الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخبر والمجتمع:
الخبر مادة صحفية ذات أثر كبير في المجتمع -كما رأينا، غير أن هناك طائفةً من الأخبار تدور حول الجريمة، أو الأشياء المثيرة للضمير الإنسانيّ ذاته، بغضِّ النظر عن الضمير الذي يخلفه الدين والأخلاق، فما موقف الصحافة من هذه الأخبار؟ أتنشرها وتتحمل وزرها كاملًا؟ أم تخفيها وهي قطعة من الحياة التي تحياها المجتمعات؟
لقد اختلف العلماء اختلافًا كبيرًا في ذلك، فهم بين مؤيدٍ لنشر الجرائم الخلقية والاجتماعية كما هي، ومعارض للنشر على هذا النحو، والذي نشاهده عادةً أن في نشر الجريمة تعظيمًا لها، وأن هذا النشر في ذاته يجعل من مرتكبيها أبطالًا في نظر المجتمع -في بعض الأحيان- ونخص بالذكر منهم الصبية، والصغار، والمراهقين، ومن إليهم.
والذي نعلمه مع ذلك، أننا في عصرٍ ينبغي أن يعرف فيه الصبية والصغار والمراهقون، كلَّ ما في الحياة من خير وشر، وأن نعرض على أبصارهم وأذهانهم صورًا من المآسي التي ربما تعرضوا لمثلها في مستقبل الأيام.
ولا يستطيع أحدٌ منا أن ينكر-مع هذا كله- أن الصحافة كثيرًا ما تعين رجال الأمن على القيام بأعمالهم في تعقب المجرمين، وفي الكشف عن النواحي الناقصة في قصة الجريمة.
على أننا نلاحظ مع ذلك أن كثيرًا من الصحف تخوض في بعض القضايا المنظورة أمام المحاكم، وتحاول التأثير في القضاء، وفي الشهود، وفي
المحامين، والمخلفين، ومن ثَمَّ يقول الكاتب الأمريكيّ "ولتر ليبمان Walter lippman:
" الجريمة قطعة من الحياة التي نحياها، وليس الخطر آتيًا من نشر أخبار الجريمة في ذاتها بقدر ما هو آتٍ من تحوّل الصحيفة إلى مخبر سريّ، وقاضٍ، ونائب عام، ونحو ذلك".
ومهما يكن من شيء، فليس أمامنا الآن إلّا أن نستعرض آراء المؤيدين لنشر الجريمة، وآراء المعارضين لهذا النشر.
فأما المؤيدون فإنهم يرون:
أولًا: أن الصحيفة تمد الجمهور بحقيقة الجريمة، فيصبح الناس مستعدين لعمل شيء حيالها، مهيئين كذلك للسعي في علاجها، أو بعبارة أخرى: يضطر المجتمع إلى تجنب أسباب الجريمة، واتخاذ الإجراءات التي تحول دون تكرار حدوثها.
ثانيًا: أن نشر الجريمة يحول أيضًا دون فِعْلِ الشَّرِّ في ذاته؛ لأن المجرم يتوارى عن الناس، ولا يخاف شيئًا مثل ما يخافون عدسة المصور الصحفيّ أو قلم المخبر الذي يتعقبه.
ثالثًا أن أخبار الجريمة تكشف عن أساليب المجرمين في اقتراف جرائمهم الفظيعة، وتساعد رجال الأمن في القبض عليهم.
رابعًا: يضاف إلى ذلك ما قلناه من أن الأطفال لابُدَّ أن يكون لهم علم بالخير والشر معًا، وذلك قبل النزول إلى معترك الحياة، والشر ناحية من نواحيها ينبغي أن يدرس على الأقل بهذه الطريقة.
خامسًا: في النفس البشرية ميلٌ إلى التشفي من مرتكبي الجرائم،
وميل إلى الاطمئنان على سير العدالة التي من شأنها أن تعاقب المجرمين الذين يرتكبون هذه الجرائم، وبها ميل كذلك إلى الوقوف على مدى العقوبة التي حلت بالمجرم، حتى يطمئن الناس إلى ما في الحياة نفسها من قيم إنسانية خالدة، وإلى أن الخير والشر في هذه الدنيا يتصارعان، ولا بد أن تكون الغلبة أخيرًا للأول على الثاني.
