المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقال الافتتاحي: يطلق عليه الإنجليز والأمريكيون اسم، LEADING ARTICLE أو اسم - المدخل في فن التحرير الصحفي

[عبد اللطيف محمود حمزة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌تقديم:

- ‌من مؤلفات أستاذنا الدكتور عبد اللطيف حمزة وبحوثه:

- ‌هذا الكتاب:

- ‌الكتاب الأول: الرأي العام

- ‌الصحافة والرأي العام:

- ‌تعريف الرأي العام:

- ‌الفرق بين الرأي والسخط والعام والاتجاه العام

- ‌أنواع الرأي العام:

- ‌دور الصحافة في تكوين الرأي العام:

- ‌القانون والرأي العام:

- ‌الرقابة على الصحف:

- ‌نشأة الرأي العام في مصر:

- ‌مصادر الكتاب الأول:

- ‌الكتاب الثاني: فن الخبر

- ‌نشأة الخبر وأهميته

- ‌تعريف الخبر:

- ‌في سبيل الحصول على الخبر:

- ‌تقويم الخبر:

- ‌مذاهب نشر الخبر:

- ‌قوالب صياغة الخبر:

- ‌الحوادث الداخلية أو المحلية:

- ‌الأخبار الخارجية:

- ‌طبيعة اللغة التي يكتب بها الخبر:

- ‌تحرير العنوان

- ‌التعليق على الخبر:

- ‌الطرائف المتصلة بالخبر:

- ‌الخبر والمجتمع:

- ‌الأخبار من الزاوية الأخلاقية، وزاوية

- ‌الذوق الصحفيّ والخبر:

- ‌مصادر الكتاب الثاني:

- ‌الكتاب الثالث: فن المقال

- ‌فنون المقال

- ‌المقال القصصيُّ:

- ‌مقال الاعترافات:

- ‌المقال الكاريكاتوري:

- ‌مقال الخواطر والتأملات:

- ‌المقال العلمي:

- ‌المقال الصحفيّ:

- ‌المقال الافتتاحي:

- ‌العمود الصحفي:

- ‌عمود الموضوعات الإنسانية:

- ‌عمود الرياضة والفنون:

- ‌الحملة الصحفية:

- ‌الحيل الصحفية أو الصراع بين الصحيفة والرقيب:

- ‌الكتاب الرابع: فن التقرير

- ‌المجلة

- ‌المقال في المجلة:

- ‌القصة في المجلة:

- ‌وظيفة التقرير الصحفيّ وأهميته:

- ‌فن الحديث الصحفيّ وأنواعه:

- ‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

- ‌التحقيق الصحفي وأنواعه وقواليه

- ‌مصادر التحقيق الصحفيّ، ونموذج له:

- ‌الماجريات وطريقة تحريرها:

- ‌الماجريات البرلمانية:

- ‌الماجريات القضائية:

- ‌الماجريات الدبلوماسية:

- ‌الماجريات الدولية:

- ‌تحرير الصورة والإعلان:

- ‌مصادر الكتاب الرابع:

- ‌الخاتمة: مستقبل التحرير الصحفيّ في مصر

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ ‌المقال الافتتاحي: يطلق عليه الإنجليز والأمريكيون اسم، LEADING ARTICLE أو اسم

‌المقال الافتتاحي:

يطلق عليه الإنجليز والأمريكيون اسم، LEADING ARTICLE أو اسم EDITORIAL ARTICLE، وهو المقال الرئيسيّ للصحيفة، وله فَنٌّ خاصٌّ به من حيث الصياغة، وأساس هذا الفن هو الشرح، والتفسير، والاعتماد على الحجج المنطقية حينًا، والعاطفية حينًا آخر، للوصول إلى غايةٍ واحدةٍ فقط، هي إقناع القارئ.

ومعنى ذلك: أن المقال الافتتاحيّ ليس الغرض الأول من أغراضه الإعلام، ولا ينبغي له أن يهدف إلى السبق الصحفيّ من هذه الناحية، إنما الغرض الأصليّ للمقال الافتتاحيّ هو الرأي، وكثيرًا ما يكون هذا الرأي تعليقًا على أحداث الأخبار أو الحوادث الجارية، ومن ثَمَّ نرى كاتب هذه المادة الصحفية سريعًا في تفكيره، سريعًا في تعبيره عن رأي الصحفية في هذا الحدث أو ذاك، ولذا وجب عليه دائمًا أن يكون واسع الاطلاع، قادرًا على ربط الحاضر بالماضي، متصلًا على الدوام بشتَّى الصحف والدوريات، كما يقف الناقد على أحدث الآراء في النقد، أو أحدث الكتب في المادة التي هي موضوع هذا النقد.

