الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقال الكاريكاتوري:
ربما كان "الجاحظ" أول كاتب إسلاميٍّ عالج فن "الكاريكاتور" في تاريخ النثر العربيِّ، ولقد ترك لنا الجاحظ أعظم رسالةٍ أدبيةٍ كتبت في هذا الفن، ولعلها أعظم رسالةٍ إلى اليوم، فنحن لا نعلم لها نظيرًا فيما كتبه أهل هذا الفن -سواء في الأدب أو في الصحافة- حتى اليوم.
وموضوع رسالة الجاحظ هو السخرية من كاتب من كتاب الديوان اسمه "احمد بن عبد الوهاب" كتب فيه الجاحظ رسالة أربت على خمسين صفحة من القطع الكبير، وتفنن فيها الكاتب ألوانًا كثيرة جدًّا من التفنن في السخرية والنقد.
ولا يتسع المقام لذكر شيء عن هذه الرسالة التي كتبها الجاحظ1، وإن كنا نعتقد أن هذا الكاتب العباسيّ الكبير -يعتبر بحق- واضعًا لأساس الكاريكاتور في الأدب العربيِّ.
ومنذ ظهرت الصحافة الشعبية في مصر، في النصف الثاني من القرن الماضي، وكانت الصحافة في ذلك الوقت مماثلة للأدب في جمال الأسلوب؛ نبغ من رجال الأدب والصحافة كثيرون؛ من أشهرهم في فن الكاريكاتور إبراهيم المويلحي صاحب:"مصباح الشرق".
وفي ذلك يقول الأستاذ عبد العزيز البشري2: "
…
ولقد كان هذا من مصباح الشرق الأصل الثابت لهذا اللون من النقد
1 راجع كتاب "حكم قراقوش" للمؤلف طه الحلبي، من ص98-102.
2 راجع كتاب "المختار" الجزء لأول للمؤلف، ص221، و "أدب المقالة الصحفية في مصر" للمؤلف جـ 3 ص68 و 95.
أعنى: النقد الكاريكاتوري في مصر، كما كانت صحيفة المويلحيين -يريد المويلحي الكبير والمويلحي الصغير، واسمها:"أبو زيد" أول ما عرف -فيما أعرف أنا- من التصوير الكاريكاتوري في هذه البلاد
…
".
وفي القرن العشرين، وفي المرحلة الرابعة من مراحل الصحافة على سبيل التحديد، وهي المرحلة التي تقع بين عامي 1922 و 1942 ظهر المقال الكاريكاتوري على صفحات الصحف المصرية، ونبغ فيه أدباء وصحفيون، أهمهم ثلاثة رجال هم: الشيخ عبد العزيز البشري، والأستاذ فكرى أباظة، والأستاذ أحمد حافظ عوض، الأول نشر في مجلة السياسة الأسبوعية، والثاني نشر في مجلة الهلال، والثالث نشر في مجلة تدعى "خيال الظل" كان يسخر فيها من أعداء حزب الوفد.
ونريد أن نكتفي هنا بنموذج واحد فقط للبشري بعنوان: زيور باشا1.
أما شكله الخارجيّ، وأوصافه الهندسية، ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية، فذلك كله محتاج في وصفه، وضبط مساحاته، إلى فنٍ دقيقٍ وهندسة بارعة.
الواقع أن زيور باشا رجل -إن صح هذا التعبير- يمتاز عن سائر الناس في كل شيء، ولست أعنى بامتيازه في شكله المهول: طوله، ولا عرضه، ولا بعد مداه، فإن في الناس من هم أبدن منه، وأبعد طولًا، وأوفر لحمًا، إلَّا أن لكل منهم هيكلًا واحدًا، أما صاحبنا، فإذا اطلعت عليه أدركت -لأول وهلةٍ- أنه مؤلف من عدة مخلوقات، لا تدري كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض، ومنها ما يدور حول نفسه، ومنها ما يدور
1 كتاب "المرأة" للبشري، ص7، طبع دار الكتب المصرية سنة 1927، وزيوور باشا هو أحد رؤساء الوزارات المصرية في عام 1927.
حول غيره، ومنها المتيبس المتحجز، ومنها المسترخي المترهل، وعلى كل حالٍ، فقد خرجت هضبة عالية ما لت من شغافها إلى الأمام شعبة طويلة، أطل من فوقها على الوادي رأس فيه عينان زائغتان طلة من يرتقب السقوط إلى قرارة ذلك المهوى السحقيق.
