورسائل الوهراني، وهو أديب مغربيٌّ وفد إلى مصر في العصر الأيوبيّ، سعيًا وراء وظيفة حكومية، ففشل في الحصول عليها، فصب جام غضبه على حكام مصر، وكبرائها على هذه الصورة.

بل إن من الطرق التي سلكها بعض المصريين في نقد حكامهم أحيانًا، "طريقة الجنون"، أو الظهور بمظهر العته الذي لا يعاقب عليه القانون.

"ففي العصر الطولونيّ، وجزء من العصر الإخشيديّ، عرفت مصر شخصيةً عجيبةً كل العجب في تاريخها، هي شخصية "سيبويه المصريّ"، وكان رجلًا يظهر الحمق والجنون، واشتهر عنه ذلك، فاختفى وراء هذه الصفة، وأخذ يهجو الحكام والأمراء، فلم يكن أحدٌ منهم قادرًا على أن يأخذه بقوله؛ لأنه مجنون!

ولكن الناظر في كلامه، وأهاجيه، يحس إحساسًا عميقًا بأنه في الواقع

ص: 377

إنما يعبر عن آراء الشعب المصريّ في زمانه أصدق تعبير1.

ثم أتى دور الصحافة، وأخذت تحل محل الأدب في مقاومة الظلم والطغيان، وتنوعت طرق هذه الأخيرة، كما سبق أن تنوعت طرق الأولى في سبيل هذه الغاية، وسجَّلَ تاريخ الصحافة المصرية -تنوع خاص- بعض الطرق التي لجأت إليها الصحف الشعبية في القرن الماضي، ومنها على سبيل المثال:

طريقة "النديم" في صحيفته المعروفة باسم "التكيت والتبكيت" وهي صحيفة كتبها "النديم" باللغتين، أو اللهجتين: العربية، والعامية، وكتب باللهجة الأخيرة قصصًا شعبيةً للعامة، سخر فيها من كثير من الأوضاع الشاذة في المجتمع المصريّ الحديث، منذ التقت فيه الحضارة الحديثة بالحضارة الشرقية الموروثة، وكتب باللهجة الفصحى مقالاتٍ وقصصًا رمزيةً للخاصةِ، منها على سبيل المثال: أقصوصته التي كتبها بعنوان:

مجلس طبي على مصاب بالإفرنجي:

"والإفرنجيّ كلمة أطلقها المصريون في القرن الماضي على مرض الزهري، والكاتب يستعمل هذا اللفظ هنا استعمالًا رمزيًّا؛ لأنه رمز به إلى الخراب الذي عم البلاد بسبب إسراف إسماعيل، كما رمز بكلمة "المصاب" إلى مصر التي أصبحت تعاني المرض والفقر بسبب هذا الإسراف، ورمز بكلمة

1 انظر كتاب "الفاشوش في حكم قراقوش"، طبعته أخبار اليوم، في سلسلة "كتب اليوم " ص91.

ص: 378

"مجلس طبي" إلى العقلاء الناصحين للأمة المصرية، الذين عليهم أن يفكروا في مخرجٍ لها من هذه الأزمة1.

وكان من ألمع الكتاب الصحفيين بمصر في القرن الماضي، وإمام السخرية في العصر الحديث غير مدافع "يعقوب بن صنوع" الذي اتخذ لنفسه اسم "أبي نظارة"، وسلك في سخريته بحكومة إسماعيل طريقين، هما: طريق المحاورات الصحفية، وطريق القصص المسرحية، ونجح فيهما نجاحًا لا نظير له في الحقيقة، حتى لقد خافه الخديو اسماعيل، واضطر إلى نفيه، وكما سمى "يعقوب بن صنوع" نفسه:"بأبي نظارة" فقد سمى الخديو إسماعيل: "بشيخ الحارة" وسمى الفلاح المصري: "بأبي الغلب". .. إلخ.

وما دمنا نتحدث عن الصور الأدبية والصحفية لنقد الحكام الطغاة، ومحاربة الظلم والاستبداد، فلا ننسى الإشارة إلى أديب مصر في القرن الماضي، وهو إبراهيم المويلحي، وإلى بعض طرقه في ذلك.

ومن هذه الطرق المقالات التي كتبها بعنوان: "ما هنالك"، وهي مقالات كتبت في نقد الحكومة العثمانية، والفساد العثمانيّ، وفي نفس الوقت أخافت الحكام في مصر، فقد خشوا أن يكتب فيهم "المويلحي""ما هنا" بدلًا من "ما هنالك".

ومن الطرق الأدبية الخالصة التي عمد إليها "إبراهيم المويلحي" كذلك، وشاركه فيها ابنه "محمد المويلحي" طريقة القصة الطويلة، فقد كتب المويلحي الكبير -إبراهيم- قصة موسى بن عصام في نقد الاحتلال الإنجليزي، والتهكم على رجاله، وكتب المويلحي الصغير -محمد- قصة "عيسى بن هشام" في نقد المجتمع المصريّ، ونقد حكامه.

أما الكاتب الأول: فالظاهر أن رجال الاحتلال تنبهوا إليه، وحاولوا

1 المصدر المتقدم، من ص112-114.

ص: 379

دون صدوره على هيئة فصول متتابعة في جريدة "مصباح الشرق" التي كان يصدرها المويلحي.

أما الكتاب الثاني لصاحبه "محمد المويلحي" فقد نشر تباعًا على صفحات "مصباح الشرق"، وجمعت فصوله -فيما بعد- في كتابٍ لم يزل بأيدينا إلى اليوم.

ويطول بنا القول لو أردنا أن نشير إلى كل طريقة من الطرق التي سلكها الأدباء ورجال الصحافة في محاربة الظلم الذي يقع أحيانا من الحكومة في مثل الظروف التي أشرنا إليها في أول حديثنا هذا.

وفي القرن الذي نعيش فيه، طلع علينا الأدباء ورجال الصحافة بطرق كثيرةٍ؛ بعضها قديم، وبعضها مبتكر، وليس يعنينا هذا الفصل أن نذكر شيئًا عن هذه وتلك، بقدر ما يعنينا -في الواقع- أن نشير إلى بعض الحيل التي لجأت إليها الصحف المصرية في مثل الظروف التي أشرنا إليها، تحت ضعط الرقابة التي فرضها الحاكم عليها.

والصحافة تعرف أن من أسلم طرق الهروب من الرقابة، طريق "الكاريكاتور" سواء أكان عن طريق القلم، أم عن طريق الرسم، أم عن طريق الصورة، والطريق الآخير أوقع وأسلم من الطريق الأول في الغالب، ولذلك تعتمد الصحافة الحديثة اعتمادًا ظاهرًا على الرسم الكاريكاتوري؛ لأنه الرسم الذي يفهمه الشعب على اختلاف طبقاته، في حين أن القلم الكاريكاتوري العلميّ قد لا يستطيع أن يفهمه من الشعب غير الطبقة الخاصة.

غير أن الرسم والتصوير خارجان عن التحرير، فما هي أهم الحيل التي يلوذ بها الفن الصحفيّ اليوم في هذا الميدان الأخير؟

تستطيع صحيفة مصرية حديثة كمجلة "خيال الظل" للأستاذ "حافظ

ص: 380

عوض، أو مجلة "الاثنين" التي تصدرها دار الهلال، أن تمد القارئ بطائفة من هذا الحيل!

وربما كان من أهمها حيلة:

اختراع الشخصيات:

فإذا عجزت الصحافة في مصر عن أن تصف الحكام الظالمين -في وقت ما- بأنهم "حمير"، أو بأن الذين يقرون منهم مبدأ المحسوبية "حمير"، فإن صحفيًّا حديثًا -كالأستاذ مصطفى أمين- باتفاقه مع رسام قدير، كالرسام "رخا" يستطيع أن يبتكر شخصية "حمار أفندي" لتظهر في مجلة "الاثنين"، وتوجه النقد لاذعًا إلى الحكام في أخذهم بمبدأ المحسوبية تارةً، وعجزهم عن محاربة الغلاء تارةً أخرى.

وإذا عجزت الصحافة في مصر عن أن تكشف الستار عن سياسة الحكام الذين أثروا عن طريق الحرب، وسمحت لهم ضمائرهم بالاتجار في أقوات الشعب، فإن مجلة "الاثنين" تستطيع كذلك أن تبتكر شخصية "غني حرب" وهي شخصية رجل أثري على حساب الشعب، وأصبح الفرق عظيمًا ومخجلًا في الواقع بينه وبين هذا الشعب.

وإذا عجزت الصحافة في مصر عن مواجهة الحكام الطغاة الذين أسكرتهم السلطة، وغرهم النفوذ، فإن "مجلة الاثنين" تستطيع أن تبتكر شخصية "سكران باشا طينة" لتعبر عن رأيها في هؤلاء الحكام، وتردهم إلى شيء من التواضع والصواب.

ومهما يكن من شيء، فلعل أبدع شخصية ابتكرتها "مجلة الاثنين" في أثناء الحرب العالمية الأخيرة، هي شخصية "ابن البلد":

ص: 381

ابن البلد:

ولندع الأستاذ "مصطفي أمين" يصف لنا هذه الشخصية التي اشترك في رسمها كذلك مع الرسام "رخا" حيث يقول1:

".... ابن البلد ثائر على المتبع في هذا البلد، فهو يحب المرشح إلى أن ينتخب، والضعيف إلى أن يقوى والفقير إلى أن يغنى، والحزب إلى أن يتولى الوزارة، وهو يكره القوي إلى أن يضعف، والحاكم إلى أن يستقيل والظالم إلى أن يعزل".

"وهو لا يكف عن الابتسام، وبعض الناس يحسب ابتسامته جهلًا ورضى بالخنوع، والبعض الآخر يرى ابتسامته دليلًا على السخرية والاستخفاف".

"وابن البلد حاضر النكتة، يلقيها ولايهمه أن تصيب أو تخيب، وقد يتعثر فيها الكبير، وقد تؤلم الصغير، ولكنها دائمًا برئيةً، لا يقصد منها أن تنفع أحدًا أو تضر أحدًا، اللهم إلّا أن تظهر طبيعته الساخرة التي ورثها من توالي عهود الظالمين".

"وهو رجل طيب القلب، لا يتعصب ضد دين أو جنس، ولا يحقد على أحد، ولا ينتقم من مغلوب، ولا يمد خنجره في جريح".

"كم اضطهدوه وعذبوه، وكم طردوه وانتهروه، ولكنه لا يستطيع إلّا أن يقول لهم كلمته الخالدة خلود الأهرام: "معلهش" أو "ربنا يسامحهم"، أو "منهم لله"!!

"وقد يعد بعضهم هذا التسامح دليلًا من أدلة الضعف، ولكنه يعدها رجولة، والرجولة عنده نصيحة".

1 راجع "ثورة الصحافة" للأستاذ سامي عزيز، ص9، وما بعدها.

ص: 382

"إنه يحني رأسه أمام الطغيان، ولكنه -في الوقت نفسه- يلعن في قلبه الطغاة المتجبرين".

"ابن البلد رجل خلق من الطبيعة وحدها، والحكمة التي تجري على لسانه هي حكمة السليقة -فقد لا يقصدها- والقبلة التي يضعها على يدي القوي، قد تخرج من فمه ولا يشعر بها، أما اللعنة التي يرسلها فهي من قلبه، وقد يكون لها -دون أن يعلم- أثر أشد فتكًا من رصاص المدفع الرشاش"!

"هذا هو ابن البلد الذي ولدته" مجلة الإثنين".... ادعوا له أن يعيش".

ولقد كانت الحكومات لا تنتبه إلى هذه الشخصيات التي تخترعها الصحافة من حينٍ لآخر، إلّا بعد فوات الوقت، وبعد أن يكون القراء قد علموا بها، وفهموا قصدها، وأصبحت كل واحدة من هذه الشخصيات ذات صورة واضحة كل الوضوح في أذهانهم، وصار لكل لفظ من الألفاظ التي تجري على ألسنة هذه الشخصيات مغزًى قوي في أذهانهم.

وهناك حيلٌ أخرى عمدت إليها الصحافة، عدا حيلة "اختراع الشخصيات"، منها التعليق على حوادث البلاد الأخرى تعليقًا يمكن تطبيقه على حوادث مصر نفسها، وكأنما الكاتب الصحفيّ في مصر يقول لحكومته في هذا التعليق وأشباهه:"إياك أعنى، واسمعي يا جارة"!.

والأمثلة على هذا كثيرة، منها:

أن إحدى الصحف انتهزت يومًا ما فرصة اعتداء الفرنسيين على رئيس جمهورية "لبنان"، واعتقالهم "رياض الصلح" رئيس الوزارة، وفرضهم

ص: 383

على الجمهورية اللبنانية رئيس وزارة آخر، واستعانتهم على ذلك بالدبابات والجنود، والطائرات، فأخذ الأستاذ "مصطفى أمين" يكتب المقالات الفنية التي وصف فيها هذا الحادث، كما وصف تدخل فرنسا في شئون لبنان، وكيف أن فرنسا داست على استقلال هذا البلد الشقيق، وكأنما كان الأستاذ "مصطفى أمين" يتحدث في الواقع عن حادث 4 فبراير، وكيف تدخل الإنجليز في شئون مصر الداخلية، وفرضوا عليها رئيس وزارة بالدبابات، والجنود والطائرات، وسائر أدوات المظاهرات العسكرية الإرهابية، وفهم القراء في مصر ما قصدت إليه "مجلة الإثنين" من أنها تشير إلى هذا الحادث، وأنها تسخر من رئيس الحكومة المصرية الذي ظفر بالحكم على أسنة الرماح الإنجليزية، وهي هنا حكومة الوفد، وكان على رأسها مصطفى النحاس "باشا"،

وكما يتحدث الصحفيّ عن حوادث وقعت في بلاد لبنان، وكان لها نظائر في مصر، فكذلك يستطيع أن يتحدث عن خطوبٍ وقعت في بلاد غير لبنان؛ كالصين، أو الهند، أو فارس، ونحو ذلك.

وجملة القول: أن مجلة "الإثنين" بالذات، عمدت إلى طريقتين إلى الآن، وهما: طريقة ابتكار الشخصيات، وطريقة انتهاز الفرص والحوادث الخارجية الشبيهة بالحوادث المصرية، وبهذه الطريقة الأخيرة، وقفت الصحافة المصرية يومًا من الأيام تنقد نواب البلاد، كما نقدت من قبل رجال الحكومة في عيب من العيوب الخطيرة، وداء من الأدواء الوبيلة، هو "داء المحسوبية" الذي منيت به البلاد المصرية في العهود الماضية كلها، غير أن الصحافة بدلًا من أن توجه اللوم للنواب المصريين، أخذت توجه هذا اللوم إلى النواب اللبنانيين، أو السوريين، أو العراقيين، حتى تفلت بهذه الطريقة من قلم الرقيب.

وهذا كله فضلًا عن الطرق الأدبية الطابع في ذاتها، مثل النبوءات،

ص: 384

والرؤى والمنامات، واختراع الخرافات، والتحدث على ألسنة الطيور، وطريقة الحوار القصير بين أستاذ وتلميذه، ونحو ذلك.

ثم إن الصحافة الحديثة لم تسلك طريق المقال على شكلٍ من الأشكال فحسب، بل طرقت طريق الفنون الصحفية الأخرى؛ كفن الحديث الصحفيّ، وفن التحقيق الصحفيّ، على لسان شخصيةٍ مبتكرةٍ لا وجود لها في عالم الحقيقة.

وبهذه الطريقة تنكر وضعًا من الأوضاع الغريبة في المجتمع أو في الحكومة، وتستطيع في الوقت نفسه أن تفلت من يد الرقابة.

ولعل من خير الأمثلة على هذه التحقيقات الخيالية، ذلك التحقيق الصحفيّ الذي نشرته "مجلة الإثنين" بعنوان:"كيف يعيش محمد أفندي" والتحقيق الصحفيّ الذي نشرته أيضًا بعنوان: "كيف يعيش الأسطى إبراهيم"

وقد جاء كلا التحقيقين تعبيرًا صادقًا عن شعور الشعب المصريّ بالأزمة الشديدة التي أحس بها في غضون الحرب العالمية الثانية.

ثم إن من الحيل الصحفية التي نراها بين آنٍ وآخر، كتابة الرسائل التي يتجه بها القراء إلى رئيس التحرير، على أن تدور هذه الرسائل حول شخصيات خيالية، أو رحلات وهمية، أو مشاهداتٍ لا نصيب لها من واقع الأمة التي تصدر فيها الصحيفة، وهي طريقة أدبية قديمة، عمد إليها الكتاب الأوروبيون، كما نجد ذلك في الرسائل "الفارسية، لمونتسكيو، والرسائل "الإنجليزية" لفولتير، وغيرها.

وفي هذه الرسائل وأمثالها، يتخيل الكاتب شخصًا غريبًا عن البلاد، جاء لزيارتها، ولفت أنظار أهلها بغرابة ملابسه، وغرابة سلوكه، كما لفت نظره ما وجد منهم من تصرفاتٍ عجيبةٍ، وآراءٍ غريبةٍ، فأخذ ينقد كل وضع يراه، وصورة يقع عليها، وعبَّرَ عن ذلك كله بطريق الرسائل.

ومن هذا القبيل، يمكن أن يعتبر كتاب الدكتور "طه حسين" بعنوان:

ص: 385

"مرآة الضمير الحديث" أو الرسائل "الجاحظية" التي توجه بها "طه حسين" -يومًا ما - إلى رئيس الوزارة في مصر، وهو المهندس حسين سري.

وهذا كله من جانب الصحفيين، أما الأدباء غير الصحفيين، فقد كانت لهم وسائلهم الخاصة بهم في نقد الحكومة والمجتمع، ومن أهم هذه الوسائل: القصص، كما نجد ذلك في قصة "مذكرات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، و "جنة الحيوان" لطه حسين، و"المعذبون في الأرض" له أيضًا، إلّا أن وسائل الأدباء ليست مما نهدف إليه في بحث خاص بالصحافة، فليس من حقنا إذن أن نرسل القول في هذا اللون من ألوان الأدب.

والخلاصة: أن على الأدباء، ورجال الصحف واجبًا ثقيلًا، لا مفر من أدائه، وهذا الواجب هو: محاسبة الحكام، وبذل النصيحة لهم وللمحكومين على السواء، فإذا كانت الظروف ظروف سلمٍ وأمانٍ، ولم يحتج الأديب أو الصحفيّ إلى التورية في كلامه، وإن كانت الظروف ظروف حربٍ وظلامٍ، فلا يجوز لرجال الأدب والصحافة أن يقفوا مكتوفي الأيدي حيال الظلم، أو البطش، أو الخيانة، ذلك أن الطبيعة وهبتهم من الذكاء ما يمكنهم من الوصول إلى غرضهم، ومن الأسلحة ما هو بمثابة الحيل التي توصلهم إلى هذا الغرض.

ص: 386

مصادر الكتاب الثالث:

1-

The Kemsley Manual of Journalism.

by: Hadson

2-

Newspaper writing and Editing

by: Bleyer. Willard Crosvenor 1932.

3-

An Interoduction to Journalism.

by: Bond، Frank Fraser، 1954.

4-

Commission on Freedom of the Press.

by: Univ. of Chicago Press، 1947.

5-

Business Journalism، its Function and Furure.

by: Elfenbeen. Tuban، 1954.

6-

Modern Feature writing.

by: Reddick.

7-

Journalistic Writig.

by: Hyde.crandt Milnor، 1946.

8-

American Journalism.

by: Mott Frank Lutber، 1950.

9-

Journalison.

by: Olson،Kenneth.

10-

Writing the Feature Article.

by: Steigleman.

11-

The Complete Journalism.

by:F. Mansfield.

12-

Journalism.

by: Wickman، Stead.

13-

جنة العبيط، للدكتور زكي نجيب محمود.

14-

ثورة في الصحافة، للأستاذ سامي عزيز.

15-

أدب المقالة الصحفية في مصر، للدكتور عبد اللطيف حمزة.

16-

مستقبل الصحافة والأدب في مصر، للدكتور عبد اللطيف حمزة.

ص: 387

17-

فن المقالة، للدكتور يوسف نجم، ط1967 في بيروت.

18-

فيض الخاطر، لأحمد أمين.

19-

ساعات بين الكتب، لعباس محمود العقاد.

20-

الفصول، لعباس محمود العقاد.

21-

حصاد الهشيم، للمازني.

22-

صندوق الدنيا، للمازني.

23-

الأيام، لطه حسين.

24-

في المرآة، لعبد العزيز البشري.

25-

الأسلوب، لأحمد الشايب.

26-

في الميزان الجديد، لمحمد مندور.

هذا عدا الصحف والمجلات التي تصدر في مصر.

ص: 388

‌الكتاب الرابع: فن التقرير

‌المجلة

الكتاب الرابع: فن القترير

وبه الكلام عن فن تحرير المجلة

المجلة:

لعل أول من استخدم لفظ "مجلة" أو أشار باستعمالها، هو إبراهيم اليازجي، عندما كان يحرر مجلة "الطبيب"، ثم شاعت بعد ذلك، هكذا قال فيليب طرازي1.

