المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عمود الموضوعات الإنسانية: - المدخل في فن التحرير الصحفي

[عبد اللطيف محمود حمزة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌تقديم:

- ‌من مؤلفات أستاذنا الدكتور عبد اللطيف حمزة وبحوثه:

- ‌هذا الكتاب:

- ‌الكتاب الأول: الرأي العام

- ‌الصحافة والرأي العام:

- ‌تعريف الرأي العام:

- ‌الفرق بين الرأي والسخط والعام والاتجاه العام

- ‌أنواع الرأي العام:

- ‌دور الصحافة في تكوين الرأي العام:

- ‌القانون والرأي العام:

- ‌الرقابة على الصحف:

- ‌نشأة الرأي العام في مصر:

- ‌مصادر الكتاب الأول:

- ‌الكتاب الثاني: فن الخبر

- ‌نشأة الخبر وأهميته

- ‌تعريف الخبر:

- ‌في سبيل الحصول على الخبر:

- ‌تقويم الخبر:

- ‌مذاهب نشر الخبر:

- ‌قوالب صياغة الخبر:

- ‌الحوادث الداخلية أو المحلية:

- ‌الأخبار الخارجية:

- ‌طبيعة اللغة التي يكتب بها الخبر:

- ‌تحرير العنوان

- ‌التعليق على الخبر:

- ‌الطرائف المتصلة بالخبر:

- ‌الخبر والمجتمع:

- ‌الأخبار من الزاوية الأخلاقية، وزاوية

- ‌الذوق الصحفيّ والخبر:

- ‌مصادر الكتاب الثاني:

- ‌الكتاب الثالث: فن المقال

- ‌فنون المقال

- ‌المقال القصصيُّ:

- ‌مقال الاعترافات:

- ‌المقال الكاريكاتوري:

- ‌مقال الخواطر والتأملات:

- ‌المقال العلمي:

- ‌المقال الصحفيّ:

- ‌المقال الافتتاحي:

- ‌العمود الصحفي:

- ‌عمود الموضوعات الإنسانية:

- ‌عمود الرياضة والفنون:

- ‌الحملة الصحفية:

- ‌الحيل الصحفية أو الصراع بين الصحيفة والرقيب:

- ‌الكتاب الرابع: فن التقرير

- ‌المجلة

- ‌المقال في المجلة:

- ‌القصة في المجلة:

- ‌وظيفة التقرير الصحفيّ وأهميته:

- ‌فن الحديث الصحفيّ وأنواعه:

- ‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

- ‌التحقيق الصحفي وأنواعه وقواليه

- ‌مصادر التحقيق الصحفيّ، ونموذج له:

- ‌الماجريات وطريقة تحريرها:

- ‌الماجريات البرلمانية:

- ‌الماجريات القضائية:

- ‌الماجريات الدبلوماسية:

- ‌الماجريات الدولية:

- ‌تحرير الصورة والإعلان:

- ‌مصادر الكتاب الرابع:

- ‌الخاتمة: مستقبل التحرير الصحفيّ في مصر

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌عمود الموضوعات الإنسانية:

‌عمود الموضوعات الإنسانية:

نعني بالموضوعات الإنسانية جميع الموضوعات التي يخاطب فيها الكاتب إحساس القراء، ويهدف إلى إمتاعهم من الناحية الشعورية البحتة، وإحساسات القراء لا حصر لها في الواقع، وهي في الوقت نفسه تختلف بين فرد وفرد، كما تختلف بين حالة وحالة عند الفرد.

فشابٌّ ضيق الدخل، ذو أسرة كثيرة العيال، قد يثير فيك من الإحساسات ما يثيره الشيخ الهرم، أو المرأة العجوز التي مات زوجها وأولادها منذ زمنٍ بعيدٍ، وبائع متجول لفحت وجهه الشمس، وعليه ثياب ممزقة، وصوته قد بُحَّ في الإعلان عن بضاعته اليسيرة، قد يحرك فيك من الشعور ما يحركه منظر اليتيم في يوم عيد، وهكذا.

ونعنى بالموضوعات الإنسانية أيضًا، جميع الموضوعات التي يخاطب فيها الكاتب عقول قرائه، والناس في هذا العصر لا يجدون لهم غنًى عن المتع العقلية البحتة، يلتمسونها من أي طريق، وما دام طابع العصر هو السرعة، فلا ينتظر من أكثر القراء أن يلتمسوا هذه المتع العقلية الخالصة في الكتب، ولكنهم مضطرون في معظم الأحيان إلى التماسها في الصحف.

