الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الماجريات الدبلوماسية:
لكل دولة من الدول سياستها الخاصة بها، الداعية إليها، والمروّجة لها، غير أن هذه السياسة الخاصة تتغير من وقتٍ لآخر، حسبما تقتضيه الظروف والأحوال، وحسبما يحيط بالدولة نفسها من ملابساتٍ وتياراتٍ، ومهما يكن الأمر، فلا مناص للدولة الواحدة من أن تكون لها سياسة واحدة في فترةٍ من الزمن واحدةٍ، وإذ ذاك تحاول هذه الدولة أن تجذب إليها أكبر عدد ممكن من الدول التي يمكن أن تتفق معها في هذا الاتجاه، وفي سبيل هذه الغاية تعقد الدولة من حينٍ لآخر بعض المؤتمرات التي تدعوا إليها، أو تُدْعَى هي إليها، للنظر في هذه الاتجاهات السياسية التي تهمها، وتهم الدول الضالعة معها، وهذا ما يطلق عليه:"الأحداث الدبلوماسية"، ومنها على سبيل المثال: مؤتمر الصلح بين دولتين متحاربتين، والمؤتمرات السياسية التي تعقد فيها المعاهدات وقت السلم، والمفاوضات، أو المشاورات التي تدور حول بعض المشكلات الدولية على اختلافها.
ومن الأمثلة على هذه الأخيرة:
المؤتمر الذي عُقِدَ من ممثلي كوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية، في أثناء الحرب الكورية، ومنها مؤتمر الحكومات العربية الذي انعقد بالقاهرة في أوائل عام 1954، لبحث الموقف العربيّ عقب الاعتداءات الصهيونية على حدود البلاد العربية، ومنها المؤتمر الثلاثيّ المؤلف من ملك المملكة العربية السعودية، ورئيس الجمهورية السورية، ورئيس الجمهورية
العربية المتحدة، وقد انعقد بالقاهرة في مارس سنة 1956، لتحديد السياسة العربية تجاه إسرائيل والدول الاستعمارية.
ومنها: مؤتمر وزراء خارجية مصر، وسوريا، والأردن، ولبنان، المنعقد في شهر مايو سنة 1956 بدمشق؛ لبحث تقرير الجنرال "بيرنز"، مندوب هيئة الأمم المتحدة عن مشروع تقسيم مياه الأردن، ومنها كذلك المؤتمر الذي ضَمَّ ملوك العرب ورؤساهم، في بيروت في 13 نوفمبر سنة 1956، للنظر في سياسة الدول العربية، وعلاقاتها بكل من انجلترا وفرنسا، وذلك عقب الاعتداء الثلاثيّ المسلَّح من جانب هاتين الدولتين، ومعهما دولة إسرائيل في الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر من السنة المذكورة.
ومنها كذلك: المؤتمر الذي عقدته دول كولمبو "الهند وأندونيسيا، وسيلان، وبورما"، للنظر في سياستها المشتركة بإزاء العدوان الثلاثيّ المسلَّح الذي تقدم ذكره.
على أنه من الملاحظ أن هذه المؤتمرات الدبلوماسية كثيرًا ما تنعقد بصفة سرية، فلا يتمكن الصحفيون من حضورها، اللهمَّ إلَّا في البداية، أعني: في الجلسات الافتتاحية، وهي الجلسات التي يكتفي فيها بعرض جدول الأعمال، وإلقاء كلمات الترحيب، أو التشجيع من جانب الملوك والرؤساء والوزراء، ثم يمضي المؤتمر الدبلوماسي بعد ذلك في عقد جلساته دون السماح لمندوبي الصحف بالحضور، إلَّا في حالاتٍ خاصة.
من أجل ذلك يصعب على الباحث أن يحصل على تقارير في شكل ماجريات دبلوماسية دقيقة، وبدهيّ أن رجوع الباحث العلمي في الصحافة إلى محاضر هذه المؤتمرات لا يفيده كثيرًا؛ لأنه إنما يُعْنَى بالطريقة الفنية التي تعالج بها الصحف هذه الماجريات السياسية، ولا عناية له بهذه الأحداث من الناحية التاريخية.
