الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثالث: فن المقال
فنون المقال
…
الكتاب الثالث: فن المقال
الفصل الأول: فنون المقال
سبق لنا القول في كتاب "الصحافة والأدب في مصر"1: بأن للغة التي تُسْتَخْدَمُ في الكتابة مستوياتٍ ثلاثة، وهي:
المستوى الأدبيّ: وهو المستوى الذي يقف فيه الأدباء للتعبير عن عواطفهم ومشاعرهم وتجاربهم الإنسانية بوجه عام، ولهم في هذا التعبير طرائق شتَّى تختلف باختلاف الأشخاص، واختلاف العصور، واختلاف البيئات. والمستوى العلميّ: وهو المستوى الذي يقف فيه العلماء ليعبروا عن الحقائق العلمية، سواء أكان ذلك في العلوم الكونية، أم التاريخية، أم الأدبية، وهم في هذا التعبير يلتزمون لغةً تمتاز بالوضوح، واستخدام الألفاظ التي تكون على قدر المعاني، واصطناع المصطلحات التي اتفق عليها أهل كل علم من هذه العلوم على حدة، ومعنى ذلك أن العلم مادته الحقائق وحدها، في حين أن الادب مادته العواطف والصور والأخيلة.
والمستوى العمليّ: وهو المستوى الذي يقف فيه الصحافي لينقل للناس أخبار البيئة التي يعيشون فيها، والبيئات التي يتصلون بها، وليقوم للناس بتفسير هذه الأخبار في أثناء نقلها، وبعد نقلها، وذلك عن طريق التعليق عليها، والاستنارة بآراء الممتازين من القراء في بعضها، والصحافي في سبيل هذا الغاية -وهي كتابة الأخبار والتعليق عليها- يستخدم لغةً عمليةً يفهمهما القراء، ولايشترط فيها في لغة الأدب من خيال أو جمال، أو ما يشترط في لغة العلم من دقة بالغة في تحديد معاني الألفاظ.
1 راجع الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1955، ص 12.
ولعلنا حين نمعن النظر في تاريخ الكتابة الفنية، في أية أمة من الأمم، نجد أنها تمر بالمستوى الأدبيّ أولًا، فالمستوى العلميّ ثانيًا، فالمستوى الصحفيّ في نهاية الأمر.
ففي الأول تكون الكتابة ذاتيةً لأنها أدبية، وفي الثاني تكون الكتابة موضوعيةً لأنها علمية، وفي الثالث تكون الكتابة عملية لأنها صحفية.
حدث هذا في أوروبا، فظهرت الكتابة الذاتية أو الشخصية عند الكاتب الفرنسيّ مونتاني "1533- 1592" ثم ظهرت المقالة الموضوعية عند الكاتب الإنجليزيّ بيكون "1561-1636" وأخيرًا ظهرت المقالة الصحفية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة على أيدي كتاب كثيرين، مثل: الكاتب الإنجليزيّ "ديفو" و"ستيل" وغيره من كتاب القرن الثامن عشر، الذين أدركوا الفروق بين هذه المستويات الثلاثة التي تحدثنا عنها، وقدروا إذ ذاك أن الصحافة جعلت لمخاطبة "رجل الشارع "ولتوجيهه، ولتثقفيه، ولتسليته، وإمتاعه، ومن أجل هذا أثر عن "ديفو" أنه قال كلمته المشهورة:"إذا سألني سائلٌ عن الأسلوب، قلت: إنه الذي إذا تحدثت به إلى خمسة آلاف شخص ممن يختلفون اختلافًا عظيمًا في قدراتهم العقلية -باستثناء البله والمجانين- فإنهم جميعًا يفهمون ما أقول".
وإذا صح هذا الذي نقوله الآن، فإننا نستطيع أن نقسِّم المقال في جملته إلى ثلاثة أقسام هي: المقال الأدبيّ، والمقال العلميّ، والمقال الصحفيّ.
