الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا الكتاب:
"1"
كنا قبل اليوم حين نتحدث في دروس الأدب عن النثر نقول إنه نوعان:
أولهما: النثر العاديّ، أو لغة التخاطب، وهو النثر الذي نصطنعه في حياتنا اليومية، وليس هذا النثر أدبًا، ولا ينبغي له أن يكون منه في شيء.
وثانيهما: النثر الفنيّ، وهو النثر الذي نتجاوز به لغة التخاطب العادية إلى حيث يتوفر فيه شرطان أساسيان هما: التفكير من جهة، والجمال من جهة ثانية، وهذا النوع الأخير يعتبر أدبًا، ولا يشك أحدٌ في أنه جزء منه.
كنا قديمًا نقسم النثر في دروس الأدب هذا التقسيم، أما الآن -ومنذ ظهور الصحافة- فنحن مضطرون إلى أن نقسم النثر أقسامًا ثلاثة، هي:
النثر العاديّ، أو لغة التخاطب.
والنثر الفنيّ، أو لغة الأدب.
والنثر العلميّ، أو لغة الصحافة.
وهذا النثر الأخير يقف في منتصف الطريق بين النوعين المتقدمين، له من الأول عاديته وألفته وسهولته وشعبيته، وله من الثاني حظَّه من التفكير، وحظه كذلك من عذوبة التعبير، ولكن لا يشترط فيه دائمًا أن يسمو بتعبيره إلى مرتبة النثر الفنيِّ الخالص.
نقول: لا يشترط دائمًا فيه ذلك؛ لأن سموَّ النثر العمليّ أو الصحفيّ إلى مرتبة النثر الفنيّ أو الأدبيِّ ليس من الأمور المحظورة على الصحافة، بل كثيرًا ما نرى بعض المواد التي تنشرها الصحيفة تتطلب هذا المستوى الرفيع من جمال التعبير، كما سنوضح ذلك في غير هذا الموضع من الكتاب -إن شاء الله.
من أجل ذلك يصف الأوربيون الصحافة بأنها: "الأدب العاجل" وبأنها: "أدب غير خالد"، ذلك بأنها أدب وقتيّ، والمحرر الصحفيُّ لا ينفق فيها من الجهد ما ينفقه الأديب.
"2"
نحن نعلم أن المشتغلين بالصحافة كانوا دائمًا -وإلى عهد قريب- من رجال الأدب، ليس ذلك في مصر وحدها، ولكن فيها وفي غيرها من الأمم، وكان لذلك أثره في اللغة نفسها، فقد كان الصحفيون قديمًا لا يعرفون كيف يفرقون بين اللغة التي تستخدم في الصحافة، واللغة التي تستخدم في الأدب، ثم سرعان ما أصبحت الصحافة حرفةً من الحرف، ومنذ ذلك الوقت فقط، أخذت الصحافة تنفصل شيئًا فشيئًَا عن الأدب، وصارت فنًّا قائمًا بذاته، له لغته المستقلة، وصار لهذا الفن الجديد -وهو فن التحرير الصحفيّ- أصول وقواعد، وتفرع هذا الفن الجديد أيضًا إلى فروعٍ وشعبٍ.
ونحن نعلم أن للصحافة فنونًا ثلاثةً على وجه الإجمال وهي:
أولًا: فن التحرير، وهو الموضوع الذي نتناوله في هذا الكتاب.
ثانيًا فن الإخراج، وهو الفن المتصل بالورقة والمداد والطباعة والصور والألوان، وتنسيق الصفحات، وكتابة العناوين صغيرها وكبيرها، وباختصار: هو الفن الذي يحاول به مخرج الصحيفة أن يجعل منها تحفةً فنيةً جميلةً يتسابق القراء إلى اقتنائها والانتفاع بها.
ثالثًا: فن إدارة الصحيفة، وهو فن يتصل بالترويج والتوزيع والإعلان، وغيره من الأمور التي تدر الربح على الجريدة.
تلك هي الفنون الثلاثة للصحافة، وقد رأينا -أو على الأصح- رأى "قسم التحرير والترجمة والصحافة" بكلية الآداب، أن يبدأ التأليف في الفن الأول، وهو "التحرير"، وعزم القسم بمشيئة الله أن يواصل البحث
في هذا الفن، وفي الفنين الآخرين، وفي سبيل هذه الغاية سيتعاون الأساتذة في هذا القسم من أقسام الجامعة، ومنهم الخريجون الذين يريدون الحصول على الدكتوراة في الصحافة، ولن يمضي وقت طويل -بإذن الله- حتى تزخر المكتبة العربية بالبحوث العلمية والفنية التي تتقدم بها الفنون الصحفية كلها خطوات إلى الأمام.
