الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غير أن "إيدن" ومعه "موليه" رئيس الوزارة الفرنسية، و"بن جوريون" رئيس الوزارة الإسرائيلية، دبروا أمرهم بليل، واتفقوا في مؤامرةٍ تجاهلوا فيها الرأي العام، وتغفلوا هذا الرأي، واعتدوا جميعًا على مصر.
واستنكر الرأي العالميّ هذا الاعتداء، ولولا هذا الاستنكار الصارخ، ولولا مقاومة الشعب المصريّ الباسل، ولولا الإنذار الروسيّ للحكومات الثلاث التي اعتدت على مصر، نشبت الحرب العالمية الثالثة، ولأصبح مركز هذه الحرب منطقة الشرق الأوسط، ولا يدري إلّا الله نتيجة ذلك على الحضارة الإسلامية والشعوب الشرقية والغربية.
"2"
تعريف الرأي العام:
من أجل هذا وجب علينا أولّا أن نعرف المقصود تمامًا بكلمة الرأي العام عند إطلاقها، ما دامت الصلة وثيقة بينه وبين الصحافة على هذا النحو: عرفه الأستاذ "كلاريد كنج" في مقدمة كتابه: "قرارات في الرأي العام "فقال: "إنه الحكم الذي تصل إليه الجماعة في مسألة ذات بال، وذلك بعد مناقشات علنية ومستوفاة".
وعرفه الأستاذ "جيمس برايس" في كتابه: "الديمقراطيات الحديثة" فقال: "إنه اصطلاح يستخدم للتعبير عن مجموع الآراء التي يدين بها الناس، بإزاء المسائل التي تؤثر في مصالحهم العامة، والخاصة".
وعرفه الأستاذ "ألبورت ALPORT" فقال: "إنه تعبير صدر عن مجموعة كبيرة من الناس عما يرونه في مسألة ما، أو اقتراح واسع النطاق، بحيث يمكن استدعاؤهم لهذا التعبير سواء أكانوا
مؤيدين للفكرة أم معارضين لها، وبحيث تكون نسبتهم العددية كافية لإحداث تأثير ما بطريق مباشر، أو غير مباشر".
وعرفه الأستاذ "ألبج" ALBIG فقال: "إنه ثمرة تفاعل الأفكار في أيِّ وضعٍ من أوضاع الجماعة التي تصدر عنها هذه الأفكار".
فهذه تعريفات أربعة من عشرات التعريفات التي صدرت عن علماء النفس والاجتماع والصحافة، وكلها توضح الدور الخطير الذي يلعبه الرأي العام في حياة الأفراد والمجتمعات، وإن كان بعضها يقلل إلى حد ما من أهمية الدور الذي يقوم به أفراد قليلون في الأمة؛ هم المجددون ذوو الأفكار التقدمية فيها، فبمقدار ما تكون أفكارهم جديدة على المجتمع، يكون الأمل قليلًا في نجاحهم أول الأمر، إلّا أنهم إذ يوطنون أنفسهم على الكفاح والصبر، يستطيعون النجاح في نهاية الشوط.
ولكن ماذا يؤخذ من التعريفات السابقة على وجه الإجمال فوق ما ذكرناه حتى الآن؟ يؤخذ منها ما يلي:
أولًا: إن الرأي العام هو الاتجاه الذي تتخذه الجماعة في مسألةٍ بعينها، بعد بحث هذه المسألة من جميع وجوهها بحثًا علنيًّا بطريق الصحافة، أو بطريق الخطابة، أو بطريق الإذاعة، أو بغير ذلك من وسائل الإعلام.
ثانيًا: إن الرأي العام بالمعنى الصحيح لهذه المشكلة، لا يشترط فيه أن يكون رد فعلٍ للتقاليد والعادات التي عليها الأمة، وإنما هو نتيجة تفكير سليم في المصلحة التي تعود على المجموع، أو هو محاولة في بعض الأحيان للتوفيق بين هذه المصلحة من جهة، ومجموعة التقاليد والعادات التي عليها الأمة من جهة ثانيةٍ، بل إنه إذا أريد التحرر أحيانًا من سلطان العادات والتقاليد، فإنه لا سبيل للمجتمع في هذه الحالة إلّا بالرأي العام؛ لأنه وحده القادر على إحداث التحرر الذي تطلبه المجموعة التي تصبو إلى التحرر.
ثالثا: أن الرأي العام استنادًا إلى النقطة السابقة لا ينبغي أن يكون ثمرة اندفاع عاطفيٍّ في المجتمع، ولا ينبغي أن يكون نتيجةً لتغلب طائفةٍ بعينها، ذات مصلحة خاصة من طوائف المجتمع، وليس من الضروريّ -كما قلنا- أن يكون مرتبطًا كل الارتباط بميراث الأمة من تقاليد وعادات ونحوهما.
ولنضرب المثل هنا بالحركة التي قام بها المرحوم قاسم أمين، باسم:"تحرير المرأة" فقد كان المصريون في القرن الماضي لا يعترفون بالسفور، ولا بحق المرأة في الاشتغال بالأعمال العامة، ولا بحقِّ المرأة حتى في التعليم، فجاء قاسم أمين وأخذ ينشر مقالاته التحررية في جريدة "المؤيد"، وهاج الرأي العام في مصر، وتضاربت الآراء في هذا الشأن، وتعرض الكاتب نفسه لكثير من السخط والسخرية من جانب الشعب، وأخيرًا وبعد لأي أمكن لهذا الرأي أن يؤثر في نفوس الكثرة من المصريين الذين آمنوا بحقِّ المرأة في السفور وفي التعليم.
وهكذا استطاعت الصحافة بطريق الرأي العام أن تزعزع أركان رأي قديمٍ، كاد يصل في نفوس المصريين إلى حد التقديس، وأن تهدم عقيدةً من العقائد الاجتماعية التي وصلها المصريون بالدين الحنيف، بل هكذا جاءت الصحافة بالدليل القاطع على أن الرأي العام هو وحده القادر على تغيير النزعات العامة، وزعزعة العقائد الموروثة، ومحابة الآراء القديمة لتحلَّ محلها الآراء الحديثة.
رابعًا: إن التعبير عن الرأي العام لا يكون إلّا في جوٍّ من الحرية التامة، أما في ظل النظام الدكتاتوريّ، فإنه يتعذر على الرأي العام تحت ضغط من الحكام أن يقوم بهذا التعبير، إلّا بطريقة سرية، كثيرًا ما تكون أخطر على الحكومة الدكتاتورية من ألد أعدائها، وشر خصومها، وأخطر معارضيها.
فمنذ تطلعت الشعوب إلى التمتع بحريتها، لم تجد الصحافة ضمانًا قويًّا لبقاء هذه الحرية، ومن هنا بدأت العناية بأمر الصحف، والفضل في ذلك يرجع لأولئك الأبطال الذين استخدموا أقلامهم الحرة في الدفاع عن الحرية