الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العمود الصحفي:
لا تَجِدُ فنًّا من الفنون يخضع لتطور الحياة كما يخضع له فن الصحافة، ذلك لأن الصحافة إنما خلقت لتخدم المجتمع، وتعبر عن أفكاره، وتساير أهواءه، والمتأمل في تطور الصحافة في العالم يجد علاقة كبيرة بين ظهور "العمود الصحفي" ورغبات القراء، كما تظهر في اضطرارهم إلى السرعة في القراءة، وإيثار المواد القصيرة التي تعطيهم الشيء الكثير في الزمن القصير، ثم تردهم سريعًا إلى هواياتهم الخاصة، أو إلى مشاغلهم الكثيرة، أو إلى عملهم اليوميّ.
ولقد كانت الصحافة المصرية إلى أوائل القرن العشرين صحافة مقالٍ من أولها إلى آخرها، وكان المقال الصحفيُّ يشغل حيزًا كبيرًا جدًّا من الصحيفة، بل كثيرًا ما وجدنا "النديم" وأمثاله من الصحفيين يصدر الواحد منهم عددًا كاملًا يتألف من مقالٍ واحد، وإذا ذهبت تقيس هذا المقال بما تجده في الكتب نفسها رأيته لا يقل في مساحته عن فصل أو فصلين من فصول الكتب العلمية أو الأدبية في أيامنا هذه.
وكمصر في هذا الاتجاه نحو المقال غيرها من البلاد الأخرى مثل انجلترا وفرنسا، وقد أشرنا في بعض مواضع هذا الكتاب إلى الفترة التي كانت فيها الحكومة الإنجليزية تفرض الضرائب على الأخبار، وتعفي منها المقال، وإلى الأثر الذي أحدثته هذه السياسة في شكل الصحيفة إذ ذاك.
وهكذا تخضع الصحافة في مصر لمثل الظروف التي تخضع لها الصحافة في غيرها من الأقطار الأخرى، وهكذا نرى أن الصحيفة التي اقتصرت في الماضي على الخبر والمقال، بدأت بعد ذلك تحفل بألوان أخرى من المواد؛
كالفكاهات، والرسوم الكاريكاتورية، والأعمدة الصحفية، والأحاديث والتحقيقات، وغير ذلك.
ويظهر أن العمود الصحفيّ لم يشتد ظهوره في مصر إلّا في المرحلة الرابعة من مراحل الصحافة المصرية، وهي المرحلة التي تقع على وجه التقريب بين عامي 22 و 1942، ثم تعددت أشكاله فضلًا عن ذلك.
تعريف العمود الصحفيّ وخصائصه:
لكن ما المقصود بالعمود الصحفيّ عند إطلاقه؟ وما هي الصورة التي كان عليها العمود منذ نشأته؟ وكيف تنوعت أشكال العمود وصوره فيما بعد؟
سنجيب على السؤالين الأخيرين من هذه الأسئلة الثلاثة تمهيدًا للإجابة عن السؤال الأول:
كان العمود في نشأته عبارة عن فكرةٍ أو رأيٍ، أو خاطر من الخواطر يرد على ذهن الكاتب، فيكتب فيه سطورًا قليلةً، وكثيرًا ما كان هذا الرأي أو الخاطر يدور حول واقعة، أو ظاهرة وقع عليها نظر المحرر في المحيط الذي يعيش فيه، ومعنى ذلك أن العمود الصحفيّ في بداية الأمر كاد لا يتعدى المحيط الاجتماعيّ، ومثله عمود "ما قَلَّ ودَلَّ" في الأهرام أو في "الأخبار" لأحمد الصاوي.
ثم سرعان ما لاحظنا أن العمود الصحفيّ أصبح موزعًا في الصحيفة المصرية على أبواب كثيرة، فهناك العمود السياسيّ في صفحة السياسة الخارجية، ومثله عمود "ما وراء الأخبار" الذي كانت تنشره صحيفة "الزمان" في صفحة السياسة الدولية، وهناك العمود المسرحي، أو السينمائي، ومثله العمود الذي عنوانه"رأيت أمس" وكانت تنشره "ميّ شاهين" بصحيفة الأخبار.
ثم هناك العمود الرياضيّ، والعمود الزراعيّ، والعمود الاقتصاديّ، وهكذا.
