الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخبار من الزاوية الأخلاقية، وزاوية
المسئولية الإعلامية:
إن رجال الإعلام في كل أمة من الأمم هم وكلاء هذه الأمة في ميدان من أخطر ميادين الحياة، وهو ميدان الأخبار وميدان الثقافة والإرشاد.
إنهم المسئولون في الواقع عن رفاهية الشعوب، ومسئولون كذلك عما تقع فيه هذه الشعوب من البؤس، وهم المسئولون كذلك عن الحرب، وعن السلام بين شعوب الأرض1.
وإن نظرةً واحدةً إلى تاريخ الصحافة في العالم -بما فيها الصحافة العربية- ترينا أن الصحافة قسمان: صحافة الخبر، وصحافة الرأي أو المقال، وصحافة المقال -في تاريخنا العربيّ- سابقةً لصحافة الأخبار، ولم تبدأ صحافة الخبر بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة في تاريخ الصحافة المصرية بنوعٍ خاصٍّ قبل سنة 1936، وهي السنة التي ظهرت فيها جريدة المصري، وفي عددها الأول كتب محمد التابعي يقول:
"وعدٌ واحدٌ فقط هو الذي نتقدم به إلى القراء، وهو أن نحاول -ما استطعنا- أن ندخل على "المصريّ" لونًا من روح العصر الذي نعيش فيه، عصر السرعة والاختزال، عصر الأنباء والأخبار، ودائمًا الأخبار".
والصحافة العربية فيما انصفت به من الابتداء بصحافة المقال، مخالفةً للصحافة الأوروبية التي اتصفت منذ بدايتها بالميل إلى الأخبار، وبقي الحال على ذلك حتى ظهور الديموقراطيات ونموها في أوائل القرن التاسع عشر.
1 عبد اللطيف حمزه: أزمة الضمير الصحفيّ، ص6 بتصرف.
وإذ ذاك ظهرت في كلٍّ من أوروبا وأمريكا "صحافة الرأي" وحلت محل صحافة الخبر، وبلغت أوجها بقيام الثورة الفرنسية، ثم تغيرت الظروف تغيرًا كاملًا في القرن العشرين، وعادت الصحافة الأمريكية -بنوع خاص- إلى صحافة الخبر، وأصبح التنافس قويًّا في سبيل الحصول على الأخبار، حتى لجأت الصحف أخيرًا إلى طريق الإعارة، ومنذ ذلك الوقت أصبح الهدف الأول للصحافة الأمريكية هو الحصول على أكبر قدر من المال، ولم يصبح الهدف الأول للصحافة هو التوجيه والإرشاد، كما كانت عليه الحال من قبل، ولعل السبب الأول والأخير في وصول الصحافة الأمريكية إلى هذه الحالة الأخيرة هو الخضوع لرأس المال، وخضوع الديمقراطية الأمريكية للنظام الحر Liperalism وهو النظام الذي تدل عليه الجملة المعروفة:
"اتركه يفعل، اتركه يمر "Laisses Fuire- laisses passr"
سمات صحافة الخبر:
إن لصحافة الخبر سماتٍ تعرف بها، وتميزها عن صحافة المقال، ومن هذه السمات ما يلي:
1-
قلة عنايتها بالمقال، أو اقتصادها في المساحة المخصصة له، فإن حيِّزَ الصحيفة في مثل هذه الحالة يترك كثرة منه للخبر، ولا تبقى للمقال إلّا مساحة أقل من مساحة الخبر.
2-
عناية صحافة الخبر عناية بالغة بحوادث الدجل والدجالين وتسلية القارئ بالخرافات وأخبار الشعوذة والمشعوذين، على حين أن صحافة الرأي إذا عرضت لمثل هذه الأخبار فلكي تنقدها وتسفه أصحابها، وتقدم العلاج الناجح لهذه الأدواء الضارة بالمجتمع.
3-
زيادة اهتمام صحافة الخبر بأنباء الممثلين والممثلات والمغنيين
والمغنيات، والراقصين والراقصات، وبأخبار الطبقة البورجوازية في المجتمع، وبإيراد الأخبار الشخصية الخالصة لبعض البارزين في المجتمعات.
