الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الثالث: فكثيرًا ما يكون نتيجةً لاندفاع الشعب، أو نتيجةً لتكاسله في بحث المشكلات العامة، والشعب إذا وصل إلى الرأي الساحق عن طريق البحث أو الدرس، فإنه يكون في مثل هذه الحالة بلغ الذروة، ولكنه في الواقع قَلَّمَا يصل إلى ذلك.
والرابع: هو الأي تجمع عليه الأمة، ولا يكون ذلك في الأعم الأغلب إلّا في الأمور التي ترتكز على ماضي هذه الأمة، وما ورثته من عادات، ونزعات، ومعتقدات، وهذا الرأي العام هو ما سميناه من قبل: بالاتجاه العام، أو النزعة العامة، وهو شيء لا يناقش في العادة، وإذا تعرض أحد لمناقشته عَرَّضَ نفسه للخطر المحقق.
ومع هذا وذاك، ففي استطاعة عددٍ قليلٍ من القادة في كل أمة أن يقنعوا أمتهم بفساد جزء من أجزاء هذا الرأي الجامع، بشرط ألّا يمسَّ هذا الجزء أصلًا من أصول الدين أو العقيدة، فمن الممكن مثلًا أن ينادي مصلح من المصلحين في أمريكا بفساد الفكرة القائمة بالتمييز بين السود والبيض، وإن كان ذلك يحتاج من مثله إلى صبر طويل، وكفاح مرير، وعمل متواصل، فعلى الصحفيِّ دائمًا أن يعرف كيف يفرق بين هذه الأنواع للرأي العام، وعليه أن يفرق بين ما سميناه: بالرأي العام، والسخط العام، والاتجاه العام، فهذه التفرقة يأمن الزلل في تفسير الحوادث التي تجري في المجتمع.
"5".
دور الصحافة في تكوين الرأي العام:
نحن نعرف أن الصحافة أقدر من غيرها على التأثير في الجمهور، وهي بلا شكٍّ أقدر في هذه الناحية من الإذاعة، ومن الخطابة، بل هي أخطر منها في الوصول إلى هذه الغاية.
والسبب في ذلك أن الصحيفة تستطيع بخلاف الخطب والإذاعة أن تدعو إلى فكرةٍ من الأفكار، أو رأي من الآراء، وأن تكرر هذه الدعوة
يومًا بعد يومٍ، بصور مختلفةٍ، والصحيفة بهذا التكرار أشبه شيء بقطرات الماء التي تسقط تباعًا وباستمرار على صخرةٍ قويةٍ، ولا بد لها يومًا أن تخرق هذه الصخرة، وقد تصل إلى تحطيمها وتهشيمها في نهاية الأمر.
غير أنه من الخطأ مع هذا وذاك، أن تعتقد أن الصحافة تصنع الرأي العام بكل ما في هذه الكلمة من معنًى. فإن الأولى من ذلك أن يقال: إن الصحافة تأخذ من هذا الرأي وتعطي، وتؤثر فيه وتتأثر به، تقود الشعب وتنقاد له، توجه الحكومات وتتلقى توجيهاتها، وهكذا.
ومن ثَمَّ، نجد الفرق واسعًا بين الرأي العامِّ في أمة متعلمةٍ ناهضةٍ واعيةٍ، والرأي العام في أمةٍ جاهلةٍ نائمةٍمتغافلة.
الأولى: تستطيع الاستفادة من الصحافة، أو بعبارة أخرى: تؤثر فيها وتتأثر بها.
والثانية: عاجزة عن الانتفاع بالصحافة، ولا دخل لها تقريبًا في تكوين الرأي العام الذي تُعْنَى به الصحف،
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ "توماس جيفرسون" عبارته المشهورة: "إنني لا أستطيع الاعتقاد بأن الصحافة قد بلغت غايتها إلّا إذا أصبح كل إنسانٍ يعرف القراءة والكتابة، ويعرف كيف يقرأ الصحيفة".