وزيور عند الناس مجموعة متباينة متناقضة متشاكسة، فهو عندهم كريم وبخيل، وهو شجاع ورعديد، وهو ذكيٌّ وغبيٌّ، وهو طيب وخبيث، وهو داهية وغر، وهو عالم وجاهل، وهو عف وشهوان، وهو وطنيٌّ حريص على مصالح البلاد، وهو مستهتر بحقوق وطنه يجود منها بالطارف والتلاد.
كل أولئك زيور، وكل هذا قد يضيفه الناس إلى زيور، فلا تكاد تسعهم مجالسهم بما يأخذهم فيه من الدهشة والاستغراب، وإذا كان مما لا يمكن في الطبيعة أن يستقيم لرجل واحد، فقد غلط الناس إذ حسبوا زيورًا رجلًا واحدًا، والواقع أنه عدة رجال، وعلى الصحيح هو عدة مخلوقات، لا تدري -كما حدثتك- كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض!
فإذا أدهشك التباين في أخلاقه، وراعك هذا التناقض في طباعه، فذلك لأن هذا الجرم العظيم الذي تحسبه شيئًا واحدًا مؤلف في الحقيقة من عدة مناطق، لكل منها شكله وطبعه، وتصوره، وحظه من التربية والتهذيب، فمنها العاقل، ومنها الجاهل، ومنها الحكيم، ومنها الغر، ومنها الكريم، ومنها البخيل، ومنها المصريّ، ومنها الجركسيّ، ومنها الفرنسيّ، ومنها الإنجليزيّ، ومنها المالطيّ، كل منها يجري في مذهبه، ويتصرف في الدائرة الخاصة به، فلا عجب إذا صدر عن تلك المجموعة الزيورية كل ما ترى من ضروب هذه المتناقضات!
والظاهر أن زيور باشا -برغم حرصه على كل هذه الممتلكات الواسعة- عاجز تمام العجز عن إدارتها، وتوليها بالمراقبة والإشراف، وما دامت الإدارة المركزية قد فشلت كل هذا الفشل، فأحرى به أن
يبادر فيعلن إعطاء كل منها الحكم الذاتي، على أن تعمل مستقلة بنفسها على التدرج في سبيل الرقيّ والكمال! وحسب عقله في هذا النظام الجديد أن يتوافر على إدارة رجليه وحدهما، ولعله يستطيع أن يسيرهما في طريق الأمن والسلام.
وإني أورد عليك طائفةً يسيرةً تدلك على ما في هذه المجموعة الغريبة من ضروب المتناقضات التي تجزم منها بأن ذلك الخلق ليس شيئًا واحدًا، وإنما هو في الحقيقة عدة أشياء!
وأن ظلمًا أن يؤخذ البريء بجريمة الآثم، وأن عسفًا أن يعاقب البريء بما أجرم الظالم، فقد يكون الذي اقترف كل هذه الآثام هو كوع زيور باشا الأيسر، أو القسم الأسفل من "لغده"، أو المنطقة الوسطى من فخذه اليمنى، أو غيرهما من تلك الكائنات التي تجمعت في هيكله العظيم!
فما شأن المخلوقات كلها تجر إلى مواطن الاتهام، وتعاقب بما ارتكب بعضها من الجرائر والآثام؟
إن الحق والعدل ليقضيان بأن يؤلف مجلس النواب -إن شاء الله- لجنةً تقوم بعمل التحقيق في جسم صاحب الدولة، فتسأل أعضاءه عضوًا عضوًا، وتحقق مع أشلائه شلوًا شلوًا، حتى يفرق منها بين المحسن والمسيء، ولا يخلط في العقوبة بين المجرم والبريء.
ولعل العضو الوحيد المقطوع ببراءته من كل ما ارتكب من الآثام هو مخ زيور باشا، فما أحسبه شارك، ولا دخل في شيء من كل ما حصل. "انتهى المقال"!
وأنت ترى أن هذا النوع من النقد إنما يقوم في جملته على التماس العيوب الرئيسة في شخص ما، وترك القلم يعرضها عرضًا كاريكاتوريًّا يزيد في تشويهها ما يرد على ذهن الكاتب في أثناء كتابته من ضروب التشبيه،
وما يحضره من فنون التمثيل، ولا يزال الكاتب يتوسع في الموضوع عن طريق التوليد للمعاني من جهة، وإيراد النكت البارعة من جهة ثانية، حتى تستكمل عنده الصورة القلمية الكاريكاتورية كل عناصر الإضحاك والسخرية والتندر بالشخص الذي هو موضوع هذه الصورة بالذات.