وأكثر من هذا وذاك، أننا وجدنا العمود الصحفيّ يستقل بموضع من مواضع الصحيفة يتعود عليه القراء، ويطالعون فيه رأي الكاتب في الأبواب المختلفة من سياسةٍ، واجتماعٍ، وأدبٍ، وعلومٍ، واقتصادٍ، كما نجد ذلك في الأهرام والأخبار بعنوان:"ما قَلَّ ودَلَّ" لأحمد الصاوي، وفي الأخبار بعنوان:"نحو النور" لمحمد زكي عبد القادر، وفي الأخبار كذلك بعنوان:"فكرة" لعلي أمين، وفي صحيفة القاهرة بعنوان:"بين السطور" لحافظ محمود، وفي صحيفة الجمهورية بعنوان:"خاطر الصباح" لأحمد قاسم جوده.
وإذن فليس هناك فرق بين المقال والعمود من حيث الموضوع؛ فكلاهما يعالجان جميع هذه الأمور، وكلاهما يخوضان كل هذه الميادين، ومعنى ذلك أنه من الصعب علينا أن نميِّزَ بين هذه الفنون الثلاثة، وهي: العمود، والمقال، والقصة الإخبارية، على أساس الموضوع، وإذن فلنبحث عن أساس آخر يمكن أن تقوم عليه هذه التفرقة.
ألا يكون الفرق بينهما آتيًا من ناحية الأسلوب؟
إن المواد الصحفية يمكن تقسيمها على أساس الأسلوب إلى قسمين:
الأول: القصة الإخبارية التي تطغى عليها الناحية الموضوعية، والتي لا تذيل غالبًا بتوقيع كاتبها؛ لأن القصة الإخبارية الواقعة في الحقيقة إنما يشترك في كتابتها أفراد عديدون في الصحيفة الواحدة.
والثاني: المواد غير الإخبارية، وهي المواد التي يذيل معظمها بتوقيع كاتبها، ولا يختفى الطابع الشخصيّ في الكثير منها، ومثلها العمود الصحفيّ على اختلاف ألوانه، ولا يستثنى من ذلك غير "المقال الافتتاحيّ" الذي قلنا: إنه يعبر عن سياسة الصحيفة، ولا يكون عليه توقيع كاتبه إطلاقًا.
وعلى هذا لا تجد الفرق واضحًا كذلك بين العمود والمقال على أساس الأسلوب، وإذن فلنبحث عن أساس ثالث يمكن أن تقوم عليه هذه التفرقة.
وليكن هذا الأساس الأخير هو "الشكل" أو "المساحة" التي تخصص لكل مادة من مواد الصحيفة على حدة،
ومن اليسير علينا أن نلاحظ أنه بينما يجري تنظيم الصفحة الواحدة من صفحات الصحيفة بطريقة توفر المساحة التي يشغلها العمود؛ بحيث يضاف إليه جزء، أو يبتر منه جزء؛ ليوضع في صفحة أخرى، إذ بنا نرى القصة الإخبارية، أو المقالة الصحفية، تبتر منذ بدايتها، وتوزيع على أكثر من موضوع واحد، أو صفحة واحدة من صفحات الجريدة التي تنشر فيها.
أي أننا إذا أمعنَّا النظر في شكل العمود، وشكل المقال، وجدنا أن الأول يمتاز بصغر المساحة التي يشغلها من الصفحة بالقياس إلى الثاني، وهذا هو أول الفروق الواضحة بينهما.
وثَمَّ فرق آخر بينهماكذلك من حيث الشكل، وهو أن العمود ينشر دائمًا تحت عنوان ثابت، وفي مكان ثابت من الصحيفة لا يتغير أبدًا.
وهناك فرق ثالث -أشرنا إليه قبل الآن- وهو أن العمود ينبغي أن يكون له توقيع، وإن كان هذا التوقيع له صور كثيرة، كما سنرى فيما بعد- على حين أن المقال الافتتاحيّ، بوجهٍ خاصٍّ، لا ينبغي أن يحمل توقيع الكاتب.
بعد هذا نستطيع أن نقدم تعريفًا للعمود الصحفيّ فنقول:
"إنه المادة الصحفية التي تتسم دائمًا بطابع، أو محررها في أسلوب التفكير، وأسلوب التعبير، ولا تتجاوز في مساحتها عمودًا
صحفيًّا على أكثر تقدير، وتنشر بانتظام تحت عنوان ثابت، وتوقيع ثابت هو توقيع المحرر".