"والخلاصة" حتى الآن، أن الأمانة الصحفية تُحَتِّمُ على الصحف أن تتوخى الدقة في رواية الأخبار، داخلية كانت أم خارجية، كما تحتم عليها كذلك ألَّا تنظر إلى الربح الماديِّ وحده، بأن تعرض الأخبار على الجمهور عرضًا ينطوي على سوء القصد قبل كل شيء، أو بأن تُحَرِّفَ الأخبار تحريفًا يبعدها عن الحقيقة كل البعد.
ذلك أن الصحافة مسئولةٌُ عن توجيه الأمة، مسئولةٌ عن تكوين الرأي العام الناضج فيها، وهذه المسئولية في الأمم الضعيفة، أو الجاهلة، أو المتأخرة، أثقل منها بكثير في الأمم القوية المتعلمة المناهضة.
وفي هذا المعنى يقول الزعيم الشاب مصطفى كامل:
"إذا كانت الصحافة في كل بلاد العالم شديدة التأثير، عظيمة الفائدة، فإنها يجب أن تكون في مصر أشد تأثيرًا، وأكبر نفعًا؛ لأن الأمم الحية غنيةٌ عن إرشاد الصحف في كثير من الشئون، أمَّا في مصر، وبقية بلاد الشرق، فوظيفتها أن تكون المهذبة المؤدبة، المنشطة المشجعة، القائمة مقام المجالس النيابية، حتى تترقى الأمة، وتنال كل حقوقها".
ومهما يكن من شيء ففي استطاعتنا أن نقول: إن هناك أمورًا كثيرةً تؤثر في الدور الذي تؤديه الصحافة في توجيه الرأي العام.
منها: صبغة الصحيفة، أو الهدف الذي ترمي إليه هذه الصحيفة، فإذا كان الهدف تجاريًّا في مجموعه، وكان الربح الماديُّ هو الغرض الأساسيّ من إصدارها، فإنها إذ ذاك تقل عنايتها بتوجيه الرأي العام، وتزداد عنايتها بتملق القراء، فلا تنشر لهم إلّا ما يلائم رغباتهم، ولو كان في ذلك ما يضر بمصلحتهم التي هي مصلحة المجتمع.
ويتصل بهذا العامل عاملٌ آخر، هو سياسة الصحيفة، فإذا كانت سياستها ترمي إلى العبث بالأخبار، أو تلوينها، خاصةً لغايةٍ من الغايات الخاصة بها، كذلك فإن الرأي العام إذ ذاك يتعرض بنفسه لمحنة من أشد المحن، ويحار القراء يومئذٍ في معرفة الحقيقة، فتنحرف الأفكار والخطط انحرافًا بليغًا.
وثَمَّ مظهر آخر من مظاهر سياسة الصحيفة، فقد ترغب هذه الصحيفة في اتباع سياسة الإثارة، وقد تزهد في هذه السياسة، ومن الصحف ما تعتمد اعتمادًا تامًّا في كتابة الأخبار على الإثارة، ومنها ما تقتصد اقتصادًا ظاهرًا في ذلك، والذي لا شكَّ فيه أن الرأي العامَّ يصلح باتباع الطريقة الأخيرة، ولا يصلح مطلقًا باتباع خطة الإثارة، ثم إنه من العوامل المؤثرة في الرأي العام عن طريق الصحافة عامل
الحكومة، وسيطرة هذه الأخيرة أو عدم سيطرتها على الصحافة، والذي لا شك فيه أيضًا أن الرأي العام لا يتكوّن تكونًا صحيفًّا في ظل حكومة من النوع الأول، ولكنه يقترب من الكمال في ظل حكومة تبسط للصحافة من الحرية ما يكفي التعبير عن جميع الآراء ومختلف الاتجاهات.