4-
اختراع الأخبار بقصد إثارة القراء؛ فهذا خبر عن لصٍّ هاربٍ من وجه العدالة، وهذا خبر عن مشعوذ ظهر في الحيِّ الفلانيِّ، وهذا خبر عن تحضير الأرواح وهكذا، وغالبا ماتكون هذه الأخبار من صنع الجريدة نفسها، كما لجأت جريدة "أخبار اليوم" المصرية مرةً إلى الإعلان عن دواء اسمه "هـ3" وزعمت أنه يعيد الشباب للطاعنين في السن، وكان هذا الخبر مجرد اختراع من الصحيفة تسبب في ارتفاع كبير في نسبة التوزيع.
صحيح أن لهذا الخبر الصحفيّ نصيبًا ضعيفا من الصحة، فقد قيل إن طبيبةً تركيةً وصلت إلى اختراع هذا الدواء، وعرضته على مجلس أطباء عقد لهذا الغرض برومانيا، غير أن هذا المجلس لم يقر الدواء الذي قدمته الطبيبة، فانتقلت به إلى مجالس طبية أخرى، ولكنها إلى الآن لم تظفر بإقراره بحالٍ من الأحوال، فإذا جاءت صحيفة كأخبار اليوم المصرية، واستغلت هذا الخبر استغلالا صحفيًّا، وأخذت تنشر عنه كل يوم شيئًا، فإن الهدف الرئيسيّ للصحيفة من وراء ذلك يصبح معروفًا، وهو الحصول على أكبر نسبة في التوزيع بالقياس إلى الصحف الأخرى، وهذا بالفعل ما حدث.
إن الفرق بين صحافة الخبر وصحافة المقال إذن يتلخص في كلمة واحدة، وهي أن صحافة الخبر سلبية، وصحافة المقال إيجابية؛ لأن صحافة المقال تشارك في بناء المجتمع وبناء الإنسانية، وتضحي من أجل ذلك بالربح الماديّ، بينما تبذل صحافة الخبر قصارى جهدها في التسلية والترفيه عن القارئ، وفي اجتذابه إلى الجريدة بالطرق المشروعة وغير المشروعة، وهذا ما يدعونا إلى الكلام عن الصحافة الصفراء فيما يلي:
الصحافة الصفراء:
إن صحافة الخبر التي مَرَّ ذكرها قد أنتجت صحافةً يقال لها: "الصحافة الصفراء" وهي الشكل المبالغ فيه من أشكال صحافة الخبر، وقد سبق أن قلنا إن السبب في هذه التسمية أن صحفيًّا أمريكيًّا ابتدع شخصية "الطفل الأصفر" وهي شخصية كاريكاتورية اتسمت بالانحراف الخلقيّ، وكان هذا الصحفيّ يطبع هذا الكاريكاتور في صحيفته دائمًا باللون الأصفر.
ولهذا اللون من ألوان الصحافة الأمريكية تاريخ بدأ بصاحب صورة الطفل الأصفر التي مَرَّ ذكرها، ثم جاء بعد ذلك "بولتزر" و "هيرست" الابن؛ ليتنافسا تنافسًا حادًّا في مجال الإثارة الصحفية في نيويورك، وكان ذلك بين عامي 1893و 1895، وكان كل ذلك طمعًا في زيادة التوزيع، حتى تجاوز هذا التوزيع ستمائة ألف نسخة في الطبعة الواحدة، وتراوح عدد صفحات الجريدة بين 48و 50 صفحة العدد الواحد، وكانت النسخة الواحدة تباع بما لا يزيد عن خمسة بنسات؛ وإذ ذاك اتسمت الصحافة الصفراء بسمات منها:
أولًا: فن تصميم العنوان وكتابة الألوان الكثيرة كالأحمر والأزرق والأصفر، لكي يلفت ذلك نظر القارئ.
ثانيًا: الإسراف في استخدام الصور، ولولم تكن لها صلة بحقيقة الخبر، والصور في ذلك مثل الرسوم الكاريكاتورية، والكرتون السياسيّ والاجتماعيّ كثيرًا ما تكون وسيلةً من وسائل تضليل القراء بدلًا من هدايتهم إلى الحقيقة.
ثالثًا: تزييف الأخبار، وانتحال الأحاديث، واختراع التحقيقات التي لا ظل لها من الحقيقة، وذلك بقصد تشويش الأذهان، وبلبلة الأفكار، وقد فعلت ذلك الصحف الصهيونية في أمريكا حين زيفت عددًا من صحيفة
روز اليوسف المصرية، ونشرت في هذا العدد حديثًا مزيفًا للرئيس جمال عبد الناصر، ليس له ظل من الحقيقة.