وفوق هذا وذاك، ينبغي لكاتب المقال الافتتاحيّ أن يكون على صلةٍ لا تنقطع بالصفوة الممتازة من العلماء والأدباء والمفكرين في عصره، وله في بعض الأوقات أن يكل إلى أحدهم كتابة المقال الافتتاحيّ في الموضوع الذي تخصص فيه، وللصحيفة أن تنشر هذا المقال ما دام يتفق وسياستها، ويعبر عن غرضها.

ثم إنه لا غنى لكاتب المقال الافتتاحيّ، في أحيانٍ كثيرةٍ، عن

ص: 320

الأرشيف الصحفيّ، يرجع إليه كلما أراد الوقوف على الحوادث السابقة، والشواهد الماضية، ويفيد منه في تقوية المقال، ويكون الأرشيف الصحفيّ في هذه الحالة أشبه شيءٍ بالوثائق والشهود على صدق ما يقول.

ومهما يكن من شيءٍ، فنحن نستطيع أن نتبين في المقال الافتتاحيّ هذه العناصر:

1-

عنصر التقديم، أو الفكرة المثيرة لاهتمام القارئ.

2-

عنصر الحقائق، والشواهد المؤيدة للفكرة.

3 عنصر النتيجة، أو الخلاصة التي يخرج بها القارئ.

ومن وسائل التوضيح لهذه العناصر عند الباحثين في الصحافة وضع رسم كالآتي:

هذا في شكل هرمي على هيئة مستطيل يسحب اسكنر.

ومن وسائل التوضيح لهذه العناصر التي يتألف منها المقال الافتتاحيّ، وضع رسم كذلك على النمط الآتي:

ص: 321

خصائص المقال الافتتاحيّ:

نستطيع أن نقول: إن للمقال الافتتاحيّ سماتٌ خاصّةٌ يعرف بها، وخصائص فنية تتوافر له، ومن هذه الخصائص ما يلي:

أولًا: خصيصة الثبات على سياسة واحدة هي سياسة الصحيفة؛ إذ لا يصح لهذه الصحيفة أن تكون مذبذبة بين سياسات كثيرة، لأنها بذلك تفقد أهميتها كصحيفة من صحف الرأي.

ومن أجل هذا يراعى في المقال الافتتاحيّ عادةً ألَّا يكون مذيلًا بتوقيع كاتبه؛ لأنه مقال منسوب إلى الصحيفة نفسها، بوصفها هيئة من هيئات الإعلام، لها سياستها وهدفها من وراء هذا الإعلام.

ثانيًا: خصيصة الحذر والاحتياط في إبداء الرأي؛ لأنه ما دام رئيس التحرير، أو كاتب المقال الافتتاحيّ، لا يعبر عن رأيه الشخصيّ، بل عن رأي الصحيفة باعتبارها مؤسسة اجتماعية وظيفتها -الإعلام- كما قلنا، يجب عليه أن يصطنع الحيطة فيما يكتب من مواد باسم الصحيفة، وإلَّا عرضها للخطر الداهم.

ص: 322

والحقيقة أن كاتب المقال الافتتاحيّ ليس مطالبًا كل يوم بذكر آراء صريحة في كل مشكلة من المشكلات التي تهم المجتمع، بل إنه أشبه بالقاضي العدل، يجوز له أن يؤخر حكمه في القضايا المعروضة أمامه حتى تتجمع لديه الأدلة الكافية، والشهود العدول، والبراهين المؤيدة لوجهة النظر التي ينتهي إليها في كل قضية من القضايا.

وبعبارةٍ أخرى: يجب على كاتب المقال الافتتاحيّ أن يفكر مرتين عندما يشرع في كتاب هذا المقال؛ مرةً بوصف أنه كاتب لهذه المادة الصحفية الهامة، والأخرى بوصف أنه معبر عن رأي الصحيفة التي يكتب هذه المادة لها وباسمها.