وتوقيع العمود الصحفيّ قد يكون بالاسم كاملًا، وهو السائد في الأعمدة، أو بالاسم الأول فقط، أو بالحرف الأول فقط، كما في العمود الذي كانت تنشره صحيفة المصري بتوقيع "ج" تحت عنوان "تعليق"، وفيه يعقب المحرر على السياسة الخارجية، وقد يكون التوقيع بالرموز، كتوقيع "الحاج سيد" تحت عمود "بالبلدي" في صحيفة الجمهورية عند أول ظهورها، وتوقيع "دولي" تحت عمود "ما وراء الأخبار" في صحيفة "الزمان" وتوقيع "ديدبان" للدكتور محمود عزمي بصحيفة "الأهرام"، وقد يكون توقيع العمود الصحفيّ على شكل نقط بين قوسين هكذا "..... " كما في عمود "لا" بصحيفة الجمهورية عند أول صدورها، وهكذا.
أما من حيث الموضع الذي يحتله العمود الصحفيّ من الصحيفة، فيلاحظ أنه يحتل مكانًا متطرفًا في أقصى الصفحة من اليسار، كما في عمود "ما قَلَّ ودَلَّ" بصحيفة الأهرام والأخبار، وكما في عمود "خاطر الصباح" بصحيفة "الجمهورية"، أو في أول الصفحة الأخيرة من اليمين، كما في عمود "فكرة" بصحيفة "الأخبار"، وقد يحتل العمود مكانًا متوسطًا في الصفحة، كما في "نحو النور" في رأس العمود الرابع من الصفحة الخامسة لصحيفة "الأخبار" أيضًا، وكما في "بين السطور" في العمود السادس من الصفحة الخامس لصحيفة "القاهرة".
وأما من حيث الطباعة، فيحسن لكي يتميز العمود عن غيره من مواد الصحيفة، ولكي يلفت إليه نظر القارئ، أن يكون بحروف سوداء من "بنطٍ" خاصٍّ، ولا بأس من كتابته كذلك في إطارٍ خاصٍّ كلما أمكن ذلك، كما كان الشأن في صحيفة "المصري".
ومهما يكن من شيءٍ، فالمهم في العمود الصحفيّ -كما قلنا- أن
يكون له مكان ثابت، وعنوان ثابت، وتوقيع ثابت، وفي هذه المميزات الثلاثة ما يكفي لكي يلفت إليه أنظار القراء فيتعودون على قراءته، ويواطنون على هذه القراءة دائمًا.
صباغة العمود الصحفيّ:
إن العمود الصحفيّ بالقياس إلى أنواع المقال أشبه بالأقصوصة إذا قورنت بفنون القصص الأخرى، ومعنى ذلك أن العمود الصحفيّ -من حيث التفكير- لا يعدو أن يكون فكرةً صغيرةً محدودةً في مشكلةٍ من مشكلات القراء، يدور حولها الكاتب، ولا يعدوها إلى سواها، أو يستطرد منها إلى أفكارٍ أخرى، أو مشكلاتٍ بعيدةٍ عنها، وفي الحالة التي يتناول فيها العمود تعليقًا على خبر من الأخبار، يُرَاعَى في ذلك عادةً أن يكون هذه الخبر معروفًا لدى القراء، وأن يعتمد الكاتب على هذه المعرفة لكي يثير اهتمامهم من جهةٍ، ويضفي على عموده شيئًا من الطرافة من جهةٍ ثانيةٍ.
وعلى هذا لا يعتبر "السبق الصحفيّ" غرضًا من أغراض العمود الذي يستمد منه التعليق على الأخبار، وإنما الغرض من العمود في مثل هذه الحالة هو الإمتاع، والطرافة، والتعقيب السريع، وشرح وجهة نظر الكاتب في سطورٍ قليلةٍ لا أكثر ولا أقل.
وثَمَّ مسألةٌ هامةٌ تتصل بكاتب العمود، وتعرض للباحث في هذا الفن من فنون الصحافة، وهي:
إلي أيِّ حَدٍّ يعتبر كاتب العمود حرًّا فيما يكتبه ما دام الذي يكتبه يحمل طابعه الشخصيّ، ويتسم بالذاتية البحتة؟
هنا يختلف الباحثون في الإجابة:
فمنهم مَنْ يرى أن كاتب العمود صاحب حرية واسعة فيما يكتب، ما دام يتحمل مسئولية الكتابة، وما دام يذيل العمود بتوقيعه.