رابعًا: الإكثار من الفكاهات والدعابات والنكات، والإتيان بكل ذلك عن حسن قصد من الصحيفة.
خامسًا: اختراع الشخصيات التي تلعب بها الصحيفة دورًا خطيرًا في توجيه المجتمع، أو الحكومة، وجهةً معينةً قد لا تتفق والصالح العام، كما لا تتفق في كثير من الأحيان مع مصلحة السلام.
سادسًا: اختراع المواقف المسرحية التي تتظاهر فيها الصحيفة بالوقوف مع الجانب الضعيف، وذلك بقصد واحد فقط، هو ضياع الحقائق في زحام هذا المسرح الذي خلقته الصحيفة على نحو يتفق ومصلحتها الذاتية لا مصلحة المجتمع.
سابعًا: العناية التامة بتوافق الأخبار، والسعي وراء الأسرار الشخصية لهدف واحدٍ؛ كذلك هو نشر الفضائح، والقصص عن بعض الشخصيات المرموقة في المجتمع، وإنزال العظماء عن عروشهم، وقطع العلاقة بينهم وبين أفراد الشعب المملوء إعجابًا بهم وبأفكارهم، ومن حيث توافق الأخبار يقال: إن صحيفة العرب العراقية أيام الاحتلال كانت تقول للمحررين دائمًا: عليكم بتوافق الأخبار ولا شيء غيرها.
ثامنًا: الصحافة الصفراء تدعو إلى تشجيع الحرب وتقدمها، وتفضل فكرة الحرب على فكرة السلام، وذلك أن قيام الحرب على أية صورة من الصور يعود على الصحف بالأرباح الوفيرة، ولهذا نرى صحافة الخبر تقيم العداوة والبغضاء بين شعوب الأرض، ونرى الصحفيّ أيضًا يحظى بالأموال السرية الضخمة التي تحمل إليه من المصانع الحربية الكبرى في أوروبا وأمريكا، ولا حياة لهذه المصانع بدون حرب، وهذا ما أشار به الزعيم "نهرو" في كتبه الكثيرة التي حذر فيها الصحافة من الرضوخ لأوامر هذه المصانع الحربية، أو تجار الموت على حد تعبيره.
وباختصارٍ شديدٍ نجد أن صحافة الخبر تثير دائمًا في الأفراد غرائزهم الوضعية، وتخاطب فيهم هذه الغرائز دائمًا، فتنشر بينهم أخبار الجنس والجريمة، كما تنشر فيهم كذلك الأخبار التي تشجع على فكرة الحرب، وتخفي فكرة السلام، وفي ذلك يقول الرئيس روزفلت:
"إن الصحافة التي تثير الكراهية في النفوس، هي السبب الأول في انتشار جرائم القتل في المجتمع".
وقد أصاب الصحافة المصرية انحرافٌ من هذا القبيل، وإن لم تبلغ مبلغ الصحافة الأمريكية في ذلك، وقد أشار الرئيس جمال عبد الناصر إلى شيءٍ من هذا الانحراف في الحديث الذي ألقاه على الصحفيين في اليوم الذي صدر فيه قانون تنظيم الصحافة، في الرابع والعشرين من شهر آيار "مايو" سنة1960، وضرب الرئيس بعض الأمثلة على انحراف الصحف المصرية يومئذ.
ومن ذلك: اهتمام الصحف الكبرى في القاهرة بأخبار الزوجة التي خانت زوجها، وخبأت في دولاب بيتها ثلاثة رجال في وقت واحد، واستطرد الرئيس في التعليق على هذا الخبر، وفي السخرية منه قائلًا: لابد أن يكون هذا الدولاب مزودًا بجهاز تكييف هواء.
كيف تعالج صحافة الخبر:
فكرت كثير من الحكومات والشعوب، كما فكرت منظمة الأمم المتحدة، فيما سمي "بآداب مهنة الصحافة" وانعقدت لذلك المؤتمرات، وبذلت المحاولات للوصول إلى ما للصحفيّ من حقوق، وما عليه من واجبات، وقد استعرضنا هذه الجهود في كتابنا "أزمة الضمير الصحفيّ" واسترعت أنظارنا عبارة وردت في الميثاق الهنديّ للصحافة، جاء فيها:
"إن الصحفيّ الجدير بهذا الاسم، هو وحده الرجل الذي يستطيع التفرقة دائمًا بين الصالح العام والفضول العام، وهو الذي يدرك جيدًا أن الصحافة النزيهة تسعى دائمًا لخدمة الهدف الأول، وهو الصالح العام، وقلما تسعى لخدمة الثاني، وهو الفضول العام، ولذلك تمتنع عن نشر الأخبار الشخصية ما لم تتأكد من صحتها، وما لم تقدر كل التقدير أن في نشرها نفعًا يعود على المجتمع".