وهنا تثار مسألة تتصل "بضمير الكاتب" فهل معنى ما تَقَدَّمَ من الكلام، أن الكاتب ينبغي أن يخالف ضميره فيما يقدم للقراء من هذه المادة الصحفية الهامة، التي قلنا إنها ملك للصحيفة قبل أن تكون ملكًا لكاتب من كتابها؟

والجواب على ذلك صريح واضح، وهو أن الكاتب الذي يختلف في وجهة نظره عن وجهة نظر الصحيفة يجب ألّا يجعل من المقال الافتتاحيّ مجالات لإظهار ذلك.

على أننا لا نعرف من أصحاب الصحف، أو رؤساء التحرير، من يفرض على كاتبٍ من كتاب الصحيفة أن يكتب المقال الافتتاحيّ في موضوع لا يوافق عليه الكاتب، ولا يتفق فيه إطلاقًا مع سياسة الصحيفة، وسنعود إلى الكلام عن هذه المسألة الهامة بعد قليل.

ثانيًا: خصيصة التبسط في الحديث والإيناس في السرد، ومعنى ذلك بعبارةٍ موجزةٍ أن حديث الكاتب في المقال الافتتاحيّ لا يجوز مطلقًا أن يأتي عن طريق الاستعلاء الذي يحس به القارئ عند القراءة، بل ينبغي أن يأتي عن طريق الملاحظة، وشعور الكاتب والقارئ معًا بأنهما صديقان يتحدثان حديثًا يهم كل واحد منهما بقدر ما يهم الآخر، وليس

ص: 323

المقال الافتتاحيّ في الواقع إلّا محاولةً هادئةً لجذب القراء، وإشعارهم بأنهم شركاء في حل المشكلات العامة، وتوجيه السياسة التي تتبعها الدولة، أو يتبعها المجتمع، فإذا شعر القارئ يومًا ما بغير هذا الشعور، انصرف عن الصحيفة، ولو كان الحق معها، والصواب في جانبها.

رابعًا: خصيصة الإقناع عن طريق الشواهد والأمثلة المشتقة -كما قلنا- من الأحداث الجارية في الحاضر، والأحداث التي جرت في الماضي، والتجارب الإنسانية التي يختزنها الكاتب في ذاكرته، إما بطريق الممارسة، وإما بطريق الإطلاع، ولهذه الشواهد والأمثلة حَيِّزٌ كبير في المقال الافتتاحيّ، وهي مجال واسع يتبارى فيه كتاب الصحف، ويظهر فيه علمهم واطلاعهم ووقوفهم على التاريخ العام والتاريخ الخاص.

خامسًا: خصيصة الجدة الزمنية، أو مسايرة المقال للأحداث، ومعنى ذلك: أنه ينبغي للمقال الافتتاحيّ أن يعالج موضوعات الساعة، ومشكلة اليوم، ويهتم بالأفكار التي تشغل أذهان الناس وقت ظهور الصحيفة.

وبذلك تضمن الصحيفة أن يكون لها قراء ينتظرون رأيها في كل حادثة تحدث لهم، أو فكرة تولد بينهم، أو وضع الأوضاع السياسية أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، يراد نقلهم إليه.

سادسًا: خصيصة التوجيه والإرشاد، وهي شيء يختفي دائمًا وراء أسلوب الكاتب، فلا ينبغي أن يكون في شكل موعظة، أو نصيحة، أو أمر، أو نهي أو زجر، أو تعليمات يبعث بها الكاتب من فوق منبر الصحيفة، ليحاول أن يؤثر بذلك في الرأي العام.

إنما الكاتب الصحفيّ -كما قلنا ذلك مرارًا- صديق القارئ وشريكه في تكوين هذا الرأي.

ومع هذا وذاك، فإن كثيرًا من الصحف التي تعتبر نفسها "صحف رأي"

ص: 324

لا تحاول أن تنزل إلى مستوى العامة، بقدر ما تحاول أن ترفع العامة إلى مستواها، وتلك مهارة صحيفة لا تستعصي على كثير من الكُتَّابِ متى قصدوا إليها، وكانت سياسة صحفهم ترمي إلى ذلك.