وهنا يحلو لنا مرةً أخرى أن نسوق عبارةً للأستاذ أمين الرافعي، نشرها في افتتاحية السنة الثالثة لجريدة الأخبار 1 قال:"قامت الصحافة بدورٍ كبيرٍ في النهضات الوطنية التي شهدها الشرق والغرب، وقد عرفت لها الشعوب المختلفة هذا الفضل، فجعلت في مقدمة أنظمتها الدستورية أن تكون الصحافة حرةً؛ لتستطيع تأدية واجبها العظيم الذي أنشئت من أجله، وقد تبين قادة الحركات السياسية أن هذه الحركات يصعب نجاحها ما لم تكن الصحافة بجانبها، لتقوم بقسطها الكبير فيها".
وقال "سايبس": "الصحافة هي الضامن الحقيقيُّ للحرية السياسية، فإذا أردت إصلاح العيوب العامة، وجدت من الصحافة أكبر عضد لك في عملك، فهي التي تنير الرأي العام، وتكون بمثابة المصباح يُهْتَدَى بضوئه، ومتى ظهر هذا المصباح أمام أعداء الأمة، وخصوم الإنسانية، استولى عليهم الرعب، وبادروا إلى العدول عن تنفيذ نيَّاتهم الضارة التي كانوا يتآمرون عليها في الظلام، فاتركوا الصحافة تعمل لإعداد النفوس لفعل الخير، اتركوها تؤهل العقول للشعور بالواجب الوطنيّ".
ومضى الأستاذ أمين الرافعي يقول: "وقد أرتأى كثيرٌ من الفلاسفة والسياسيين والمؤرخين، أن الأمة التي لا تحترم حرية الصحافة، لا تستطيع النهوض بنفسها، ولا يسعها الانتفاع من جميع الحقوق الأخرى التي تكون متمتعة بها، مهما كانت هذه الحقوق عظيمة الشأن في ذاتها".
1 انظر العدد رقم "587" بتاريخ 28 يناير سنة 1925.
وقال جول "سيمون":
"إذا كانت للشعب حق التشريع لنفسه، بواسطة النواب الذين ينتخبهم، وإذا كانت السلطة الحاكمة لا تمتلك سن القوانين، ولا عرضها، ولا رفضها، وإذا كانت الانتخابات للهيئات النيابية حرةً وغير مقيدةٍ، إذا كان للشعب كل هذه الحقوق، فإنها تظل جوفاء وهمية خيالية، ما لم تتأيد بضمانة كبرى، هي حرية الصحافة".
فالذين يتقدمون للخدمة الوطنية عن طريق الصحافة، إنما يتقدمون لتحمل عبء ثقيل لا يجوز أن يستهان فيها بالمسئولية المترتبة عليه، ولا سيما إذا كانت الصحافة في عهدهم محرومة من التمتع بحريتها، فهم مضطرون من جهةٍ للنضال في سبيل تحرير صحافتهم، كما أنهم مطالبون من جهةٍ ثانيةٍ بأن يستخدموا الدائرة الضيقة المخصصة لعملهم في سبيل الدفاع عن القضايا الوطنية التي وقفوا أنفسهم على خدمتها، والسعي في نجاحها، مهما تحمَّلوا في هذا الطريق من تضحيات مختلفة.
فذلك إذن، هو الدور الذي تقوم به الصحافة في جميع الأمم، وهو دورٌ خطيرٌ ما دامت الصحافة تقوم بواجبها بكل شرف ونزاهة، وهنا يطيب لي أن أستطرد قليلًا فأقول عن الصحافة المصرية: إنها كانت في العشر الأخير من القرن التاسع عشر، والعشور الثلاثة الأولى من القرن العشرين، كانت في نظر التاريخ صحافة رأيٍ بالمعنى الصحيح، وذلك بالرغم مما تعرضت له تلك الصحافة من إيذاء وتعطيل، وبالرغم مماكانت تعانيه من قانون المطبوعات1.
كان الصحفيون في تلك الفترة التي نشير إليها، يقدرون مهمة الصحافة على الوجه الذي شرحه أحدهم، وهو هنا الأستاذ أمين الرافعي، وكانوا يوطِّنُون أنفسهم على البذل والتضحية في سبيل قيامهم بهذا الواجب الأعلى.
1 ارجع إلى ص 24 من "القانون والرأي العام".