وإنما تسمح الصحيفة لكاتب العمود بمثل ذلك، وتبيح له كل هذا القدر من حرية القول كذلك، طمعًا في التوزيع، والسبب في هذا: أن كاتب العمود كثيرًا ما يكون ذا شهرةٍ خاصةٍ لدى القراء قبل إقدامه على الكتابة، أو يصبح ذا شهرةٍ خاصةٍ بينهم بعد مدة طويلة من الكتابة، وهنا يوازن رئيس التحرير بين سياسة الصحيفة، وسعة التوزيع، فيؤثر الآخرة على الأولى.
ومع ذلك، فمن رؤساء التحرير مَنْ لا يبيحون لكاتب العمود كل هذا القدر من حرية الكتابة، وإذ ذاك نرى مثل هذا الكاتب ينزل عن آرائه الخاصة، ويكتب بلسان الصحيفة التي يعمل لها، وينهج النهج الذي يشير به رئيس التحرير.
ومن العلماء الذين يذهبون إلى هذا الرأي "لا يبلنج Liebling" في كتابه The wayward 1Pressman"، وحجته في ذلك أن الصحافة بعد إذا أصبحت حرفة أو صناعة، جعلت من الصحافيّ محاميًا لا ينبغي أن يطالب دائمًا بالإيمان الخالص بالقضية التي يدافع عنها، ولقد بالغ الأستاذ لا يبلنج" في ذلك إلى حد أن قال:
"إن المحرر الصحافيّ له أن يترك آراءه الخاصة عند باب غرفة التحرير، ويخلعها دائمًا كما يخلع معطفه عند هذا الباب، حتى إذا ما انتهى من عمله، وعاد إلى معطفه عادت إليه آراؤه الخاصة التي يمكنه أن يحتفظ بها لنفسه متى أراد".
1 A. J. Libeling. The wayward pressman p. I. H. g.
أما نحن فلا نميل إلى هذا الرأي؛ لأن في اتباعه إهدارًا لركن هامٍّ من أركان العمود الصحفيّ، وهو الطابع الشخصيّ، والرأي الشخصيّ الذي يتميز به العمود عن سائر أنواع المقال.
ولا شكَّ أن الصحيفة التي تفقد هذا القدر الضئيل من الذاتية، أو الحرية، لا تغري القراء بقراءة صفحاتها، ولا تسمح للكاتب بعرض وجهات النظر المختلفة في الموضوع الواحد، وإن زعمت في الوقت نفسه أنها تحافظ على سياستها العامة، وطابعها الصحفيّ الذي تمتاز به عن بقية الصحف الأخرى.
وتلك وأمثالها هي خصائص العمود الصحفيّ من حيث أسلوب التفكير، أما خصائص العمود من حيث التعبير فمنها ما يلي:
أولًا: جمال الأسلوب:
وذلك أن العمود الصحفيّ أشبه بالمقال الأدبيّ لا الصحفيّ؛ من حيث العناية باختيار الألفاظ، والاحتفاظ بحلاوة الأساليب، وفيه مجال كبير لتبيان النبوغ الأدبيّ، أوالقدرة البيانية التي يمتاز بها المحرر الصحفيّ.
وانظر إلى كاتب من كتاب العمود مثل: "احمد الصاوي محمد" في عموده "ما قَلَّ ودَلَّ" وهو يكتب عن العواصف والأنواء التي اشتدت بمدينة الإسكندرية في 9 من فبراير سنة 1956 فيقول:
"وعندما تهب الريح، وتزمجر العاصفة، ويحجب الغبار المرئيات، وترتعش الأشجار، وتهتز خوفًا وفرقًا، يأوي الرجل إلى البيت، فهو بعد الكفاح اليوميّ مأواه وحماه، وليست البيوت أربعة جدران، فالجدران لا تحمي إلّا الجسد، والبيوت إنما خلقت لتحمي الروح، وتبني الهناء، فما أكثر الذين لهم بيوت كبيرة وحياة صغيرة، وما أكثر الذين لهم قصور، وهم يعيشون في صحراء فقراءَ جرداء من الخيال والحب..... إلخ".