سابعًا: عنصر التسلية والإمتاع والترفيه، فلا يقتصر المقال الافتتاحيّ على المسائل الكبيرة وحدها، بل يتناول كذلك بعض المسائل الخفيفة، والموضوعات الطريفة، وآية ذلك، أننا نجد الصحف الموقرة في مصر وانجلترا تنزع أحيانًا إلى موضوعات لها مثل هذا الطابع الذي أشرنا إليه، وهو الطابع الممتاز بخفة الروح، وبراعة النكتة، وطرافة الفكرة.

ومهما يكن من شيءٍ، فينبغي أن نذكر دائمًا أن للمقال وحدة مستقلة، ومعنى ذلك: أنه ليس مجرد سرد للحقائق، أو إتيان بالشواهد، أو إيراد للأمثلة، ولكنه وسيلة للتعبير عن رأي من الآراء، أو مذهب من المذاهب، فلا ينبغي أن يحشى بحقائق يزحم بعضها بعضًا، أو تتراكم تراكمًا يحول دون فهم الرأي الذي يبسطه الكاتب، أو الفكرة التي كتب من أجلها المقال، كما ينبغي للمقال الصحفيّ أن يكون ذا موضوع معين، وغاية واحدة، ولا بد من معالجته بطريقةٍ يظهر بها المقال كأن له وحدة مستقلة بذاتها، كما قلنا1.

ويجب باختصار أن يعرف المحرر الصحفيّ للمقال الافتتاحيّ أن هناك ثلاثة أشياء يؤثر بعضها في بعض، ويعتمد بعضها على بعض، ويتداخل بعضها في بعض؛ كتداخل هذه الدوائر المرسومة.

1 غير أننا نرى بعض الصحف -في الوقت الحاضر- قد درجت على كتابة موضوعات كثيرة في المقال الافتتاحيّ الواحد، وإن كانت الصلة واضحة بين أكثر هذه الموضوعات في أغلب الأحوال.

ص: 325

وهذه الأشياء الثلاثة هي:

سياسة الجريدة، وصياغة المقال، واهتمام القراء، فعلى كاتب المقال الافتتاحيّ، أو الرئيس في الصحيفة، أن يتصور هذه الدوائر في كتابته دائمًا، حتى يبلغ بمقاله الدرجة التي تسعى لها الصحيفة، وينتفع بها القراء.

ولنضرب لذلك مثلًا يوضح مدى هذا التداخل، وكيف تحاول الصحيفة تنفيذه بما يحقق شخصيتها التي امتازت بها بين سائر الصحف.

وهذا المثل هو "القمر الروسيّ"، وليس من شكٍّ في أن هذا الموضوع، قد أثار اهتمام القراء في العالم كله، فلا مَفَرَّ إذن من أن يكون موضوع المقال الافتتاحيّ في جميع الصحف على اختلافها، وبذلك يتحقق الركن الثالث من هذه الأركان، أو الدائرة الثالثة من هذه الدوائر، وهي الدائرة الخاصة باهتمام القراء.

غير أن الصحف تختلف سياستها في البلد الواحد، فصحيفة يسارية تجنح إلى روسيا، وإلى جميع الأفكار التي ترد منها، وصحيفة يمينية تجنح إلى أمريكا، وإلى جميع المذاهب التي تصدر عنها، وصحيفة وسط بين طرفين:

فأما الأولى، وهي اليسارية، فإنها تبرز هذا الخبر بطريقة تلفت النظر.

ص: 326

وتمنحه من العناية ما يشعر القارئ بأنه من أهم أخبار العالم، وأما الصحيفة الثانية -وهي اليمنية- فإنها لا تأبه له إلّا بالقدر الذي يقف عند حد الإعلام، ثم تسكت عند هذا الحد، فلا تختار له المكان البارز من الصحيفة، ولا تسرف في وصفه أو التعليق عليه.

وأما الصحيفة الثالثة -وهي الوسط- فتهتم بالخبر اهتمامًا وسطًا كذلك، وهكذا يسير العمل في الدائرة الأولى من الدوائر الثلاثة، ونعني بها: الدائرة الخاصة بسياسة الجريدة.