وننظر في كل قسمٍ من هذه الأقسام الرئيسية، فنرى أنه ينقسم كذلك إلى أنواع وأشكال:
في أنواع المقال الأدبيّ -على سبيل المثال- المقال الوصفيّ أو العرضيّ، والمقال النزاليّ، والمقال النقديّ، والمقال الكاريكاتوري، والمقال القصصيّ، والمقالات التي على شكل رسائل بين المحرر وقرائه، والمقالات التي على شكل
مذكرات أو اعترافات، والمقالات التي على شكل خواطر وتأملات، وهكذا.
وللمقال العلميّ كذلك أنواع تختلف باختلاف المادة العلمية التي يخوض فيها الكاتب؛ فمقال في مادة التاريخ، وآخر في مادة الطب، وثالث في مادة الفلسفة، ورابع في مادة الأدب، من الناحية الوصفية لا الإنشائية، وهكذا، غير أنه يشترط في المقال العلميّ -إذا أريد نشره في صحيفة من الصحف- أن يبذل المحرر جهدًا كبيرًا في تبسيطه للقارئ، وبغير هذا لا تكون للصحيفة حاجة إلى نشره، أو العناية به.
والمقال الصحفيّ ينقسم هو الآخر إلى أنواع؛ منها: المقال الافتتاحيّ، أو العمود الرئيسيّ، والعمود العاديّ، والتقرير بأشكاله المختلفة التي هي: الحديث والتحقيق والماجريات بأنواعها المعروفة.
إلَّا أننا مع هذا وذاك، لا نستطيع ولو حرصنا أن نفصل فصلًا تامًّا بين هذه الأقسام الرئيسة الثلاثة التي هي: المقال الأدبيّ، والمقال العلميّ، والمقال الصحفيّ، والسبب في ذلك أنها تتلاقى في كثير من الأحيان، وتدع الباحث المدقق في حيرة من الأمر.
خذ لذلك مثلًا: مقال النقد، فإنك ترى هذا الفن من فنون القول ذاتيًّا وموضوعيًّا في وقت معًا، أو بعبارة أخرى: نراه فنًّا وعلمًا في آنٍ واحد، له من الفن ذاتيته، وله من العلم موضوعيته.
فالنقد علم بمعنى أن له أصولًا وقواعد تنبغي مراعاتها، ولا يستطيع الناقد أن يتجاهلها بحالٍ من الأحوال، والنقد فنٌّ بمعنى أن صاحبه في استطاعته أن يبني نقده على ذوقه الخاص، وشعوره الخاص نحو القطعة الأدبية أو الفنية التي يتعرض لها النقد، ويزنها بميزانه، ويطبق عليها أصوله.
فماذا نسمي المقال النقديّ إذن؟ أنسميه مقالًا أدبيًّا صرفًا؟ أم نسميه مقالًا علميًّا صرفًا، أم ننظر إليه على أنه مزاج من المقالين؟
وبمثل هذه الطريقة في الواقع تتلاقى فنون المقال على اختلافها، ويتداخل
بعضها في بعضٍ إلى الحد الذي تصعب معه التفرقة بينها تفرقةً لا تقبل الشكَّ، وقد أشرنا إلى هذه الظاهرة في مقدمة البحث.
تقسيم آخر للمقال:
أشرنا إلى أن المقالة في الأدب الأوربيّ بدأت برجلين من أبناء القرن السادس عشر، هما: ميشيل دي مونتاين الفرنسيّ، وفرانسيس باكون الإنجليزيّ، اشتهر أولهما بالمقال الذاتيّ، واشتهر الثاني منهما بالمقال الموضوعيّ، ومنذ ذلك الوقت ورجال الأدب والنقد يقسمون المقال من حيث هو إلى هذين النوعين فقط، أما المقال الذاتي فيُبْنَى على التأمل العميق، والتجربة الذاتية، والتأنق في الأسلوب قدر المستطاع؛ بحيث يتوافر له كثير من نعم الجمالية، وأما المقال الموضوعيّ، فيبنى على العناية بالمضمون والمحتوى، ويعنى فيه الكاتب بالموضوعات العلمية لتقديم النصح والإرشاد إلى طبقة خاصة من الناس، كما فعل ذلك عبد الحميد بن يحيى الكاتب حين كتب رسالته المشهورة إلى الكاتب، وكما فعل صديقه ابن المقفع حين كتب رسالته المشهورة كذلك باسم "رسالة الصحابة" موجهة إلى الخلفاء وذوي السلطان.