من أجل ذلك، نرى الصحف كثيرًا ما تَمُدُّ القارئ بأعمدة تخاطب فيها عقله، وربما كانت هذه الأعمدة خلاصةً طيبةً لمقالٍ قرأه الكاتب، أو لبحث فلسفيٍّ أوحى إليه بكتابة العمود الإنسانيّ.

ومن هذا القبيل كثير من الأعمدة التي كان يكتبها "على أمين" بصحيفة

ص: 349

"الأخبار" تحت عنوان: "فكرة"، ومنها كذلك بعض الأعمدة التي يكتبها "محمد زكي عبد القادر" في نفس الصحيفة تحت عنوان:"نحو النور".

أما الصحف الأجنبية -أمريكية أم أوروبية- فحافلة بهذا اللون من الأعمدة، والذي لا ريب فيه أن هذا الصحف الأجنبية تَقَدَّمَتْنَا أشواطًا بعيدة في هذا السبيل.

ولئن كانت الأعمدة الإنسانية العاطفية تعتمد على غزارة العواطف عند الكاتب، وعلى ثروته في المشاعر، فإن الموضوعات الإنسانية العقلية تعتمد على قدرة الكاتب على التأمل في سلوك الناس، والمهارة في تحليل هذا السلوك تحليلًا فطريًّا حينًا، ومبنيًّا على قواعد علم النفس الحديث حينًا آخر.

وما أشبه المحرر الصحفيُّ في الحالة الأولى بالأديب، وما أشبه المحرر الصحفيُّ في الحالة الثانية بالفيلسوف، وما أشد حاجته في الحالتين معًا إلى قوة البيان، وجمال الأسلوب، وحلاوة التعبير، والقدرة الصحيحة على ربط هذه الإحساسات أو التأملات بعضها ببعض؛ ليخرج منها مادةً إنسانيةً تريح النفس، وتلذ العقل، وتغذي الوجدان.

من أجل هذا، كانت الأعمدة الإنسانية أقرب المود الصحفية كلها على الإطلاق إلى محيط الأدب، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها أدب خالص، له من القيم الفنية ما يصبح به خليقًا باسم الأدب الخالص، ونحن نعلم أن هذه القيم الفنية إنما تتلخص في ثلاثة أشياء، وهي:

عمق التفكير، وغزارة الشعور، وجمال التعبير، وقد رأينا كيف يمكن أن تتوافر هذه الأشياء كلها في الموضوع الإنسانيّ.

ومن ثَمَّ وجب أن يكون كاتب هذه الموضوعات أديبًا ممتازًا، وإن كان

ص: 350

الأدب وحده لا يكفي، ما لم تسنده التجارب الذاتية الكثيرة، والمعرفة الإنسانية العميقة، والاطلاع الواسع على الكتب والمجلات، والقدرة على التأمل في سلوك الأفراد والجماعات.

وقد تقول: وما الفرق بين العمود الإنسانيّ، والمقال الأدبيّ الذي مَرَّ ذكره في الفصول السابقة؟

والجواب على ذلك: أن هناك فرقًا مبدئيًّا بين هاتين المادتين من مواد الصحف من حيث الطول: فالمقال الأدبيّ طويلٌ إلى حدِّ أنه يعتبر فصلًا كاملًا من أي كتاب، أما العمود فيشترط فيه أن يكون قصيرًا ما استطاع الكاتب إلى ذلك سبيلًا.

وهناك فرق بينهما كذلك من حيث الشمول: فالمقال الأدبيّ، إنما تقصد به في الواقع طبقة معينة من القراء، هي الطبقة التي تفهم الأدب، وتعرف شيئًا عن صوره، ووسائله في التعبير، أما العمود الإنسانيّ، فإنه موجه إلى عدد أشمل من الناس، ويستطيع أكثر القراء تتبع العمود الإنسانيّ دون حاجةٍ منهم إلى معرفة الأدب، أو الوسائل التي يؤدي بها الأديب ما أراد.