ويطلق علي المجلة في اللغة الإنجليزية لفظ له دلالته، وهو "Reiew"، والمعنى الحرفيّ لهذا اللفظ هو "إعادة النظر"، ودلالة هذا الاسم آتية من أن المجلة لا تعدو في جوهرها أن تكون عبارة عن إعادة النظر فيما سبق من أخبار وحوادث ومواد سبق نشرها في الجرائد اليومية، ولم تساعد طبيعة الصحافة اليومية ذاتها على استيفاء هذا المواد كما ينبغي.

صحيح أن الصحف2 تحاول غالبًا أن تتابع الخبر الصحفيّ بشتَّى الطرق الممكنة، وصحيح أن هذا التتابع للخبر يظهر في الجريدة في شكل تعليق، أو في شكل طرائف Feature أو في شكل حديث أحيانًا، ونحو ذلك، لكن المجلة تستطيع بعد كل هذا أن تعيد النظر في جميع هذه المواد على اختلافها، وأن تبدي للقارئ وجهة نظر جديدة، وتمتاز هذه النظرية الجديدة بشيء من العمل، ونوع من الاستيفاء في البحث، وشيء كذلك من الجمال في العرض قلما يتاح للجريدة اليومية.

هيئة تحرير المجلة، وطبقة المحررين بالقطعة:

المتبع في كل مجلة من المجلات أن يكون لكل قسم من أقسامها مدير

1 انظر كتابه "تاريخ الصحافة العربية" جـ1 ص7.

2 يجب أن يكون مفهومها منذ الآن أننا نطلق لفظ "صحيفة" على كل من الجريدة والمجلة الأسبوعية أو الشهرية أو الدورية.

ص: 390

مسئول عن مواد هذا القسم، وتساعده هيئة من المحررين، تقوم بجمع المواد وصياغتها صياغة فنية قدر المستطاع.

غير أن أنشط الأعضاء في هيئة تحرير المجلة في الواقع هم: "طبقة المحررين بالقطعة"، وهم الذين يتعاملون مع المجلة، ويتقاضون على ذلك مرتبات ثابتة أو مكآفات معلومة من القائمين عليها.

وتعتمد المجلات على هؤلاء الكتاب في الحصول على الجانب الأكبر من مادتها الصحفية، ويطلق على الكتاب بالقطعة اسم "المصحافين" Free lancers" تمييزًا لهم عن المحررين الأصليين في المجلة أو في الجريدة، وهؤلاء المصاحفون يقومون بتزويد المجلة بأنواعٍ شتَّى من المواد الصحفية؛ كالمقال، والقصة، والتحقيق، والطرائف، والرسوم الكاريكاتورية، والفكاهات، والألغاز، وغير ذلك.

ويحصل المصحافون على هذه المواد من الحوادث الجارية، ومن مراقبة هذه الحوادث أولّا بأول، ومن الهيئات والمؤتمرات، ومن النشرات، ومن المكتبات، ومن الإذاعات، ومن الإحصاءات التي تصدرها الجهات الرسمية وغير الرسمية.

وكثيرًا ما يعتمد المصاحف كذلك على الاتصال الشخصيّ، كما يعتمد كذلك على الوكالات الخاصة بالأعمدة، ومعنى ذلك، أنه كما توجد وكالات خاصة بالأنباء، فإنه توجد كذلك وكالات لا تهتم إلّا بالأعمدة الصحفية، تزود بها الصحف والمجلات التي تطلبها، وتشترك بالمال في هذه الوكلات من أجل هذه الغاية.

وغير خافٍ كذلك أن هؤلاء المصاحفين يواصلون قراءة المجلات التي يكتبون فيها، ولا تنقطع صلتهم بالمسئولين عنها لكي يقفوا على رغباتهم، ورغبات القراء في نوع معين من المواد الصحفية، وعلى المجلة من جانبها أن تعمل كل ما في وسعها للدعاية اللازمة لنجاح أولئك المصاحفين

ص: 391

في مهمتهم؛ لأن في نجاحهم نجاحًا للمجلة ذاتها من ناحية، ونجاحًا للوكالة التي يعتمد عليها هؤلاء الكتاب من ناحيةٍ ثانية، والمعروف أن هذه الوكالات تتقاضى من كاتب المجلة الذي من هذا النوع عمولةً قدرها 10% من الأجر الذي يحصل عليه من المجلة، والذي لا شك فيه أن حوالي نصف المواد التي تنشرها المجلات الأمريكية، إنما تأتيها عن طريق الوكالات التي من هذا النوع.

المصادر التي تُسْتَقَى منها مواد المجلة:

عرفنا أن المواد التي تنشر في المجلة قلما تتعدى ما يلي:

الافتتاحيات، بعض الأخبار والتعليق عليها، المقالات أو الأعمدة، التحقيقات الصحفية، القصص، الطرائف، المذكرات، والفكاهات، والنوادر، الأقوال المأثورة، الرسوم الساخرة، الإعلانات، الأركان أو الأبواب الصحفية التي تتفق ونوع المجلة وأهدافها ونوع تخصصها، فمن مواد المجلة النسائية -على سبيل المثال- مادة خاصة بالأزياء، وأخرى خاصة بالأطفال، وثالثة خاصة بشئون المطبخ، ورابعة خاصة بمشكلات البيت وبالعلاقات الزوجية، وقس على ذلك بقية المجلات الأخرى؛ كمجلة المهندسين، ومجلة المحامين، ومجلة المعلمين، ومجلة الطلبة، ومجلة العمال، وما إليها.

أما المصادر التي تُسْتَقَى منها مواد المجلة، فيمكن أن تتلخص في مصدرين:

أولهما: مصدر داخلي، ونعني به: الكتاب والمحررين والمراسلين ومندوبي الأخبار والمصورين والرسامين وغيرهم ممن يعملون داخل المجلة، ويعتبرون عمالًا وموظفين بها.

وثانيهما: مصدر خارجيّ، ونعني به: طبقة الكتاب بالقطعة أو المصاحفين، والمصورين، والرسامين في خارج المجلة لا في داخلها، ووكالات الأعمدة والطرائف، وقد سبقت الإشارة إليها، تضاف إلى ذلك:

ص: 392

مكاتب الاستعلامات التابعة للحكومة وللهيئات، ثم المكتبات والمؤسسات والمتاحف، كما تعتبر المجلات المحلية والأجنبية، ويعتبر القراء أنفسهم كذلك مصدرًا هامًّا من مصادر المجلة لا غنى عنه.

ولا شك أن الصعوبة في إعداد المجلات تأتي من أنه ليس من السهل في واقع الأمر إرضاء كل قارئٍ، فنحن إذا نشرنا المواد الأصلية "ORIGINAL" اتهمنا بأننا لا نميل إلى التجديد، وإذا نشرنا المواد الهشة أو الخفيفة، اتهمنا بأننا بلهاء أغبياء، وإذا عدلنا عن نشر هذه المواد الأخيرة، فنحن جادون أو متزمتون أكثر مما ينبغي، وهكذا.

والمجلة لكي ترضي قرّاءها يجب أن تأخذ في إعداد موادها لستة أشهر مقدمًا، ولا شك أن هذه ميزة تنفرد بها المجلة دون الجريدة اليومية، وهذه الميزة آتيةٌ من أن المجلات لا تقوم دائمًا على عنصر الحالية Actualite، كما في الجريدة اليومية.

على أن إعداد المواد قصصًا، ولمدة طويلةٍ، يثير مشكلةً من أعقد المشكلات التي تواجه المسئولين عن تحرير المجلات العامة، وهي: كيف نحكم على أهمية موضوع ما بالنسبة للقراء بعد فترة طويلةٍ من الزمن؛ كهذه الفترة التي أشرنا إليها؟ مع أن الآراء تتبدل، والأذواق تتغير، وما قد يكون هامًّا في نظر القارئ اليوم قد لا يكون هامًّا في نظره بعد ذلك.

إن حل هذه المشكلة يتوقف غالبًا على مهارة القائمين بتحرير المجلة، وقدرتهم على فهم اتجاهات الرأي العام أو الذوق العام، ولا شك أن الطريق السليم لمعرفة الاتجاهات العامة هو طريق الاستفاء أو الإحصاء، ولذلك تعتمد المجلات الكبيرة اعتمادًا ظاهرًا على هذه الطرق.

ومن المجلات المصرية التي تؤمن بهذه الطرق المبنية على الاستفتاء مجلة "الهلال" بالجمهورية العربية المتحدة، ولا شك أن هذا سبب من أسباب نجاحها وبقائها إلى اليوم.

ص: 393

أما المجلات المحلية والأجنبية باعتبارها مصدرًا تستقي منه المواد الصحفية، فالملاحظ إلى الآن أن المجلة العربية ما زالت إلى يومنا هذا تعتمد في كثيرٍ من موادها على المجلات الأجنبية، وخاصة الأمريكية والإنجليزية والفرنسية، ومن هذه المجلات الأجنبية ما وصل فعلًا إلى الدرجة العالمية التي تجعل منها مصدرًا لأكثر المجلات المحلية، ومثلها مجلة لوك Look، ومجلة ماتش Match، ومجلة لايف Life وغيرها، ذلك أن هذه المجلات الأخيرة لها من الإمكانيات ما يساعدها على الانفراد بموضوعاتٍ ممتازةٍ من ناحية الفكرة، ومن ناحية العرض، ومن ناحية الصورة، ومن ناحية التحرير، ولا تكاد بعض الصحف المصرية في كثير من الحالات تفعل أكثر من أنها تقوم بترجمة هذه المواد، وتحذو حذوها كذلك في طريقة الإخراج، بل إن المجلات المصرية الكبرى كالمصور، وآخر ساعة، وحواء، والكواكب، وهي، وسمير، وكروان، تمعن إلى يومنا هذا في محاكاة المجلات الأجنبية من حيث الإخراج، ومن حيث المواد، أو الأركان، وغير ذلك.

ومهما يكن من شيءٍ، فإن المواد التي تنشر في مجلاتنا المصرية الآن على نوعين:

أولهما: المواد الإعلامية: كالأخبار والتعليقات والصور المتصلة بحوادث الأسبوع، وغير ذلك من المواد التي اصطلح على تسميتها بالمواد الحالية.

وثانيهما: مواد ليس لها صفة الإعلام أو الحالية، وليس لها ارتباط بزمن معين، وهو ما اصطلح على تسميته باسم Magazive، ومن الأمثلة عليها: التحقيقات الصحفية غير المرتبطة بأحداث الشهر أو الأسبوع، والقصص والرسوم الكاريكاتورية والطرائف، وهذا النوع من المواد هو الذي يصح للمجلة المحلية أن تأخذ في إعداده مقدمًا لمدةٍ طويلةٍ، كلما أمكن ذلك،

ص: 394

وهذا بخلاف النوع الأول، فإنه قَلَّمَا يؤخذ في إعداده قبل الأيام القليلة التي تسبق ظهور المجلة، بل في الساعات القليلة التي تسبق هذا الظهور.

الأرشيف الصحفيّ للمجلة:

الأرشيف الصحفيّ نوعان، عامٌّ وخاصٌّ:

فالأرشيف العام: هو تلك المجموعة الضخمة من مواد الكتب والجرائد والمجلات والدوريات والنشرات والقواميس أو المعاجم ودوائر المعارف، أو هو القصاصات المأخوذة من جميع هذه المصادر، وهو مجموعة الصور والرسوم التي تحتفظ بها دار المجلة، أو الجريدة، وترتبها وتنظمها طبقا لقواعد الفهرسة والتبويب المعروفة، ويشرف على هذه العملية الدقيقة مشرفون تابعون للدار، قادرون على القيام بهذا العمل الذي لا غنى عنه للمجلة.

ما هي قيمة الأرشيف العام للصحيفة:

تظهر قيمة الأرشيف العام للمجلة، أو الجريدة فيما يلي:

1-

تزويد الصحفيّ، أو المصاحف، بالمعلومات أو المعارف التي تهمه في موضوعٍ معينٍ، يأخذ في إعداده للصحيفة.

2-

يعتبر الأرشيف العام مرجعًا عامًّا للصحفيِّ أو المصاحف عندما يشعر بالحاجة الملحة إلى معلومات أو رسوم أو صور يدعم بها مقاله أو موضوعة أو مادته الصحفية التي لا بد من تقديمها للصحيفة.

3-

الأرشيف الصحفيّ يوفر على القائمين بالتحرير جهودًا شاقةً، ووقتًا طويلًا في سبيل البحث عن هذه المعلومات التي يحتاج إليها، أو الصور والرسوم التي يضمنها الموضوع.

ص: 395

4-

الأرشيف الصحفيّ يساعد المحررين على الوصول إلى ما يُسَمَّى: "بالسبق الصحفيّ" إذا كانت الحصيلة التي سيعتمدون عليها من المعلومات والصور أكثر من الحصيلة التي يعتمد عليها غيرهم من الصحفيين في صحيفة أخرى.

ولنضرب مثلًا لذلك:

قد يحتاج أحد المحررين إلى صورةٍ معينةٍ لحادثٍ معينٍ، مضى عليه بعض الوقت، ولكن لسبب ما ظهرت ضرورة تستدعي إعادة النظر في الموضوع والكتابة فيه من جديد، وهنا تتفتح القيمة الكبيرة لهذه الصورة التي أخذت وقت حدوث الحادث لتذكر القراء به، كما تظهر القيمة الكبرى للأرشيف العام لاحتفاظه بهذه الصورة.

5-

يمكن النظر إلى بعض ما يحتفظ به الأرشيف العام للصحيفة على أنه سجل تاريخي للأحداث المحلية أو العالمية إن أمكن، ويمكن الرجوع إلى هذا السجل عند الحاجة إلى ذلك.

6-

الأرشيف العام يعين الصحفيّ على متابعة الحوادث متابعةً لها خطرها، خذ لذلك مثلًا: عند صدور حكم هام في حادثٍ له أهميته أيضًا، يمكن للصحفيّ أن يرجع للأرشيف الذي من هذا النوع، وينقل منه ما سبق نشره من الأخبار والأحكام الخاصة بهذا الحادث، وبذلك يربط الحكم الصادر ببيانات الحادث، ووقائعه، وبأسماء المجني عليهم فيه، وبأسماء الشهود، ونحو ذلك.

ما المقصود بالأرشيف الخاصِّ، وما قيمته؟:

الأرشيف الخاص: هو ذلك الأرشيف الذي يجمعه الصحفيّ، أو يجمعه المصاحف بنفسه يومًا بيوم، وشهرًا بشهرٍ، وسنةً بسنةٍ، ويكون ملكًا خاصًّا له

ص: 396

ويعتمد صاحب الأرشيف الخاصِّ على الصحف والمجلات والإذاعات والقراءات والمقابلات الشخصية، والكلام الذي يسمعه من أفواه الخاصة والعامة، وذلك في جمع الأرشيف الخاصِّ، وتأليفه بالصورة التي يرتضيها لنفسهه، ويشترك في تأليف هذا الأرشيف كذلك مجموعة الأحكام القضائية التي تنشر من حينٍ لآخر في موضوعٍ معين، وقد يجمع صاحب الأرشيف الخاصِّ معلوماته كذلك من وكالات الأعمدة -كما قدمنا.

لكن ما هي قيمة الأرشيف الخاص؟

تظهر قيمة هذا النوع من الأرشيف إذا كان صاحبه قد جمع فيه من الأخبار والآراء والأحكام ما لم يتيسر لغيره من المشتغلين بتحرير الصحف جمعه، وتظهر قيمة الأرشيف الخاصِّ بشكلٍ أوضح، حين يأتي صاحبه بمعلوماتٍ وآراءٍ وتسجيلاتٍ ليس لها وجود بالصدفة في الأرشيف العام للصحيفة، ثم تبدو هذه الأهمية أو القيمة خطيرة حين يكلف المحرر من قِبَلِ الجريدة، أو المجلةِ بموضوعٍ أو بمشكلةٍ اجتماعيةٍ أو سياسيةٍِ تظهر أهميتها فجأة، وتثير اهتمام العدد الأكبر من القراء.

وهنا ينجح المقال أو التحقيق أو الموضوع المبنيّ على أكبر قدر ممكن من المعلومات والوقائع والأسانيد التي أسعف بها الأرشيف الخاص، وكثيرًا ما تكون هذه المواقف سببًا في لمعان اسمٍ معينٍ، أو في تألق نجمه ولفت الأنظار إليه.

ولنضرب لذلك مثلًا:

وقد تكون المعلومات التي تضمنها الأرشيف الخاصِّ مما تتصل بموضوع "تحديد النسل" أو موضوع "الطفولة المشردة" أو نحو ذلك، فإذا كان الأرشيف الخاصّ قد استطاع أن يزود المحرر بمعلومات كافيةٍ في الموضوع الذي يكتب فيه، وإذا كان المحرر قد صبر على جمع مواده مدة طويلة،

ص: 397

ثم وقعت حالة مشابهة لتلك الحالات، مع اختلاف في الأسماء، أو اختلاف في ظروف النشر، ونحو ذلك، ففي هذه الحالة يستطيع المحرر صاحب هذا الأرشيف الخاصِّ الغني بكل هذه المعلومات والآراء والأحكام أن يكتب تحقيقًا شاملًا، وبحثًا عميقًا يبهر به أبصار الناس، ويستحوذ به على إعجابهم، ويكون ذلك طريقًا إلى نجاح المحرر، وعلوِّه إلى المرتبة اللائقة من مراتب التحرير.

وإليك مثلًا آخر:

قد يقرأ المحرر قصة طلاق هنا أو هناك، وربما كانت هذه القصة مؤلفة من فقرة أو فقرتين فقط، أو ربما حملته على الضحك، أو أثارت فيه نوعًا من السخط أو الغضب، ولكنه يسجلها عنده فورًا في الأرشيف الخاصِّ،

وبعد يومٍ أو أسبوعٍ، أو شهرٍ، سيسمع أو يقرأ عن قصة طلاق أخرى، وربما وجد قصةً مسليةً، فيحفظها أو يسجلها كذلك في أرشيفه الخاصِّ، وتزيد هذه القصص عنده شيئًا فشيئًا، وقد تدور كلها حول شكاوي غير عادية من الأزواج والزوجات، وربما كشفت هذه القصص عن كثير من المآسي في الحياة الزوجية عند أكثر الناس، وقد يضم المحرر إلى هذا الأرشيف بعض الأحكام القضائية في حوادث الطلاق مثلًا.

وقد يجد المحرر في هذه الأحكام ما يضع العراقيل أمام القيام بالإجراءات النهائية في الطلاق، إذا تبين أنه ضرورة لا محيص منها، ويفرغ المحرر من جمع المعلومات والأحكام الكافية حول موضوع الطلاق، ثم تسأله المجلة كتابة مقالٍ، أو بحثٍ، أو تحقيقٍ، أو استطلاعٍ في هذا الموضوع، فهنا يجد نفسه قادرًا على كتابة هذه المادة، مستعينًا عليها بالأرشيف الخاصِّ الذي يجعل لكلامه طعمًا ورائحةً، وهو بهذه الصفة يصبح قادرًا على إمداد مجلته بالمادة التي تكتسح بها السوق، كما يقول رجال الاقتصاد.

ص: 398

على أن شيئًا آخر يظهر في مادة الكاتب الذي من هذا الطراز، وهذا الشيء هو مهارته الفائقة في كتابه العنوان، بشرط أن يكون فيه قدر كبير من الإغراء، وقلما يوفق كاتب صحفيّ إلى نجاح كامل في هذه الناحية، ما لم يكن قد درس موضوعه، وعاش فيه مدةً كافيةً.

بقي علينا أن نقف وقفةً خاصةً عند كل مادةٍ من هذه المواد، وهي:

1-

المقال من وجهة نظر المجلة لا الجريدة.

2-

القصة في المجلة.

3-

التقرير بفنونه المعروف، وهي: الحديث الصحفيّ، والتحقيق الصحفيّ، والماجريات الصحفية: برلمانية، وقضائية، وسياسية، ودبلوماسية.

4-

الإعلان والصورة، وطرق تحرير هذين الفنين من فنون الصحافة.

ص: 399

‌المقال في المجلة:

من رأي الإنجليز أن المقال أنواعٌ ثلاثةٌ، لا تخرج في مجموعها عن الأنواع التي سبق شرحها في باب المقال، وهي:

1-

Essay.

2-

Article.

3-

Feature.

والأول منها: يمتاز بشيءٍ من الطول، كما يمتاز بشيءٍ من الذاتية إذا كان الموضوع أدبيًّا، وبشيء من

الموضوعية إذا كان علميًّا.

والثاني: هو المقصود بالمقال الصحفيّ، لا الأدبيّ ولا العلميّ، وهو أقل من الأول خظًا في عنصر الذاتية؛ لأنه مقال يقصد به نقل الحقائق المتصلة بالخبر، إما بقصد التوجيه والإرشاد، وإما بقصد التدليل والإقناع، وإما بقصد التسلية والإمتاع.

والثالث: يكون أقرب إلى المقال الصحفيّ منه إلى المقال الأدبيّ أو العلميّ، وهو أكثر ظهورًا في المجلات، على حين أن المقال الصحفيّ أكثر شيوعًا في الجرائد.

وتشترك الجريدة والمجلة في جميع الأنواع المتقدمة، وإن كان النوع الأول أنسب للمجلات، كما قلنا، منه للجرائد، وكان النوع الثاني على عكس ذلك.