إلّا أن جمال الأسلوب على أية صورةٍ من صوره، أو مرتبةٍ من مراتبه، ليس شرطًا في لغة العمود، ولكنه جائز في هذه المادة الصحفية أكثر من جوازه في بقية المواد الأخرى، وآية ذلك، أننا لا نقع على هذا الجمال في كل ما كتب "الصاوي" نفسه تحت عنوان:"ما قَلَّ ودَلَّ" كما لا نظفر بهذه الطريقة من طرق البيان في بقية الأعمدة الصحفية الأخرى مما نراه في شتَّى الصحف المحلية عدا "الأهرام".
ثانيًا: عنصر السخرية:
إنه عنصر مشترك بين المقال والعمود، ولكنه في هذا الأخير أشبه ما يكون بلسعة العقرب، أو وخزة الإبرة، أو تحذيرة اليد أو الذراع، ونحو ذلك، على أن المقال يتوسع في السخرية -إذا قصد الكاتب بنفسه إلى ذلك- ويتنوع في طرقها، ويعدد من صورها، وقد تضيع الغاية منها على الكاتب نفسه في طيات هذا التنوع والتعدد، ولذلك ترى القراء يتأثرون بسخرية العمود أكثر مما يتأثرون بسخرية المقال؛ لأنهم يصلون إلى الأولى من أقصر طريق، وقد يضلون في الوصول إلى الثانية لتعدد المسالك المؤدية إلى هذا الطريق.
ثالثًا: عنصر الذاتية:
ذكرنا أن العمود الصحفيّ أقرب المواد الصحفية كلها إلى الأدب الخالص، والفرق بين الأدب والصحافة أن الأول ذاتيّ، والثانية موضوعية، ومن أجل هذا، أصررنا على أن نعطي لمحرر العمود حريةً كاملةً، بقدر المستطاع في التعبير عن آرائه المختلفة، وهو قدر من الحرية لا يعطاه الأعضاء الآخرون في أسرة الصحيفة، ومن هنا تصبح الرابطة قوية بين محرر العمود وقرائه، ومن هنا وجب على محرر العمود أن يهتم قبل كل شيء بمشكلات الأفراد، ومعالجة كل مشكلة منها، وعلى هذا الوتر الحساس يؤدي كتابة الاعمدة دورهم في الصحف، فيجتذبون إليهم القراء، ويأتي يوم
لا يستطيع فيه القراء أن يجدوا في أنفسهم غنًى عن محرر العمود الذي يشاركهم في عواطفهم الخاصة والعامة، ويهوِّنُ عليهم متاعب الحياة التي يحيونها، والصعاب التي يلاقونها، ويدرس معهم النماذج البشرية التي يلتقون بها دائمًا في طريق الحياة.
وكم للسطور القليلة التي يكتبها محرر العمود من تأثير في النفوس، ولو كانت هذه السطور من محض خيال الكاتب، فإنها تؤثر في أخلاقه وطباعه، كما تؤثر القصة الطويلة التي يكتبها أديبٌ بارعٌ، ويريد بها تغيير نفس القارئ، أو تصحيح فكرة من أفكاره، أو معتقد من معتقداته، والأمثلة على هذا كثيرة لا تحتاج إلى بيان.
من أجل ذلك، حرصنا على أن يكون كتاب العمود أحرارًا في أفكارهم، أحرارًا في تعبيرهم، حتى يكون لأعمدتهم صدًى كبير في نفوس القراء، فإن وافق ذلك هوًى من الصحيفة التي يكتبون فيها فذاك، وإلّا فلكاتب العمود في هذه الحالة أن يترك العمل في الصحيفة.
رابعًا: شكل الهرم المعتدل في الصياغة:
ما أشبه العمود في هذا بالمقال؛ إذ يبدأ المحرر بالفكرة التي يدور حولها العمود، ثم يواصل الإتيان بالأمثلة والشواهد، أو الأدلة والبراهين، ثم يأتي بالنتيجة التي أراد الوصول إليها في النهاية.
وكثيرًا ما يكون العمود على شكل رسالةٍ من بعض القراء إلى الكاتب الذي يرد عليه، وفي هذه الرسالة يبسط القارئ شكواه من أمر معين، أو تأييده لوضع معين، فيكون على محرر العمود في هذه الحالة أن يرد على القارئ، وأن يؤيد فكرته بالحجج والشواهد، وأن يوجه الخطاب إلى ولاة الأمور بعد ذلك لكي يزيلوا أسباب هذه الشكوى، أو يزدادوا ثقةً بفائدة المشروع الذي كتبت من أجله الرسالة.