ثم إن الاختلاف يقع بين هذه الصحف الثلاث كذلك من حيث الصياغة، فالصحيفة الأولى تعتمد على التهويل، والمبالغة، والإنذار، والتهديد، والوعيد، والطنطة، وخلق اليأس من مجازاة الروس في ميدان العلم، والثانية تعتمد على المواربة والتهوين من شأن هذا الاختراع الجديد، وعلى الأمل الكبير في اللحاق بهذا القمر الروسيّ متى أرادت أمريكا شيئًا من ذلك وقصدت إليه، والثالثة تعتمد على الحذر والاحتياط في الحديث، وعلى التوسط بين المدح والذم، أو الإسهاب والاقتضاب، وبين الرجاء واليأس.

الصفات التي ينبغي توافرها في كاتب المقال الافتتاحيّ:

على أن كاتب المقال الافتتاحيّ ليس كالأديب، وإنما هو شخص آخر لا يعبر عن آرائه الذاتية، بل يتقيد بآراء الصحيفة التي ينتمي إليها، أو الحزب الذي تدافع عنه الصحيفة.

ولكي يكون هذا الكاتب ممتازًا في هذا اللون من ألوان التحرير، يحسن أن يكون متمتعًا بصفات، منها:

أولًا: أن يكون ذا حاسَّةٍ صحفيةٍ دقيقةٍ، يتذوق بها الأحداث الجارية في محيطة، والأحداث الجارية في خارج هذا المحيط، وعلى قدر حظه من

ص: 327

هذه الحاسة دائمًا يكون نجاحه في كتابه المقال الافتتاحيّ، وخاصَّةً إذا كان في المجال السياسيّ.

ثانيًا: أن تكون له حاسة تاريخية كذلك، يستطيع بها ربط الماضي بالحاضر، وبها يستطيع أيضًا أن يتكهن بالمستقبل، ومن ثَمَّ كان التاريخ عنصرًا هامًّا من عناصر ثقافة الصحفيّ، وذلك ما لا تلاحظه معاهد الصحافة في العالم.

ثالثًا: أن يكون ذا ثقافة عريضة، ولا بأس أن تبدو في بعض مواضعها عميقة، فهذه الثقافة -التي يعتبر التاريخ جزءًا واحدًا منها- يستطيع الصحفيّ البارع أن يقف على المعلومات التي تمكنه من الحكم الصائب، والنظر الصادق، والتوجيه السليم.

وهنا نذكر-مع الأسف- أن أهم ما يميز الصحافة الأجنبية عن الصحافة المصرية إلى يومنا هذا، إنما هو صفة "التخصص".

فالمقال الافتتاحي في صحيفة إنجليزية أو فرنسية إنما يكتبه مختص في نوع الموضوع الذي يخوض فيه المقال الافتتاحيّ، فإن كان المقال اقتصاديًّا كتبه شخص اقتصاديّ، وإن كان سياسيًّا كتبه شخص سياسي، وهكذا.

رابعًا: وهو خلاصة ما تقدم من الصفات- ينبغي أن يكون كاتب المقال الافتتاحيّ ذا حاسة اجتماعية مرهفة، أو قدرة بالغة على الانغماس في المجتمع، وموهبة في الحديث، والإيناس والملاطفة، ونحو ذلك من الخصال التي تمكنه من الوقوف على حقيقة الرأي العام.

وكل ذلك مع مراعاةً تامة لمصلحة الصحيفة التي يكتب فيها، فإذا آنس من نفسه أنه عاجز عن مراعاة هذه السياسة، أو حدث أن تعارض ضميره مع مصلحة الصحيفة، فخير له أن يستقبل فورًا من عمله الصحفيّ بوصفه كاتبًا للمقال الرئيس.

ص: 328

وهذا معنى قولنا فيما تقدم: إنه ينبغي لهذا الكاتب أن يتصور الدوائر الثلاث في ذهنه دائمًا، وهي: دائرة السياسة العامة للجريدة، ودائرة الطريقة العامة لكتابة المقال الافتتاحيّ، ودائرة اهتمام القراء.

وقد جرى الكثير من الصحف الهامة على سنة لا بأس بها في كتابة المقال الرئيس، وهذه السنة هي عقد اجتماع في دار الصحيفة يضم أعضاء التحرير فيها، لمناقشة الموضوع الهام الذي يعرض له المقال الرئيس، حتى إذا انفض الاجتماع، وجلس رئيس التحرير لكتابة المقال، أمكنه أن يعبر تعبيرًا صادقًا عن سياسة الصحيفة، غير أن هذه الطريقة لا تتبع عادة إلّا في المسائل الهامة، أو المشكلات الخطيرة، أو الحالات التي ترى فيها الصحيفة -لسبب ما- أنه لا بد من تغيير سياستها العامة.