وفي النوع الثالث تشترك المجلة والجريدة كذلك، إلّا أننا نلاحظ أنه إذا كان الموضوع المشترك بينهما -على سبيل المثال- "أغا خان" في القاهرة

ص: 400

مثلًا، فإن الجريدة تكتب عن "أغا خان" وعن زوجاته وأولاده وعاداته وأخلاقه، وتسوق المادة التي تنشرها من ذلك، وهي أدنى في طبيعتها إلى الخبر من حيث هو خبر.

أما المجلة، فإنها تكتب عن "أغا خان" بشيء من التأمل والهدوء، يدعو القارئ إلى التفكير، فضلًا عن كونها تسعى إلى تسليته بما تورده من المعلومات في هذا الموضوع.

ولا شكَّ أن عنصر الوقت الذي يتسع أمام المجلة، ولا يتسع أمام الجريدة، هو السبب الذي من أجله اخلتفت نظرة كل منهما إلى موضوع "أغا خان".

ومهما يكن من شيءٍ، فإن المقال الذي تنشره المجلة يمتاز بالطول؛ بحيث تتراوح كلماته بين ألف وستة آلاف كلمة، ولا يتقيد المقال الذي ينشر في المجلة بقالبٍ معينٍ، وذلك كله فضلًا عن ميزتين أخريين هما:"الذاتية، والحرية"، وثَمَّ ميزة ثالثة أيضًا، هي أن المجلة تعالج الموضوع من أفقٍ أعلى، وزاوية أكثر انفراجًا.

وهكذا نرى أن المجلة تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المقال؛ لكي تجذب به انتباه القراء الذين لا يعجبهم القصص أحيانًا، وهذه مايدعونا إلى النظر في صفات كاتب المقال.

صفات كاتب المقال:

صدق من قال: "إن كاتب المقال شخصٌ يعبر عن الحياة بلغة الحياة، ينقدها بأسلوبه الخاصِّ، ولا ينظر إلى الحياة نظرةَ المؤرخ أو الشاعر أو الفيلسوف أو القصاص، ولكن يتوافر في فنِّه شيءٌ من كل ذلك، وليس يعنيه أن يكشف عن نظريات جديدة، ولا أن يوجد الصلة بين أجزائها المختلفة؛ لأن طريقته في العمل أدنى إلى الأسلوب التحليليّ، فهو يراقب

ص: 401

ويسجل ما يراقب، ويفسر الأشياء كما تبدو لناظره، ثم يدع خياله يمرح في مغزاها.

والغاية من هذا كله أن يحس إحساسًا عميقًا بصفات الأشياء، ويلقي عليها نورًا واضحًا رقيقًا، لعله بهذا وذاك يستطيع أن يزيد الناس إحساسًا بالحياة، وأن يهيئهم لما اشتملت عليه من المفاجأت المفرحة حينًا، والمحزنة حينًا آخر"1.

"إن المقالة قد تدور حول شيءٍ مما أبصره المؤلف أو سمعه أو شمه أو تصوره أو اخترعه أو توهمه، ولكن المهم أن يكون قد ترك في نفس الكاتب أثرًا خاصًّا، وتكون في ذهنه منه صورة خاصة، ويتوقف مجال المقالة على مجال الفكر الذي تصور، ثم سجل ما تصور، فالعبرة إذن بأن يحس الكاتب إحساسًا قويًّا بموضوعه، وأن يعبر عنه بعبارة قوية رائعة"2.

لقد درجت صحيفة "المؤيد" لصاحبها السيد "علي يوسف" على نشر مقالاتٍ أمريكيةٍ من حينٍ لآخر، اشتهر بها كاتب أمريكيّ معروف في ذلك الوقت، واستأثرت هذه المقالات بإعجاب الجمهور المصريّ يومذاك، فذهب أحد المعجبين بها في مصر إلى أمريكا، واحتال حتى وصل إلى هذا الكاتب الأمريكيّ وسأله، كيف تكتب المقال؟ فأجاب:

أقضي نهاري في مراقبة الناس وأحوالهم، وفي مطالعة أفضل الكتب والمؤلفات، ومتى اختمر في عقلي المعنى الذي اخترته موضوعًا لكتابة المقال، أتيت غرفتي هذه، وكتبت مقالتي على الآلة الكاتبة.

1 محمد عوض محمد "محاضرات في فن المقالة الأدبية" ص64، نقلًا عن الكاتب الإنجليزي بنسن Benson.

2 نفس المصدر ص63.

ص: 402

إن معنى ذلك إذن، أن المقال يكون وليدًا للصدفة حينًا، وللتأمل والتفكير الطويل حينًا آخر، ومن هنا كانت "العين الصحفية" بالنسبة للمقال "كالأنف الصحفية" بالنسبة للأخبار.

يقص علينا الكاتب الأمريكيّ "ويلزلي Welseley" في كتابه: "عالم المجلات" حكايةً بسيطةً عن طالبتين في إحدى كليات الصحافة، طلب الأستاذ إلى إحداهما أن تكتب ثلاث مقالاتٍ في موضوع الدين، ورأت الطالبة أن هذا الطلب معقول بالنسبة لها، فقد قالت: إن لديها قدرًا من الثقافة الدينية يسمح لها بذلك، وفرغت من كتابة المقالات الثلاث، فجاء المقال الأول خليطًا من المعلومات الخاطئة، والعبارات الدالة على التعصب الأعمى، كما جاء مشتملًا على فقرات تشير -على طريقة السرد- إلى بعض العقائد الدينية السائدة.

وقرأ الأستاذ المقال فلم يرق في نظره، وسأل الطالبة عن عملها الخارجيّ، فقالت: إنها تشتغل بتجارة "الأبسطة المصنوعة من خيوط النايلون"، فطلب إليها أن تكتب ثلاث مقالاتٍ أخرى عن هذا النوع من الأبسطة، وأن تضمن المقال رأيها في تنسيق البيوت، وطريقة تزيينها بهذا النوع من المفروشات، ثم اقترح الأستاذ عليها أن تبعث بهذه المقالات رأسًا إلى مجلة بعينها، وكتبت الطالبة هذه المواد، وبعثت بها إلى هذه المجلة، فلم تلبث أن تلقت من محررة القسم النسائيّ بها دعوةً لتناول الغداء معها في المنزل، وناقشتها المحررة في محتويات المقالات الثلاث، ولما تمت المقابلة عرضت الطالبة آراءها وتعديلاتها لبعض الأجزاء في هذه المقالات، ثم نشرتها تباعًا في المجلة، وكتبت الطالبة لأستاذها بعد ذلك له تقول: لقد تحققت المعجزة، ونشرت المجلة جميع المقالات، وبعد سنوات التحقت هذه الطالبة بهيئة التحرير في هذه المجلة.

ص: 403

حقائق حول كتابة المقال في المجلة:

المقال الذي تنشره المجلة، إما أن يكون مقالًا افتتاحيًّا، أو مقالًا غير افتتاحيٍّ.

فالأول: تعبير عن رأي المجلة في المشكلة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأدبية أو الفنية التي تعرض لها المجلة.

والثاني: تعبير ذاتيٌّ من جانب الكاتب، يصور به آراءه، ويعبر به عن ذات نفسه، ولا يقصد به إلى أكثر من الإقناع حتى يأخذ القارئ بوجهة نظره.

وهنا يحسن بنا أن نذكر كلمةً قالها المعقِّبُ الأمريكيُّ "وولتر ليمان Lippmaun" وهو يحلل ما يسميه:"الرأي العام" حيث قال: "إننا لا نحكم على الأشياء في ذاتها، بل على الصورة التي نكونها نحن عنها، أي: أن الصورة التي في رءوسنا هي مادة آرائنا، ومضمون هذه المادة على الدوام".

والصحف اليومية -كما يقول الأستاذ "دينواييه" صاحب كتاب "الصحافة في العالم"- تشارك بجزء فقط في تكوين هذه الصورة التي في رءوسنا، وأما الأجزاء الأخرى فآتيةٌ عن طريق المجتمعات العامة، والمنابر والمحاكم والمجالس النيابية، وغير ذلك من الوسائل الفعالة في التأثير على الرأي العام، وأخيرًا تسلطت السينما والإذاعة على عقول الجماهير إلى درجة جعلتهما تعتقدان خطأ أنهما سوف تخلعان الصحافة عن عرشها إلى الأبد.

ثم قال الأستاذ "دينواييه" كذلك: "وفي المنافسة بين هذه الوسائل المتعددة في تكوين آراء الناس تلعب المجلات دورًا هائلًا، وذلك عن طريق الصور والقصص والموضوعات التي درست درسًا عميقًا، ونحو

ص: 404

ذلك، ومن المحقق أن الجماهير تتأثر بصورة الصحف الأسبوعية أكثر من تأثرها بصورة الصحف اليومية، ومن المحقق أيضًا أن الأثر النسبيّ الذي تتركه الصحف اليومية في عقول الشعب مائعٌ إلى الحد الذي يتعذر معه القياس الدقيق لهذا الأثر.

ثم أيَّدَ الأستاذ "دينواييه" كلامه بعد ذلك ببحثٍ قام به حول قوائم توزيع الدوريات والمجلات في فرنسا، في 31 ديسمبر سنة 1947، أثبت فيه أن الجرائد اليومية تستهلك قدرًا من الورق أقل نسبيًّا من الورق الذي تحتاج إليه جميع الدوريات على اختلافها.

والمفروض في افتتاحيات المجلة أنها بناءة، والمجتمع يعتمد في هذا البناء على المجلة أكثر من اعتماده على الجريدة، ولكل فائدةٍ وميزةٍ، بحيث لا تغني إحداهما غناءً تامًّا عن الأخرى.

وميزة الجريدة هي التكرار، وميزة المجلة هي العمق، والحق أن الافتتاحيات البناءة جليلة النفع للمجتمع وللحكومة، وخاصةً عندما تقوم على تفكيرٍ عميقٍ، ومعلوماتٍ دقيقةٍ.

الواقعية في المقال:

هناك شيءٌ آخر يجب توافره كذلك في افتتاحيات المجلة، هو "صفة الواقعية" ولكن كيف تكون كاتبًا واقعيًّا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؟

إن الإجابة على هذا السؤال ليست سهلةً ولا هينةً؛ إذ أنه ربما كانت الكتابة الخيالية أسهل بكثير من الكتابة الواقعية، وذلك بالرغم من أن حقائق الحياة كثيرًا ما تكون أغرب من الخيال نفسه.

وصعوبة الكتابة الواقعية هي في جعل حقائق الحياة قابلةً للتصديق،

ص: 405

وبعبارةٍ أخرى: يجب على الكاتب الواقعيّ أن يعرف ماذا يروق الجماهير؟ وما الذي يجب أن يعرفوه؟

إن على الكاتب الواقعيّ إذن، أن يتعرف بنفسه إلى الحقائق والمعلومات التي يحب القراء أن يلموا بها، ولكن ليس للكاتب الواقعيّ أن يسأل الناس من آنٍ لآن: ما هي هذه الحقائق أولًا؟

إن على الكاتب الواقعيّ أن يحترم رغبات القراء، وأن يجعل من نفسه خادمًا لهم، ولكن على شريطة ألّا يقدم لهم من المعلومات إلّا ما يتصف بالدقة والصدق؛ كما أن عليه أن يثابر قبل ذلك على البحث عن هذه الحقائق، حتى يتألف له منها عددٌ كافٍ، ثم ينشر من هذا العدد ما يناسب الأحداث الجارية، ويلذ القراء، وكل ذلك في لغةٍ سهلةٍ بعيدةس عن الغرابة والتعقيد، وبذلك كله تتوافر للمقال الصحفيّ الذي تنشره المجلة صفتان لازمتان هما:

الواقعية من جانبٍ، ويسر القراءة من جانبٍ آخر، والصفة الأخيرة هي المقصودة بالكلمة الإنجليزية Readability، ومعناها الحرفيّ:"الإنقرائية أو طواعية القراءة"، وتأتي هذه الطواعية المطلوبة عن طريق سهولة الألفاظ، وألفة التراكيب، ومعرفة المحرر بقدرة الكلمة على الإيحاء، أو بما يكون لها من ظلالٍ وأصداء في ذهن القارئ.

وبعد، فعلى كاتب المقال في المجلة أن يضع هذه الحقائق نصب عينيه دائمًا، وهي:

أولًا: أن قارئ المجلة أعلى مستوًى من قارئ الجريدة اليومية من حيث اللغة، ومن حيث الثقافة، وربما من حيث المستوى الاجتماعيّ والمستوى الاقتصاديّ كذلك.

ص: 406

ثانيًا: أن الوقت الذي ينفقه القارئ في المجلة، أطول من الوقت الذي ينفقه في قراءة الجريدة اليومية، ذلك لأن قارئ المجلة، إنما يقرؤها على مهلٍ، وغالبًا ما يكون ذلك بعد الفراغ من عمله اليوميّ، أو في عطلة الأسبوع.

ثالثًا: أن قارئ المجلة يهتم بأسلوب الكاتب، ويهتم بالموضوع الذي يكتب فيه، أما قارئ الجريدة اليومية فقلَّمَا يهمه الأسلوب، إلّا عندما يقرأ العمود الصحفيّ لكاتبٍ معروفٍ؛ لأنه يقرأ ما يقرأ ليقف فقط على المضمون العام.

رابعًا: أن الكتابة للمجلات تحتاج إلى عنصر الخيال في كثير من الأوقات، وتعتمد -كما قلنا- على قوة البلاغة، على حين أن الكتابة في الجريدة اليومية لا تحتاج إلى أكثر من الوضوح في شرح الحقائق والأحداث.

النظام التقليديّ لصياغة المقال:

إن النظام التقليديّ لصياغة المقال، هو أن يكون على النحو الذي سبق شرحه في أحد الأبواب المتقدمة، وهو أن يشمل المقال على ما يلي:

1-

مقدمة تشتمل على فكرةٍ من الأفكار، تثير اهتمام القارئ، أو تشتمل على رواية دقيقةٍ وموجزةٍ للخبر الذي يُبْنَى عليه المقال.

2-

شواهد وحقائق تؤيد الفكرة التي بُنِيَ عليها المقال.

3-

خلاصة للمقال، تكون بمثابة خاتمة له، تبلور النتيجة أو الهدف الذي كتب من أجله المقال.

غير أن من الكُتَّابِ من يستطيعون الاستغناء عن عنصر المقدمة، أو التقديم في بعض الأحيان، ولهم في البدء في كتابة المقال طرقٌ شتَّى، منها على سبيل المثال:

ص: 407

أ- أن يبدأ المقال على شكل سؤالٍ يلقيه الكاتب على القارئ.

ب- أن يبدأ بجملةٍ تثير الضحك أو السخرية من شيء معين.

جـ- أن تكون البداية بجملةٍ فيها معنى الغضب، أو الثورة على شيء معين.

د- أن يبدأ المقال بإشارةٍ طفيفةٍ إلى أسطورةٍ من الأساطير المعروفة، عربية كانت أم أجنبية، قديمة كانت أم حديثة.

هـ- ربما يبدأ المقال بحقيقةٍ من الحقائق العامة، التي لا تكون موضعًا لجدلٍ من القارئ، وهكذا.

ص: 408

‌القصة في المجلة:

يمكن تقسيم القصة من حيث الطول والقصر إلى ثلاثة أنواع:

الأول: الأقصوصة.

الثانية: القصة القصيرة.

الثالثة: القصة الطويلة.

وتمتاز القصة القصيرة بأنها تتيح لكاتبها التعبير عن فكرةٍ واحدةٍ فقط، يسلط الكاتب عليها كل الأضواء، ويعزلها عزلًا تامًّا عن جميع الأفكار الأخرى، وبهذه الطريقة يستطيع الكاتب أن ينقل للقارئ صورةً قويةً عن هذه الفكرة الواحدة، تكون بطبيعة الحال أقوى بكثيرٍ مما لو كانت ضمن أفكارًا أخرى تشتمل عليها القصة الطويلة أو الرواية، ثم إن القصة القصيرة يمكن أن يقرأها القارئ في جلسةٍ واحدةٍ، وفي هذه الحالة يحصل القارئ على جميع ما للقصة من تأثيرٍ كاملٍ دفعةً واحدةً.

أما القصة الطويلة، أو الرواية، فإنها تحتاج إلى جلساتٍ كثيرة، ومن ثَمَّ يقع تأثيرها في نفس القارئ على دفعات.

ومعنى ذلك: أن القصة القصيرة أصلح للمجلة، وأن القصة الطويلة أو الرواية أصلح للجريدة اليومية.

وسندع الكلام عن الرواية؛ لأنها لا تهمنا في الكلام عن المجلة، وننظر قليلًا في القصة القصيرة.

ص: 409

فن القصة القصيرة:

إن الذي لا ريب فيه أن القصة القصيرة أدنى إلى الأدب الواقعيّ بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، ومن هنا جاءت ملاءمتها للصحف، وأصبحت من المواد اللازمة لها منذ ظهور الصحافة، والصحافة في ذاتها أدبٌ واقعيٌّ قبل كل شيءٍ؛ لأنها تعنى بالمجتمع، وبما يقع فيه من أحداث.

ولقد كان الكاتب الفرنسيّ الشهير "جي دي موباسان" من كتاب النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أول كاتبٍ رسم للقصة القصيرة طريقًا جديًّا بالمعنى الصحيح.

ذهب هذا الكاتب إلى أن القصة القصيرة ليس من الضروريّ أن تدور حول الأحداث الخطيرة، بل يغلب عليها أن تدور حول الأمور العادية التي تحدث للناس كل يوم، وفي ذلك ما قد يكشف عن أشياء كثيرة في النفس البشرية التي يهم القارئ أن يعرف عنها الشيء الكثير.

ومن هنا كانت الأحداث في القصة القصيرة عند هذا الكاتب أحداثًا عاديةً، وكان الأشخاص في القصة أشخاصًا عاديين، وكانت مواقف القصة مواقف عادية، وبهذه المواقف العادية استطاع الكاتب أن يفسر الحياة تفسيرًا سليمًا، وأن يكشف فيها عن زوايا خفيةٍ، وأن يشرح النفس الإنسانية شرحًا دقيقًا.

وبينما كان "جي دي موباسان" هذا يكتب القصة القصيرة بأسلوب سهلٍ، يدنو كثيرًا من أسلوب الصحافة، إذا بالكاتب الروسي "تشيكوف" يعمد في كتابة قصصه إلى أسلوبٍ بعيدٍ كلَّ البعد عن أسلوب الصحافة، وبذلك عمل على أن تستعيد القصة القصيرة مكانتها من حيث البلاغة والأناقة وسمو التراكيب.

ص: 410

وأما خطة هذا الكاتب الروسيّ في كتابه القصة القصيرة، فتقوم على هذه القاعدة:"عَرِّفِ الناسَ بالناسِ ولا تعرفهم بنفسك".

وهذا مثل من قصص "تشيكوف" يفصح فيه عن طريقته، ويكشف عن ميله الشديد إلى الإيجاز الذي عرف به.

في هذه القصص وعنوانها: "موت موظف حكومة" نرى موظفًا حكوميًّا، هو واحد من آلاف الموظفين، عرفته الأداة الحكومية في روسيا القديمة يعطس يومًا فوق صلعة قائدٍ كبيرٍ جلس أمامه في المسرح، فيرتاع الموظف الصغير من فعلته هذه، ويستبد به الخوف إلى درجةٍ مزعجةٍ تملك عليه كل مشاعره، ويقول لنفسه: أما عليَّ أن أقوم بواجب الاعتذار، وأؤكد للقائد العظيم أن العطسة كانت بغير قصدٍ مني؟ إن غضب القائد قد يجر عليَّ -وأنا الموظف الصغير- أوخم العواقب، واستجمع الموظف الصغير كل شجاعته، وذهب إلى القائد واعتذر له مرارًا وتكرارًا، حتى اضطر القائد نفسه في النهاية أن يأمر بطرده من مجلسه، فطرد المسكين؛ وإذ ذاك بلغ به الخوف والهلع مبلغًا، أفضى به إلى الموت في داره فور وصوله إليها.!

هذه قصةٌ مبكيةٌ مضحكةٌ في وقت معًا، وهي في الوقت نفسه موجزة كل الإيجاز، محبوكة كل الحبك، ولكن دون أن تنقصها كلمة واحدة يكمل بها التأثير الكليِّ في القارئ أو في السامع.

ومن ثَمَّ اشترطت في القصة القصيرة شروط ثلاثة هي:

أولًا: أن تكون لها بداية ووسط ونهاية.

ثانيًا: أن تكون تصويرًا لحدث متكاملٍ، له وحدته التي تتمثل في البداية والوسط والنهاية.

ثالثًا: أن تحدث في القارئ أثرًا كليًّا، أو تؤدي إلى معنًى كليٍّ.

ص: 411

ومعنى هذا أن القصة القصيرة لا يمكن أن تكون مجموعة أخبارٍ يربط الكاتب بينها بطريقة مصطنعة؛ ليوهم القارئ أنها قصةٌ، وهي ليست كذلك.

إن القصة القصيرة عبارة عن موقفٍ قصصيٍّ، أو موقفٍ من مواقف الحياة، يأخذ في النمو شيئًا فشيئًا، إلى أن يصل إلى نقطةٍ معينةٍ، يسميها النقاد:"لحظة التنوير" كما سنشرح ذلك فيما بعد.