والصورة الكاريكاتورية القلمية منذ القدم تتألف من العناصر الآتية، وهي:
أولًا: عنصر التجسيم للعيوب، أو المسخ لصورة الشخص الذي هو موضوع الكاريكاتور.
وكما قلنا تقوم طريقة الكاريكاتور على المبالغة في تصوير العيوب:
فالرجل ذو الأنف الكبير يبدو بريشة الرسام وقلم الكاتب كأن وجهه كله عبارة عن أنف، والرجل القصير يبدو كذلك كأنه أقصر من طفل، والرجل البدين يظهر في شكل من البدانة والضخامة قَلَّ أن يكون له نظير في الحياة الواقعة نفسها، وهكذا.
ثانيًا: عنصر التوليد، وهو ما يتاح للكاتب، ولا يتاح للمصور، وبه يعمد الكاتب إلى توليد المعاني، واستطراد الأفكار، وكل معنًى منها يذكر بآخر، وكل فكرة منها توحي بأخرى، وهكذا حتى يستنفذ الكاتب كل هذه المعاني والأفكار ما استطاع.
ثالثًا: عنصر التندر أو ذكر النكات التي ترد على ذهن الكاتب في أثناء الكتابة، وهنا تظهر براعته في طريقة الإيراد، بحيث تبدو كل واحدة من هذه النكات وكأنها لم تذكر إلّا في هذا الموضع الذي يشير إليه الكاتب بالذات، أو كأنها لم تذكر إلّا من أجل هذا الشخص الذي هو موضع السخرية والتندر.
رابعًا: عنصر التشبيه أو التمثيل، وهو العنصر الذي يستوحي فيه الكاتب خياله، ويستعين به على عملية "المسخ" التي أشرنا إليها، وكثيرًا
ما يتسلق الكاتب في هذه الحالة على كلام القدماء، وأهاجيّ الشعراء، وحكايات العامة، أو نحو ذلك.
وأكثر من هذا وذاك أنك ترى صاحب القلم الكاريكاتور يعتمد في توفير هذا العنصر الأخير من عناصر الصورة على كلام القدماء، وعلى تحويل هذا الكلام من معناه الأصلي الذي وضع له، إلى المعنى الجديد الذي أراده صاحب القلم الكاريكاتوري.
ومن الأمثلة على ذلك، أن الشيخ عبد العزيز البشري في سخريته بزيور باشا، على النحو السابق، استشهد ببيتٍ من أبيات أبي نواس وهو:
وليس على الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
والمعروف أن أبا نواس ذكر هذا البيت من الشعر في معرض المدح لخليفة من خلفاء بني العباس، ولكن البشري ذكر هذا البيت نفسه في معرض التعريض، وإضحاك الناس من شخصية "زيور باشا".
ولا يكاد هذا الفن -وهو فن القلم الكاريكاتوري- ينقسم إلى أكثر من هذه العناصر الأربعة، وهي متى توافرت في مقالٍ ما، بلغ هذا المقال كل ما قصده الكاتب من ورائه، وفي هذه العناصر السابقة، وفي كل عنصر منها على حدة مجال واسع يتنافس فيه الكاتب وأصحاب الأقلام، ويظهر نبوغهم، وتتجلَّى عبقريتهم، إما في نقد الأشخاص، وإما في نقد الأفكار والموضوعات.
وغنيٌّ عن البيان أن المقال الكاريكاتوري لا يزدهر إلّا في أوقات الأمن، واستمتاع الناس بكل أنواع الحريات، فليس من السهل على كاتب هذا النوع من المقال أن يعرض حياته للخطر الذي يصيبه من الشخصية المرموقة التي هي موضوع المقال.
أما في أوقات الظلم والطغيان، وأوقات الرقابة المفروضة على الصحف، فإن الصحافة لا تلجأ إلى القلم الكاريكاتوري بحالٍ من الأحوال، وإنما
تستعيض عنه بالرسم الكاريكاتوري الذي يراه القراء في الصحف، ويفهمون مضمونه ومقصوده، ويكون الرسام والصحيفة مع ذلك بمأمنٍ من بطش الحاكم أو السلطان الذي رسمت من أجله الصورة الساخرة.