"3"
ولكن ما هي أقسام التحرير الصحفيّ من حيث هو؟
هنا يختلف العلماء فيما بينهم اختلافًا بعيد المدى، ومصدر اختلافهم هو الأساس الذي يبنون عليه تقاسيمهم المختلفة على هذا النحو:
فمن العلماء من يقسمون التحرير الصحفيّ على أساس الموضوع؛ فتحريرٌ خاصٌّ بالسياسة، وتحريرٌ خاصٌّ بالعلوم، وثالث خاصٌّ بالاجتماع، ورابع بالتعليم، وخامس بالمرأة، وسادس، وسابع، وثامن بالسينما والمسرح والرياضة والكتب والزراعة، إلخ، وعلى الصحف -في رأي هؤلاء- أن تخصص صفحةً لكل موضوع من الموضوعات السابقة على حدة.
ومن العلماء من يميلون إلى تقسيم التحرير الصحفيّ إلى فنون؛ من حيث الزاوية التي ينظر منها المحرر إلى هذه الفنون، فهناك الزاوية التاريخية، وهناك الزاوية النقدية، وهناك الزاوية التي تتصل بالخبرات الخاصة، إلخ.
ومن العلماء من يفضلون تقسيم التحرير الصحفيّ على أساس الأشكال المختلفة لهذا التحرير، فمن أشكال التحرير الصحفيّ كما هو معروف المقال، ومنها العمود، ثم الحديث والتحقيق، والأخبار المسرودة، والأخبار التي على شكل قصص، والأخبار التي على شكل طرائف خفيفة، يقصد بها إلى التسلية والإمتاع، ويسميها الإنجليز والأمريكيون "Features" وكثيرًا ما تتصل هذه الطرائف بموضوعٍ من الموضوعات الإنسانية التي يميل إليها القراء، ثم من أشكال التحرير الصحفيّ أيضًا الماجريات على
اختلافها من برلمانية إلى قضائية إلى دولية وهكذا.
وهذا التقسيم الأخير هو الذي أخذنا به في هذا البحث، ومن هنا يتضح لنا منذ بداية الأمر كيف تتداخل فنون التحرير بعضها في بعض، وكيف يصعب التمييز بينها تمييزًا لا يقبل الشك، وسنعود إلى الحديث عن هذه المشكلة في بداية الكتابة الرابع من كتب هذا البحث.
"4"
على أن الفن الصحفيّ في ذاته من أشد الفنون كلها قبولًا للتطور، ذلك أنه من أشدها اتصالًا بالحياة الإنسانية والنشاط الإنسانيّ، وهذا النشاط في تغيّر مستمرٍ، لا تستطيع الحياة البشرية معه أن تثبت على حالة واحدة.
فرب كتاب يؤلف في "الفن الصحفيّ" هذا العام، يصبح شيئًا قديمًا في ذاته بعد أعوام، غير أن ذلك لا يصح أن يمنع العلماء من القيام بالتأليف في هذا الميدان، فإن كان بحث من هذه الأبحاث -فضلًا عن أنه يرشد إلى أصول هذا الفن وقواعده- يحمل في طيَّاته العمر الزمنيّ لهذا الفن، أو الدرجة التي بلغها في فترة بعينها من حياة أمةٍ من الأمم.
وتلك أسباب من شأنها أن تجعلنا نقدم هذا البحث إلى القراء، وإلى العلماء منهم بنوع خاصٍّ -في شيء كثير من التواضع أولًا- ومن الاعتراف بالواقع التاريخيّ ثانيًا، ومن التقدير الدقيق للفرق بيننا وبين الأمم التي سبقتنا إلى التأليف في هذا الفن آخر الأمر.
وحسب هذا البحث أنه يعتبر من أول ما كتب باللغة العربية في الفن الصحفيّ بمصر، وأملنا كبير في أن تأتي بعدنا أجيال من الباحثين يتابعون التقدم الذي تصيبه الصحافة العالمية، أو الصحافة الإقليمية من حين إلى حينٍ، ويرسمون الطريق القويم الذي تنفذ منه الصحافة إلى المثل الأعلى الذي يطمع فيه الجميع.