عناصر القصة القصيرة:

تُبْنَى القصة القصيرة على أربعة أركان أو عناصر:

1-

عنصر الحوادث أو الأخبار.

2-

عنصر الشخصيات.

3-

عنصر الفكرة أو المعنى.

4-

لحظة التنوير، وهي اللحظة التي يكسب بها الحدث معنًى من المعاني، يكون هو المعنى الذي كتبت من أجله القصة.

عنصر الحوادث والأخبار:

لا بد للقصة من خبرٍ من الأخبار ترويه بصورةٍ فنيةٍ، ولكن يجب أن يكون مفهومًا على الدوام، أنه ليس كل خبر أو مجموعة من الأخبار قصة.

فالشرط في أن يصبح قصةً هو أن يكون له أثرٌ كليٌّ في نفس القارئ، وبعبارةٍ أخرى: ينبغي للخبر الذي تحكيه القصة أن تتصل تفاصيله وأجزاءه بعضها ببعض؛ بحيث يكون لمجموعها أثرٌ كليٌّ، هذا فضلًا عن توفر شرط آخر سبقت الإشارة إليه، وهو أن تكون للخبر بداية، ووسط، ونهاية، ثم لا يكفي أن يكون للخبر أثرٌ كليٌّ، بل يجب أن يصور حدثًا أو موقفًا معينًا، أو بدايةً معينةً، تأخذ في النمو شيئًا فشيئًا، حتى تصل إلى نقطة معينة، هي "لحظة التنوير" التي أشرنا إليها، وقلنا إننا سنشرحها بعد ذلك.

وعلى هذا، يكون الفرق بين الخبر الذي يقتصر على تزويدها بالمعلومات،

ص: 412

والخبر الذي يصور حدثًا من الأحداث تصويرًا فنيًّا من نوعٍ معينٍ، هو الفرق بين القصة الإخبارية في الجريدة، والقصة الفنية المعروفة في الأدب.

فلو كتبت لأحد أصدقائك تقول له:

"سافرت إلى الريف، وسحرني بجماله وهدوئه، وقضيت الوقت كله في الحقول، ومن أجل ذلك تأخرت في الكتابة إليك، أما عمدة القرية، فلا يسأم الجلوس في "الدوار"، ويجمع حوله رفاقه من شيوخ القرية، ولقد كنت طوال هذه المدة أجالس العمدة، وأقرأ له الجرائد والمجلات، وأستمع معه إلى الراديو، وأكبر أولاد العمدة -وهو صديق لي كذلك- عاد من العاصمة، وقال: إنه انتهى من الامتحان النهائيّ في كلية الحقوق، وأنه سيصبح محاميًا بعد بضعة أسابيع، وهو يمارس الآن تجربة حبٍّ عنيفٍ مع فتاةٍ من بنات القرية، تقرب منه في السن، ويقال: إنها تحب فتًى غيره، ومثلي لا يمكن أن تغيب عنه هذه المعلومات التي أكتبها إليك بثقة".

فإن في هذا الخطاب أخبارًا يرويها الكاتب لصاحبه، ولكنها رويت بحيث بدأ كل خبر منها منفصلًا، أو كالمنفصل عن الخبر الآخر، ومجموع هذه الأخبار لم يترك في نفس القارئ أثرًا كليًّا، ولذا عجزت كل هذه السطور، أو الأخبار، عن أن يكون لها معنًى كليّ، لذلك لا ينبغي لنا مطلقًا أن نطلق على هذه السطور اسم "قصة".

إنها مجرد أخبارٍ تزودنا ببعض المعلومات؛ كالأخبار التي تقرؤها كل يوم في الصحف لا أكثر ولا أقل.

أما القصة: فإنها ومضةٌ من الضوء، يلقيها الكاتب على شريحةٍ من شرائح الحياة -إذا صح هذا التعبير، ليصور بها حادثةً ذات وحدة عضوية، ويكشف بها عما يربط بين أجزائها من معانٍ أو علائقَ.

إنها إذن تعتمد على أساسين كبيرين هما: اللسمة الإنسانية من جانب،

ص: 413

وخلق مشكلةٍ من المشكلات التي تعرض للبشر، وحل هذه المشكلة من جانبٍ آخر.

وكما عرفنا كيف نفرِّقُ بين القصة الإخبارية في الصحافة، والقصة القصيرة في الأدب، كذلك ينبغي لنا أن نفرِّقَ بين المقال القصصيِّ والقصة القصيرة، فهذه الأخيرة -وهي القصة القصيرة- أدنى إلى الأدب والفن بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة.

ذلك أن "العقدة" و "لحظة التنوير" شرطان أساسيان في هذا اللون من الأدب، على حين أن المقال القصصيّ لا يشترط فيه أن تكون له عقدة، ولا يحتاج إلى "لحظة التنوير" التي تنحل بها هذه العقدة.

إن المقال القصصيّ أقرب إلى "الأقصوصة" منه إلى "القصة القصيرة" وللقارئ أن يرجع في ذلك إلى ما سبق أن كتبناه عن المقال القصصيّ كما هو معروف عند الكاتب الشهير باسم: "إبراهيم عبد القادر المازني".

عنصر الشخصيات:

مما لا شك فيه أن كل حدثٍ من الأحداث، لا يقع بالطريقة التي وقع بها في القصة إلّا لوجود شخص معين أو أشخاص معينين يجري على أيديهم هذا الحدث المعين.

ومعنى ذلك: أن الحدث في القصة هو هذه الشخصية، أو الشخصيات التي تعمل، ويجري على أيديها الحدث بصورة خاصةٍ، ووحدة الأحداث في القصة لا تتحقق إلّا بتصوير الشخصيات وهي تعمل في داخل القصة، وهكذا يتطور الحدث من نقطةٍ إلى أخرى، أي: أن كل جزء في القصة يبدو كأنه يؤدي إلى الجزء الذي يليه، وهكذا، وربما كان من أوضح الأمثلة على دور الشخصيات وهي تعمل ويجري على يديها الحدث، قصة كتبها

ص: 414

الكاتب الفرنسيّ الذي مر ذكره، وهو هنا "جي دي موباسان "بعنوان":

في ضوء القمر 1:

بدأت هذه القصة بموقف للأب "مارينيان" وهو يمشي في حديقةٍ له بالقرية، ويسأل نفسه: "لماذا فعل الله ذلك؟؟ إن عظمتك يا ربي أعظم من أن تدركها عقول البشر، وبهذا المنطق البسيط طفق الرجل يفسر الطبيعة من حوله، فالشمس لإنضاج المحاصيل، والمطر لسقي الزرع، والليل ليستعد الناس للنوم.... وهكذا.

غير أنه كان يكره النساء كل الكره، وكان يزعم أن الله تعالى غاضبٌ عليهن، وكان يعتقد دائمًا أن الله خلق المرأة لغواية الرجل واختباره، وكانت له ابنة أخت تعيش مع أمها في منزلٍ صغيرٍ قريبٍ من منزله، وكان قد صمم على أن يجعل منها راهبة، وكانت الفتاة تحب الحياة، وتستجيب لجمال الطبيعة بأكثر مما تستجيب لوعظ خالها، وفي يومٍ من الأيام، أخبرت مديرة البيت الأب "مارينيان" أن ابنة أخته قد اتخذت لنفسها عشيقًا، فصاح الأب: كذب.... كذب!!.

ولكن المرأة التي أخبرته بذلك قالت: ليعاقبني الله إن كنت أكذب يا سيدي القس.... إنهما يتقابلان كل ليلة بجانب النهر، وما عليك إلّا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة ومنتصف الليل، وفي موجة من الشعور بالحزن والخيبة والعار، وخدش الكرامة أخذ القس عصًا في يده من خشب البلوط، وخرج من بيته، ولكنه ما لبث أن توقف عند الباب مبهوتًا مأخوذًا بجمال الطبيعة.

وكان بهاء القمر رائعًا روعةً نادرةً، وشعر الرجل فجأةً أن جمال الليل

1 رشاد رشدي "القصة القصيرة" من ص41-48 بتصرف.

ص: 415

وجلاله وبهاءه قد حرَّك قلبه، وفي حديقته الصغيرة التي سبحت في ضياءٍ باهتٍ، عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر أغصانٍ رقيقةٍ من الخشب، تكسوها الخضرة، ومن الزهور المتسلقة على الحائط انبعثت رائحة جميلة، وسار الرجل ببطء، مسحورًا مبهورًا، حتى كاد ينسى ابنة أخته، وعندما وصل إلى بقعةٍ عاليةٍ، وقف يرقب الوادي بأجمعه، وبهاء القمر يحتضنه، وسحر الليل الهادئ الجميل يغرقه

واستمر الأب يمشي وهو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته! وود لو يجلس، أو يتوقف حيث هو؛ ليحمد الله على ما صنعت يداه، وهناك في طرف المرعى رأي ظلان يمشيان جنبًا إلى جنبٍ تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضيّ.

كان الرجل هو الأطول، وقد لف ذراعه حول عنق حبيبته، ومن وقتٍ لآخر كان يقبلها في جبينها، وفجأةً دبت الحياة في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بهما، وكأن الطبيعة نفسها إطارٌ إلهيٌّ صُنِعَ خصيصًا من أجلهما، وبدا الشخصان كأنهما كائن واحد، هو الكائن الذي خُلِقَ من أجله الليل الهادئ الساكن، واقتربا من القس كأنهما إجابةً حيةً على سؤاله الذي ألقاه على نفسه في بداية القصة، إجابةً بعث بها إلى ربه الأعلى.... وإذ ذاك كان الأب "مارينيان" يلقي على نفسه سؤالًا آخر:

ألم أكن على وشك الخروج على طاعة الله؟ ، لو لم يكن الله يرضى عن الحب لما أحاطه بمثل هذا الإطار من الجمال والسحر والبهجة والعظمة!!.

وهرب الأب مذهولًا وهو يكاد يشعر بالخجل أو بالوجل، كما لو كان قد اجتاز هيكلًا مقدسًا لا حقَّ له في اجتيازه في تلك اللحظة!!

هذه القصة تصور لنا حدثًا متكاملًا له وحدته، وتصور لنا الشخصية وهي تعمل، وتصور لنا الفعل والفاعل والشخصية شيئًا واحدًا لا يمكن تجزئته، ومن ثَمَّ نجحت هذه القصة نجاحًا كبيرًا، وبصرف النظر عن

ص: 416

كونها تشتمل على خبرٍ تافهٍ في ذاته، هو عبارة عن قسيس يدعى:"الأب مارينيان"، سمع ان ابنة أخته على علاقةٍ بأحد الشبان، فخرج ليضبطهما متلبسين بالجريمة، وتربص لهما في الحقول والوديان، وبعد مدةٍ رآها قادمةً مع حبيبها، تتهادى في ضوء القمر، فخجل من نفسه وعاد إلى بيته.

عنصر الفكرة أو المعنى:

إن تصور الحدث في القصة من البداية إلى الوسط، ثم إلى النهاية، لا يكفى لتطوير الحدث نفسه؛ لأن الحدث عبارةٌ عن تصوير الشخصية في القصة وهي تعمل، ثم إن تصوير الشخصيات في القصة وهي تعمل لا يكفي كذلك لإحداث التكامل في القصة، فالتكامل في القصة، أو الحدث، هو تصوير الشخصية وهي تعمل عملًا معينًا له معنًى أو فكرةً تهدف إليها القصة، وليس المعنى أو الفكرة شيئًا مستقلًّا عن الحدث، يمكن أن نضيفه إليه متى أردنا، أو نفصله عنه كيفما شئنا، فنقول مثلًا: إن هذه القصة تعالج مشكلة الفقر، أو تثبت أن الفضيلة أقوى من الرذيلة، ومعنى ذلك باختصار شديد: أن الحدث والمعنى، أو الفكرة، في القصة وحدةٌ لا تتجزأ.

انظر إلى القصة السابقة: "في ضوء القمر" تجد أن الحدث له بداية، ووسط، ونهاية، وتجد أن المعنى أو الفكرة والحدث وحدة لا تتجزأ إلى أجزاء يمكن أن ينفصل بعضها عن الآخر، ومن ثَمَّ أصبح هذا الحدث متكاملًا، والوحدة بينه وبين المعنى تامة، وليست مفروضة عليه بصورة من الصور، وهذا المعنى هو أن الله تعالى يرضى عن الحب، والكاتب هنا لا يعبر عن هذا المعنى في شكلٍ إخباريٍّ بحت، وإنما يعبر عنه في شكلٍ فنيٍّ هو عبارة عن حدث ينمو في القصة شيئًا فشيئًا، حتى تؤدي إلى المعنى الذي كتبت من أجله القصة.

ص: 417

لحظة التنوير:

لكي تكمل للقصة القصيرة مقوماتها الفنية المطلوبة، يجب أن تصور حدثًا متكاملًا يجلو موقفًا من المواقف الإنسانية كما قلنا.

إن كاتب القصة القصيرة لا يسرد تاريخ حياة أحدٍ من الناس، ولا يلقي أضواء مختلفة على أحداث كثيرة، ولا يكشف عن زاويا متعددة للأحداث والشخصيات، كما يفعل كاتب القصة الطويلة أو الرواية، بل ينظر إلى الحدث من زاويةٍ معينةٍ لا من عدة زوايا، ويلقي عليه ضوءًا معينًا، لا عدة أضواء، ويهتم بتصوير موقفٍ معينٍ في حياة فردٍ أو جماعةٍ، لا بتصوير الحياة كلها.. فالنهاية في القصة القصيرة تكتسب أهميةً خاصةً؛ لأنها النقطة التي تجمعت فيها خيوط الحدث كلها، وبها يكتسب الحدث نفسه معنًى وفكرةً، ولذا سميت هذه النقطة:"لحظة التنوير".

وبالقصة التي ضربنا بها المثل، وهي قصة "في ضوء القمر" نجد لحظة التنوير، وقد عَبَّرَ عنها الكاتب في قوله:

"وفجأةً خُيِّلَ إلى القس أن الحياة قد دبت في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بالفتى والفتاة، وكأنها -أي: وكأن هذه الطبيعة الحية- إطارٌ إلهيٌّ صنع خصيصًا من أجلهما، واقتربا من القس كأنهما إجابةٌ حيةٌ على سؤاله، إجابة بعث بها إليه ربه الأعلى، وقال الأب على الفور: ربما خلق الله مثل هذا الجمال إطار المثله الأعلى "وهو حب الإنسان"، وتراجع بعيدًا عن الحبيبين، وهو يكاد يشعر بالحياء والخجل، كما لو كان قد اجتاز معبدًا لا حق له في اجتيازه".

نسيج القصة:

رأينا كيف أن بناء القصة كبناء الكائن الحيِّ، وأن كل جزءٍ في هذا البناء لا يمكن أن ينفصل أو يستقل بنفسه عن الأجزاء الأخرى، بل يشاركها في الغاية من وجوده.

ص: 418

والغاية من القصة -كما عرفنا- هي تصوير حدثٍ معينٍ لهدفٍ معينٍ، ينسج الكاتب من أجله قصةً، ووسائل هذا النسيج -كما نعرف أيضًا- هي اللغة، والوصف، والحوار، والسرد، وغير ذلك من الأشياء التي تشترك كلها في مهمة التصوير من جهةٍ، وتطوير الحدث في داخل القصة من جهةٍ ثانيةٍ.

أما الوصف: فإنه لا يرد في القصة القصيرة لذاته، ولكن يرد فيها لغايةٍ معينةٍ، ولذلك لا يعمد الكاتب إلى وصف شخصيةٍ من الشخصيات من خلال منظاره هو، ولكن من خلال منظار الشخصية التي تتعامل مع غيرها من شخصيات القصة، وفي ذلك ما يساعد الحدث في القصة على التطور والنمو شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى نهايته، ومعنى هذا: أن الوصف في نظر الكاتب والقارئ، جزء كذلك من الحدث الذي تدور حوله القصة.

مثال ذلك:

إذا كان الشخص في القصة القصيرة يحب الفتاة الطويلة ذات الشعر الأسود، والبشرة التي تميل قليلًا إلى السمرة، فإن الكاتب الذي يريد أن ينشيء علاقة حبٍّ لهذا الشخص في القصة، لا بد له أن يصف الفتاة في القصة بنفس هذه الأوصاف المذكورة، لا بأوصاف يحبها هو، ويترجم بها عن مثله الأعلى في الجمال، ولو فعل غير ذلك لكان هذا خطأً في نسيج القصة بهذا المعنى.

وكذلك الشأن في اللغة التي تستخدم في هذا الوصف، فإنها هي الأخرى يجب أن تكون لغة مطابقة للشخصية في القصة القصيرة، فمن غير المعقول أن يدع الكاتب شخصياته تتكلم عن مستوى لغويٍّ واحدٍ، فإن في ذلك ما فيه من البعد عن الواقعية التي هي أساس هذا الفن من فنون الأدب، ونعنى به: القصة القصيرة.

وفي نسيج القصة القصيرة يجب أن يلتفت الكاتب دائمًا إلى هذه الحقيقة،

ص: 419

وهي أن التقرير في القصة لا ينبغي أن يحل فيها محل التصوير، فالتقرير شيء والتصوير شيءٌ آخر؛ الأول -وهو التقرير- لا يصح وروده في القصة، والثاني: هو كل ما يمكن أن تعتمد عليه القصة.

إن التقرير لا يصف الإحساسات والمشاعر، ولكن الطريق الوحيد لذلك هو التصوير، فالابتسامة، أو الدمعة، أو السكوت عن الجواب، أو العزلة، أو الحركة تصدر من يد الشخص أو من كتفه، والتصرف المعين، أو السلوك المعين يصدر من هذا الشخص أيضًا، كل هذه الأشياء تعين على التصوير الذي يقصد إليه الكاتب، ولا يمكن اعتبارها تقريرًا عن مشاعر الشخصية التي تجري على يدها كل هذه الحركات أو السكنات، ونحو ذلك.

وهكذا لا تجد كاتب القصة يعمد إلى تقرير شيء من الأشياء، أو التعليق عليه كما يفعل المحرر الصحفيّ، وإنما يكتفي بتجسيم هذا الشيء في عمل يصدر عن الشخصية، ويحمل ذاتيتها وطابعها في نفس الوقت.

والمهم أن تقول بعد ذلك: إن النسيج كالحدث وكالشخصية في القصة، ليس منفصلًا عنها، لكن هذه العناصر كلها شيء واحد، فلا يمكن أن نتصور بناء القصة بعيدًا عن نسيجها، كما لا نستطيع أن نتصور أن أحداث القصة أو شخصياتها أو فكرتها ومعناها معزولة عنها.

الواقعية في القصة القصيرة:

بقيت لدينا كلمة نشرح فيها المراد بصفة الواقعية في القصة القصيرة، وهي الصفة التي بدأنا بها هذا الحديث،

وإنَّا لمكتفون هنا بتجربةٍ قام بها صاحب جريدة "الهاتف"، وهي جريدة صدرت ببغداد ما بين سنة 1934 وسنة 1954، وصاحبها ورئيس

ص: 420

تحريرها هو الأستاذ جعفر الخليلي،1 قال:

كتب لي قارئ وأنا أدير جريدة "الهاتف" يقول: إنه كان قد سألني مرةً، ما الذي يجب أن أعتمد عليه في بناء القصة؟ فأجبته بأن الواجب يقضي عليه بتوخي "الواقعية" بعد وثوقه من قابليته الفطرية للكتابة.

وعمل القارئ بهذه النصيحة، وكتب قصة بيته، وأرسلها إلى جريدة "الهاتف" فلم تنشرها الجريدة، مع أنه لم يبعد فيها عن الواقع قيد شعرة، وكانت قصة بيته التي يشير إليها، والتي يلوم "الهاتف" على عدم نشرها بعنوان:

حياة أسرة:

وهي قصة أرض، قال إن أباه قد اشتراها من امرأة، وهي واقعة في الطرف الفلانيّ من المدينة، وبالقرب من المحل الفلاني، وقد أنجز أبوه بناءها في طابقين، اتخذ الطابق الفوقانيّ مسكنًا له، وخصنا أنا وعمتي وجدتي وأختي بالطباق التحتانيّ، وفي البيت سلمان؛ أحدهما بالقرب من باب الدار، والثاني في نهاية البهو، وكلاهما ينتهيان بالطابق الفوقانيّ، ويصلان إلى سطح الدار.

وقال: إن أباه ينوي أن يبني جناحًا آخر إذا ما جاء موسم الزراعة بمنتوج جيد في السنة المقبلة، وقد كان ينوي يوم خط خريطة البيت أن يبني سردابًا، ولكن صديقًا لأبي حذره قائلًا: إنه لن يأمن أن يمتلأ السرداب بالماء في موسم الفيضان، فعدل عن بناء السرداب وبنى لنا تنورًا لا تزال أمي وعمتي تتناوبان الخبز فيه، وإن كان خبز أمي أحسن من خبز عمتي.

ثم أضاف قائلًا: وليس في بيتهم هذا مجالٌ ليتخذ فيه حديقة، ولكنهم

1 جعفر الخليلي "القصة العراقية" ص155.

ص: 421

ينتظرون أن يبيعهم جارهم بيته المتصل ببيتهم؛ ليتخذوا منه حديقةً غناء -إن شاء الله تعالى.