أهمية المقال الافتتاحيّ في الصحافة:

يقول علماء الاجتماع: إن الظروف والأحداث التي تمر بالإنسان، والتغيرات التي تطرأ على المجتمع، لا يمكن أن تكون لها دلالة ما، أو يكون لها في كيان الفرد أو المجتمع أثر ما، إلّا إذا وعاها الفرد وأدركها وقدرها وكيفها، فإذا لم يحدث من ذلك شيء، ظلت هذه الظروف والأحداث والتغيرات بعيدة عن وجدان الناس، بل أصبحت في حكم العدم.

وهنا تظهر أهمية الكاتب الموجه، والصحفيّ اليقظ، حين ينتهز كل منهما كل فرصة ليتحدث عما وراء الأخبار، وعما يحمل كل خبر منها من مغزى، وبهذه الطريقة يستطيع الأفراد كما تستطيع الجماعات أن تحل مشكلاتها التي تعرض لها، سواء أكانت هذه المشكلات نفسية، أم اقتصادية، أم سياسية، أم اجتماعية، ويكون الفضل في كل ذلك راجعًا إلى الصحافة، أو إلى ذلك الكاتب الذي انبرى للكتابة في الوقت المناسب، وأخذ يزج بنفسه في تلك المشكلات، وإن لم يكن من الأفراد الذين تناولتهم كل مشكلة منها، أو اشتركوا في إحداها على أية صورة

ص: 329

من الصور، بينما قد لا يشعر أصحاب هذه المشكلات التي أحاطت بهم أنه قد أصبح لها أثر في حياتهم، وذلك لانعدام الوعي من جهة، ولعجزهم عن تصور حياة أفضل، أو حالة أحسن من جهة ثانية.

إنه حين تحرص صحيفة من الصحف في بلدٍ من البلاد على أن تكون "صحيفة رأي" أكثر منها "صحيفة خبر" نراها تعمد إلى المقال من حيث هو، وتعطي عناية تامة للمقال الرئيسيّ، أو المقال الافتتاحيّ بنوع خاص.

وقد كان هذا النوع من المقالات الافتتاحية منذ نشأة الصحافة -كما يؤخذ ذلك من اسمها- يحتل أول صفحة من صفحات الجريدة، ويكون أول شيء يطالعه القراء فيها، ولم تتزحزح المقالة الافتتاحية عن مكانها الممتاز من الصفحة الأولى إلّا في وقتٍ قريب، أي: منذ انحازت الصحافة الحديثة في الفترة الأخيرة إلى الخبر، وقلت عنايتها نوعًا ما بالمقال.

وليس شيء أدل على أهمية المقال الافتتاحيّ منذ نشأة الصحافة من أن كتاب هذا المقال كانوا ولا يزالون نوابغ الصحافة في كل أمة من الأمم، بل في كل فترةٍ من فترات التاريخ.

ففي الصحافة المصرية كان يكتب المقال الافتتاحيّ للمجلة أو للصحيفة أمثال: محمد عبده، وأديب إسحق، وعبد الله النديم، وإبراهيم المويلحي، والسيد على يوسف، والزعيم الشاب مصطفى كامل، والأستاذ أحمد لطفي السيد، والأساتذة: عبد القادر حمزة، وأمين الرافعي، وإبراهيم المازني، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم من أساطين الأدب، والفكر، والصحافة جميعًا.

وفي الصحافة الإنجليزية وجدنا المقال الرئيسيّ مكتوبًا بأقلام: ديفو، وأديسون، وستيل، وجونسون، وويلكز، وجونياس، أو الصحفيّ المجهول، وأضرابهم.

ص: 330

وفي الصحافة الأمريكية لمعت أسماء صمويل آدمز، وجون آدمز، وجيمس أوتز، وجوزيف وارين، وصمويل كوبر، ورالف أمرسون، وغيرهم من قادة الشعب الأمريكيّ.

وقُلْ مثل ذلك في الصحافة الفرنسية، والصحافة الألمانية، والصحافة الروسية.