ومن اليسير علينا أن نفهم بعد ذلك لِمَ كانت المقالات الذاتية أدنى إلى الطول والانطلاق في العبارة، والتعبير عن شخصية الكاتب، على حين أن المقالة الموضوعية تبدو أقل طولًا، وأقصر انطلاقًا، وأدنى إلى التقيد بألفاظ خاصة، وتعبيرات خاصة.
والخلاصة حتى الآن أن المحور الذي تدور عليه المقالة الذاتية هو الكاتب نفسه، أما المحور الذي تدور عليه المقالة الموضوعية فهو الموضوع الذي يتعرض له الكاتب.
وغنيٌّ عن البيان أن المقالة الذاتية سبقت في وجودها المقالة الموضوعية، بل إن "باكون" -وهو رائد المقالة الموضوعية- كان متأثرًا بالكاتب
الفرنسيّ "مونتين" رائد المقالة الذاتية، جمع الأول -وهو مونتين- مقالاته بعنوان:"محاولات"، وجمع الثاني- وهو بايكون- مقالاته باسم:"موضوعات" والفرق بينهم واضح للقارئ، هكذا ذهب القدماء، وتبعهم المحدثون إلى تقسيم المقال إلى ذاتيّ وموضوعيّ، ولكننا نرى أن تقسيم المقال إلى ذاتيّ وموضوعيّ لا ينطبق في تقديرات الصحفيّ إلّا على المقال الأدبيّ والعلميّ، ولكنه قلما ينطبق على النوع الثالث من أنواع المقال، وهو المقال الصحفيّ.
وهذا هو السبب الحقيقيّ الذي من أجله عدلنا عن الأخذ بتقسيم المقال إلى ذاتيّ وموضوعيّ، وأخذنا بالتقسيم الذي ذكرناه، وهو تقسيم المقال إلى أدبيّ، وعلميّ، وصحفيّ؛ لأنه التقسيم الذي وافق خطة الكتاب الذي بين يديك.
تعريف المقال:
لقد سبق لنا كذلك في كتاب "الصحافة والأدب في مصر" أن تعرضنا لتعريف المقال1.
يطلق الإنجليز على المقال اسم: "محاولة Essay"، أي: أنها شيء غير مكتمل، شيء يشبه المذكرات الخاصة والخواطر المتناثرة، وعلى القارئ تكميل ما بالمقال من نقص، كما يكون على سامع القصيدة الغنائية أن يفعل مثل ذلك عند سماعه كل بين من الأبيات التي تتألف منها، وفي معجم لاروس تعريف للمقال كما يلي:
"المقال اسم يطلق على الكتابات التي لا يدعي أصحابها التعمق في بحثها
1 كتالب "الصحافة والأدب في مصر" للمؤلف ص16، وكتاب "مستقبل الصحافة في مصر" للمؤلف، ص 49.
أو الإحاطة التامة في معالجتها، ذلك أن كلمة "مقال" تعني: محاولة أو خبرة أو تطبيقًا مبدئيًّا، أو تجربة أولية".
وعرفه قاموس أكسفورد فقال:
"المقال هو إنشاء كتابي معتدل الطول في موضوعٍ ما، وهو دائمًا يعوزه الصقل، ومن هنا يبدو أحيانًا أنه غير مفهوم ولا منظم".
ومرةً ثالثةً أقول: إنني عرضت في بعض كتبي السابقة للفرق بين المقال الأدبيّ والمقال الصحفيّ، وأشرت في أثناء ذلك إلى كتابٍ سبقنا في معالجة هذا الموضوع، هو كتاب الأستاذ "موريس هيونيت" وقد وضع لكتابه عنوان:"العمود وسارية الربيع"1.
وبهذا العنوان فرَّقَ الكاتب تفرقةً واضحةً بين المقالة الصحفية التي رمز لها "بالعمود" والمقالة الأدبية التي رمز لها "بسارية الربيع"، وسارية الربيع هي ذلك العمود الكبير الذي يتخذه الإنجليزيّ رمزًا في "عيد الربيع" يزينونه بالزهور البديعة من كل صبغ، والورود الجميلة من كل لونٍ فتبدو السارية كأنها العروس في جلوتها، أما العمود العاري، وهو الذي رمز به الكاتب إلى المقالة الصحفية، فهو عارٍ من جميع هذه الزينة.