وتنتهي القصة بعد ذلك بحادث وقوع بيتهم هذا بسبب شق الطريق، وكانت نتيجته أن انهدم البيت، وعوضوا عنه بمبلغ معين، وهكذا تمت قصة حياة الأسرة، أو قصة الدار قبل أن يتاح لهم أن يحققوا أمنيتهم منها.

لقد أقسم كاتب هذه القصة بأنه لم يكتب شيئًا يخالف الواقع، ولم يفته شيء مما ينبغي أن يذكر لتكون الإحاطة تامةً بجميع أطرافه، وذلك طبقًا للقاعدة المطلوبة في بناء القصة، أو طبقًا لنصيحة "صاحب الهاتف".

قال صاحب "الهاتف" بعد ذلك:

"إن الواقعة التي أرادت أن تكون قاعدة أساسية للقصة، لم أقصد بها أن ينبري أحدنا إلى بيته أو إلى شارعه أو إلى مدينة، أو أية جهةٍ أخرى، فيصفها وصفًا صحيحًا، ثم يقدمها للناس باعتبارها قصةً من القصص الفنية، وإنما يجب أن تصف الواقعية موضوعًا يصح أن يسترعي انتباه القارئ لغرابته، أو للذته، أو لاستهوائه النفس، أو لإثارته الكوامن، أو لأيِّ شيءٍ مما يعنى به الناس كلهم أو بعضهم، وذلك في قالب فنيٍّ وإطارٍ معينٍ، أما أن ينطلق الكاتب إلى المطبخ مثلًا فينقل للقراء صورةً صادقةً لمواقع القدور والملاعق من الجهة اليمنى إلى الجهة اليسرى، وموضع الطباخ أو من يطبخ في بيته؛ أهي أمه، أم عمته، أم الخادمة، ثم يحاسبنا على أنه قد راعى في وصفه أهم قواعد القصة، وهي "الواقعية" والإحاطة بجميع أطراف الموضوع، فذلك شيءٌ لا يمت إلى القصة بأيِّ وشيجٍ من النسب، وإذا جاز أن يكون قصةً فهو من نوع صاحب البيت المعمور الذي أشرنا إليه هنا، والذي أسأل الله أن يكون أبوه قد اشترى له بيتًا جديدًا حقق فيه آماله من حيث السعة وإنشاء الحديقة"!!

ص: 422

تقول "إليزابيت بوين" في تعريف "الرواية والحقيقة":

إنها -أي: الرواية- قصةٌ مبتكرةٌ، ولكنها في الوقت نفسه، ورغم كونها مبتكرةً، فإن لها القدرة على الإيحاء بالصدق، وقد يتساءل البعض، وما قياس هذا الصدق؟

فأقول: إنه بالنسبة للحياة كما يعرفها القارئ، أو ربما كما يتحسسها هذا القارئ، وأنا إنما أعني: القارئ الناضج الكامل النمو، فمثل هذا القارئ يكون قد اجتاز مرحلة قراءة القصص الخرافية، ونحن لا نريد في الرواية شيئًا من الأحداث الغريبة المستحيلة، ولهذا فإني أؤكد بأن الرواية يجب أن تنطبق على الواقع كما يعرفه الناضجون من الناس في المجتمع.

ومعنى ذلك: أن الرواية ليست نشرة إخبارية، كما أنها ليست حوادث مثيرةً للحس، أو مثيرةً للنظر، وهنا يأتي دور الشرارة التي تبعث الحياة الحقيقية في الرواية، وهي خيال الكاتب صاحب القدرة الممتازة، وهذا الخيال لا يقتصر على الاختراع، بل إنه يدرك الأشياء، ويمسها، ويضاعف من الأشياء التي تبدو عاديةً مألوفةً، وهو يمدها بقوة جديدة، ويزيد من أهميتها، ويؤكد صدقها، كما يعطيها حقيقة داخلية عميقة، وهذا هو مفهوم الفن الروائي.

وقفت "اليزابيت يومين" عند ثلاث خصائص للقصة وهي:

أولًا: أن تكون بسيطةً واضحةً سهلة الفهم.

ثانيًا: أن تكون طريفةً بحيث تدور حول أزمة من الأزمات، أو تعالج مشكلة ذات أهمية كبرى بالنسبة للكاتب أو للقارئ في حياته الخاصة.

ثالثًا: أن تكون ذات بداية جيدة، كأن تنطلق من موقف مشحون بالأمل، أو على الأقل توحي للقارئ بأن مثل هذا الموقف واقع وموجود بالفعل.

ص: 423

‌وظيفة التقرير الصحفيّ وأهميته:

بين العلماء والباحثين خلافٌ كبيرٌ في المقال الصحفيّ من حيث هو: أيعتبر فنًّا مستقلًّا بذاته من فنون الصحافة؟ أم يعتبر لونًا من ألوان الخبر أو الإعلام؟ وتمادى الخلاف بينهم في ذلك حتى ذهب بعضهم إلى أن المقال الصحفيّ -وإن كان يهدف إلى التوجيه والإرشاد- فإنه يعتبر في الواقع نوعًا من الإخبار والإعلام، ولِمَ لا يكون كذلك؟ والمقال الافتتاحيّ ذاته يُبْنَى في أكثر الأحيان على خبر هامٍّ، سواء أكان من الأخبار الخارجية أم الداخلية، وقد يدورهذا المقال الافتتاحيّ كذلك حول خبر ما تحول ظروف خاصة دون إيراده مورد النبأ بالشكل المعروف في الصحيفة.

على أنه بالرغم من هذا التداخل الكبير بين الخبر والمقال، فإن الكثرة الساحقة من علماء الصحافة مجمعةً على ضرورة الفصل بين هذين الفنين من فنونها، وذلك على أساس من الفهم السليم لوظائفها الخمس المعروفة للصحافة، وهي كما تعلم:

وظيفة الإخبار، ووظيفة تفسير الأخبار، ووظيفة التوجيه والإرشاد، ووظيفة التسلية والإمتاع، ووظيفة التسويق والإعلان.

والغرض الأول والثاني من هذه الأغراض الخمسة يختصان بالخبر، والغرضان الثالث والرابع منها يختصان بالمقال، وأما الغرض الخامس والأخير فخاصٌّ بالناحية المادية التي لا تعنينا في هذا البحث.

فإذا كان هذا هو الخلاف الحادث بين العلماء والباحثين في شأن المقال

ص: 424

الصحفيّ بالذات، فكيف يكون الخلاف بينهم في الفنون الصحفية الأخرى، ومنها فن الحديث، وفن التحقيق، وفن الماجريات؟

إن من هؤلاء العلماء من يعتبرون هذه الفنون الأخيرة لونًا عمليًّا من ألوان الإعلام أو الإخبار، والدليل على ذلك -في رأيهم- أن محرر التقرير الصحفيّ -كائنًا مَنْ كان- يكتب ما يرى وما يسمع في مكان الحادث أو التحقيق، ويهمل كل ما عرفه -ولو من طريق الصحف- عن الشائعات التي تجري على ألسنة الناس بعيدًا عن هذا المكان، ومعنى ذلك أنه لا يكتب في مكتبة، أو غرفة التحرير بالصحيفة، كما يفعل كاتب المقال أو التعليق على الأنباء، وإنما يكتب أولًا في المكان الذي يقع فيه الحادث، أو المكان الذي هو موضوع التقرير الصحفيّ الذي تطلبه الصحيفة.

والمعروف أن عمود الأخبار لا يتسع في الصحيفة إلّا لعباراتٍ موجزةٍ وجملٍ مركزةٍ، ولكن بعض هذه الأخبار يجذب إليه انتباه القراءة، وكثيرًا ما تثير فضولهم، فتضطر الصحيفة إلى إشباع فضولهم هذا بكتابة التقرير الصحفيّ المفصل، كائنًا ما كان نوعه، أو كانت صورته.

من أجل ذلك، ذهب بعض العلماء إلى أن التقرير الصحفيّ يهبط بمستوى الصحافة؛ لأنه لا يهدف إلّا لغرضٍ واحدٍ فقط في الواقع، هو إرضاء غريزة من غرائز الإنسان، هي غريزة حب الاستطلاع، أو إلى إرضاء غريزةٍ أخرى من غرائزه كذلك، هي الغرور الإنسانيّ لدى المجرمين، والمتهافتين على الشهرة والميل إلى الظهور.

وذهب بعض العلماء كذلك إلى اعتبار التقرير صحافةً من الدرجة الثانية؛ لأنه لا يتطلب من كاتبه كل ما يتطلبه كاتب المواد الأخرى في الصحيفة من مهارةٍ وحذقٍ في فنون الكتابة والعرض.

لكن يرد على هذه الآراء السابقة وأمثالها بردود كثيرة منها: أنه

ص: 425

يكفي أن نرى جمهور القراء يتهافتون على قراءة التقرير الصحفيّ -أيًّا كان نوعه- وأن نراهم معجبين أشد الإعجاب بكاتب هذا الفن من فنون الصحافة الحديثة.

على أن كاتب التقرير الصحفيّ في الحقيقة من أشد الكُتَّابِ الصحفيين عنايةً بعرضه، على أحسن وجه، وكتابته على أحدث طريقة، وجعله تحفةً فنيةً تجذب إليها انتباه القارئ، وسنرى في بعض الفصول القادمة كيف أن كاتب التقرير الصحفيّ، بأشكاله المختلفة، لا بد أن يكون رجلًا يتوافر فيه من الصفات الأدبية والفنية، وما يتوافر في كاتب القصة الإخبارية، أو المقالة الصحفية، أو العلمية، أو الأدبية، أي: أن كاتب التقرير يجب أن يكون كغيره من أعضاء أسرة التحرير؛ على جانبٍ عظيمٍ من العلم والمعرفة، وعلى جانبٍ عظيمٍ من الفن والموهبة، وبغير ذلك تبدو كتاباته ضحلةً فارغةً أو مضحكةً، وتتعرض إذ ذاك "لمقص" سكرتير التحرير، ولقمه "الأحمر" الذي يضرب به على كثير من المواد غير المبذول في كتابتها، وإعدادها من العناية ما يكفل نشرها، ويغري قراء الصحيفة بقراءتها، والانتفاع بها.

وفي أهمية المقرر الصحفيّ، يقول مسيو "إيلي ريشارد Elie Richard" وكان رئيسًا لتحرير صحيفة فرنسية يقال لها:"سي سوار":

"الحقيقة أن المقرر الصحفيّ ثمرةٌ من ثمار هذا القرن الذي نعيش فيه، إنه المندوب الذي يذهب من قبلك - أيها القارئ- لرؤية الحادث، والكشف عن أسبابه بدقةٍ تامةٍ، إنه ليس أديبًا متجولًا، ولكنه في الواقع العين التي نبصر بها، والأذن التي نسمع بها، وهو يعرف جيدًا أن عليه أن ينقل إلينا جميع الأحاسيس فور شعوره بها، وإدراكه لها، أما التأملات والإيحاءات فمتروكة لنا وحدنا بعد كل ذلك".

ص: 426

ويفرِّقُ الباحثون بين "المقرر الكبير" و "المقرر الصغير" فالأول ذو خبرةٍ واسعةٍ، ومرانةٍ طويلةٍ، وعليه -بوجه عام- تعتمد الصحيفة في كتابة التقارير حول الأخبار الهامة، والحوادث الجسام، كحادث اغتيال رئيس من رؤساء الحكومات، أو حادث غرق سفينة كبيرة، أو هلاك منطقة آهله بالسكان بسبب الفيضان، أو بسبب بركان، وكفضيحة من الفضائح تكون الشخصية الرئيسية فيها نجمًا أو نجمةً من نجوم العلم، أو الأدب، أو السينما، أو المسرح، ونحو ذلك.

فإذا وقع حادث من هذا النوع أسرع المقرر الصحفيّ الكبير، فحزم متاعه، واصطحب معه آلة التصوير، وركب الطائرة، أو القطار السريع، ليصل إلى مكان الحادث قبل غيره من الصحفيين، وهنا يجمع المعلومات، ويجري التحقيقات، ولا يعبأ بالمصاعب والعقبات التي تعترض طريقه، ويسابق الوقت فلا تضيع منه دقيقة واحدة، وإلّا فسدت عليه خطته من أولها إلى آخرها.

أما "المقرر الصغير" فيحرر في الغالب باب "الأصداء" أو باب "المياومات" أو تلك المواد الصغيرة المسلية التي تهتم بها جميع الصحف، وتفرد لها مكانًا خاصًّا من مساحتها، وكثيرًا ما يكون ذلك بالصفحة الأخيرة التي تعتبر أدنى في طبيعتها إلى "المجلة": MAGAZINE منها إلى الجريدة NEWS PAPER.

وفي هذه الصفحة الأخيرة يرى القارئ طائفةً من الأحاديث المصورة، التي هي في الواقع "أصداء" لأهم الحوادث الجارية، وهنا يتساءل الباحث عن هذه الأحاديث، والأصداء: ما نوعها؟ وهل تعتبر من الحديث الصحفيّ، أو التحقيق الصحفيّ، أو الماجريات الصحفية؟

والجواب على ذلك: أن هذه التقارير الصغيرة ليست في شيء من هذه

ص: 427

الفنون الثلاثة بالمعنى المقصود من كل فَنٍّ منها على حدةٍ، وهو المعنى الذي ستشرحه الفصول التالية:

فليست هذه التقارير الصغيرة أحاديث صحفية؛ لعدم وجود عنصر الحوار في أكثرها، بل فيها جميعها، وليست هذه التقارير الصغيرة عبارة عن تحقيقات صحيفة؛ لعدم وجود عنصر البحث عن الحقائق، وعنصر جمع المعلومات حول مشكلةٍ من المشكلات العامةِ سعيًا وراء إيجاد حل مناسب لها.

وليست هذه التقارير الصغيرة "ماجريات صحفية" لأنه يشترط في هذه الماجريات -كما سنرى- أن تكون تقريرًا عن حوادث كبيرةٍ عقدت لها جلسات في هيئات عامة، كالمحكمة، والبرلمان، والمؤتمر الإقليمي، أو المؤتمر الدوليّ.

فإن كان ولا بد من إدراج هذه التقارير الصغيرة تحت فَنٍّ من فنون الصحافة، فهي أدنى إلى فن التعليق على الأخبار منها إلى أيِّ شيءٍ آخر، وذلك بشرط أن نتسامح أيضًا في معنى "التعليق على الأخبار" فلا تكون الغاية منه مقصورةً على توجيه القارئ بقدر ما تكون الغاية من هذا التعليق الصحفيّ أو "الثرثرة الصحفية" هي تسلية القارئ أو إمتاعه، بصرف النظر عن توجيهه أو إرشاده.

ثم إن هذا التعليق على الأخبار متى قصد منه إلى إيضاح بعض النقط المتصلة به، أو الكلام بشيء من التوسع عن الأشخاص والأماكن التي تذكر معه، أو تزويد القارئ بطائفة من المعلومات المسلية التي ترتبط به من قريب أو من بعيد، سُمِّيَ في الواقع باسم:"طريفة"، وجمعها "طرائف"، Eeatures وهو فن من فنون الصحافة أدنى إلى الخبر منه إلى المقال، كما

ص: 428

أوضحنا ذلك في فصل من فصول الكتاب الثاني من كتب هذا البحث، وعنوانه:"الطرائف".

المقرر الكبير، ومكانته في الصحافة الحديثة:

الحق أن المقرر الكبير يعتبر قوةً كبيرةً من قوى الصحافة الحديثة، وعلى أيدي المقررين الكبار تجري أنواع من البطولات والمغامرات، لا تَقِلُّ عن مغامرات المخترعين وكبار العلماء، ومن هذه المغامرات -على سبيل المثال - مغامرة "ستانلي" الذي أرسلته صحيفة "نيويورك هارولد" للبحث عن "لفنجستون" أدت إلى القيام بتقرير صحفيٍّ غريب، أثار آنذاك إعجاب العالم أجمع، فقد كان "ستانلي" صحفيًّا ورحالةً في آنٍ واحدٍ، وفي أكتوبر سنة 1869، كلفه مدير "النيويورك هرالد" بالبحث عن "لفنجستون" في أفريقيا الاستوائية، بعد أن انقطعت أخباره ثلاث سنوات، ووصل "ستانلي" إلى زنزبار في يناير سنة 1871، وتوغل في قلب القارة السوداء، وعثر أخيرًا على "لفنجستون" في "أودجيجي" الواقعة على ضفاف بحيرة تنجانيقا، وزوده بالمؤن ثم كتب "ستانلي "إلى الصحيفة تقريرًا مثيرًا1.

"وفي أوائل مايو سنة 1956 استطاع الصحفيّ المصريّ "إبراهيم عزت" أن يتخطى حدود إسرائيل، ويطوف مدنها، ويقف على حقيقة ما يجري فيها من أمور، ويمكث فيها أحد عشر يومًا، قابل في خلالها "دافيد بن جوريون" رئيس الوزراء، و"موسى شاريت" وزير الخارجية، و"جولدا مائير" وزيرة العمل، و"موشى ديان" قائد الجيش.

وقد استطاع "إبراهيم عزت" أن يحصل على تأشيرة من سفارة إسرائيل

1 راجع د. خليل صابان "الصحافة" رسالة، استعداد، علم، فن" ص120-121.

ص: 429

بلندن، بعد أن أقنع المسئولين هناك بأنه صحفيٌّ برازيليّ من أصل عربي، واسمه:"جورج إبراهيم حبيب" يفهم العربية، ولكنه لا يكتبها، وأنه يقوم بجولة في منطقة الشرق الأوسط لزيارة الدول العربية وإسرائيل، ولكنه يخشى إن ظهرت على جواز سفره تأشيرة دخول إسرائيل، أن ترفض الدول العربية دخوله أراضيها.

وطار "إبراهيم عزت" من لندن إلى نيقوسيا، ومنها إلى "اللد" حيث كان في استقباله مدير المطار، ومندوب وزارة الخارجية، الأمر الذي أفزعه إذ ذاك، ولكن سرَّه لم ينكشف، وظلَّ يجوب مدن إسرائيل حيث مكث ثلاثةَ أيامٍ في تل أبيب وحيفا، ويومين في القدس وبير سبع، وزار المستعمرات الصهيونية على الحدود المصرية.

وفي كل لحظةٍ كان يقف على الأمور خلف الأسوار، ويطَّلِع على أدق الأسرار، وبعد أحد عشر يومًا عاد إلى قبرص، ومن هناك أبرق إلى "روز اليوسف" بتفاصيل رحلته إلخ"1.

أليس في كل ذلك ما يدل دلالةً واضحةً على المكانة التي يتمتع بها المقرر الكبير في الصحافة الحديثة، وما يدل كذلك على أن التقرير الصحفيَّ في ذاته صحافة من الدرجة الأولى لا من الدرجة الثانية؟

لقد سبق أن قلنا: إن الخلاف قائم بين العلماء في موضوع المقال الصحفيّ: أيعتبر فنًّا مستقلًّا بذاته من فنون الصحافة؟ أم يعتبر لونًا من ألوان الإعلام في هذه الصحافة كبقية الألوان الأخرى.

والرأي عندنا في ذلك أنه لا بد من الفصل بين هذه المواد التي هي:

1 المصدر المتقدم ص123.

ص: 430

الخبر، والمقال، والتقرير، فهذا الفن الأخير-وهو التقرير- وإن كان في الواقع يحمل صفة الإخبار، أو الإعلام، فإنه في نفس الوقت يكتب بطريقةٍ مخالفةٍ كل المخالفة للطريقة التي تكتب بها الأخبار، والاختلاف بين الخبر والتقرير في طريقة التحرير كافٍ عندنا للفصل بينهما، ودراسة الخصائص الفنية لكلٍّ على حدةٍ.

فلئن كانت القصة الإخبارية تجيب دائمًا عن الأسئلة الخمسة أو الستة المعروفة، وهي: من، وماذا، ولماذا، وأين، ومتى، وكيف، فالتقرير الصحفيّ كثيرًا ما يكتفي بالإجابة عن سؤال: لماذا أو كيف، ويقف عند هذا الحد.

ولئن كانت الإجابة عن سؤال "كيف" تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في القصة الإخبارية، أي: أنها تجيء لمجرد التفسير في الفقرة الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة من صلب هذه القصة، فإن الإجابة عن سؤال "كيف" يلعب الدور الهام في التحقيق الصحفيّ -بنوع خاصٍّ- ويكاد يدور عليه هذا التقرير من أوله إلى آخره.

ولئن كانت القصة الإخبارية إنما تصاغ على شكل هرمٍ مقلوبٍ، فإن التحقيق الصحفيَّ بالذات -كالمقال الصحفيِّ- يتبع نظام الهرم القائم أو المعتدل، بمعنى أن الأجزاء التي هي أقل في الأهمية تأتي في بداية الكلام، ثم تتدرج الأجزاء الأخرى إلى أعلى شيئًا فشيئًا، حتى تصل في التقرير-كما تصل في المقال- إلى الذروة Climex، ويستثنى من ذلك في الماجريات: قضائية، وبرلمانية، وسياسية، كما سنرى ذلك في موضعه من هذا البحث.