وقد تقول: وما الفرق بين العمود الإنسانيّ، والتقرير أو "الريبورتاج؟ " والجواب على ذلك، كما يقول الأستاذ "كارل وارين" في كتابه "كيف تصبح صحفيًّا"1:

"أن التقرير -أو الريبورتاج- هو معلومات جديدة تتناول

1 راجع الترجمة العربية للكتاب، بقلم عبد الحميد سرايا ص124و 125.

ص: 351

أشخاصًا أو أشياء، أو حوادث لها مغزًى معين، والغاية منه أولًا -وقبل كل شيء- نقل المعلومات إلى القارئ، أما الموضوع الإنسانيُّ فيهدف إلى إمتاع القارئ برواية مكتوبة؛ ممثلوها حقيقيون، ومواقفها الإنسانية حقيقية، وهدفها الوحيد إثارة إحساساته، ومع هذا وذاك، فليس ثمة خط واضح يفصل تمامًا بين الموضوع الإنسانيّ والريبورتاج، فحدودهما تختلط كما تختلط حدود الألوان في قوس قزح".

أما موضوعات العمود الإنسانيّ فكثيرة، ولا نستطيع لها حصرًا في الحقيقة، فالأطفال، والشبان، والنساء، والشيوخ، والحيوان الأليف؛ كالقطة، والحيوان المسلي كالقرد، والأشجار، والأمكنة التي ارتبطت في الأذهان ببعض الأحداث، والمحكوم عليه بالإعدام، والتاجر، ورجل الأعمال، والسجين، والوزير، والطبيب، والأستاذ، والفلاح والشهيد في موقعة من مواقع القتال، والقائد في الموقعة، والزعيم في المنفى، كل هذه موضوعات صالحة للعمود الإنسانيّ الذي تنشره الصحيفة.

غير أن النوع العاطفيّ الخالص من هذه الموضوعات يكثر في الصحافة عند اشتداد الأزمات القومية التي تمر بالبلاد، ومنها أزمات الحروب التي تقوم بها العصابات، وجيوش التحرير الوطنيّ في أي بلدٍ كان، ومنها كذلك أوقات الأمراض الفتاكة، كالكوليرا، والطاعون، ونحوهما، ومنها الأزمات الاقتصادية الحادة، والحوادث الكبيرة المفزعة، كحادثة زلزال، أو بركان، أو سيل من السيول الجارفة، ونحو ذلك، وكل هذه الموضوعات تصلح لأن تكون مادةً للعمود الإنسانيّ، كما تصلح في الوقت نفسه أن تكون مادة للتقرير الصحفيّ أو "الريبورتاج".

وإن تنس مصر لا تنسى تلك الأعمدة الفياضة بالمشاعر والوجدانات

ص: 352

مما ظهر في الصحف المصرية على أثر المواقع التي اشتبك فيها الفدائيون المصريون بالجنود الإنجليز عند مدينة الإسماعيلية، وذلك في غضون سنة 1951، وفي هذه المواقع الحربية سقط في ميدان الشرف كثيرون من شباب الجامعات المصرية، ورثت الصحافة هؤلاء الشهداء رثاءً أثارَ أعمق العواطف الإنسانية في قلوب القراء.

وهكذا كانت "قناة السويس"منذ نشأتها إلى اليوم مدعاةً لأزماتٍ قويةٍ هزت الشعور المصريّ هزًّا قويًّا، وكان من نتيجة ذلك أن أفاض الشعراء والكتاب ورجال الصحف على اختلافهم في الكتابة في هذا الموضوع بين حين وحين، ولو ذهبت تجمع هذا النتاج الأدبيّ الصحفيّ العظيم، لتألف لك منه ما يمكن أن تطلق عليه اسم "أدب القناة"، وهو جزء من الأدب المصريّ المعاصر، عليه طابع الحزن الذي نجد مثله في جزء من الأدب العربيّ، هو الأدب الشيعي، الذي يدور في معظمه حول حادثة مشهورة في التاريخ الإسلاميّ، هي حادثة مقتل "الحسين بن عليّ".

وإلى القارئ مثلًا واحدًا فقط من أمثلة الأدب الذي اصطلحنا على تسميته: "أدب القناة"، وهو هنا عمود من أعمدة الموضوعات الإنسانية التي حفلت بها الصحف المصرية إذ ذاك، ومنها صحيفة "الزمان"، وقد نشرت هذه الصحيفة مقالًا بعنوان:

إلى البطل الشهيد عادل محمد غانم:

قالت في أوله:

"استشهد فجر أمس "30/ 12/ 1951" المجاهد عادل محمد غانم، الطالب بكلية الطب بجامعة إبراهيم -عين شمس الآن- فكان أول جامعيٍّ سقط في ميدان الشرف.