وما زالت الجهود تبذل إلى يومنا هذا في ترقية صحافة الخبر، والسير بها في طريق الصالح العام للشعوب والحكومات.
وقد شاركت حكومة الجمهورية العربية المتحدة في هذا السبيل بمحاولتين إلى الآن وهما:
1-
إصدار قانون تنظيم الصحافة في عام 1960.
2-
صدور الميثاق في الحادي والعشرين من شهر مايو سنة 1962.
وقد وردت في الميثاق إشاراتٌ كثيرة إلى الصحافة، ووضعت هذه الإشارات دستورًا جديدًا للصحافة المصرية في عهد حكومة الثورة، ومن هذه العبارات التي وردت في الميثاق:
"إن حرية الصحافة لم تعد محصورة في المعنى السياسيّ، كما كانت قبل ذلك، ولكنها تجاوزته إلى المعنى الاقتصاديّ، فأصبحت حرية الصحافة تهدف إلى التحرر من الخضوع لرأس المال" وقال الميثاق قبل ذلك:
"كذلك تزايد الخطر على ما تبقى من حرية الصحافة -ثانيًا- بتزايد احتياجات المهنة نفسها لمعدات التقدم الآلي، ولم يعد في قدرتها إلّا أن تخضع
لإرادة رأس المال لمستغلٍّ، وأن تتلقى منه -وليس من جماهير الشعب- وحيها، واتجاهاتها السياسية والاجتماعية"1.
الصحافة والجريمة:
ما هو تعريف الجريمة عند علماء الاجتماع؟
وما هي مسئولية الصحافة عن الجرائم من الناحية القانونية الخالصة؟
أما السؤال الأول: فيجيب عنه الأستاذ "سذر لاند" في تعريف الجريمة بأنها: السلوك الذي تحرمه الدولة لضرورة ما، أو السلوك الذي تتدخل الدولة في منعه بعقاب مرتكبيه.
غير أن هذا التعريف لم يشأ أن يبتعد عن التعريف القانونيّ البحت للجريمة، فقد اتجه بعض العلماء إلى تعريف المجرم بدلًا من تعريف الجريمة، ومن هؤلاء "برجسن" الذي قال في تعريف المجرم:
"إنه الشخص الذي يعتبر نفسه مجرمًا ويعتبره المجتمع كذلك".
ولهذا التعريف ميزةٌ وضحها "برجسن" حين لفت الأنظار إلى رأي المجرم في نفسه، وهي فكرة هامة تقدم على أساسها علم الإجرام.
وأما السؤال الثاني -وهو مسئولية الصحف من الناحية القانونية- فإن الجرائم في ذاتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-
جرائم ضد الأفراد العاديين.
2-
جرائم ضد الدولة.
3-
جرائم ضد المجتمع.
وعلى الدولة يقع عبء حماية الأفراد والمجتمعات وحماية نفسها من
1 عبد اللطيف حمزة: الإعلام له تاريخه ومذاهبه، الفصل 16.
الجريمة بأنواعها الثلاثة، وعلى الصحافة أن تساعد الدولة على القيام بهذه المهمة الخطيرة، وهذا هو ما يحدد مسئولية الصحافة، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى ما يسمى:"التشريعات الصحفية" والخلاصة: أن الجريمة قطعة من الحياة التي نحياها، وليس الخطر آتيًا من نشر أخبار الجريمة في ذاتها، بقدر ما هو آتٍ من تحول الصحيفة إلى مخبرٍ سريّ، أو قاضٍ يحكم في القضية.
عودة إلى مذاهب نشر الخبر:
سبق أن عرفنا شيئًا عن مذاهب نشر الخبر من حيث هو، واستطعنا أن نميز بين ثلاثة مذاهب:
1-
المذهب المعتمد على الإثارة، أو إيثار الفضول العام على الصالح العام، وهو ما نتج عن ظهور الصحافة الصفراء.
2-
المذهب الجاد، أو المذهب الذي يؤثر الصالح العام على الفضول العام، وهو ما تبحث عنه صحافة الرأي.
3-
المذهب المعتدل، أو الجامع بين المذهبين السابقين، وهو ما تسير عليه أكثر الصحف المتزنة في العالم في الوقت الحاضر.