ولئن كان الخبر الصحفيُّ لا يسمح لمحرره مطلقًا بإظهار شخصيته على نحوٍ ما؛ لأنه يتبع في تحريره أسلوبًا يشبه الأساليب العلمية ذات الصبغة الموضوعية، فإن التقرير الصحفيَّ من حديثٍ، وتحقيقٍ، وماجرياتٍ، يحمل

ص: 431

غالبًا طابع كاتبه، ويَنُمُّ عن شخصية محرره، ويدل عليه دلالة قوية، وذلك حتى في بعض الماجريات الدبلوماسية والدولية نفسها.

وكل هذه الفروق المتقدمة تجعل من حقنا أن نفصل فصلًا تامًّا بين التقرير الصحفيِّ وغيره من مواد الصحف، كما تجعلنا ننظر إلى فن التقرير على أنه فنٌّ مستقلٌ بذاته؛ له خصائصه التي يمتاز بها، وله أغراضه التي يسعى إليها، وله كتابه ومحرروه الذين تهيئوا للنبوغ فيه، وللتقرير -فيما قلنا- فنون أربعة، وهي:

1-

فن الحديث الصحفيّ.

2-

فن التحقيق.

3 فن الماجريات الصحفية.

4-

فن التقرير المصور "الريبورتاج".

وسنتحدث عن كل واحدةٍ من الفنون الثلاثة الأولى على حدةٍ، وسنعنى في أثناء ذلك "بالطابع المصريّ"، و "الشخصية المصرية" في فن التقرير، كعنايتنا بهما في الفنين السابقين، وهما الخبر والمقال.

نعم، يصح أن يضاف إلى هذه الفنون الثلاثة، فن التقرير المصور أو الريبورتاج، وهو عبارة عن تقرير صغير يمتاز بأشياء، منها:

1-

الإيجاز في التعبير.

2-

الحديث عن شخصٍ بعينه، أو مكانٍ بعينه، أو ظاهرة بعينها.

3-

أن يكون هذا الحديث مقرونًا بالصور كلما أمكن ذلك.

خذ لذلك مثلًا: هب أنك مشيت في الطريق العام، فقابلت شحاذًا يتكفف المارة، ووقفت قليلًا ترقب هذا الشحاذ، فإنك تجد لفائف كثيرة على ساقه اليمنى، ولفائف أخرى على ساقه اليسرى، ثم أخذت تلاحظ هذا

ص: 432

الشحاذ عن قربٍ دون أن يشعر، حتى ابتعد عن زحام الناس، وأخذ يفك لفائفه وهو آمنٌ، فإذا هذه اللفائف تحتوي على عدد كبير من الأوراق المالية!

وهنا حدثتك نفسك بأن تكتب عن هذا الشحاذ، وتحكي قصتك معه عن النحو المتقدم، وتقرن ذلك بالصور التي لا بد من التقاطها.

في هذه الحالة يعتبر حديثك عن هذا المتسول وحده "تقريرًا مصورًا"، أما إذا تجاوزت ذلك إلى الحديث عن مشكلة التسول في ذاتها، ودراسة هذا الموضوع من جوانب متعددةٍ؛ لكان هذا النوع من الحديث تحقيقًا صحفيًّا.

ومن الأمثلة الرائعة لفن "الريبورتاج" تقرير مصور نشرته الأهرام يوم 10/ 12/ 1962 بعنوان: "إجازة 19 ساعة لمسجون أمضى 13 سنة في ليمان طره".

ومهما يكن من شيءٍ، فيجب العدول عن اعتبار التقرير بصوره المعروفة، وهي:"الحديث الصحفيّ، والتحقيق الصحفيّ، والماجريات الصحفية" ضمن المقال، فالمقال عبارة عن إنشاءٍ لا حظَّ له من الطول، وليس من الضروريّ أن يتصف بالعمق أو بالإحاطة التامة بالموضوع، على حين أن التحقيق الصحفيّ وهو أحد الفنون الثلاثة من فنون التقرير، يطول كثيرًا، ويتعمق فيه الكاتب كثيرًا، وبذلك يبعد التحقيق عن المقال في طبيعته التي اتضحت لنا من تعريفه فيما سبق.

ص: 433

‌فن الحديث الصحفيّ وأنواعه:

ليس صحيحًا ما يقال من أن فن الحديث الصحفيّ من ابتكارات القرن العشرين، وابتداع هذا القرن وحده، فالذي نعرفه من تاريخ الصحافة بانجلترا -على سبيل المثال- أن الصحفيّ الإنجليزيّ المشهور "ديفو Defoe" استطاع في القرن الثامن عشر أن يحصل على حديثٍ صحفيٍّ من قاطع طريق اسمه:"جاك شبرد "J. Shepherd"، وكان هذا قبيل تنفيذ الحكم عليه بالإعدام شنقًا ببضع دقائق.

بل إن الأستاذ "ولزلي" في كتابه "Exploring Journalism" يرى أن حوار أفلاطون يعتبر نوعًا من الأحاديث، ذلك أن الأسئلة التي وجهت إلى سقراط حينًا، وإلى غيره من أصدقاء أفلاطون وتلاميذه حينًا آخر، كانت تحمل في طيَّاتِهَا صفات الحديث الصحفيّ، ومثل ذلك كثير من أخبار الأدب العربيّ في قصور الخلفاء والأمراء، حيث كان الحوار يدور بينهم في مسائل شتَّى، وموضوعات متباينة.

ولئن دلت هذه الآراء وأمثالها على شيء، فإنما تدل على حقيقةٍ واحدةٍ فقط، وهي أن في النفس البشرية منذ نشأتها ميلًا أصيلًا، ونزوعًا شديدًا إلى معرفة أحوال الغير، والوقوف على جميع أسرارهم كلما أمكن ذلك، وفي الأحاديث الخاصة من أي نوع كان، ما يشبع هذا الميل نفسه إشباعًا كبيرًا.

ولهذا الفن، من فنون الصحافة، أهميةً خاصةً، فالأصل فيه، أن القارئ لا يمكنه أن يشاهد مكان الحادث الذي يهمه ليقف بنفسه على

ص: 434

حقيقة الأمر فيه، ومن ثَمَّ وجب على الصحافة أن تقوم له بذلك عن طريق مخبريها، فيذهب أحدهم إلى مكان الحادث، وتكون مهمته توجيه الأسئلة إلى شهود العيان، وبهذه الطريقة يقف القارئ على الحقيقة، على أنه ليس من الضروريّ في كل حالةٍ أن تنشر الأحاديث الصحفية على شكل أسئلة وأجوبة، فربما كان في نشر المعاني نفس القيمة الخبرية التي للأسئلة والأجوبة.

وفي بيان أهمية الحديث الصحفيّ يقول الأستاذ "إميل لودفيج" ما يلي: "يعتبر الحديث الصحفيّ من ألمع الفنون الصحفية في الوقت الحاضر، ومن أكثرها استهواءً للقارئ، وقد تظن أن الحديث الصحفيّ لا يزيد على كونه مجرد تسجيلٍ لمناقشةٍ، أو حوار دار بين طرفين، غير أن حقيقة الأمر هي أن الحديث الصحفيّ أهم من ذلك؛ لأنه يتطلب قدرًا كبيرًا من المهارة والتفنن، ويحتاج إلى توفر صفات من نوعٍ خاصٍّ في المخبر الصحفيّ.

والواقع أن الحديث الصحفيّ محبب إلى نفوس القراء، فكما أنه يسر كل إنسان أن تتاح له فرصة التحدث إلى شخصية كبيرة لها مكانتها في الحياة العامة، فكذلك يرحب الناس عادةً بالإطلاع على ما تصرح به مثل هذه الشخصيات لمندوب الصحيفة الذي يقوم بنقل هذه التصريحات إليهم.

وتزداد أهمية الحديث الصحفيّ تبعًا لأهمية صاحبه، ومدى شهرته، ولكن ليس معنى ذلك أن الحديث الصحفيّ لا يؤخذ إلّا من المشهورين البارزين في المجتمع وحدهم، فقد تكون الأحداث المثيرة التي تقع لبعض المغمورين من الناس سببًا في الاهتمام الشديد بأحاديثهم وتصريحاتهم، وخاصةً حين تكون مادة الحديث متصلة أشد الاتصال بموضوع من موضوعات الساعة.

فحين يتحدث المحضر "عثمان أبو الحسن حمودة" قاتل "وداد حمدي".

ص: 435

أو تتحدث ابنتها "أشجان" إلى مندوب الصحيفة بعد وقوع الحادث، والإخبار عنه بالفعل، فإن هذه الأحاديث تستهوي الجمهور القارئ أكثر مما يستهويه حديث آخر عن استقالة "خروشوف" في روسيا، أو مجيء "تشومبي" من الكونغو إلى بلد من بلاد الشرق الأوسط.

والخلاصة: أن للحديث الصحفيّ -بالمعنى الذي تقصد إليه الصحيفة- ثلاث وظائف:

أولاها: أنه خير معينٍ للصحيفة على كتابة القصص الإخبارية التي لا مكان لها في الواقع غير الصحف.

الثانية: أنه من أنجح الوسائل لعرض وجهات النظر، ومحاربة الشائعات الضارة بالمجتمع.

الثالثة: أنه من أنجح الوسائل كذلك لتعريف الجمهور بالشخصيات الممتازة لذواتها، أو الشخصيات التي أضفت عليها الحوادث نوعًا من البروز المؤقت في المجتمع.

وإذ قد فرغنا من الكلام عن أهمية الحديث الصحفيّ، فإننا ننتقل من ذلك إلى الكلام عن:

أنواع الحديث الصحفي:

توشك أن تنحصر الأحاديث الصحفية في الأنواع الخمسة الآتية:

1-

حديث الخبر "أو الحقائق". Information interview

2-

حديث الرأي.Opinion interview

3-

حديث المعلومات والتسلية والإمتاع. Feature Interv

4-

حديث الجماعات.Group interview

5-

حديث المؤتمرات الصحفية.Press Conference

ص: 436

وفي كل نوعٍ من الأنواع الخمسة المتقدمة، لا بد من مراعاة الشروط التي روعيت في الخبر الصحفيّ من حيث هو، وهذه الشروط أو الخصائص المطلوبة هي:

1-

الجدة من حيث الزمان Timelimess

2 القرب من حيث المكان proximity

3 الضخامة "وهي اتصال الحادث بأكبر عدد من الناس" Mahnitude

4-

قوة الدلالة Significance

5-

سياسة الصحيفة Policy

ومعنى ذلك: أن على المخبر الصحفيّ أن يحقق هذه الشروط الخمسة عندما يشرع في كتابة الحديث الصحفيّ، ولكن كيف نميز -أولًا- بين هذه الأنواع الخمسة السابقة؟ وكيف نعالج كل نوع منها على حدة؟ ذلك ما نحاول الإجابة عنه فيما يلي:

أولًا: حديث الخبر أو الحقائق

والغرض منه في الواقع هو جمع الأنباء، واستقضاء المعلومات حول حادثٍ معينٍ، والرجوع في ذلك -ما أمكن- إلى الأشخاص الذين رأوا بأعينهم هذا الحادث المعين، أو اشتركوا فيه وقت وقوعه، وهنا يجب التنبيه إلى أن المطلوب من الصحفيّ في هذه الحالة، إنما هي الأنباء أو الحقائق أو المعلومات، وليس المطلوب هو الآراء أوالاتجاهات أو وجهات النظر المختلفة، ونحو ذلك.

وفي هذا يقول الإنجليز: إن القصد من هذا النوع من الحديث هو الحصول على ما يعبر عنه بينهم بهذه العبارة "NEWS NOT VIEWE".

هب أن الصحيفة أرادت أن تعرف سياسة الحكومة في التموين، في وقت

ص: 437

من الأوقات، فإنها في هذه الحالة تبادر بإرسال مندوبيها إلى وزير التموين نفسه، أو وكيل الوزارة نفسه، أو مدير العلاقات العامة بالوزارة؛ لكي تستقي منه الحقائق المتعلقة بالسياسة التموينية، وخطة الحكومة في تيسير السلع، وخفض الأسعار، ونحو ذلك.

غير أن الناس قسمان: منهم من يحبون الإدلاء بالمعلومات، ويميلون بطبعهم إلى شرح ما أجروه من التجارب، وما وصلوا إليه من النظريات.

ومنهم من يترددون كثيرًا في الإدلاء بمعلوماتهم، ويخشى أحدهم أن يجره التصريح بهذه المعلومات إلى القضاء، أو يعرضه لسؤال الحاكم، أو يفسد عليه حياته الخاصة في داخل الأسرة، أو حياته العامة في مكان العمل، أو خارجه، وخاصةً عندما تكون المعلومات مما يخل بالشرف.

على أن شاهد العياد -ما دام إنسانًا- لا يمكن أن تكون معلوماته دقيقة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؛ لأن الحوادث تأخذه على حين غرةٍ، ويتبع بعضها بعضًا بغاية السرعة، فلا يستطيع أن يعرف ماذا حدث بالدقة، ومن هنا يأتي تردده عند ما يطلب إليه الإدلاء ببعض المعلومات الهامة.

وثَمَّ طائفة ثالثة من الناس لايحبون أن تسلط عليهم الأضواء؛ لأنها تكشفهم للملأ، وتعرض حياتهم نفسها للخطر، ومن هؤلاء: المشعوذون، والمجرمون، والدجالون، ورجال العصابات، وتجار المخدرات، والقتلة السفا كون، وبعض الساسة وغيرهم، وكل هؤلاء لا يحبون أن يتحدث عنهم الناس، حتى لا ينكشف سرهم، ويقف الناس على حيلهم وأفكارهم ومقاصدهم.

بل إن بعض الساسة، والمسئولين من رجال الأعمال، وأصحاب المشروعات قد لا يحبون أن يكشفوا عن أوراقهم، أو يبوحوا بأسراراهم، إلّا في الوقت المناسب، علمًا منهم بأن التعجيل بهذا الكشف قد يفسد

ص: 438

خططهم، ويزيد في تعقيد أمورهم، وهم حريصون على أن يكونوا بمأمنٍ من كل هذه الأشياء.

نرى الواحد من هؤلاء الساسة، ورجال الأعمال لا يجب مطلقًا أن يطرق والحديد بارد، كما يقول الإنجليز، ونرى له حاسةً سياسيةً دقيقةً يعرف بها متى تكون "اللحظة السيكلوجية" التي يكشف فيها عن أوراقه، ويعرض فيها آراءه، ويبسط فيها مشروعه، لكي يضمن ترحيب المسئولين والشعب بهذا المشروع.

وفي كل حالةٍ من الحالات المتقدمة تكون مهمة المخبر الصحفيّ صعبةً كل الصعوبة، ولا يكون من السهل عليه في الحقيقة أن يحصل للصحيفة على حديثٍ يمكن أن ينير الطريق للقراء.

ص: 439

ثانيًا: حديث الرأي

إن الصحيفة في هذا النوع الحديث بالذات، تهتم كذلك بالحصول على آراءٍ ذوي الخبرة والاختصاص في موضوعٍ له أهميته في المجتمع.

ومن الأمثلة عليه حديثٌ لعضوٍ بارزٍ في مجلس النواب، عن مشروع يزمع البرلمان إقراره، أو حديثٍ مع وزير التربية والتعليم عن سياسةٍ جديدةٍ يريد إنتهاجها والسير عليها، أو حديث مع رئيس الجمعية الطبية المصرية عن موضوع تأميم الطب، وفي هذا النوع من الأحاديث يكون لآراء المختصين والفنيين وزن كبير، وخطر جليل.

والناس بالقياس كذلك إلى هذا النوع من أنواع الحديث الصحفيّ فريقان: فريق يميل إلى الشهر ويتعطش إليها، فهو يسارع إلى الإدلاء بكل بيانٍ، بمناسبةٍ وبغير مناسبةٍ، وهو يدعي العلم بما يعرف وما لا يعرف. يتكلم في السياسة وفي الدين، وفي الأخلاق، وفي الأمن، وفي الإدارة، وفي الفنون، وفي العلوم، وفي كل شيءٍ، ومثل هذا الفريق من الناس ينبغي الاحتراس من معلوماتهم وآرائهم؛ لأنها دون شكٍّ آراء تمتزج فيها الحقيقة بالخيال، والجد بالهزل.

وفريق آخر من الناس قد يكونون مشغولين بأعمالهم على الدوام، وقد يكونون من الذين يترددون في الإدلاء بمعلوماتٍ من أي نوعٍ كان، وفي كلتا الحالتين ينبغي للصحفيّ أن يقدِّرَ الموقف حق قدره، وينبغي له في الحالة الأخيرة بنوعٍ أخصٍّ أن يحدد الأمر تحديدًا واضحًا للمتحدث، حتى يحصر محدثه في الموضوع -إن كان من الخياليين الحالمين- أو يخرج المحدث من الشك إلى اليقين، ومن الخوف إلى الأمن إن كان من المترددين المرتابين، وعلى المخبر أن يقنع هذا وذاك بأن في نشر حديثهما فائدة محققة للرأي العام.

ص: 440

وقد يحدث أحيانًا أن يصرَّ المتحدث على ألّا ينشر اسمه مقرونًا بالحديث، وحينذاك لا يجوز للصحفيّ أن ينشر اسمه، بل يكتفي بأن يقول: عن مصدرٍ مسئولٍ، أو شخصيةٍ كبيرةٍ، أو عن مصدرٍ لا يرقى إليه الشك، ونحو ذلك.

ومن الخطر على الصحيفة دائمًا أن يعد مخبرها بأنه أن ينشر هذا الجزء أو ذاك من الحديث، أو بأنه لن ينشر اسم صاحب الحديث، ثم لا يفي بما وعد، وتلك جريمة صحفية يعاقب عليها القانون، ثم إنه لا غنى للصحفيّ كذلك في حديث الرأي عن مراعاة التوازن بين الآراء المؤيدة، والآراء المعارضة، وخاصةً إذا كان الحديث متصلًا بأمرٍ من أمور السياسة، أو الاقتصاد، أو التعليم، ونحو ذلك من المرافق الخطيرة في الدولة.

ولا ينسى الصحفيّ مع كل هذا سياسة الصحيفة، بل يجب عليه دائمًا أن يضعها نصب عينيه في الأحاديث الصحفية بوجهٍ عامٍّ، وحديث الرأي منها بوجهٍ أخصٍّ.

ثالثًا: حديث التسلية والإمتاع

إذا كان الغرض من حديث الخبر والحقائق هو الإعلام، وكان الغرض من حديث الرأي هو التوجيه والإرشاد، فإن الغرض من هذا النوع الثالث -كما يؤخذ من اسمه- هو التسلية والترفيه عن القراء، وعلى ذلك، فالمهم في هذا النوع الثالث ليس ما يقال، ولكن كيف يقال؟

والمتحدث في هذه الحالة هو المحرر نفسه؛ إذ الغرض الأساسيّ في الواقع هو تصوير شخصية اعتدت بما فيها من طرافة أو غرابة، أو تعقيد، أو بساطة، ولذلك يعني المخبر الصحفيّ بنبرات الصوت، وحركات المحدث، وتعبيرات الوجه، ولون الملابس، وطريقة الجلوس، وما إلى ذلك كله.

ص: 441

وباختصارٍ: يهتم المخبر الصحفيّ في هذا النوع من الحديث بشخصية المتحدث، وفلسفته في الحياة أكثر مما يهتم بنوع اختصاصه، أو بنوع تجاربه وخبراته، وإذا عرض لشيءٍ من ذلك، فإنما يكون من أجل تصوير شخصيته أكثر من الاهتمام بما يصدر عنها من رأي.

ومن الأمثلة على هذا النوع من الأحاديث مقابلةٌ بين صحفيٍّ وممثلٍ عالميٍّ زار مصر لأول مرة في حياته، أو مقابلة بينه وبين شخصية عالمية مرموقة في السياسة، كشخصية "روزفلت"، أو "ترومان"، أو "ستالين" في زيارتهما لمصر كذلك لأول مرة، ومن أمثلة ذلك أيضًا ظهور شخصية أدبية بمصر على حين غرة، كشخصية "برناردشو"، أو شخصية ذات صبغة دينية كشخصية، "أغا خان" ومن الأمثلة على ذلك أيضًا تعيين وزير جديد في الوزارة، يريد الجمهور أن يعرف شيئًا عن ماضي حياته، ومنها كذلك ما أقدمت عليه صحيفة "الأهرام" يومًا من عرض لشخصية المحامية الزنجية الأمريكية التي زارت مصر، وكان ذلك في عددها الصادر في 4/ 5/ 1945، ونحو ذلك.

رابعًا: حديث الجماعة

هناك طريقتان لحديث الجماعة:

الأولى: أن يختار الصحفيّ جماعةً معينةً من العمال، أو الفلاحين، أو من المدرسين، أو المحامين، أو المهندسين، ويوجه إليهم سؤالًا واحدًا لا يتغير، ويحصل منهم على الإجابة، وبهذه الطريقة يستطيع الصحفيّ أن يخرج بصورةٍ صادقةٍ لقطاعٍ معينٍ في مساحة الرأي العام، وظاهر من هذه الطريقة أنها قريبة الشبه بالإحصاء أو بالاستفتاء، وأنها غالبًا ما تستخدم في البحوث الاجتماعية، وتهتم بها الصحافة في أوقات خاصة كالأوقات التي تسبق الانتخابات العامة، أو الأوقات التي تسبق التغيرات السياسية المنتظرة، ونحو ذلك.