ثم وجه الكاتب تحيته لهذا الشهيد الكريم، فقال:

ص: 353

"كنت بين زملائك في الجامعة ملء العيون، وبين أهلك وأصدقائك ملء القلوب، وكان هدفك أن تتمتع بالشباب النضير، والربيع الضاحك، والأمل الحلو، وتمتع أهلك بما تنال من فرحة النجاح، وبهجة العرس، وجاه المنصب، ثم هتفت مصر تناديك فلبيت، وأبليت، وضحيت!

يا لك من شابٍّ سخيّ البذل، كريم النفس، عظيم الهمة، ألم تهزمك دموع أمك وهي تودعك؟ ألم تغلبك عواطف أبيك وهو يشيعك؟ ألم تستمع إلى نداء المستقبل الذي كافحت من أجله في الدرس؟ ولا إلى الشباب الذي يفتح لأمثالك نوافذ الأمل والمتعة والحرص؟ ولا إلى صوت أصدقائك الذي نعمت بمحبتهم، ونعموا بمحبتك؟

ودعت كل ذلك، وكل ما فوق ذلك، وضحيت بالمستقبل الذي كان ينتظرك، والأمل الذي كان يراودك، وأسرعت نحو أمك الكبرى تلبي نداءها، وتجيب دعاءها، كأن صوتها لحنٌ سماويٌّ ملك عليك كل مشاعرك، وأنساك كل شيء إلّا أمل مصر، وحق مصر، وصوت مصر!

يا لك من شابٍّ سخيٍّ كريمٍ! في الوقت الذي تعاني فيه مصر ضغطًا متصلًا من أوروبا، ونقصًا أكرهت عليه في السلاح، تندفع أنت كالشعلة تفيض بالضوء والحرارة، وتؤدي ضريبة الدم زكيةً سخيةً، لتروي بها شجرة الحرية، فلا الظلام أعماك عن الهدف، ولا التثبيط أقعدك عن الكفاح، ولا الخوف حال بينك وبين التضحية!

لقد أضفت إلى قائمة الشهداء في معركة التحرير اسمًا لامعًا، سوف لا تنساه مصر، وكتبت بدمائك الطاهرة صفحةً خالدةً في سجل الكفاح الوطنيّ ستذكرها مصر، وقدمت بروحك الغالية وثيقة الثقة بين مصر وشباب مصر!

وسوف تثمر هذه الدماء التي تتخضب بها أرض القناة ثمرتها المرجوة

ص: 354

إن شاء الله، ما دامت مصر تجد من بنيها رجالًا مثلك، ينسون في سبيلها نفوسهم، ويضحون من أجل حياتها بحياتهم!

فلتطمئن نفسك، ولتهنأ روحك، فإن جهادك لن يضيع، وتضحيتك لن تنسى، ووطنك لن يموت!

وتقبل من قلوب أهلك، وأصدقائك، وزملائك، وبني مصر جميعًا باقةً خالدةً مخضلةً بالدموع"! إدجار جلاد.

وعندي أن هذه القطعة الأدبية، أو العمود الصحفيّ الإنسانيّ من أروع ما خلفة الصحفيون والأدباء، كُتَّابًا، وخطباء، وشعراء، وهو -على كونه عمودًا صحفيًّا بحتًا- له من الصفات الفنية، والقيم الجمالية ما يجعله خالدًا خلود القطع الأدبية التي تركها لنا هؤلاء القدامى.

أما النوع الثاني من أنواع الموضوعات الإنسانية، وهو النوع الذي يخاطب فيه الكاتب عقول القراء بدلًا من عواطفهم، فالأمثلة عليه كثيرة من الصحف المصرية منذ نشأتها، وتذكرنا هذه الموضوعات بما كانت تفعله صحيفة "المؤيد" لصاحبها "السيد على يوسف"، فقد كانت تنشر بين حينٍ وآخر موضوعات إنسانية تستعيرها من بعض الكتاب الأمريكيين، ومنهم الكتاب المشهور باسم:"آرثر بريز باين".