وكان للمقال الافتتاحيّ في غير هذه الأيام التي نعيش فيها الآن، شأنٌ عند جميع الأمم الناهضة أكبر من شأنها في الوقت الحاضر، بل إن المقال الافتتاحيّ كان ينظر إليه دائمًا على أنه الأداة الأولى للتقدم، والوسيلة الوحيدة للإرشاد، والطريق الصحيح للأخذ بيد الأمة التي تريد لنفسها صيانة الشعب من جميع المؤثرات الضارة به، وبأفكاره وتقاليده، ما دام في صيانتها صمام الأمن، والسلام والسلامة من هذه الأضرار.

ويمكن بإيجاز أن يقال: إن الصحافة في العالم كله لا تستطيع القيام برسالتها الوطنية، أو الإنسانية بأسهل ولا بأوضح من طريق المقال الرئيس، وهو المقال التوجيهيّ الذي ترمقه الأبصار، وتستريح إليه العقول والأفهام.

ولكن على الرغم من ذلك نرى المقال يتخلف في أيامنا هذه تخلفًا كبيرًا عن الخبر الصحفيّ، وربما كانت لذلك أسباب كثيرة، من أهمها النزاع بين الكتلتين الشرقية والغربية، أو بعبارة أخرى: الخوف من الخطر الشيوعيّ!

وفي إحصائيةٍ قام بها معهد جالوب Gallub بأمريكا ظهر أن 19% فقط من الرجال، و 10 % فقط من النساء يعنون بقراءة المقال الافتتاحيّ.

وفي بحث قيمٍ للأمريكيّ روبيرت راند Robert Rand دراسة قيمة لميول القراء حول موضوع المقال الافتتاحيّ لثلاثين صحيفة من صحف أمريكا، وقد خرج الباحث من هذه الدراسة بأن قراء المقال الافتتاحيّ

ص: 331

في صحف أمريكا لا يتجاوزون 18.8%، وأن 78.9% منهم يلقون نظرة عجلى إلى المقال دون قراءته من أوله إلى آخره!

فإذا كان هذا هو الشأن في بلاد كأمريكا، فما ظننا بقراء المقال في بلاد كمصر، أو في أي قطر من أقطار الشرق؟

وكم نود أن يجري العلماء عندنا بحوثًا كهذه البحوث؛ ليقيسوا بها ميول القراء المصريين، ورغبتهم في قراءة الخبر أو المقال، وإن كنا نستطيع أن نتكهن منذ الآن، بأن نسبة قراء المقال في مصر لا تكاد تزيد عن 3 أو 4 أو 5% على أكثر تقدير.

ولكن ليس معنى ذلك أن الصحيفة يحسن بها أن تعدل عن المقال، أو أن ذلك يقلل من قيمة المقال؟ كلّا لا ينبغي مطلقًا أن تزعجنا هذه النسبة القليلة لقراء المقال في الصحيفة، فنحكم حكمًا قاسيًا على المقال بأنه قليل الأهمية بالقياس إلى الخبر في الصحيفة.

لا يصحُّ أن يزعجنا ذلك، فإنما الصحيح هو العكس؛ إذ يجب علينا أن نلاحظ أن عدد القراء المستنيرين في كل أمة لا يزيد غالبًا عن هذه النسب التي أشرنا إليها، وذكرنا أمثلة منها.

ومع أن هذا العدد من المستنيرين قليل في الأمة دائمًا، فإن هذه القلة هي صاحبة الحل والعقد، وهي وحدها القادرة على قيادة الأمة في كل وقت.

من أجل ذلك نجد في كل أمة من الأمم نوعين من الصحف عادةً؛ صحافة يكتبها الصفوة للصفوة، وصحافة يكتبها الدهماء للدهماء.

الأولى: وهي صحافة للصفوة الصفوة، صحافة حقيقية بكل ماتحمل هذه الكلمة من معنى.

والأخيرة: وهي صحافة الدهماء للدهماء، سلعة من السلع، لا أكثر ولا أقل!