من أجل ذلك تلجأ بعض الصحف إلى إهمال هذا النوع من الماجريات
فتكتب عنه بإيجازٍ شديدٍ في أول الأمر، ثم تنتظر إلى الجلسة الأخيرة، فتبذل فيها كل ما تستطيع من جهد، وتكتبها في شكل ماجريات دبلوماسية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة عند إطلاقها، والسبب في ذلك أن هذه الجلسة الأخيرة هي التي ينتهي فيها المجتمعون إلى قرارٍ مشترك يصدرونه بشكل "بيان رسمي" يعبر عن آرائهم، ويوضح اتجاهاتهم، ويَنُمُّ عن الخطط التي وضعوها للسير في هذا الاتجاه.
نموذج:
لقد اخترنا أن يكون النموذج لهذه الماجريات الدبلوماسية هو المؤتمر الذي عقده وزراء خارجية الدول العربية بالقاهرة، في أوائل يناير سنة 1954، وفيه انتهى هؤلاء الوزراء من رسم "السياسة العربية الجديدة" على ضوء المشروع الذي قدمه الدكتور فاضل الجمَّالي، وزير خارجية العراق فيما يلي:
نشرت الأخبار في يوم الاثنين 11 يناير سنة 1954، بالصفحة الأولى من صفحاتها بعنواناتٍ كبيرة، وأخرى أصغر منها ما يلي:
محمود فوزي يشرح للجنة السياسية آخر تطورات القضية المصرية:
اللجنة السياسية تدرس مشروع الجمالي:
صيغة عربية لرفض المفاوضات مع إسرائيل:
ثم قالت الصحيفة:
علمت "الأخبار" أن مصر قبلت مشروع الدكتور فاضل الجمالي رئيس وفد العراق من حيث المبدأ، وهو المشروع الذي أعدَّه للعرض على اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية، أما تفصيلات المشروع: فإن مصر ستشترك في بحثها في اجتماعات اللجنة السياسية.
ويقضي هذا المشروع باتحاد الدول العربية في شئون الدفاع والمالية والتعليم والاقتصاد والسياسة الخارجية.
وقد انتهت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية أمس من مناقشة آخر تطورات القضية المصرية كما عرضها في الاجتماع الدكتور محمود فوزي، وزير الخارجية.
وقد صرَّح بذلك الدكتور فاضل الجمالي، رئيس وفد العراق، وتفرعت عن اللجنة السياسية في اجتماعها أمس لجنة فرعية من سفراء الدول العربية، برياسة الأستاذ سامي أبو الفتوح، وكيل وزارة الخارجية.
ووافقت اللجنة على صيغة الرد الذي سترسله حكومة الأردن إلى سكرتيرية الأمم المتحدة، والذي سترفض فيه طلب الأمم المتحدة إجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل.
وعرضت الصيغة على اللجنة السياسية، فأقرتها في هذا الاجتماع.
اجتماع اللجنة:
وكتب مندوب "الأخبار" للشئون العربية ما يلي:
عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية أولى اجتماعاتها في وزارة الخارجية، في الساعة الخامسة بعد ظهر أمس، برياسة الدكتور محمود فوزي، وزير الخارجية المصرية، وحضور سائر وزراء الوفود العربية، ووزراء خارجيتها، والأستاذين عبد الخالق حسونة الأمين العام، وأحمد الشقيرى الأمين المساعد.
كلمة محمود فوزي:
واستهلَّ الدكتور فوزي الاجتماع بكلمةٍ رحَّبَ فيها بالوفود العربية باسم الجمهورية العربية المتحدة، وتمنى لهم التوفيق في مهمتهم، وأكَّدَ أن كل ما ترجوه مصر لشقيقاتها العربية هو السيادة الكاملة، والتحرر من كل
نفوذٍ أجنبيٍّ، وأن تسعد الشعوب العربية بوحدتها وحريتها، وأن مصر لن تدخر وسعًا في هذا السبيل، حتى تغدو الأمة العربية خفاقة الأعلام في البر والبحر، مرفوعة الكرامة في الشرق والغرب.