وكان هذا الكاتب يبعث بأعمدته إلى إحدى مجلات المؤسسة الأمريكية المعروفة باسم: "هرست"، فكانت تلقى رواجًا كبيرًا جدًّا في بلاد أمريكا، وذلك على الرغم من أنها لم تكن تتصل بأمور السياسة، وكان من المعجبين بهذه الأعمدة الإنسانية العقلية -أيما إعجاب- شابٌّ شرقيٌّ اسمه:"سليم" كان مقيمًا بأمريكا، وكان يصدر بها مجلة باللغة العربية، واشتهت نفس "سليم" هذا أن يحظى بلقاء الكاتب الأمريكيّ الكبير في مكتبه، ويشهد

ص: 355

بنفسه كيف يكتب عمود الصحفيّ عادةً، ونجح سليم في ذلك على الرغم من أن مقابلة هذا الكاتب الأمريكيّ كان أعسر على طالبها من مقابلة رئيس الجمهورية نفسه، وإذا ذاك سأله سليم قائلًا: كيف تكتب العمود دائمًا؟

قال الراجل: أقضي نهاري في مراقبة الناس وأحوالهم، ومطالعة أفضل المؤلفات، فمتى اختمر المعنى الذي اخترته موضوعًا للعمود في عقلي، أتيت غرفتي هذه، وكتبت موضوعي على الآلة الكاتبة بيدي1.

ونريد أن نستميح القارئ الشرقي عذرًا في إيراد مَثَلٍ واحد من أمثلة العمود العقليّ الإنسانيّ الذي كان يكتبه ذلك الكاتب الأمريكيّ، وهو العمود الذي نشرته صحيفة "المؤبد" بعنوان:

الماحوث والناموس:

لقد تعلم أيها القارئ أن الماموث حيوان مفترس في غاية الضخامة، وأنه انقرض الآن، فلم تبق إلّا ذكره، وأما الناموس الصغير فلا يزال موجودًا بكثرة، وأنه يزداد ويحصى بملايين الملايين.

ولم نعلم إلّا أخيرًا أن الناموس هو الذي ينشر حمى الملاريا، وينقل الحمى الصفراء، وغيرهما من الأمراض، وقد استطاع الإنسان مع ضعفه الأول، وأطواره الأولى أن يتخلص من الماموث، ومن سائر الحيوانات الضخمة، ولكنه لا يزال حتى الآن عاجزًا عن إبادة الناموس على الرغم من صغر حجمه، وعلى الرغم من أنه أشد الهوام المنظورة أذًى وضررًا.

1 انظر "أدب المقالة الصحفية في مصر "الجزء الرابع، للمؤلف، ص92 و 93.

ص: 356

أفلا ينتج عن هذا أن العمل الصغير التافة هو أشد ما يعترض الجنس البشريّ كله، وأن العقل يقوى على حلِّ أعظم المسائل وأشدها تعقيدًا وضخامةً، ولكنه يعجز عن مقاومة المشكلات الصغيرة التافهة؟

نعم، سنتمكن في آخر الأمر من إبادة الناموس، والذباب، وسائر الهوام الجالية للأمراض، وإذ ذاك نبدأ عراكًا من نوعٍ آخر نقاتل فيه الميكروبات، والجراثيم، والأشياء غير المنظورة، ونقاتل فيه ميكروبات الأمراض التي كان الناموس ينقلها، ويوصل أذاها إلينا، وهو عراك عنيف طويل، لا بد لنا من الفوز فيه بطريقةٍ أو بأخرى.

ولكن العبرة التي أسوق إليها القارئ من كل ذلك، هي أن الإنسان يجد مثل هذا العناء في المعارك الخلقية، والمعنوية التي تصادفه في حياته، فأصغر الأعداء فيها يحتاج إلى وقت طويل، وصبر أطول بما يحتاج إليه الإنسان في التغلب على أعظم الأعداء، وأقوى الأقوياء.

إنني أعتقد أننا لا نزال في دور الهمجية من حيث الأخلاق، والمعنويات، فنحن لا نزال نحارب جرائم القتل، وإحراق البيوت والزرع، ونحارب السرقة، وغيرها من الجرائم الكبيرة والعيوب الضخمة، وكما كان ساكن الكهوف يحارب الماموث، فنحن الآن نحارب هذه الوحوش الأخلاقية الشرسة الضخمة، وستزول هذه الوحوش الأخلاقية يومًا ما، وتتلاشى من الوجود، فلايرتكب الناس القتل، ولا يقترفون السرقة؛ إذ لا تكون هناك حاجة يومئذ إلى القتل، أو إلى السرقة متى أعيد تنظيم المجتمع على أسس أخرى!