سادسًا: أما جرائم الأحداث والمتشردين، فتكاد تجمع الصحف على أن الخير كل الخير في عدم نشرها، وفي العدول -على الأقل- عن ذكر أسماء أصحابها، وصورهم، والمعلومات التي تدل عليهم، أو تشير إليهم دون غيرهم، ذلك لأن الحدث لا يزال في مطلع حياته، والأمل كبير دائمًا في إصلاحه، فإذا صلح بالفعل لا يكون من الخير أن يحتفظ الناس له في أذهانهم بتلك الصورة القبيحة، وهذا هو ما يحدث فعلًا في كلٍّ من فرنسا وانجلترا.
وأما المعارضون فيقولون:
أولًا: إن الصحف كثيرًا ما تكتفي بمجرد عرض أخبار الجريمة بدون التعرض لأسبابها، والتحليل الدقيق لهذه الأسباب.
ثانيًا: إن الصحف كثيرًا ما تسلك طريق المبالغة في تأكيد الجريمة، فتعطي بذلك صورة خاطئةً للقارئ.
ثالثًا: إن نشر أخبار الجريمة -كما قلنا- يفيد رجال الأمن في تعقب المجرمين، غير كذلك يفيد المجرمين أنفسهم في الإمعان في التخفي.
رابعًا: في نشر الجريمة -كما قلنا- تعظيمٌ لشأن المجرم، وتصويره بصورة البطل الذي حَيَّرَ رجال الأمن، واسترعى انتباه العامة والخاصة.
ومن هنا يأتي تأثيرها السيء على الأطفال والشبان، وكثيرًا ما رأينا
عددًا من هؤلاء وهؤلاء يرتكبون نفس الجرائم التي يقرءون عنها في الصحف، أو يرونها مصورة على الشاشة البيضاء في دور السينما.
خامسًا: كثيرًا ما يحاول نشر الجريمة دون الوصول إلى العدل في الحكم في قضايا الإجرام؛ لأنها تؤثر في إدراك القضاة، والمحامين، والشعب نفسه، وتقديرهم لهذه الجرائم.
تلك هي آراء المؤيدين والمعارضين على السواء، ومنها نخرج بنتيجةٍ واحدةٍ، وهي أنه لا بأس على الصحف من نشر الجرائم، على أن تراعي في ذلك الدقة، وتتجنب التهويل والمبالغة، وتشفع الخبر بتحليل أسبابه، وبيان علاجه، كلما أمكن ذلك، وعليها كذلك أن تحذر التدخل في عمل القضاء، إلّا إذا وثقت من أنها تكشف عن جوانب ربما خفيت على القضاء ذاته، ويجب أن تقلل ما أمكن من المساحة التي تعطيها لأخبار الجريمة، وتحتاط في الطريقة التي تنشر بها قصة الجريمة، والصور الشمسية التي تصحبها في العادة.
ومما هو جدير بالذكر أن الصحف السوفيتية درجت على أنها لا تنشر أنباء الجرائم، أو حوادث الاعتداء، إلّا في حالاتٍ استثنائيةٍ خاصةٍ، ويكون النشر في هذه الحالة لغرض معين، وبصورة موجزة يكتفي فيها بأن يقال مثلًا:
"إن أحد المواطنين أدين بسبب اعتدائه على النظام الاشتراكيّ الذي تسير عليه الحكومة" أو "إنه أدين لإخلال خطيرٍ بنظام العمل" وهكذا، ومثل هذا يلاحظ أيضًا في البلاد الشيوعية الأوروبية التي تدور في فلك الاتحاد السوفييتي.
ومع هذا وذاك، فقد ذهب كثيرون من الصحفيين المشهورين في مصر
إلى أن نشر الجرائم بهذه الطريقة الأخيرة لا يؤدي مطلقًا إلى النتيجة المطلوبة، بل إنه كثيرًا ما يبعث الناس على الجريمة، وما زال الباحثون والصحفيون مختلفين في هذا الرأي إلى اليوم.
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف، فهناك أمور يمكن أن يتفق عليها، وأكبر الظن أنها لا تجد اعتراضًا من الفريقين على السواء، ومنها:
أولًا: أنه لا ينبغي للصحف أن تحرص دائمًا على ذكر الأسماء في الجريمة، فإذا نشرت صحيفة ما أن سيدة تقدمت إلى مأمور أحد الأقسام تتهم طالبًا جامعيًّا، أو موظفًا حكوميًّا، أو رجلًا ذا مكانة في المجتمع، بأنه اعتدى عليها، وأنه لجأ إلى القهر والإكراه في ذلك، بحيث لم تستطيع أن تنقذ نفسها منه، فإن على الصحيفة في مثل هذه الحالة ألّا تذكر الأسماء عند نشر الجريمة؛ لأنه لا فائدة للمجتمع من وراء ذلك، بل إن الضرر أكثر من النفع للمجتمع في مثل هذه الحالة.