ويسيرٌ علينا أن نلاحظ كذلك أن القلم الكاريكاتوري لا يجود إلّا في فترات نهضة الأدب، وكثيرًا ما يكون دليلًا من دلائل هذه النهضة الأدبية في ذاتها، ذلك أن هذا الفن الأدبيّ الرائع في ذاته يحتاج إلى قدرة أدبية من نوعٍ خاصٍّ، كما يحتاج إلى قدر من الذكاء من نوعٍ خاصٍّ أيضًا، ثم لا غنى له مع هذا وذاك عن قدر من الثقافة يعين الكاتب على توفير العناصر الأربعة المتقدمة للقلم الكاريكاتوري.
وأخيرًا لا يستغني صاحب هذا الفن الأدبيّ الرائع عن أن تكون له صفات ذاتية يخف بها كلامه على الناس، ومن هذه الصفات -على سبيل المثال- أن يكون ظريفًا غاية الظرف، وأن يكون خفيف الظل في كتاباته كأحسن ما تكون خفة الظل، وأن يكون في طبعه مرح، وفي أفقه سعة، وفي ذهنه ذخيرة هائلة من التجارب الإنسانية التي خبر بها الناس خبرة جيدة.
وهذه وتلك مواهب تخص بها الطبيعة فريقًا من الناس دون الفريق الآخر، وفي الصحافة المجال الواسع للانتفاع الكامل بهذا الميزات أو المواهب في الإنسان.
كيف يكتب المقال الأدبيّ:
ذهب النقاد إلى أن المقال إنما يتألف من مقدمة وصلب وخاتمة، ففي المقدمة يستَهِلُّ الكاتب كلامه بفكرة عامة، أو خاطرة من الخواطر التي مرت بذهنه، ووقف أمامها متأملًا ومستغرقًا في تأمله، وعلى هذه الفكرة أو الخاطرة يبني الكاتب مقاله، ويأتي بعد ذلك صلب المقال، فإذا هو شرح لهذه الفكرة وتعليق عليها وإيراد لبعض الأمثلة والشواهد.
ولا بد أن تكون هذه الأمثلة مشتقةً من واقع الحياة، أو نابعة من شخصية الكاتب الخاصة، وأخيرًا تأتي الخاتمة، وهي تلخص موضوع المقال وتأتي بنتيجة.
والذي لا ريب فيه أن للمقدمة التي يستهلُّ بها الكاتب مقاله أهميةً بالغةً، فهي التي تجذب القارئ فيمضي في القراءة، وهي التي تصد القارئ فيقف عن القراءة، وهنا يتفاوت البلغاء في العبارات البلاغية التي يستهلون بها مقالاتهم.
وكذلك الشأن فيما يتعلق بالخاتمة، فإنها آخر ما يبقى في ذهن القارئ، ولا بد أن تكون الخاتمة قوية جامعة محكمة في آنٍ واحدٍ.
وهناك طريقة أخرى في تحليل المقال الأدبيّ، وكيف يكتبه الكاتب، وتتلخص هذه الطريقة في تقسيم المقال إلى عنصرين: هما المضمون، والقالب، والقالب بدوره ينقسم إلى قسمين هما: التصميم والأسلوب1.
وقد عرَّفَ "والتر باتر" تصميم المقال في مقالته المعروفة عن الأسلوب فقال:
"التصميم هو ذلك التصور البنائيّ للموضوع الذي يتكهن بالنهاية منذ بدايته، وهو في أي جزء من الأجزاء يلفت إلى الأجزاء الأخرى ويدل عليها، حتى إذا وصل القارئ إلى العبارة الأخيرة اتضح له كنه العبارة الأولى وبرَّرَ وجودها دون أن يحس بأي فتور"2.
والخلاصة: أن التحرير في ذاته هو التفكير والتعبير، فالتفكير هو المضمون أو الفكرة أو الخاطرة، كما تقدم في العبارات السابقة،
1 محمد يوسف نجم: فن المقالة، ص119.
2 محمد يوسف نجم، فصل عن: 399 AA. w. patev: Stgle P. 399
والتعبير هو الأسلوب، أو هو الوعاء الذي يحمل المعنى أو الفكرة أو الخاطرة، وكما أن البيت في بنائه يحتاج إلى مهندس تصميم، ومهندس تنفيذ، فكذلك المقال في إنشائه يحتاج إلى طريقة أو طراز أو أسلوب أو نظام يتبعه الكاتب في هذا الإنشاء.
وسنعود إلى الكلام في هذا الموضوع عندما نعرض للمقال في المجلة الدورية.