عند ذلك فقط، نعود إلى محاربة المتاعب الخلقية والمعنوية الصغرى من حيث الإثم، والكبرى من حيث الخطر والفتك بالجنس البشرىّ، ونريد بهذه المتاعب الكثيرة، أو المخلوقات المعنوية الدقيقة: الرياء، والغطرسة، والأنانية، وحب الذات، وانعدام الرغبة في الإحسان،

ص: 357

وأشباه ذلك من العيوب الأخلاقية والاجتماعية التي تشبه الناموس والهوام، في عالم المعاني والأخلاق1.

وهكذا نرى أن عمود الموضوعات الإنسانية لا يكاد يختلف كثيرًا عن المقال الأدبيّ، بل هو عبارة في الواقع عن مقال أدبيٍّ صغير، يشترط فيه أن يدور حول فكرة واحدة فقط، لا يعدوها إلى غيره من الأفكار الأخرى، كما يشترط فيه أيضًا أن يكون أدنى إلى الإيجاز في اللفظ، ذلك أن المساحة التي يشغلها العمود في الصحيفة أقل بكثير من المساحة التي يشغلها المقال الأدبيّ أو العلميّ أو الصحفيّ.

وثَمَّ فرق آخر بين العمود والمقال، هو أن الأخير لا غنى له في أكثر الأحيان عن الأمثلة والشواهد التي يأتي بها الكاتب لتقوية كلامه، والدفاع عن قضيته، في حين أن العمود لا يحتاج إلى شيء من ذلك إلّا في القليل النادر.

1 راجع صحيفة المؤيد العد 5203 بتاريخ 3 يونيه سنة 1907، وقد نقلنا عنها هذا المقال بشيء من التصرف.

ص: 358

‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

أن يبدأ استقصائي الأحوال في مراكش بهذا الجانب من الأنباء، وقررت تأدية الصلاة في حضرة السلطان.. وكانت الساعة الثانية عشرة قد انتصفت فيممت شطر المسجد الواقع مقابل القصر، ودلفت إليه، فلم أجد به إلّا قليلًا جدًّا من العاكفين على قراءة القرآن، فاستميزت بينهم واحدًا قعدت إلى جانبه بعد أن صليت ركعتين تحيةً للمسجد، فسمعته يرتل القرآن ويقرؤه بالقراءات السبع.

ودهشت إذ فاتت الساعة الثانية عشرة دون أن يزيد عدد الحاضرين بالمسجد إلّا قليلًا، وعلمت بعد ذلك أن ساعة الزوال في الرباط إنما هي الساعة الواحدة بعد الظهر!!

فظللت أشاهد الوافدين، والمتوضئين الحاملين معهم "سجاجيدهم". الصغيرة، وغير الحاملين، وأستمع للمرتلين القرآن علانيةً حتى الساعة الواحدة بعد الظهر، وأنا أغيِّر مواضع الساقين مني، تلمسًا للراحة في هذا الجلوس الطويل..

وعزفت الموسيقي، وتقدم فرسان الحرس ومشاته، وتحرك الركب السلطانيّ من القصر متجهًا إلى المسجد، ووقفت العربة السلطانية أمام نيابة الصغير، فدخل منه السلطان إلى مقصورته الخشبية.

وأذن المؤذن في الخارج، ودعا الداعي إلى الإنصات في الداخل، وألقى الخطيب الخطبة، ودعا فيها للخليفة محمد الخامس بالنصر والتأييد، وقامت الصلاة، ثم خرج رجال القصر، والوزراء، واصطفوا أمام المسجد تحيةً للسلطان؛ إذ يخرج ويمتطى هذه المرة جواده، ويعود إلى قصره، فأسرعت في الخروج واستطعت أن أقف إلى جانبه، وأحيي السلطان تحيته، فعرفني جلالته، وقد سبق أن حظيت بالمثول بين يديه منذ خمس سنين، وتفضل جلالته عليَّ بالسلام، فسجلت بهذا حضوري.

ص: 357