ثانيًا: لا ينبغي للصحف أن تجاري السينما، أو الأدب المكشوف، ونحوهما في إثارة الغرائز الجنسية جريًا وراء الربح الماديّ، فإنه لا يصحُّ مطلقًا أن تثرى طائفة من الناس على حساب الأخلاق، أو بطريق نشر الفضائح.
صحيح أن في مواد القانون ما يضمن حماية المجتمع والأخلاق من كل ذلك، ولكن العيب ليس في القانون، وإنما هو في تطبيق هذا القانون على القائمين على دور السينما والراديو والتليفزيون، وناشري الكتب والصحف.
ثالثًا: ينبغي للصحافة دائمًا أن تقف إلى جانب القانون، والمجتمع، ورجال الأمن، والقضاء، وأن تكون على الدوام ضد الإجرام.
ذلك أن الإجرام في ذاته عمل عدواني على المجتمع، وكثيرًا ما يكون نتيجة لفشل الفرد في الاندماج في هذا المجتمع، وربما كان من أسبابه سواء استعمال أوقات الفراغ، والإدمان على قراءة الأدب المكشوف،
ومشاهدة الأفلام السينمائية الموصوفة بالانحراف، ونحو ذلك.
وإذا كان الأمر ككذلك، فقد وجب على الصحافة الرشيدة -وهي أكثر وسائل الإعلام إلحاحا على القارئ- أن تعين على تكوين رأي عام ضد الجريمة في أي شكل من أشكالها المعروفة، وغير المعروفة.
رابعًا: خير للصحافة دائمًا أن تحتاط في نشر الأخبار التي تمس النوابغ في الأمة، وأصحاب المواهب فيها، فهؤلاء الناس من البشر، ولهم ما للبشر من نقائص عادة، ولكنهم في الوقت نفسه ممتازون عن سواهم من أفراد المجتمع، وهم من هذه الناحية، يجب النظر إليهم بعين الاحترام والتقدير على اعتبار أنهم "كنوز" حقيقية للمجتمع، ومصدر من مصادر قوته وتفوقه على غيره من المجتمعات الأخرى، وعلى ذلك فمن الخطر أن تعبث الصحف بهم، أو تشوه من أسمائهم، أو تنال منهم بطريقة أو بأخرى، لمجرد أنهم سقطوا فيما يسقط فيه البشر.
إن الصحافة التي تحافظ على كنوز الأمة، وتحوط برعايتها عظماء هذه الأمة هي "الصحافة الرشيدة" التي تعرف واجببها نحو أمتها، وتخشى عليها من العواصف والزلازل التي تقوض ركنها، وتذهب بثروتها المعنوية التي لا يمكنها أن تعيش إلّا بها.
وسنعود إلى التحدث عن هذا الموضوع في الفصل الآتي بعنوان: "الذوق الصحفيّ والخبر".
وهنا يحلو لنا أن نقدم للقارئ طرفًا من الإرشادات التي أصدرتها إحدى الصحف الإنجليزية لمحرريها، وقد جاء في بعضها ما يلي:
ليكن مفهومًا لدى المحررين أننا لا نريد تمجيدًا للمجرمين، فلا يصح مطلقًا أن نظهرهم بشكل أبطال، أو شهداء، ونحو ذلك، إن المجرمين هم الأعداء الحقيقيون للمجتمع، ومن ثَمَّ لا يصح لنا أن نستخدم في الإخبار عنهم مثل هذه العبارات:"ملك اللصوص"، "أسد العصابة"،
"أستاذ الإجرام" و"روبين هود البلد الفلاني" وهكذا، فإن مثل هذه العبارات تثير خيال الشباب، والأطفال، وتدفعهم دائمًا إلى السير في نفس الطريق".