كما سبق لنا كذلك أن أشرنا إلى سمات الصحافة المثيرة بوجه عام، والصحافة الصفراء بوجه خاص، والمهم أن نقول بعد ذلك إلى إن الدول الحديثة انقسمت بشأن هذا المذاهب الثلاثة؛ فالصحافة الأمريكية تميل إلى الإثارة، والشعب الأمريكيّ يقف وراء المجرم، والصحافة السوفيتية تأتمر بأوامر الحزب الواحد، ولا تبدي أي اهتمام بالجريمة وأخبارها، والصحافة المصرية تقف بين بين، وتؤثر الاتجاه الثالث من اتجاهات نشر الخبر، وإن كان ذلك لم يمنع من وجود صحف مثيرة إلى الوقت الذي صدر فيه قانون تنظيم الصحافة 24 مايو 1960.
ولنضرب لك مثلًا بأخبار الجريمة في الصحافة المصرية:
الصحافة المصرية وخبر السفاح:
كان من أوضح الأمثلة على اتجاه الصحافة المصرية إلى الإثارة، ذلك الخبر المشهور بخبر السفاح الشقيّ "محمود سليمان".
وهو شقيٌّ من أشقياء مصر، ظهر فجأةً، وهدد الناس في أموالهم وحياتهم، وتعبت الشرطة في مطاردة هذا الشقيّ زمنًا طويلًا، لا يقل عن شهرٍ تقريبًا، وأتاح ذلك أثمن الفرص للصحافة لكي تخلق من هذا الشقيِّ في أول الأمر بطلًا يلعب بخيال الشعب، ولعبت الصحافة المصرية في هذه الحادثة دورًا يتلخص في المراحل الآتية:
الأولى: اتسمت الصحافة المصرية فيها بالمبالغة في وصف الحادث، واستغلال الموضوع لإثارة القارئ.
الثانية: تسابقت الصحف في نشر صورة المجرم في مكان ظاهر بالجريدة، ونوهت الصحف كذلك بالمكافآة التي رصدتها وزارة الداخلية لمن يقبض عليه، ثم اختفت من الصحف بعض العنوانات المثيرة والقصص المخترعة، وحل محل ذلك اتجاه جديد للكشف عن حقيقة المجرم، ومساعدة الشرطة في القبض عليه بأقرب وقت ممكن، وكل ذلك كان بوحي من وزارة الداخلية وتوجيه منها.
الثالثة: قُضِيَ على المجرم في التاسع من شهر إبريل سنة 1960؛ وإذ ذاك عنيت الصحف بنشر صورة المجرم، وقد مزقت جسده رصاصات الشرطة، وبدا رجالها يسحبون هذه الجثة، أو يسحلونها على الأرض كما تسحل جثث الكلاب، حتى أثار ذلك غضب الرأي العام المصريّ على هذه الوحشية.
وبالموازنة بين مختلف الصحف المصرية في طرق نشرها لهذا الخبر اتضح ما يلي:
1-
أن الأخبار كانت أكثر الصحف إثارةً، وإن لم تكن أكثر من بقية الصحف اهتمامًا بمتابعة الخبر من حيث هو.
2-
أن الصحف الثلاث: وهي الأخبار، والأهرام، والجمهورية، شغلت الناس بهذه القصة الإخبارية عن مشكلاتٍ كانت تستحق الاهتمام، ولكنها ضاعت في زحام أخبار السفاح.
3-
كان نشر جريدة الأخبار عن هذه القصة الإخبارية في صالح السفاح في البداية، فقد خلق هذا النشر جوًّا من العطف عليه بين الناس، حين صورته الصحافة على أنه إنسان يحاول أن يثأر لشرفه، وأنه يسرق إلّا منازل الأثرياء انتقامًا منهم للفقراء، وأنه مواطن رياضيّ وذكيّ للغاية.
4-
كفت الصحف عن نشر أخبار المطاردة بناءً على طلب وزارة الداخلية، وكانت الأهرام أكثر الصحف التزامًا بهذه التوجيهات.
5-
وأخيرًا تحولت الصحف عن طريقتها إلى تصوير السفاح على أنه مجرم خطير لا ينبغي التستر عليه، ولكن ذلك جاء متأخرًا، خصوصًا وأن الناس يعبدون البطولة في صورتها الشعبية، ويحملون كراهيةً دفينةً لرجال الأمن.