ومرةً أخرى نقول:
إن هذا هو رأينا في تقسيم المقال باعتباره مادةً من المواد التي يمكن أن تنشرها الصحف، وهو تقسيم يقوم على أساس من المستويات الثلاثة للغة من جهة، وأساس من واقع الصحافة المصرية ذاتها من جهة ثانية.
فنحن حين ننظر في صحافتنا المصرية من عهد قريبٍ، نرى أن النوعين الأول والثاني من أنواع المقال، وهما الأدبيّ والعلميّ، قد ازدهرا ازدهارًا
1 راجع "مستقبل الصحافة في مصر "للمؤلف ص 20.
عظيمًا في وقت النهضة الفكرية التي سادت مصر في الفترة الواقعة بين عامي 1922و 1942، أعني: في فترة ما بين الحربين العالميتين: الأولى والثانية، على وجه التقريب.
ففي تلك الفترة التي نشير إليها، نعمت مصر بشيء من الاستقرار الماديّ والاستقرار الاجتماعيّ أتاحا للشعب المصريّ -أو للطبقة المستنيرة منه- أن تقرأ وتتذوق وتستمتع، وإذ ذاك سعدت مصر بألوانٍ فكريةٍ وأدبيةٍ شتَّى، سنعرض في بعض الفصول القادمة لأمثلة منها، وفي تلك الفترة التي نشير إليها أنجبت مصر خير أدبائها في الواقع، ومنهم على سبيل المثال: أمين الرافعي، ومصطفى صادق الرافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وعبد القادر حمزة، وتوفيق دياب، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وإبراهيم المازني، وسلامة موسى، وزكي مبارك، وأحمد حسن الزيات، وأحمد أمين، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، وعبد العزيز البشري، وفكري أباظة، وأحمد زكي، ومحمد فريد أبو حديد.
ولقد كتب هؤلاء الفصول الممتعة في الصحف، وتوزعوا إذ ذاك على المقال بنوعيه: العلميّ والأدبيّ، وقدموا للقراء خلاصةً طيبةً للفكر المصريّ.
ففي المقال الأدبيّ النقديّ ظهرت فصولٌ كثيرةٌ في الصحف، جمعت بعد في كتب، ومنها على سبيل المثال:
"حصاد الهشيم" للمازني، و"ساعات بين الكتب" للعقاد، و"مطالعات في الكتب والحياة" له أيضًا، و"شعراء مصر في الجيل الماضي" له كذلك، و"حديث الأربعاء" لطه حسين، و"حافظ وشوقي" له كذلك، و"ثورة الأدب" لهيكل.
وإذا تأملنا في هذه الفصول التي اشتملت عليها الكتب المتقدمة
اعتبرناها من المقال الأدبيّ، واعتبرناها كذلك من المقال النقديّ، ونحن على صوابٍ في كلتا الحالتين.
وفي المقال الذي على شكل مذكراتٍ أو اعترافاتٍ، نجد على سبيل المثال:
كتاب "الأيام" لطه حسين، و"عالم القيود والسدود" للعقاد، وكتاب "حياتي" لأحمد أمين.
ولا ننسى أن نذكر أن هذه الفصول أو المقالات التي على شكل مذكرات، أو اعترافاتٍ، تعتبر من الأسباب التي مهدت لظهور الأدب الواقعيّ من جانبٍ، وهي في الوقت نفسه أثر من آثار الصحافة من جانبٍ آخر.
أما المقالات التي على شكل خواطر وتأملات فمن الأمثلة عليها:
كتاب "فيض الخاطر" لأحمد أمين، وسيل من الكتب الأخرى لا سبيل إلى حصرها، أو الإلمام بها.
أما المقال العلميّ البحت، فمنه أكثر ما نشرته مجلة المقتطف، ومجلة الهلال، وإن كانت الأولى منها -بنوع خاص- إلى العلم أسبق، وبه أحفل، وأما المقالات النزالية فلها في مصر طريقان هما: طريق الأدب من ناحية ثانية.