ص: 442

والثانية: هي أن يسأل الصحفيّ طائفةً من المتخصصين في فنٍّ من الفنون، أو علم من العلوم، ذات الصلة الوثيقة بمشكلةٍ من المشكلات التي تهتم الصحيفة ببحثها، والوصول فيها إلى حلٍّ.

خذ لذلك مثلًا: مشكة تحديد النسل، ففيها يستطيع الصحفيّ أن يسأل رجال الدين، ورجال الطب، والإخصائيين الاجتماعيين، وعليه أن يجمع آراءهم كلها في صعيدٍ واحدٍ، ومن حقه أن يضيف إليها آراء الأطباء، ورجال الدين، ورجال الاجتماع في البلاد الأخرى.

وتسمى هذه الطريقة الثانية بطريقة: "النادي"، وتحتاج من الصحفيّ إلى ثقافةٍ واسعةٍ من جهةٍ، ومهارةٍ متفوقةٍ في فهم آراء المختصين، والقدرة على عرضها من جهةٍ ثانيةٍ.

خامسًا: حديث المؤتمرات

تهتم الصحافة دائمًا بالحصول على أحاديث من المسئولين، سواء أكانوا وزراء، أم رجال أعمال، ونحو ذلك.

والطريقة المتبعة هي أن يجمع الوزير، أو الرجل المسئول، ممثلي الصحف المقيمين معه في مكان واحد، ويحدد لهم وقتًا للاجتماع، ثم يدلي إليهم مجتمعين بحديثه، وبعد ذلك يجيب عن الأسئلة التي توجه إليه منهم.

وفي البلاد الراقية تتبع طريقة المؤتمرات الدروية، كتلك التي تقام في "واشنطن" بالبيت الأبيض، حيث يدلي رئيس الجمهورية، أو من يقوم مقامه بحديث للصحف.

وهناك في نفس الوقت مؤتمرات صحفية تحتاج إليها الحكومات

ص: 443

لتفسير موقف لها أو معاهدة تعقدها، أو مشكلة تريد عرضها على الشعب، أو تغيير هام في الدستور يرى المصلحة في إجرائه.

وفي هذا النوع الأخير بالذات -وهو حديث المؤتمرات- لا تنفرد بنشر الحديث صحيفة دون أخرى.

وهذا وذاك، يدعونا إلى الكلام عن المراحل التي تتبع عادةً في الحصول على الحديث الصحفيِّ على النحو الذي نراه في الفصل التالي:

ص: 444

مراحل إعداد الحديث الصحفيّ، ونموذج له:

يقول الأستاد "كلايتون" في موضوع فن الحديث الصحفيّ ما مؤداه:

"إن على المخبر أن تكون له صفات البائع، فهو مضطرٌ إلى أن يذيب شخصيته في شخصية محدثه، وتلك صفة ضرورية لا يقصد بها إلّا الإقناع وحده فقط، ولكنها ألزم ما تكون في الحقيقة لإيجاد المشاركة الوجدانية بينه وبين المتحدث، ونحن نعلم أن الطبيعة البشرية تجعل الناس يميلون إلى التبسيط في الحديث بحريةٍ وصراحةٍ مع أولئك الذين يشاركونهم عواطفهم ومذاهبهم، أكثر من أولئك الذين يعارضونهم معارضةً ما في كل ذلك، أو يقيمون من أنفسهم أوصياء على فكرةٍ معينةٍ، أو رأيٍ معينٍ".

وعلى هذا تقوم مشكلتان في وجه المخبر الصحفيّ الذي تكلفه الصحيفة بالحصول على حديثٍ ما:

الأولى: كيف يمكنه الاتصال بالشخص الذي يريد أن يتحدث إليه؟

والثانية: كيف يتمكن من استدراجه للتحدث بحريةٍ تامةٍ في موضوع يعده النشر؟

والحق أنها مهمة دقيقة تلك التي يقوم بها الصحفيّ في هذه الحالة، غير أنها تتم غالبًا على مراحل، أهمها ما يلي:

أولًا: مرحلة الإعداد للحديث الصحفيّ

وتنقسم هذه المرحلة نفسها إلى ثلاث خطوات، هي:

ص: 445

أ- خطوة الوقوف على أكبر قدر ممكن من المعلومات الخاصة بشخصية المتحدث.

ب- خطوة الدراسة المستوفاة لموضوع الحديث من حيث هو.

جـ- خطوة الإعداد لطائفةٍ من الأسئلة التي تلم بأطراف الموضوع لكي يجب عنها المتحدث، بقدر المستطاع.

أما دراسة شخصية المتحدث، والوقوف على أكبر قدرٍ ممكنٍ من المعلومات الخاصة بذلك، فإنها من ألزم الأشياء التي يتوقف عليها نجاح المخبر الصحفيّ، أو هي شرطٌ هامٌّ في نجاح مهمته، فعليه إذن أن يدرس هذه الشخصية التي وقع عليها اختياره، وأن يتعرف ما أمكنه على ميولها وطباعها، بل خيرٌ له في هذه الحالة أن يكشف بنفسه عن بعض ما تميل إليه هذه الشخصية من هوايات، وكثيرًا ما يستعين الصحفيّ على ذلك بقصاصات الصحف والمجلات، وأقوال الأصدقاء، والمعارف، والأقرباء، والمعجبين، وأحيانًا يصل إلى ذلك عن طريق الكتب التي تنسب إلى هذه الشخصية، أو الآراء التي عرفت بها في المجتمع، ويبالغ "أميل لودفيج" في ذلك، فيوجب على المخبر الصحفيّ أن يحصل على صورة شمسية للمتحدث يطيل النظر فيها، ويدرسها جيدًا قبل الذهاب إليه لأخذ الحديث.

وثَمَّ نقطة هامة تتصل بهذه المرحلة أيضًا، هي اختيار المكان المناسب لأخذ الحديث، فبعض المتحدثين يجدون حرجًا في التحدث إلى المخبرين الصحفيين بالمكاتب الرسمية، ويؤثرون التحدث إليهم في المنزل، وآخرون على العكس من ذلك.

أما دراسة موضوع الحديث، فإنها تتطلب من المخبر الصحفيّ أن يزوِّدَ نفسه بأكبر قدر ممكن من البيانات والمعلومات عن هذا الموضوع بالذات، فليس يشجع المتحدث على الحديث إلّا إحساسه بأن الذي يخاطبه

ص: 446

متحمسٌ لموضوعه، عارفٌ بدقائقه وأهدافه، مُلِمٌّ بجوانبه وأطرافه، وإذ ذاك ينسجم المتحدث مع مندوب الجريدة، وينطق معه في الحديث انطلاقًا تامًّا.

وأما خطوة إعداد الأسئلة فهي ضرورية كذلك لنجاح الحديث الذي يريد الحصول عليه، ومتى كان مندوب الجريدة دارسًا لموضوع الحديث على النحو المتقدم، فإنه يستطيع أن يضع الأسئلة الصحيحة التي يتوجه بها إلى المتحدث.

ومع هذا وذاك، ليس على المخبر الصحفيّ أن يتقيد بهذه الأسئلة التي يضعها، وإلّا فسدت خطته، ذلك أن أسئلة الصحفيّ ليست إلّا مرشدًا له فقط، والصحفيّ الناجح هو الذي يقدر على تكييف نفسه بظروف الحديث وبشخصية المتحدث، إن الأمر إذن متروكٌ لحسن تصرف الصحفيّ، وقدرته على مواجهة الموقف.

ثانيًا: مرحلة قيادة الحديث:

إن هذه المرحلة تتخذ ثلاث خطواتٍ أيضًا، هي:

أ- خطوة استهلال الحديث.

ب- خطوة توجيه الأسئلة للحصول على أكبر قدر ممكن من البيانات الخاصة بهذا الحديث.

جـ- خطوة المراجعة.

فأما من حيث الخطوة الأولى، فإنها تعتمد على ذكاء الصحفيّ، وحسن اختياره كذلك، فقد يبدأ هذا الصحفيّ حديثه عن صورةٍ جميلةٍ وجدها معلقة على الحائط، أو تحفة فنية وضعت على المنضدة، أو كلمة رائعة، أو شعار جميل، أو مثل حكيم وجده مكتوبًا على المكتب، أو عنوان جذاب لكتاب حديث وجده بين الكتب المرصوصة أمامه، وهكذا.

ص: 447

ومن هذه البداية يستطيع الصحفيّ أن يتطرق إلى هواية المتحدث، ثم من هذه الهواية يصل غالبًا إلى موضوع الحديث.

وتأتي بعد ذلك خطوة توجيه الأسئلة، وإذ ذاك ينبغي للمخبر الصحفيّ أن يلوذ بالإصغاء التام لمحدثه، وهنا ملاحظة قد تؤخذ على بعض المخبرين الصحفيين، وهي أن أحدهم قد يأتي لزيارة شخصية كبيرة، ويمطرها وابلًا من أسئلته، ثم ينزلق المخبر نفسه في إذاعة ما يعرفه من الأخبار، وينساق في الحديث انسياقًا ينسى معه مهمته، كل ذلك والشخصية التي أتى لزيارتها تصغي إليه، وقد تجد في طريقته هذه تخلصًا تخرج به من موضوع الحديث متى أمكن ذلك!

وثَمَّ خطأٌ آخر يقع فيه المخبر الصحفيّ أحيانًا، وهو حرصه على أن يكتب كل كلمة تخرج من فم محدثه، فيصرفه ذلك على حسن قيادة الحديث، ويشعر محدثه بأنه مدرس، أو محاضر في حجرة الدرس أو المحاضرة.

والمهم في توجيه الأسئلة ألَّا تصاغ بطريقةٍ تكون الإجابة عنها بلفظ "نعم" أو "لا" فإذا سألت محدثك: هل تظن أن سياسة التعليم الجديدة ستأتي بالثمرة المرجوة؟ فإن الإجابة في هذه الحالة ستكون: "نعم" أو "لا"، أما إذا سألت محدثك: ما هي العوامل التي تراها في نظرك مساعدة على نجاح السياسة الجديدة في التعليم؟ فإن ذلك يكون أدعى إلى التفكير في هذه العوامل.

على المخبر الصحفيّ إذن أن يجتهد في تحديد أسئلته حتى تكون الإجابة عليها واضحة ونافعة، وهنا يقول الأستاذ "إميل لودفيج".

"ليس المهم مقدار ما يقوله المتحدث، بل كيفية الإجابة، وطريقة انفعال المتحدث بأسئلة المندوب الصحفيّ".

وباختصار: ينبغي للمخبر الصحفيِّ دائمًا أن يذكر الأسئلة التقليدية الستة:

ص: 448

ماذا؟ لماذا؟ من؟ متى؟ أين؟ كيف؟ فإن الإجابة عنها تلم غالبًا بالموضوع من جميع جوانبه.

ثم تأتي خطوة "المراجعة"، وهي من الخطوات الشاقة المرهقة لمندوب الجريدة، ففيها يحرص المندوب على مراجعة ما فهمه من الحديث، وتصحيح ما جاء به من أخطاء، وذلك في الأسماء، أو في التواريخ، أو في الأرقام أو في الأحكام.

ومعلوم أن الصحفيَّ إنما يثبت في أوراقه أقل قدرٍ ممكنٍ من المذكرات والبيانات في أثناء الحديث، حتى لا يضيق به المتحدث، ذلك أن مهمة الصحفيّ الناجح هي في أن يحصر مجهوده في تهيئة ذاكرته قبل تهيئة مذكراته، لتستوعب هذه الذاكرة أكثر ما يمكن من التفصيلات التي يبادر إلى تدوينها فور الانتهاء من الحديث، وإذ ذاك يستطيع الصحفيّ أن يستوثق من بعض المعلومات، أو التفصيلات التي يشك فيها، وذلك قبل الانصراف من حضرة محدثة، ويجوزله أن يعود عليه السؤال بعد ذلك عن بعض هذه المعلومات أو التفصيلات متى رأى ضرورة لذلك.

وأخيرًا تأتي المرحلة الأخيرة من مراحل أخذ الحديث، وهي:

ثالثًا: مرحلة صياغة الحديث

هنا ينبغي للصحفيّ أن يتوخى الدقة والأمانة والصدق في كتابة الحديث، وقد كانت الصحافة في الماضي - حرصًا منها على ذلك- تنشر الأسئلة والأجوبة نشرًا حرفيًّا دقيقًا، ولكن الصحافة الحديثة عدلت عن هذه الطريقة، ووجدت فيها ما يبعث على الملل والسآمة، فاستعاضت عنها بطريقة:"القصة الإخبارية" واتخذتها قالبًا فنيًّا لصياغة الحديث، وعاملته معاملة الخبر في ذلك، ونحن نعرف أن هذا القالب الفنيَّ من قوالب الصباغة يتألف عادةً من جزئين هما:

ص: 449

"الصدر LEAD": وهو ما يحتوي على أهم نقط الحديث، مع تصويرٍ حذَّابٍ لشخصية المتحدث بقدر الإمكان.

و"الصلب BODY": وفيه الأسئلة والأجوبة، وذلك بطريقة الأسلوب المباشر حينًا، والأسلوب غير المباشر حينًا آخر.

وفي صلب الحديث، لا يجد المحرر الصحفيّ غنًى عن عنصر "الوصف"، وكثيرًا ما يكون ذلك من العناصر التي تجذب القارئ؛ لأن الوصف كثيرًا ما يضفي على الحديث نضارةً وحيويةً، وبه يستطيع المحرر الصحفيُّ أن يخرج قليلًا من جوِّ الأسئلة والأجوبة إلى جوٍّ كله طرافة وإمتاع وتسلية، والمهم في كل ذلك أن يكتب الحديث بطريقة تَنُمُّ عن شخصية المتحدث نفسه، أو صاحب الحديث، ويكشف عن آرائه ونزعاته وأفكاره واتجاهاته، ولا يكون ذلك إلّا عن طريق الأوصاف التي تتخلل الحديث، فإذا به نابض بالحياة، موضح لوجهة نظر المتحدث توضيحًا تامًّا، وبهذه الطريقة وحدها يستطيع المحرر أن يسلط جميع الأضواء على شخص محدثه.

ومهما يكن من شيءٍ، فإن لكل نوع من الأنواع السابقة للحديث الصحفيّ طريقته الخاصة في الأداء:

1-

ففي حديث الحقائق أو الأخبار يحصر المحرر عنايته في الحقائق الهامة في نظر القارئ، معبرًا عنها بأسلوبٍ تقريريٍّ مباشر، يأتي بعده تلخيص دقيق لهذه الحقائق، وإذا ما كانت شخصية صاحب الحديث مجهولة للجمهور، أو كانت أهميتها مقصورةً على كونها المصدر الوحيد للحقائق التي يتضمنها الحديث، ففي هذه الحالة تسلط الأضواء على الحقائق، ولا تسلط على المتحدث.

مثال ذلك الحديث الصحفيّ حول تنفيذ مشروعات السد العالي، والسكك الحديدية، ومصانع الصلب والسماد، إلخ.

ففي المثال الأول، وجدنا الأهرام، بتاريخ 5/ 5/ 1955، تعنى ببيان

ص: 450

المبالغ التي يتطلبها المشروع، والخطط التي رسمتها الحكومة لذلك، وأغفلت تمامًا ذكر الأسماء التي استقت منها هذه المعلومات، والبيانات، والتفصيلات، ونحو ذلك.

2-

وفي حديث الرأي، ينبغي أن تعنى المقدمة أو "الصدر" بإيراد الرأي الذي صرح به المتحدث، وكثيرًا ما يكون اسم صاحب الحديث من ألزم الأمور في الأحاديث التي من هذه النوع.

ففي موضوع: "جواز إفطار المسلم الصائم في رمضان" أو موضوع "حق المرأة في الانتخاب" ونحو ذلك ينبغي أن نذكر الأسماء في صراحة وجلاء، أما إذا كان الموضوع يختص بتغيير نظام من أنظمة التعليم، أو نظام من أنظمة القضاء أو الإدارة، أو التموين، فيكتفي في ذلك بذكر العبارات العامة، كأن تقول:"صرح وزير التربية والتعليم، أو وزير العدل بكذا، أو صرح كبير مسئول في وزارة التربية والتعليم، أو وزارة العدل بكذا" وهكذا، وكثيرًا ما ينسب الحديث الصحفيّ في هذه الحالة إلى الهيئات العامة، وهكذا، والمجالس الكبرى "كالمجلس الأعلى للجامعات" أو "المجلس الأعلى للتعليم"، أو "مجلس الخدمات" ونحو ذلك.

وتستخدم بعض الهيئات لهذا الغرض موظفا يطلق عليه اسم مدير العلاقات العامة، وتكل إليه في بعض الأوقات مهمة الاتصال بمندوبي الصحف، وإمدادها بما تحتاج إليه من البيانات الصالحة للنشر بالصحيفة. وكثيرًا ما ينوب هذا الموظف الخاصة عن رئيسة في الوزارة، ومع هذا وذاك، فإن المقابلات الشخصية لرئيس العمل تكون أجدى نفعًا، وأوقع أثرًا، وأقدر على تصوير الرأي.

3-

وفي حديث المعلومات، أو التسلية والإمتاع، يحصر المحرر اهتمامه في المعلومات والحقائق ذات الطابع الإنسانيّ، وإذا ذاك يجتهد المحرر عادةً في أن يهيئ الجو المناسب للقصة الإخبارية، أو الحديث الصحفيّ الذي من

ص: 451

هذا النوع، وبعبارةٍ أخرى يقيم مسرحًا مناسبًا لهذه القصة، ثم يدعو محدثه للوقوف على هذا المسرح، والتحدث منه إلى جمهور القراء، وفي ذلك يقول "إدوارد برايس" المراسل السابق لجريدة "شيكاغو ديلي نيوز":"إن الناحية الإنسانية هي التي يجب أن تستأثر باهتمام الصحفيّ حين يريد الحصول على هذا النوع من الحديث، فهو يعلم أن الانفعالات العاطفية تظهر في صورة أفكار، وأن الأفكار تترجم إلى أعمال، وأن الأعمال هي التي تقرر مصير العالم، وعلى ذلك، فإن الانفعالات والعواطف، والأفكار، هي العناصر التي ينبغي للمحرر أن يهتم بها وبإظهارها؛ ليحصل على قراءة معلومات جذابة ومسيلة في هذا الموضوع، فإنما الحديث الصحفيّ مرآةٌ تنقل صورةً رائعةً لشخصيةٍ مرموقةٍ، فتعكس للقراء صفاتها الروحية والخلقية والعقلية، سواء أكانت هذه الشخصية المرموقة شخصية فنان، أم عالم، أم أديب، أم سياسيّ محنك، أم بطل من أبطال المسرح".

وهذا النوع من الأحاديث تهتم به الصحف الأسبوعية، أو الدورية أكثر من الصحف اليومية.

4-

وأما حديث الجماعة، فإنه أقرب شيء إلى التقرير المبنيِّ على الإحصاء، وذلك إذا كان الحديث على شكل سؤالٍ واحدٍ يلقى على جماعة من المدرسين أو المحامين أو الأطباء أو المهندسين، وربما كان أقرب شيء إلى التقرير المبنيِّ على التسجيل والإحاطة إذا أخذ على شكل استفتاء تشترك فيه جماعات كثيرة، وفي كلتا الحالتين لا يطلب من المحرر الصحفيّ أكثر من اصطناع الدقة، والوضوح، وتقرير الواقع الملموس دون تدخل منه في تغيير هذا الواقع.

ومعنى ذلك أن درجة التحرير في هذا النوع من أنواع الحديث لا ترقى في جملتها إلى درجة التحرير في الأنواع التي أشرنا إليها قبل ذلك.

ص: 452

5-

وفي حديث المؤتمرات يكون الأمر أيسر على مندوب الصحيفة؛ لأن التحرير في مثل هذه الحالة لا يعدو أن يكون نقلًا للحديث الذي يسمعه المندوبون جميعًا من رجل معين من رجال الحكومة، أو من ذوي الأعمال الجليلة في الدولة.

تلك هي الطريقة العامة التي تتبع في صياغة الأنواع الستة للحديث الصحفيّ.

وقد لاحظنا أنه إذا كانت القصة الخبرية، أو الصياغة الصحفية، هي المتبعة غالبًا في حديث الحقائق، وحديث الرأي، ونحو ذلك، فإن "الصيغة الأدبية" هي التي تتبع في حديث المعلومات، أو حديث التسلية والإمتاع، ففي هذا الأخير يكون متسعًا أمام المحرر الصحفيّ لعبارةٍ أنيقةٍ، أو لفتةٍ ظريفةٍ، أو كلمةٍ أخاذةٍ، أو صورةٍ جذابةٍ، أو نكتة بارعة، وفي هذه الحالة لا يتحتم على الصحفيّ أن يركز النقط الرئيسة تركيزًا تامًّا في صدر الخبر؛ لأنه في هذه الحالة إنما يختار لنفسه قالبًا أدبيًّا لا قالبًا صحفيًّا، ولكن له أن يوزع هذه النقط الرئيسية على أجزاء حديثة بالطريقة التي يراها، ذلك أن المهم في هذا النوع من الحديث ليس هو الإعلام أو تقديم الآراء أو الأفكار، ولكن المهم هو العرض، وبراعة الوصف، وغير ذلك من الأمور التي تتطلب حسًّا أدبيًّا أكثر منه صحفيًّا.