خامسًا: الإيجاز في العبارة:
على الرغم من أن العمود لا يتسع لأكثر من الكلام عن فكرةٍ واحدةٍ، أو خاطرٍ واحدٍ، فإن كاتبه مضطر كذلك، بحلم الحيز الصغير الذي خصصته الصحيفة للعمود- أن يوجز في عبارته، وألَّا يجنح إلى الإسهاب في هذه العبارة بحالٍ ما.
وربما كان ذلك بعض ما أحس به الأستاذ "أحمد الصاوي" -وهو من أشهر كتاب العمود في مصر- حين اتخذ لعموده عنوان: "ما قَلَّ ودَلَّ".
والواقع أن كاتب العمود إذا طلب إليه أن يكتب مادةً أخرى، كالقصة الخبرية، أو المقال أو التحقيق، أو الحديث، نراه يصطنع لنفسه أسلوبًا آخر في هذه الحالة، يخالف كل المخالفة أسلوبه المعتاد في كتابة العمود، وإذا كان هذا صحيحًا بالقياس إلى الكاتب الواحد، فلا شكَّ أنه أكثر صحةً بالقياس إلى الكُتَّابِ الكثيرين في أكثر من مادةٍ واحدةٍ من مواد الصحافة.
مؤسسات العمود الصحفيّ في الوقت الحاضر:
لقد ألفنا في مصر أن يتولى تحرير العمود الصحفيّ كاتبٌ من كتاب الصحيفة، يستوحي في هذه الكتابة خياله حينًا، وحوادث المجتمع حينًا آخر، ومشكلات الأفراد حينًا ثالثًا، وهكذا، ومعنى ذلك أن محرر العمود إنما يكتبه "للاستهلاك المحليّ" بلغة رجال المال والاقتصاد في الوقت الحاضر.
غير أن كتاب العمود في خارج مصر، أصبح لهم سلطان واسع تجاوزوا به حدود بلادهم إلى بلاد العالم كله تقريبًا، فنرى الصحيفة في بلادٍ كالولايات المتحدة الأمريكية تشتري "حق نشر الأعمدة" من مؤسسات خاصة بهذه
الأعمدة تشبه من قريبٍ أو من بعيدٍ، وكالات الأنباء" المعروفة في أيامنا هذه.
وقد بدأ هذا النوع الجديد من المؤسسات في الظهور بأمريكا منذ الحرب الأهلية الأمريكية عام "1861"1، وهي تزيد الآن عن مائتين وخمسين مؤسسة.
ومن أشهر هذه المؤسسات مؤسسة ما كلور، ويقال إنها كانت في أول أمرها توزع حوالي خمسة آلاف كلمة في الأسبوع، ثم لم تلبث أن بلغ ما توزعه ثلاثين ألف كلمة في الأسبوع2.
ومن أشهر هذه المؤسسات كذلك، واحدة باسم:"مؤسسة بوك الصحفية" وقد وصل صاحبها "إدوارد بوك" الأمريكيّ إلى منصب رئيس شركة كورتيس للنشر Curtis puplicating camp من سنة 1891 إلى سنة 1930، وبدأ حياته الصحفية بالتزام نشر عمود أسبوعيّ للكاتب الأمريكيّ "هنري وارد بيشر" تعليقًا على الأخبار، وكان الربح الوفير الذي جناه "بوك" من هذه الطريقة أكبر مشجع له على إنشاء المؤسسات المقرونة باسمه إلى اليوم 3.
وقد رأت مؤسسة بوك لكي تجذب القارئات من النساء إلى مطالعة العمود الصحفيّ أن تنشر عمودًا خاصًّا بالأطفال ضمن الأعمدة التي تنشرها، وتبيع حق نشرها لجميع الصحف التي تطلب منها ذلك4.
1 Robert W، Jones: Journalism in the united states
انظر في هذا الكتاب فصلًا عن المؤسسات التي توزع الأعمدة الصحفية ص349، وفصلًا عن محررات العمود الصحفيّ من النساء ص539، وفصلًا من عمود المسائل العاطفية ص542، ونحن ننبه القارئ إلى كل ما سبق.
2 نفس المصدر ص358.
3 المصدر السابق ص359.
4 المصدر السابق ص360.