ص: 332

ولنضرب المثل هنا بصحافة انجلترا: فإن صحيفة "التيمس" لا توزع أكثر من 400 ألف نسخة، بينما توزع صحيفة "الديلي ميرور" أكثر من أربعة ملايين نسخة! ومع هذا وذاك، فإن "التيمس" في نظر الحكومة الإنجليزية، ونظر الشعب الإنجليزيّ، أعظم أهميةً من "الديلي ميرور"، ذلك لأن صحيفة "التيمس" هي صحيفة التوجيه والإرشاد عن طريق المقال الافتتاحيّ، ومن أجل ذلك لا تفرض الحكومة الإنجليزية الرقابة على هذه الصحيفة في الوقت الذي تفرض هذه الرقابة على غيرها من الصحف الأخرى، وتأخذ الحكومة الإنجليزية نفسها بهذه الخطة حتى في أوقات الحروب والمحن، ثقةً منها بأن قسم تحرير "التيمس" شريك لها في الشعور بالمسئولية، وشريك لها في وضع السياسة الإنجليزية، داخلية كانت هذه السياسة أم خارجية.

وبعد، فقد مرَّ المقال الافتتاحيّ أو الرئيس، في الصحافة المصرية بطورين:

أولهما: كانت فيه المقالة الرئيسة تحتل الصفحة الأولى، وكانت المقالة الرئيسة في هذا الطور طويلةً مسرفةً في الطول، حتى لقد بلغت في بعض الأحيان نحوًا من أربعة آلاف كلمة1، وكثيرًا ما كانت تذيل بتوقيع الكاتب.

ثاني الطورين: أصبحت فيه المقالة الرئيسة تحتل مكانًا آخر غير الصفحة الأولى -منذ تركت هذه الصفحة للأخبار الخارجية- كما أصبحت لا تحمل توقيع الكاتب، ولا يصح أن تحمل هذا التوقيع، وأما من حيث الطول، فقد امتازت المقالة الرئيسة في هذا الطور بالقصر، بحيث لا يمكن أن تتجاوز -بشكل ما- ستمائة وخمسين كلمة على الأكثر.

1 انظر مقالًا للسيد على يوسف بعنوان: "حفلة الوداع"، وخطبة اللورد كروسر. نقلًا عن جريدة "المؤيد"، العدد 5157، بتاريخ 7 مايو سنة 1907.

ص: 333

ذلك أن المقال الرئيس في الطور الأخير أصبح يكتب في عمودٍ واحدٍ من أعمدة الصحيفة، وفي هذا العمود مقال واحد حينًا، ومقالان أو ثلاثة حينًا آخر.

وغنيٌّ عن البيان أن الصحافة الحديثة عمدت إلى كتابة العمود الرئيس، أو المقال الافتتاحيّ على النحو المتقدم؛ لكي تفسح المجال لبقية المواد الصحفية الأخرى التي لم تعرفها الصحافة القديمة، أو كانت معرفتها بهذه المواد قليلة، ومن هذه المواد التي عنيت بها الصحافة الحديثة مادة الحديث الصحفيّ، ومادة التحقيق الصحفيّ، ومادة الماجريات الصحفية على اختلافها، ثم أخبار الرياضة، والكتب، والمسرح، والسينما، وما إلى ذلك.

وهذا ما نجده في الصحف المصرية في يومنا هذا، أما الصحف الإنجليزية -على سبيل المثال- فصفحة المقال الافتتاحيّ بها تتألف عادةً من عدة أعمدة، فنرى هذه الصفحة بجريدة "التيمس" وبها المقال الافتتاحيّ -غالبًا- يتألف من أربعة تعليقات، هي:

1-

التعليق السياسيّ.

2-

التعليق الاقتصاديّ.

3-

التعليق الاجتماعيّ.

4-

تعليق خفيف.

هذا مع ملاحظة أن المقال الافتتاحيّ يختلف في الصحف الشعبية الإنجليزية عنه في الصحف غير الشعبية، فهو ينشر عادةً في الصفحة الأولى على اليسار في الصحف الشعبية، مثل صحيفة:"ديلي ميل" الصباحية، وصحيفة "ديلي إكسبريس" الصباحية أيضًا.

أما الصحف الإنجليزية الرفيعة، فتنشر المقال الافتتاحيّ غالبًا في الصفحة الرابعة أو الخامسة على الشمال تحت عنوان: CommentK ، ومن هذه الصحف الأخيرة صحيفة "الستيمس" وصحيفة "الديلي تلغراف".

ص: 334