وأخيرًا تصل إلى المرحلة الرابعة من مراحل الحديث الصحفيّ، وهي:

رابعًا: مرحلة النشر

قلنا: إن الصحافة القديمة -حرصًا منها على الدقة والأمانة- كانت تنشر الأسئلة والأجوبة نشرًا حرفيًّا، أما الصحافة الحديثة، فقد استعاضت عن ذلك بطريقة "القصة الخبرية"، ومعنى ذلك أن الصحف الحديثة ترى

ص: 453

أن من الأصوب أن يتجنب المحرر الأسلوب الذي يأتي فيه بالسؤال، ثم يتلوه بالجواب، أو بالأسلوب الذي تستخدم فيه فقرات طويلة من البيانات التي يصرح بها المتحدث، وترى الصحف الحديثة أن يأتي المحرر بجزء من هذه البيانات، ثم بملخصٍ بسيطٍ لها، ثم يأتي بجزء آخر من البيانات، ثم بملخصٍ بسيطٍ لها، وهكذا، وذلك كله في أسلوب غير مباشر، وطريقته تعتمد في أكثرها، على وصف شخصية المتحدث نفسه، ذلك أن إعداد الحديث للنشر لا بد فيه من إظهار شخصية المتحدث، ما دام ذكر اسمه ضروريًّا، أما المظهر الخارجيّ للحديث: فقد يكون ذا طابع يغلب عليه الطابع الرسميّ الخالص، أو يكون ذا طابع تغلب عليه الصبغة الإنسانية، أو الودية الخالصة.

فإذا كان القصد من الحديث هو الحصول على الحقائق، فمن الطبيعيّ أن تكون الحقائق أولى من الأسماء بعناية الكاتب، والعكس صحيح في الحالات الأخرى -كما أوضحنا ذلك.

ومهما يكن من شيءٍ، فليس هناك بُدٌّ في نشر الحديث من الأمور التالية:

1-

أن يوضح للقارئ خطورة صاحب الحديث، حتى يرى أهميته بالقياس إلى الموضوع، فإذا كان الحديث مما يتصل برأيٍ من الآراء، فعلى المحرر أن يوضح للقارئ أهلية المتحدث لإعطاء هذا الرأي، وإن كان الموضوع عن حادثٍ ما، وجب أن يكون المتحدث شاهد عيان، أو مشتركًا في الحادث نفسه.

2-

أن يحذر المحرر-كما قلنا- إقحام شخصه في الحديث، أو أن يتخذ من نفسه محورًا له.

3-

أن يوضح المحرر للقراء القصد من الحديث، والغاية منه بجلاء تامٍّ، وأن يقرن هذه الغاية أو القصد بشخص المتحدث وحده ليس غير.

4-

على المحرر ألَّا ينسى الجانب الإنسانيّ في الحديث كلما أمكن

ص: 454

ذلك، فعن هذا الطريق يستطيع القراء أن يتابعوا هذه المادة، وأن يجدوا في قراءتها متاعًا ولذةً.

تلك هي المراحل الأربع التي يسير عليها مندوب الصحيفة في أخذ الحديث، وتلك هي الخطوات التي يسير عليها في قطع كل مرحلة منها.

ولا ينسى الباحثون في هذا الفن أن يوصوا في النهاية بالمظهر الخارجيّ لمندوب الصحيفة، استنادًا في ذلك على أن الوجه والمظهر الخارجيّ هما سفير المرء عند من يريد التعرف إليهم دائمًا من الناس.

وبعد، فلا ينسى الصحفيّ كذلك أن الحديث الصحفيّ طريق لكسب صداقات جديدة، وإنشاء علاقات مفيدة، يستطيع أن يعتمد عليها في كثير من المواقف الصحفية التي تعرض له في حياته المستقبلة.

بقي أن نقدم نموذجًا واحدًا لنوع من الأحاديث الصحفية، وليكن حديث الحقائق والمعلومات الذي يمكن أن نجد فيه تطبيقًا علميًّا لأكثر القواعد والأصول التي أشرنا إليها.

وقد اخترنا لذلك حديثا أجراه الدكتور "محمود عزمي" باسم صحيفة "الأهرام" مع سلطان مراكش "محمد بن يوسف" وهو الحديث الذي نشرته الجريدة المذكورة بالعدد رقم 3520، في يوم الثلاثاء 27 من مارس سنة 1951، وهذا نصه:

ص: 455

نموذج للحديث:

سلطان مراكش يشرح الموقف في بلاده:

ضغط الإقامة العامة الفرنسية على جلالته:

حديث للسلطان تختص بنشره "الأهرام".

وصلتُ إلى الرباط عاصمة مراكش مساء الخميس الخامس عشر من شهر مارس الحالي، وكان همي الأول أن أتشرف بالمثول بين يدي جلالة السلطان محمد الخامس؛ لكي أتعرف خلال الحديث مع "المصدر الأول" نصيب الحقيقة فيما أذيع بمصر من تطور العلاقات خلال الثلاثة الشهور الأخيرة بين "القصر الشريف"، والإقامة العامة الفرنسية.

فما إن أضحى الضحى بعد ليلةٍ نعمت فيها بالنوم الهادئ، إثر رحلة جوية طويلة من القاهرة إلى أثينا، فروما، فتونس، فالجزائر، فالدار البيضاء، حتى هرولت إلى الفناء السلطانيّ الذي يحيط به سور رفيع.

وقصدت إلى عتبة "المخزن" وهو اللفظ الذي يعبر به عن الحكومة المغربية الأصيلة- فاجتزتها، وتقدم إليَّ من كانت عليه النوبة من الموظفين، واليوم يوم جمعة، وتركت لديه بطاقتي برسم الصدر الأعظم "السيد المقري" الذي جاوزت سنه الرابعة بعد المائة، وأفضيت إليه بالتماس التشرف بمقابلة حضرة صاحب الجلالة السلطان.

صلاة السلطان:

وسألت: هل يخرج السلطان للصلاة؟ وكان قد أذيع في القاهرة أن الإقامة العامة الفرنسية قد منعت جلالته من تأدية فريضة الجمعة، فقيل لي: إن الموكب السلطانيّ يخرج إلى المسجد على عادته عند الزوال، فرأيت

ص: 456

مع السلطان في القصر:

وأُبْلِغْتُ من بعد أن منتصف الساعة الثانية عشرة ظهر الثلاثاء، العشرين من شهر مارس الحالي، قد حُدِّدَ موعدًا لتشرفي بالمقابلة السلطانية، وقبيل الموعد قصدت إلى القصر الشريف، فاستقبلني حجابه، ورافقوني إلى مكتب وزيره، فاستمهلت فيه لحظاتٍ جاء على إثرها مستشار الحكومة الشريفة الفرنسيّ، فدعانا نحن الاثنين إلى القاعة السلطانية.

وهناك كان جلالة السلطان على أريكته، فتقدمت إليها، وتشرفت بالمصافحة، ثم جلست على مقعد على يسار الأريكة، وجلس إلى جانبي المستشار الفرنسيّ، بعد أن أشار له السلطان بالجلوس دون المصافحة، وقعد الوزير على وسادةٍ إلى يمين الأريكة.

وتفضَّل السلطان فغمرني بظرفه؛ إذ بادرني باستطالة المدة التي انقضت بعد زيارتي الأولى لمراكش، فقد قاربت الخمس سنوات، وخصني بعطفه؛ إذ أضاف أنه يود لو يراني مرةً في كل شهر، فلا أقل من أن تكون زيارتي مرةً في كل سنة، وعقب على ذلك بترديده أن "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا".

تحية لمصر:

وسألني جلالته عن مصر وأحوالها، وأعرب عن خالص شكره لاهتمامها به وببلاده، وحمَّلني شرف الإفضاء بعظيم تحيته، وصادق عرفانه للشعب المصريّ جميعه، وكذلك لجامعة الدول العربية، وأمينها العام، وكان جلالتهه يذكر ذلك كله في عبارات قوية تخرج من الأعماق.

عندي سؤال:

ثم تقدمت إلى جلالته بأن لديّ سؤالًا أود لو أستطيع أن ألقيه، وأنا أعرفه بالغًا حدًّا من الدقة غير قليل، ولكني ألح في إلقائه إلحاحًا، ولا أود

ص: 458

في الوقت نفسه أن يكون في الإدلاء به شيء من الإحراج، فلا دل به، وليتصرف فيه جلالته كما يشاء،

فتلطف جلالته، وأشار إليَّ بالإفصاح، فقلت: إنا سمعنا في مصر بوقوع نوعٍ من الضغط والإكراه، وأود لو استطعت أن أعلم الجهة التي صدر عنها الضغط والإكراه: هل هو الجنرال "جوان"، أو قبائل الجلاوي، أو ضمير جلالتكم؟

فأجاب جلالته على الفور:

"إن هذا السؤال سياسيّ، ويحسن أن تقدمه مكتوبًا، وسأجيبك عنه كتابة أيضًا، وستكون إجابتي بغاية الصراحة.

وعاد جلالته يكرر في حزم:

"قدم ما تشاء من أسئلة، وسأجيبك عنها كتابةً، وبكل صراحة".

وسألني جلالته عن برنامجي في اليومين التاليين، فأجبت أني قاصدٌ إلى طنجة في اليوم التالي، وأني عائد منها ومن الرباط يوم الجمعة.

فعقب جلالته بقوله:

"ستكون إجابتي المكتوبة عندك يوم الجمعة، وستكون بغاية الصراحة" فشكرت جلالته خالص الشكر، وأحسست عمق ما تنطوي عليه شخصية السلطان من قوة معنوية.

وإذ كنت أعرف أن تصريحات الملوك لا يصح نشرها إلّا بإجازتهم، فقد تقدمت إلى جلالته مستأذنًا في نشر الإجابات على أسئلتي، فتفضل جلالته بذلك.

ص: 459

ثلاثة أسئلة:

ولما أذن لي جلالته بالإنصراف مررنا في طريقنا بمكتب وزير القصر، فأخذ منه المستشار الفرنسيّ قبعته، وطلب إلى الوزير أن أجلس لأدوّن الأسئلة، فتركت المستشار يمضي، وجلست إلى منضدة الوزير، وأمسكت بالقلم، وعلى ورقة من أوراق القصر السلطانيّ حررت بالمداد الأزرق ثلاثة أسئلة، وقعتها بإمضائي، وأرختها بتاريخ اليوم، ثم كتبت صورةً منها بالقلم الرصاص على ورقة أخرى من أوراق القصر احتفظت بها، وسلمت الأولى للوزير وانصرفت.

وقصدت في اليوم التالي إلى طنجة، وأمضيت بها يومين كاملين، ثم عدت إلى الرباط بعد ظهر الجمعة الثالث والعشرين من هذا الشهر.

مع وليِّ العهد:

وكان قد تصادف وأنا أغادر القصر الشريف، بعد تسليمي أسئلتي لوزيره، أن التقيت في إحدى الردهات بصاحب السموّ الأمير الحسن ولي العهد، فتفضل بدعوتي إلى تناول الشاي بقصره الخاص يوم عودتي من طنجة، فذهبت إليه عند انتصاف الساعة السادسة بعد الظهر.

الجرائديّ:

وهناك سلمني صورة والده السلطان التي تفضل جلالته بإهدائها إليّ، فأقبلت على قراءة الإهداء وهو:

إلى الجرائدي الفذ السيد محمود عزمي

محمد يوسف، ملك المغرب، أعانه الله.

ووقفت وقفة حتى تبينت أن "الجرائديّ" إنما هو التعبير المقابل عندنا لتعبير "الصحفيّ".

ص: 460

ملك المغرب:

كما تبينت صحة التلقب بملك المغرب؛ لأن جلالته إنما هو العاهل الأوحد لسلطنة مراكش التي يسمونها "المنطقة السلطانية"، و"المنطقة الخليفية" و"المنقطة الدولية" أيضًا، وإذا كان مقر جلالته الرسميّ في الرباط، فإن له خليفة في تطوان، ومندوبًا في طنجة.

واعتززت بالهدية الكريمة، وتساءلت عن الإجابة على أسئلتي، فناولني الأمير وليّ العهد الورقة المكتوبة عليها، وإذا كانت بالخط المغربيّ، فقد شاءت إرادة سموه أن يتلوها حتى أقف على كنهها في أسرع وقت.

وقد استمعت إليها، كما استطعت أن أقرأها بسهولة فيما بعد، فألفيتها مبينة أحسن إبانة، ووجدتها غايةً في الصراحة، على سابق نطق جلالته!

حديث السلطان:

وها هي أسئلتي، وإجابات ملك المغرب عليها.

الضغط والإكراه:

السؤال الأول:

أذيع أن توقيع جلالتكم على "بروتوكول" 25 فبراير سنة 1951، كان تحت ضغط أو إكراه، وقد سمعت منذ قدومي إلى مراكش في هذا الصدد روايات:

يقول بعضها: إن التوقيع كان نتيجةً لتهديدٍ من قِبَلِ الجنرال "جوان"، ويقول بعضها الآخر: إنه كان نتيجة لحركة صدرت عن القبائل بإيعاز من الجلاوي.

ويقول بعضها الآخر: إنه يرجع إلى ضمير جلالتكم الذي شاءت حكمته أن ينقذ بلاده من شر التلاحم.

ترى أية رواية من هذه الروايات أُصَدِّقُ؟

ص: 461

بل أيها الصحيح؟

الجواب:

إن توقيعنا على "بروتوكول" 25 فبراير سنة 1951، كان نتيجةً لعوامل متعددة، أهمها:

1-

التهديد الذي وجه إليه بواسطة وزير القصور والتشريفات من بعض شخصيات الإقامة العامة، وذلك في أثناء المخابرات التي كانت جاريةً بين القصر، والإقامة العامة في ذلك اليوم.

2-

حركة القبائل التي أُتِيَ بها من جهاتٍ متعددةٍ دون أن تعلم الباعث الحقيقيّ على تحريكها، فرابطت على أبواب فاس، وسلا، والرباط.

3-

اجتناب ما كان يتوقع من عواقب سيئة، للعوامل الآنفة الذكر، فاضطررنا مع هذه الأسباب جميعها إلى إرضاء مطالب الإقامة العامة.

سبب الأزمة:

السؤال الثاني:

قيل: إن الأزمة ترجع إلى تعطيل إصدار بعض الظهائر "أي: المراسيم"، فإذا كان هذا صحيحًا، ترى ما هي أسباب هذا التعطيل؟

الجواب:

إن سبب الأزمة هو غير ما أشيع من أننا رفضنا بعض التشاريع القانونية المقترح عليها قبولها؛ إذ أن الأزمة في الواقع ترجع إلى الرغبة التي أعرب عنها مقيم فرنسا العام في أن يصدر منا استنكًار لأساليب حزب الاستقلال، وإلى عدم نزولنا على هذه الرغبة.

ولقد قام المقيم العام هذا الطلب قبل سفره إلى أمريكا بلهجةٍ لا تخلو من تهديد، أما مشاريع الظهائر الشريفة المقترح علينا إمضاؤها، فإننا

ص: 462

لا نرفضها، أو نشير بتعديلها، إلّا بعد أن تدرسها لجان قصرنا الشريف، وتبدي نظرها فيها، مستندةً إلى الأوفقة "أي الاتفاقيات"، والمعاهدات، وسائر فروع القانون.

آمال السلطان:

السؤال الثالث:

ما هي آمال جلالتكم في مستقبل مراكش، وفي علاقاتها مع الجمهورية الفرنسية؟

الجواب:

إن رغبتنا شديدةً في تقدم البلاد، ورقيها رقيًّا ديموقراطيًّا، وجميع أعمالنا ومساعينا تهدف إلى إحلال بلادنا العربية الإسلامية في المكان اللائق بماضيها المجيد.

وأملنا عظيم أن تنظر حكومة الجمهورية الفرنسية، اعتمادًا على ما بين الدولتين من روابط الصداقة إلى مطامح شعبنا الشريفة بما يليق بهامن العناية.

وفي نشر هذه النصوص اليوم كفاية، وسنتابع الإدلاء بملابسات استقصائنا ونتائجها في الأيام التالية، محمود عزمي.

بين الطريقة القديمة والحديثة في نشر الحديث:

لا بد أنك لا حظت أيها القارئ أن الحديث الصحفيّ الذي كتبه الدكتور "محمود عزمي" يحظى بميزتين هما: ميزة السرد وميزة الوصف، ولأن الحديث لم يكن على شكل حوار بين السلطان والمحرر، فإنه فقد في الواقع شيئًا من الحيوية التي تتمم الحديث بالطريقة الحوارية، وليس الذنب في ذلك على المحرر، ولكن ذنب السلطان الذي أصرَّ على أن تكون إجاباته

ص: 463

تحريريةً لا شفويةً، من أجل ذلك، يمكن النظر إلى النموذج المتقدم على أنه مكتوب بالطريقة القديمة لا بالطريقة الحديثة.

والواقع أن هناك طرقًا عدة، استحدثها الصحفيون لإجراء الحديث؛ فمن هذه الأحاديث ما يكتب على طريقة الحوار الداخليّ مع النفس، ولعل من أروع الأمثلة عليها حديث للفنان "عبد الوارث عسر" نشرته مجلة "الأسبوع العربيّ" البيروتية، في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر "كانون الأول" سنة 1976، وقام بإجراء هذا الحديث مع الفنان "عبد الوارث" في هذه المجلة الصحفيّ "فاروق البقيلي" وفيه أوضح طبيعة الفنان الرومانسية وصور عواطفه الإنسانية.

ثم إن من أشهر الطرق الحديثة في هذا الفن من فنون الصحافة، وهو الحديث طريقة "القصة الإخبارية" ونحن نعرف أن القصة الإخبارية لا بد لها من عنوان، وصدر، وجسم أو صلب، ثم إن الطريقة الحديثة لا غنى لها عن عنصر الوصف الذي يتخلل الحديث الصحفيّ، وهو خير ما يضمن انتباه القارئ وقراءته الحديثة من أوله إلى آخره، وبدون هذا العنصر يصبح الحديث جافًا كل الجفاف، لا يستطيع القارئ متابعته بيسر.

والأمثلة على طريقة "القصة الإخبارية" في إجراء الأحاديث الصحفية كثيرة، تطالعنا بها الصحف اليومية والمجلات على الدوام، مؤثرة إياها على غيرها من الطرق؛ لسهولتها ومرونة الصحفيين في كتابتها، وتدربهم عليها.

ومن هذه النماذج -على سبيل المثال- حديث صحفيّ للدكتور طه حسين، أجراه معه الأستاذ "كمال الملاخ" المحرر بصحيفة الأهرام، وذلك بمناسبة بلوغ الدكتور "طه حسين" الثامنة والسبعين من عمره، وقد نشر الحديث ومعه صورة للدكتور "طه حسين" جالسًا بمفرده، وأخرى له مع زوجته، وقد نشر بجريدة الأهرام في عددها الصادر في 15/ 11/ 1967.

ص: 464

‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

أن يبدأ استقصائي الأحوال في مراكش بهذا الجانب من الأنباء، وقررت تأدية الصلاة في حضرة السلطان.. وكانت الساعة الثانية عشرة قد انتصفت فيممت شطر المسجد الواقع مقابل القصر، ودلفت إليه، فلم أجد به إلّا قليلًا جدًّا من العاكفين على قراءة القرآن، فاستميزت بينهم واحدًا قعدت إلى جانبه بعد أن صليت ركعتين تحيةً للمسجد، فسمعته يرتل القرآن ويقرؤه بالقراءات السبع.

ودهشت إذ فاتت الساعة الثانية عشرة دون أن يزيد عدد الحاضرين بالمسجد إلّا قليلًا، وعلمت بعد ذلك أن ساعة الزوال في الرباط إنما هي الساعة الواحدة بعد الظهر!!

فظللت أشاهد الوافدين، والمتوضئين الحاملين معهم "سجاجيدهم". الصغيرة، وغير الحاملين، وأستمع للمرتلين القرآن علانيةً حتى الساعة الواحدة بعد الظهر، وأنا أغيِّر مواضع الساقين مني، تلمسًا للراحة في هذا الجلوس الطويل..

وعزفت الموسيقي، وتقدم فرسان الحرس ومشاته، وتحرك الركب السلطانيّ من القصر متجهًا إلى المسجد، ووقفت العربة السلطانية أمام نيابة الصغير، فدخل منه السلطان إلى مقصورته الخشبية.

وأذن المؤذن في الخارج، ودعا الداعي إلى الإنصات في الداخل، وألقى الخطيب الخطبة، ودعا فيها للخليفة محمد الخامس بالنصر والتأييد، وقامت الصلاة، ثم خرج رجال القصر، والوزراء، واصطفوا أمام المسجد تحيةً للسلطان؛ إذ يخرج ويمتطى هذه المرة جواده، ويعود إلى قصره، فأسرعت في الخروج واستطعت أن أقف إلى جانبه، وأحيي السلطان تحيته، فعرفني جلالته، وقد سبق أن حظيت بالمثول بين يديه منذ خمس سنين، وتفضل جلالته عليَّ بالسلام، فسجلت بهذا حضوري.

ص: 357