وأشار إلى فلسطين، فوصفها بالشقيقة الشهيدة المظلومة، وأنها يجب أن تعاد كما كانت، وينعم بها أهلها المشردون في كل قطر.
مناقشة القضايا الكبرى:
وعقب ذلك انصرف الأعضاء إلى دراسة الموقف الدوليّ وتطوراته في الأمم المتحدة، وموقف الدول الكبرى من القضايا العربية، وفي مقدمتها القضية المصرية.
بحث القضية المصرية:
وظلت المناقشة نحو ساعةٍ في هذا الشأن، ثم بدءوا في بحث القضية المصرية وموقف بريطانيا منها.
الانقسام إلى ثلاث لجان:
وفي نحو الساعة السابعة والربع انقسمت اللجنة السياسية إلى ثلاث لجان؛ الأولى من وزير الخارجية المصرية مع رؤساء الوفود العربية، وقد اجتمعوا نحو ساعةٍ في مكتب الوزير، وأطلعهم الوزير على تطورات القضية المصرية، وظروف المباحثات مع بريطانيا، وحضر هذا الاجتماع السيد عبد الخالق حسونة، الأمين العام للجامعة.
واجتمعت اللجنة الثانية في مكتب الأستاذ سامي أبو الفتوح، وكيل الخارجية مع بعض أعضاء الوفود، ومعهم الأستاذ أحمد الشقيري، الأمين المساعد، وبعد ساعةٍ انضمت هذه اللجان، وواصلت بحثها، وفي منتصف الساعة التاسعة انفضَّ الاجتماع، وصرَّح الأستاذ عبد الخالق حسونة، الأمين العام بالبيان التالي:
"بدأت اللجنة السياسية مناقشتها الليلة للقضايا العربية الكبرى، ومن بينها القضية المصرية، ولم تنته المناقشة بعد، وإن اللجنة ستستأنف اجتماعاتها في الساعة الرابعة من بعد ظهر غد -اليوم- لمواصلة أبحاثها".
وأضاف أن اللجنة بحثت أيضًا في قضية فلسطين وقضايا شمال أفريقيا.
العرب يؤيدون مصر:
وذكر الأستاذ حسونة أن جميع الوفود العربية يساندون القضية المصرية، ويؤيدونها تأييدًا تامًّا.
الجمالي لم يقدم مشروعه بعد:
وسئل عمَّا تَمَّ بشأن موضوع اتحاد الدول العربية الذي يقترحه الدكتور فاضل، رئيس الوفد العراقيّ، فقال: إن الدكتور الجمَّالي لم يقدم بعد أي شيء للجنة، وأن أعضاء اللجنة طالعوا المشروع في الصحف.
اقتراح الجمَّالي:
وكنا قد أشرنا أمس إلى الاقتراح الذي سيقدمه الدكتور فاضل الجمالي إلى مجلس الجامعة ولجنته السياسية، وهو المشروع الخاص باتحاد الدول العربية، وقد صيغ الاقتراح في مذكرة خطية من صفحة واحدة في حجم "الفولسكاب" وتبدأ بمقدمةٍ عن أهمية الوحدة العربية، وكيف أنها الأمل المنشود للشعوب العربية، وأن العراق لا يرحب بتحقيق الوحدة فحسب، بل يعمل على تحقيقها.
وقد تضمنت المذكرة أن مصر في عهدها الجديد قد اتجهت كذلك إلى الدعوة للوحدة العربية، والعمل أيضًا على تحقيقها، وأن الدول العربية لترحب بهذه الدعوة، وتلبي نداءها، ولذلك، فإن العراق يرحب بالاتحاد مع كل دولة عربية، ويعرض اقتراحه هذا تاركًا التفاصيل الخاصة بتنفيذه لتبحثها الدول العربية.
وجاء في المذكرة كذلك، أنه من الطبيعيّ ألَّا يتيسر في الوقت الحاضر تحقيق الوحدة الشاملة بين جميع الدول، ولذلك، فإنه يمكن أن يبدأ بتحقيقها على مراحل، وفي هذه الحالة تظل الجامعة العربية قائمةً إلى أن تتم الوحدة المنشودة.