وهنا يسرني أن أستطرد إلى ذكر طرف يسير من رسالة "قسم التحرير والترجمة والصحافة" بجامعة القاهرة، وهو القسم الذي أنشيء في مصر منذ عام 1954 فقط، وإن كان قد سبقه إلى الوجود، "معهد التحرير والترجمة والصحافة" بالجامعة منذ سنة 1940، وكان لا يقبل في ذلك المعهد غير الطلبة الذين أتموا دروسهم في كليات الجامعة على اختلافها، على حين أن القسم أصبح يقبل فيه الطلبة الحاصلون على شهادة إتمام الدراسة الثانوية.
5"
إن رسالة "قسم التحرير والترجمة والصحافة" بالجامعة، يمكن أن تتلخص في العبارة الآتية، وهي:
"رفع المستوى العلميّ والفنيّ والخلقيّ لجميع المشتغلين بمهنة الصحافة في مصر، والعمل على إثبات الشخصية المصرية لصحافتنا القومية في جميع المراحل التاريخية التي مرت بها إلى اليوم".
فأما المستوى العلميّ، أو الثقافيّ، فمبنيٌّ عندنا على أساسٍ من الفهم الصحيح لمهمة الصحافة الحديثة، وتنحصر هذه المهمة في تنوير رجل الشارع، وتزويده بالثقافات التي يفهم بها المجتمع، كما يفهم بها الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تراد به في هذا المجتمع، وذلك ما دامت الحكومات الحديثة على اختلاف أشكالها تعتمد على رجل الشارع في إقناع الأمة بهذه الأوضاع، أو في إشراكها إشراكًا فعليًّا في رسم هذه الأوضاع.
والصحافة الحديثة هي المسئولة في الحال والاستقبال عن إفهام المواطنين معنًى صحيحًا لكلمة "الوطنية"، بحيث تصبح مرادفة في أذهانهم لكلمات "الضمير الحيّ"، "وتقدير المسئولية".
والصحافة الحديثة هي المسئولة في الحال والاستقبال عن إشراك المواطنين في كل حركةٍ يراد بها نقلهم من طورٍ إلى طورٍ، ومن حالةٍ إلى حالةٍ، ومن مستوًى ماديٍّ أو معنويٍّ إلى مستوًى أعلى منه.
ولن يتيسر للصحافة الحديثة شيء من ذلك حتى تزود "رجل الشارع" بقدر من المعلومات، يفهم به التيارات أو المذاهب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية.
ومعنى ذلك باختصار: أن مهمة الصحافة الحديثة ليست مجرد سرد الأخبار، مهما غلب عليها الطابع الإنسانيّ، ولكن سردها والتعليق عليها، وشرحها "لرجل الشارع" شرحًا يبصره دائمًا بما يجري حوله الآن، وما سيجري حوله في المستقبل.
ومن هنا تتضح ضرورة الهدف الأول من أهداف "قسم التحرير والترجمة والصحافة" وهو الهدف العلميّ، أو الثقافيّ، كما يتضح السبب الذي من أجله ينظر بعناية خاصة إلى موضوع "ثقافة الصحفيّ".
"6"
وأما المستوى الفنيّ فمبنيٌّ عندنا كذلك على أساس من الفهم الصحيح للصحافة، باعتبارها فنًّا من الفنون الحديثة، وإذا قلنا:"الفن" فنحن نعني الموهبة والاستعداد من جهة، كما نعني التدريس والممارسة من جهة ثانية.
ذلك أن من الناس من هو موهوب بالطبيعة: موهوب في الموسيقي، أو موهوب في الأدب، أو موهوب في الصحافة، وهكذا، وهؤلاء الموهوبون من حقهم على الدولة دائمًا أن تعينهم على الظهور في المجتمع، كأن تيسر لهم سبيل الدخول في المعاهد الخاصة، وتنفق عليهم بسخاء في هذه الناحية، وتمنحهم أعظم الفرص الممكنة لإظهار المواهب التي خصهم الله بها.
والفرق كبير -على أية حالٍ- بين موهوب حُرِمَ حظًّا من التعليم، وآخر نال حظًّا أو حظوظًا من التعليم. وتطبيق ذلك على الصحافة واضح كل الوضوح، فهناك طرق خاصة لتحرير الخبر الداخليّ، وهناك طرق خاصَّة لكتابة العمود أو المقال الصحفيّ، وهناك طرق خاصة لكتابة
الحديث أو التحقيق، ونحو ذلك، وليس شكٌّ في أن وقوف المحترفين للصحافة -حتى الموهوبين منهم- على هذه القواعد والأصول، يمدهم بطائفةٍ من التجارب الكثيرة من جانب، ويشحذ عقولهم ومواهبهم للوصول إلى طرق أخرى جديدة من جانب آخر، وقل مثل ذلك بالقياس إلى الفنون الصحفية الآخرى -عدا فن التحرير- كفن الإخراج، وفن الإعلان، وفن التوزيع، وفن الدعاية.. إلخ.