ففي الأدب ظهرت معركة حامية الوطيس بين القديم والجديد، وهي المعركة التي بدأت على صفحات "الجريدة" لمحررها أحمد لطفي السيد، وتناظر فيها رجلان هما: مصطفى صادق الرافعي عن القديم، وطه حسين عن الجديد، ثم ما لبثت هذه المعركة أن انتقلت إلى صحيفة "السياسة الأسبوعية" لمحررها محمد حسين هيكل، وما زال لهذه المعركة ذيول في صحفنا المصرية إلى اليوم.
ومن النزال الأدبيّ كذلك، تلك المعركة التي دارت رحاها مرةً أخرى بين طه حسين، وعباس العقاد حول موضوع الأدب اللاتيني، والأدب السكسوني، تَشَيَّعَ فيها الأول للثقافة اللاتينية، وتَشَيَّعَ فيها الأخير للثقافة السكسونية، وبقي الأمر سجالًا بينهما مدةً ليست بالقصرة.
وفي الطريق الثاني من طرق النزال السياسيّ كثرت معارك شتَّى بين الأحزاب المصرية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، وأخذت تتزايد شيئًا فشيئًا فيما بعد، وقد أنزلقت بعض هذه المعارك السياسية أو الحزبية شيئًا فشيئًا فيما بعد، وقد انزلقت بعض هذه المعارك السياسية أو الحزبية إلى مستوى الخوض في الأشخاص والأعراض، وكان من هذه الأخيرة تلك الحملات الصحفية العنيفة التي حمل فيها العقاد على الرئيس السابق مصطفى النحاس، وذلك منذ خرج العقاد من حزب الوفد، وانضم إلى حزب آخر من الأحزاب السياسية، هو حزب السعديين في مصر.
وإذا ذكرنا المقال النزاليّ في الصحافة المصرية، فإنه لا يصح لنا أن ننسى أولًا الحملات الصحفية في تاريخ هذه الصحافة، ونعني بها: الحملة التي اقترفت باسم "السيد على يوسف" صاحب "المؤيد"، وفيها شهر الرجل قلمًا على اللورد كرومر، جبار الاحتلال الإنجليزي في مصر، وكان ذلك في الفترة البسيطة التي سبقت سقوطه عن عرش الوكالة البريطانية، والفترة البسيطة التي أعقبت هذا السقوط، أعني: في النصف الأخير من سنة 1907، وقد عرفت المقالات النزالية التي تألفت منها حملة "السيد على يوسف" وعددها أربع عشرة مقالة، باسم مقالات:"قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء"1.
هذا كله من حيث الصحافة المصرية، أو الأدب المصريّ المعاصر.
المقالة العربية في العصور القديمة:
أما في الأدب العربيّ القديم، فقد وجدنا أن إقناع الرأي العام كان
1 عن أدب المقالة الصحفية في مصر، للمؤلف، الجزء الرابع ص 46و 76.
يسلك في البيئات السياسية وغيرها من البيئات المتحضرة طريقةً واحدةً فقط، هي طريقة الرسائل الحرة، يكتبها أدباء وعلماء لهم في تاريخ الأدب العربي شهرة واسعة، وكانوا لشهرتهم هذه مصدر خطر على الدولة حينًا ومصدر أمنٍ وصيانةٍ لها حينًا آخر، وهذه الرسائل، التي كتبها أولئك للكتاب في موضوعات الدين والسياسة والاجتماع والأدب، تعتبر مع التحوير القليل صحافةً كاملةً بالنسبة للعصور التي ظهرت فيها1.
وقد ذهب الدكتور "محمد عوض محمد" في كتابه "فن المقالة الأدبية" إلى أن الخطبة بما لها من الإتقان اللفظيّ تعتبر أول خطوةٍ من خطوات المقالة الأدبية، أو أقوم صورةٍ لها، ثم تأتي بعد ذلك "المقامة" التي تعتبر الخطوة الثانية، أو الصورة الثانية للمقالة، وقريب من المقامة في الشبه الأحاديث والفصول التي يكتبها أدباء مشهورون مثل كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي، و "الفصول والغايات" لأبي العلاء المعري، وأخيرًا تأتي الرسالة فتمثل الخطوة الثالثة والأخيرة من الخطوات الموصلة إلى المقال، أو ينظر إليها على أنها صورة ثالثة من هذا المقال، كما عرَّفَه الأدب العربيُّ القديم، والرسالة في ذاتها أنواع:
فمنها الرسالة الديوانية التي تصدر عن الخليفة أو الأمير أو السلطان، ومنها الرسالة الحرة التي أشرنا إليها، وهي التي تكتب في شتَّى الموضوعات التي لا صلة لها بالدولة.