ويجب علينا نحن المحررين من ناحية أخرى أن نسهب في الكلام -كلما أمكن ذلك- عندما نصف شجاعة رجل الأمن، ومهارته في ضبط اللصوص، وتعقب المجرمين، كما يجب علينا أن نقف دائمًا إلى جانب القانون والنظام، بل يجب علينا دائمًا أن نبحث عن مبرراتٍ لقسوة الأحكام التي يصدرها القضاء ضد هؤلاء المجرمين، حتى يشعروا شعورًا حقيقيًّا باحتقار المجتمع لهم، ورغبة الحكومة في إبادتهم، والتخلص منهم إلى الأبد.
كما يحلو لنا كذلك أن نسأل أنفسنا مع الأستاذ "أوكس ريتشلر" رئيس تحرير صحيفة "نيويورك هيران ستيتمان" هذا السؤال:
هل نكون مخطئين إذا امتنعنا عن نشر كيفية وقوع سرقة بالتفصيل، أو كيف ارتكب شخص مختل الشعور حادث انتحار؟
إنني أعرف أن شركات التلفزيون تتبع ما يمكن أن يسمى دروسًا تدريبية في القتل والسلب والاغتصاب، غير أننا لا نتبع هذه الطريق، بل نلغيها من أساسها.
ونحن نوافق هذا الأستاذ على إجابته، ونرجو أن يوافقنا عليها جميع رؤساء التحرير في الصحف.
ومعنى ذلك: أن الصحفيّ الجدير بهذا الاسم يجب أن يشعر دائمًا بشعورين في وقت واحد:
الأول: شعور بتجربة الصحافة.
الثاني: شعور بمسئولية الصحافة.
والواجب يحتِّمُ عليه دائمًا أن يجعل الشعور الثاني مقدمًا على الشعور الأول.
الأمثلة:
إن الشعور بالمسئولية الإعلامية في الوقت الحاضر أصبح لازمًا لرجل الإعلام بعد أن كثرت أجهزة الإعلام وأصبحت في متناول أكثر الناس، فإذا خفي الشعور بهذه المسئولية الضخمة، كانت لذلك آثاره السيئة وعواقبه الوخيمة على شباب الأمة بنوع خاص.
شهد بعض الشبان في مصر فيلمًا سينمائيًّا صوَّر لهم الطريقة التي استطاع بها بعض اللصوص في أمريكا أن يسرقوا مصرفًا ماليًّا من المصارف الكبيرة، وما كاد الشبان يغادرون دار السينما حتى اتفقوا فيما بينهم على ممارسة التجربة، وحاولوا بالفعل أن يسرقوا مصرفًا ماليًّا في ضاحية مصر الجديدة، فقبضت عليهم الشرطة وساقهم إلى المحكمة، فاعترفوا بأنهم فعلوا فعلتهم هذه بعد أن شهدوا بأنفسهم عرضًا سينمائيًّا شرح لهم هذه الجريمة.
ومثل آخر: هو الخبر الخاص بالشقيّ "محمود سليمان" المعروف "بالسفاح" وهو شقيٌّ ظهر فجأة في القاهرة، وارتكب عددًا كبيرًا من السرقات، واقتحم كثيرًا من المنازل، وأحدث إزعاجًا كبيرًا في العاصمة وضواحيها، فاستفحل شره، وانتهزت الصحف المصرية هذه الفرصة وأخذت تبالغ في أخباره، وحاولت الشرطة أن تقبض عليه فلم تفلح في ذلك أول الأمر، ووصفته بعض الصحف بالبطولة، وأنه يأخذ من مال الأغنياء ليعطي الفقراء، وكادت هيئة الشرطة تيأس من ضبطه، واضطرب الأمن بسبب تشجيع الصحف لهذا الشقيِّ على أعماله وتصرفاته، ثم صدر أمر من الحكومة القائمة للصحف بالكفِّ عن هذه الطريقة غير الفنية في نشر
الأخبار، فرضخت الصحف للأمر، وأصبح الشعب يبذل جهده في معاونة رجال الشرطة للقبض على المجرم، وقبض عليه في النهاية، وكان ذلك في جبلٍ بحلوان، وكان أن قتل المجرم نفسه رميًا بالرصاص قبل القبض عليه بدقائق، وهكذا انتهت هذه المأساة التي عرفت بها الصحافة أنها إنما كانت تسيء إلى الحكومة وإلى الشعب، وإلى الأمن بمبالغتها في نشر أخبار هذا المجرم، ومبالغتها في وصف تحركاته وخططه وأفكاره1.
1 انظر: أزمة الضمير الصحفي، وراجع: الصحافة والمجتمع.