ومن هنا تتضح ضرورة الهدف الثاني من أهداف الجامعة، وهو الهدف الفنيّ، وفيه تعتمد الجامعة على إمكانياتها الخاصة أولًا، وعلى المعونة التي تقدمها الصحف الكبرى لتدريب الطلبة والطالبات في دورها بعد ذلك.
"7"
أما الهدف الخلقيّ: فمبنيٌّ عندنا كذلك على أساسٍ من الفهم السليم لظاهرةٍ في منتهى البساطة، وخلاصة هذه الظاهرة: أن الصحيفة "كالخبز واللبن واللحم والخضر والفاكهة" من المواد التي تدخل البيت كل صباحٍ ومساءٍ، فينبغي إذن أن تكون على جانب كبير من النظافة والنقاء، بمعنى: أن تكون نقية من الجراثيم التي تجلب الأمراض المعدية والأوبئة الفتاكة.
ومعنى ذلك أن على الحكومات -كما على الشعوب- أن تساعد على وقاية صحفها من الأفكار السامة، والآراء الخبيثة، والنظريات الهدامة، والصورة المريضة، أو الضارة بوضعٍ من أوضاع المجتمع، سواء اتصل هذا الوضع بالدين، أم بالأخلاق، أم بالمفهوم العامِّ لكلمة "الوطنية" أو "الحرية" أو "المسئولية" إلخ، أما الصحافة الصفراء التي لا هَمَّ لها إلّا إثارة الجمهور -لا لقصدٍ غير ابتزاز الأموال، واللعب بغرائز النساء والرجال- فصحافة ضررها أكثر من نفعها، بل عدمها خير من وجودها.
هل من الحذق الصحفيّ -مثلًا- أن يعمد المخبر الصحفيّ إلى سرقة التقارير من رجال الحكومة والأعمال، مهما كان الدافع إلى هذه السرقة:
من ادعاء خدمة مصلحة من مصالح الوطن العليا، أو الكشف عن سر من أسرار مؤامرة كبرى؟ نظن لا!
هل من صالح الجريدة الشعبية، أو من صالح القراء أنفسهم، أن تسعى الصحف في نشر الجريمة، وأن تجعل الغرض من نشرها التشهير بالأسر المعروفة، أو النيل من الشخصيات المرموقة، أو المبالغة في وصف الطرق التي اتبعت في تنفيذ الجريمة؟ نظن لا!
إننا نكتفي بهذين المثالين، ونوضح للقارئ موقف "قسم الصحافة" من كل منهما على حدة، ونربط حكمه هنا بهذا الهدف الثالث من أهدافه، وهو الهدف الخلقيّ.
أما سرقة الخبر: مهما كان الدافع إليها، فإننا نرى أن ذلك إن أصاب الغرض مرةً، فإنه يخطيء هذا الغرض مرات، وإذ ذاك تنحط قيمة المخبر الصحفيّ في نظر المجتمع، وتفقد الصحيفة ثقة الجمهور والحكومة في وقت ما. وفي شتّى الوسائل التي يدرسها الطلبة للوصول إلى الخبر ما يغني عن ارتكاب السرقة، ومن هذه الوسائل -على سبيل المثال- الصداقة التي ينبغي أن ينشئها المخبر دائمًا مع الناس، على اختلاف الدرجات والطبقات، ومنها الإيهام بالعلم، بمعنى: أن المخبر يستطيع بلبقاته أن يوهم مصدر الخبر بأنه على علم به.
وعن طريق الصداقة يستطيع المخبر الناجح أن يدرس نفسية الرجل أو المرأة التي هي مصدر الخبر، وله أن يبني العلاقة بينه وبينهما على المجاملات والهدايا والطرائف، وإشباع الهوايات الخاصة التي يكشف عنها المخبر في الشخصية التي هي "مصدر الخبر".