ومنها الرسالة الإخوانية التي يبعث بها الكاتب إلى بعض أصدقائه، وفي هذه الأخيرة يتناول الكاتب في بعض الأحيان شأنًا من شئون الحياة العامة، أو الخاصة، بفرق واحد، هو أن هذه الأخيرة تصطبغ بلون فلسفيّ بحت، ونجد ذلك في رسالة "ابن الفارقي" إلى أبي العلاء المعري، وقد رَدَّ المعري على "ابن الفارقي" في "رسالة الغفران".
1 عبد اللطيف حمزة "أدب المقالة الصحفية "الجزء الأول، ط 1964 ص5و6.
وهناك نوع رابع من الرسائل هو النوع الذي يكتبه الكاتب ليقرأه الناس جميعًا، وهذا لا يرسل إلى شخص3 بعينه، ومن هذا الطراز أكثر رسائل الجاحظ.
وعلى ضوء ما تقدَّم في شر ح الرسائل، يصح لنا أن ننظر إلى كل من "رسالة الحسن البصري في وصف الإمام العادل، ورسالة عبد الحميد بن يحيى الكاتب إلى الكتاب، وإلى الرسالة السياسية الإصلاحية المسماة بالهاشميين، أو رسالة الصحابة لابن المقفع، وإلى رسالة إبراهيم بن المدبر المسماة بالرسالة العذراء، وإلى رسائل الجاحظ كلها بدون استثناء، وإلى رسالة مالك بن أنس إلى الرشيد، وإلى بعض رسائل بديع الزمان، والخوارزمي، وإلى بعض رسائل الأبشيهي في كتابه "المستطرف في كل فن مستظرف"، وإلى رسالة أبي العلاء المعروفة برسالة "الغفران"، وإلى رسائل إخوان الصفا، وإلى رسالة سهل بن هروان إلى بني عمه من آل راهبون، كما يصح لنا أن ننظر إلى جميع هذه الرسائل وأشباهها في تاريخ الأدب العربيّ على أنها مقالات أدبية، أو صور حية من صور المقال الأدبيّ، كما عرفته العصور القديمة في تاريخ الأدب العربيّ.
وفي ختام هذا الفصل تأتي بعض فقرات من رسالة الحسن البصريّ في وصف الإمام العادل على سبيل المثال:
"اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مواقع التهلكة، ويحميها من السباع، ويكفها عن أذى الحر والقر.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح وتفسد بقساوته، وهو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم
وينظر إلى الله ويراهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال1.
وبعد، فإننا كما قلنا لا نستطيع الإلمام بهذا السيل المتدفق، أو الشتات المتفرق من المقال المصريّ بفنونه الثلاثة،: الأدبيّ، والعلميّ، والصحفيّ، ولكنا مكتفون هنا بالوقوف قليلًا عند المقال الأدبيّ، محاولين أن نضرب المثل عليه بأنواع ثلاثة فقط من أنواعه الكثيرة، وهذه الأنواع هي: المقال القصصيّ، والمقال الذي على شكل اعترافات أو مذكرات، والمقال الكاريكاتوريّ.
فإذا فرغنا من ذلك انتقلنا إلى المقال العلميّ، فتحدثنا عن خصائصه، وطريقة كتابته.
أما المقال الصحفيّ فنحن مضطرون إلى التحدث عن جميع فنونه المعروفة في الصحافة الحديثة، كالمقال الافتتاحي، والعمود، والحديث، والتحقيق، والماجريات الصحفية، كما ستأتي فيما بعد:
1 محمد يوسف نجم: فن المقالة، ص 28ط بيروت 1957.