ويؤخذ مما تَقَدَّمَ أن هناك مجالًا إنسانيًّا كبيرًا تنشر فيه الأعمدة الصحفية، وأن العمود الصحفيّ الإنسانيّ هو الذي يمكن توزيعه على أكبر عدد ممكن من صحف العالم، ونحن نعلم أن الصحافة عمل اجتماعيّ محليّ، ولكن العمود الصحفيّ بهذا الطابع الإنساني يجذب الصحافة رويدًا رويدًا، إلى محيط الأدب، والأدب هو النتاج العقليّ الذي يصلح لأكبر عدد ممكن من أفراد البشر؛ لأنه يتجه دائمًا إلى النفس البشرية، والنفس البشرية خالدةٌ من جهةٍ، وهي وحدةٌ متشابهةٌ في جميع أقطار العالم من جهةٍ ثانيةٍ.
وحين تصبح الصحافة على هذا النحو تصبح أدبًا خالدًا بالمعنى الصحيح.
إلّا أن الأمل في وصول الصحافة إلى هذه المنزلة بعيدة التحقيق في الوقت الحاضر لأسباب كثيرة؛ من أهمها فيما يتصل بالعمود: أن العمود نفسه مادة واحدة فقط من بين المواد الكثيرة التي تتألف منها الصحيفة.
وأعجب من كل ذلك، وأمعن منه في الغرابة، أن نجد "العمود الصحفيّ" يتجاوز مهمته الأولى في الصحافة - وهي مهمة الإرشاد، وحل مشكلات القراء- إلى وظيفة جديدة هي وظيفة الإعلان!
وفي كتاب للأستاذ "لا يبلنج" بعنوان: "الصحفيّ المتجول " -سبقت الإشارة إليه- حديث عن صحفيٍّ بدأ حياته محررًا لعمود إعلانيٍّ لدى مؤسسة "ساشس Sachs" لبيع أثاث المنازل، وقد احتال هذا الصحفيُّ على القراء بحيلة لطيفة، هي أنه أخذ يجذب إليه انتباه القراء أولًا بالكتابة في موضوع الديموقراطيات الحديثة، وكان أول مقال كتبه في ذلك بعنوان:"لا يمكن لأية ديموقراطية أن تعيش من غير صحافة حرة"، ثم أخذ يتدرج في عموده، وينوع في هذا العمود حتى وصل إلى الشئون المنزلية، وإلى أن المنزل يجب أن تتوفر له الراحة والأمن والبهجة والتسلية، ثم أخذ هذا
الكاتب يتوخى في هذه الأعمدة أن تنشر بجوار البضائع المعلن عنها في الصحيفة، فكان لهذه الطريقة أثر فعليٌّ في رواج البضاعة، وأقبل القراء على قراءة الأعمدة الإعلانية العجيبة، ولم لا يفعلون ذلك، وقد بدأهم في هذه الأعمدة بالحديث عن الديموقراطية، والحرية، والصحافة، وما إليها1.
ألا ما أبرع الصحافة، وما أذكى كتابها، ومحرريها، والقائمين على إدارتها وإخراجها للجمهور القارئ!
وقريبًا تتقدم الصحف في مصر، وتبلغ الحد الذي تصبح فيه قادرةً على شراء حق نشر الأعمدة المشهورة في العالم، كما أصبحت -منذ وقت قريب- قادرة على الحصول -عن طريق وكالات الأنباء- على جميع أخبار هذا العالم.
والصحافة المصرية على هذا الوجه المنشود تصبح عملًا إنسانيًّا، وعملًا فنيًّا، وعملًا تجاريًّا في وقت معًا.
لقد رأيت مما سبق أن العمود الصحفيّ أنواع كثيرة، ولا نستطيع في هذا الكتاب أن نختص كل موضوع منها يحث معين، فلنكتف إذن بنوعين فقط من الأنواع، على سبيل المثال، هما: عمود الموضوعات الإنسانية، وعمود الرياضة والفنون2، وسنفرد لكلٍّ منهما فصلًا برمته فيما يلي:
1 المصدر المتقدم ص147.
2 لا شك أيضًا أن للعمود السياسيِّ أهميةً كبيرةً في العصر الحاضر، ومن أحسن الأمثلة على هذا النوع أعمدة الكاتب المعروف باسم: والترلبيمان "راجع كتاب مدخل الصحافة" تأليف بون، وترجمة راجي صهيون، ص 317.