وهذا وذاك من الأمور الجائزة، بل المستحسنة عند رجال الصحف، ولها جزء من ميزانيتها في أغلب الأحيان، وأما نشر الجريمة على أساسٍ من التشهير والتشنيع والفضيحة والمبالغة، فشيء لا نقره مطلقًا، بل نرى فيه دليلًا على انحطاط مستوى الشعب ومستوى
الجريدة معًا. وكما قال أحد أساتذة الصحافة في الجامعات الأمريكية لطلبته كلما دخل حجرة البحث أو المحاضرة "انشروا الخبر- أيها الطلبة- دائمًا بالطريقة التي تستطيعون أن تقرءوه بها على آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم في منازلكم الخاصة"! ومعنى ذلك إذن: أنك حين تنشر الخبر، وترى فيه كلمة نائية، أو عبارة مقذعة، أو أسلوبا يخدش الشرف، وتحس أنك غير قادر على أن تقرأ ذلك على أبيك أو أمك أو أختك في منزلك، فمن المروءة والشرف في هذه الحالة أن تحذف هذه العبارة، وتأتِي بأخرى غيرها، قد تؤدي معناها على وجه التقريب، ولكن ليس من المروءة والشرف أن تختفي وراء الكلمة المطبوعة، وتتركها تنفث السموم القاتلة في البيت والطريق والنادي والمقهى، إلخ.
وقد ذكرتني كلمة الأستاذ الجامعيّ المتقدمة، بما كان يفعله الأدباء المصريون في القرنين السادس والسابع للهجرة، ففي تلك الفترة من فترات الأدب المصريّ، اخترع النقاد المصريون فنونًا كثيرةً من البديع؛ منها فنٌ أطلقوا عليه اسم:"النزاهة" وقالوا في تعريفه يومئذ:
"النزاهة هي أن ينزه الكاتب أو الشاعر نفسه عن ألفاظ الفحش والبذاءة، حتى يكون الهجاء -كما قال أبو عمرو بن العلاء: تنشده العذراء في خدرها فلا يقبح عليها".
أليس معنى ذلك أن "النزاهة" صفة من صفات الأدب المصريّ منذ العصور الوسطى إلى اليوم؟
أليس معنى ذلك أن "النزاهة" طابع تمتاز به الشخصية المصرية في الأدب منذ ذلك العهد؟
أليس معنى ذلك أن القيم الإنسانية نفسها خالد بخلود النفس البشرية ذاتها، وأن في بقائها ما ينذر الأشرار من الكتاب والأدباء بالويل؟
إننا نرجو حين نؤرخ للصحافة المصرية دائمًا أن نجد لها هذا الطابع الذي امتاز به الأدب المصريّ منذ عصوره الأولى، وإذ ذاك نطمئن إلى
أن الصحافة -التي هي بنت الأدب- ستحافظ دائمًا على الطابع الذي يمتاز به هذا الأدب؛ وإذ ذاك أيضًا نفخر بأن الصحافة المصرية ستحمي على الدوام ظهر الشخصية المصرية، وتمكنها من النماء والقدرة على مغالبة الزمن.
"8"
وبعد: فهذا البحث الذي بين يديك مؤلف من مقدمةٍ وأربعة كتبٍ وخاتمة، أما المقدمة: فهى ما فرغت الآن من قراءته.
وأما الكتاب الأول: فموضوعه الرأي العام وتعريفه، والفرق بينه وبين الاتجاه العام والسخط العام، والحدود التي ينبغي أن تحد الرأي العام في ذاته، ثم كلمة عن تطور الرأي العام في مصر.
وأما الكتاب الثاني: فموضوعه فن الخبر، تحدثت فيه عن تعريف الخبر، وطرق صياغته، والمذاهب المختلفة في نشره، ولغة كتابته، وعلاقته بالمجتمع.
وأما الكتاب الثالث: فموضوعه فن المقال، تحدثت فيه عن تعريفه، وأنواعه الثلاثة التي هي: المقال الأدبيّ، والمقال العلميّ، والمقال الصحفيّ، وعن الحيل الصحفية التي تتبع في التحرير، في أوقات الأزمات والظروف السياسية الشاذة، وهي الظروف التي تفرض فيها الرقابة فرضًا شديدًا على الصحف.
وأما الكتاب الرابع: فموضوعه فن التقرير، ونعنى به: فن الحديث الصحفيّ، وفن التحقيق الصحفيّ، وفن الماجريات: قضائية كانت أم برلمانية، أم دبلوماسية، أم دولية، وخصائص كل منها.
وفي الخاتمة: تحدثت حديثًا تمامًا عن "مستقبل التحرير في مصر". والله أسأل أن ينفع به طلبة العلم، ومحترفي الصحافة في مصر والشرق، إنه سميع مجيب.
مصر الجديدة في نوفمبر 1956 دكتور: عبد اللطيف حمزة