وطالب بأن يبدأ بتحقيق الوحدة بين دولتين أو أكثر، وبعد ذلك تنضم بقية الدول العربية بالتتالي!
وبعد ذلك لخَََََّص فاضل الجمالي الفكرة، فقال: إنها تتركز في توحيد الدول العربية من حيث شئون الدفاع والسياسة الخارجية والشئون الاقتصادية والمالية والثقافية.
وختم الفكرة بقوله: وإنني أترك البحث في التفاصيل، وفي تنفيذ الفكرة إلى الدول العربية، لتقرر ماتراه.
من هذا النموذج الذي قدَّمنَاه للماجريات الدبلوماسية، تتضح لنا الخطوات التي ينبغي اتباعها في كتابة هذا النوع، وتتلخص هذه الخطوات فيما يلي:
أولًا: دراسة موضوع التقرير دراسة جيدة من جانب المحرر الصحفيّ الذي عهدت إليه الصحيفة بكتابته، وبديهيّ أن هذه الدراسة لازمة لمعالجة مثل هذا التقرير، ولفهم القضايا السياسية التي يعرضها الأعضاء المشتركون في هذا المؤتمر الدبلوماسيّ أو ذاك.
ثانيًا: حضور الجلسات التي يعقدها المؤتمر إذا كان ذلك ممكنًا؛ لأن كثيرًا من هذه الجلسات يكون سريًّا، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، ولكن هذا لا يمنع الصحفيّ من الوجود في مكان المجتمع، والتربص بالأعضاء لكي يتصيد كل ما يمكن من الأخبار، ويلقي الأسئلة على من يراه منهم، ويبذل في ذلك كل جهد مستطاع.
وهكذا يستطيع المحرر الصحفيّ أن يجمع المعلومات والقرارات والأحاديث والبيانات حول موضوع التقرير الذي يريده.
ثالثًا: المبادرة بكتابة هذا التقرير، وهو حديث عهد به وبالحوادث التى اكتنفته، والجو الذي حصل فيه، مستعينًا في ذلك بأرشيف الصحيفة، إذا كان هناك ما يدعو إلى هذه الاستعانة، وذلك لتوضيح بعض ملابسات الموضوع، وصلة هذا الموضوع بقرارات وبيانات سابقة.
رابعًا: يراعي في كتابة التقرير أن يكون على شكل يقرب من القصة الخبرية في الصحيفة، بمعنى: أن يكون له "صدر" و "جسم" أو "صلب"، مع ملاحظة الفرق بين القصة الخبرية، والتقرير الصحفيّ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وخلاصة هذا الفرق: أن التفاصيل في القصة الخبرية ليست لها نفس الأهمية التي للتفاصيل في الماجريات الصحفية، وذلك أن التفاصيل في القصة الخبرية يمكن الاستغناء عن بعضها، متى أدت ظروف الطباعة -فن وإخراج الصحيفة- إلى ذلك؛ بحيث لا تتأثر القصة الخبرية نفسها بهذا الإجراء، أما التفاصيل في الماجريات الصحفية فكلها ضرورية، وإذا حُذِفَ شيءٌ منها ظهر أن هذه الماجريات مبتورة بترًا واضحًا للقراء.
على أنه إذا رأت الصحيفة أن مساحة التقرير كبيرة، ففي هذه الحالة يمكن أن يختصر جزء من هذا التقرير بطريقة فنية لا آلية، بشرط ألّا يحذف هذا الجزء جملة، على نحو ما يحدث في فن المقال بوجهٍ عامٍّ.
خامسًا: أما القرارات والبيانات الرسمية ونحو ذلك، فأشياء لا يستطيع المحرر الصحفيّ أن يتصرف فيها على نحو ما.
ذلك أن هذه المواد تعتبر وثائق رسمية يرجع إليها يومًا ما، وغاية ما هنالك أنه يمكن للمحرر أن ينشر هذه المواد مستقلة عن التقرير نفسه، وفي مكانٍ بالصحيفة، قريب من مكان هذا التقرير.