الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الماجريات البرلمانية:
اعتاد المحررون الصحفيون أن يمهدوا لهذا النوع من الماجريات بعرضٍ سريعٍ يصفون به أهم الأحداث التي جرت بالجلسة، ويشيرون فيه إلى أهم المناقشات التي دارت بها، وينوهون فيه بأهم الأعضاء الذين اشتركوا في المناقشة، وكثيرًا ما يضمنون هذا العرض إشارةً إلى أهم القرارات التي اتخذها المجلس.
وقد يحدث أن يهمل المحرر البرلمانيّ -عن قصد- بعض الأعضاء الذين كانت لهم مشاركة قوية في مناقشات المجلس، فلا يذكر أسماءهم، ولا يتعرض لهم بمدح أو بذم، يفعل ذلك حقدًا منه على هؤلاء، لأنهم ينتمون إلى حزب غير الحزب الذي تدافع عنه الصحيفة!
وبعد الفراغ من العرض على هذا النحو يدخل المحرر البرلمانيّ في الموضوع مسجلًا فيه ما رأي وما سمع في هذا الجلسة، وإذ ذاك ينبغي له أن يجتهد في مراعاة أشياء منها:
أولًا: العناية التامة بالموضوع الأساسيّ للمناقشة، والالتفات إلى أظهر المتكلمين؛ فيعرف كيف دخل كل منهم في الموضوع، وما هي الطريقة التي سلكها في الإقناع، وما الرأي الذي اتجه إليه في المناقشة، ومتى انبرى له العضو المعارض، وكيف ساق حججه وأدلته.
ثانيًا: يجدر بالمحرر البرلمانيّ أن يسير في تقريره على النظام الذي سارت فيه الجلسة، فإذا بدأ المجلس بالرد على الاستجوابات التي كان قد قدمها الأعضاء، ثم قام المجلس بعد ذلك بتشكيل اللجان المختصة، وإحالة الموضوعات المختلفة إلى كل منها، ثم دخل المجلس بعد ذلك في مناقشة هامة
حول موضوع معين، فعلى المحرر البرلمانيّ أن يسير في تقريره -كما قلنا- على هذا النظام، حتى يريح نفسه ويريح معه القراء.
ثالثًا: على المحرر البرلمانيّ كذلك ألّا ينسى الجو العام للجلسة، ولا بأس من اتصاله بالأعضاء قبيل الجلسة -متى أمكنه ذلك- حتى يعرف نياتهم، ويقف على اتجاهاتهم، ويستشف مشاعر الأعضاء الذين يمثلون الأحزاب المختلفة.
رابعًا: يحسن بالمحرر البرلمانيّ أن يؤجل كتابة البيانات، والخطب الطويلة إلى نهاية التقرير الذي يكتبه، حتى لا يقطع على القارئ سير الجلسة حين يقرأ عنها في الصحيفة.
خامسًا: على المحرر البرلمانيّ أن يهتم اهتمامًا خاصًّا بنهاية الجلسة، وكيف وصل الأعضاء فيها إلى قراراتهم، وما هي هذه القرارات بالتفصيل.
وللمحرر البرلمانيّ في هذه الحالة أن يعتمد على " المضبطة الرسمية" لمجلس النواب، وله في هذه الحالة أيضًا أن يدخل على هذه المضبطة بعض الحواشي، ويقسمها إلى فقرات، ويجعل لبعضها عنوانات، حتى يسهل على القارئ العاديّ تتبعها دون ملل أو سأم.
غير أن الأفضل للصحفيّ دائمًا ألّا يعتمد على "المضبطة الرسمية"، فقد يترتب على ذلك تأخير وصول التقرير البرلماني إلى الصحيفة، وقد ينجم عن هذا السبب تأخير صدور الصحيفة عن الوقت المحدد، على أن "المضبطة" في ذاتها، قد لا تصور الوقائع التي يحرص القارئ على معرفتها معرفة جيدة.
الطريقة الحديثة في كتابة التقرير البرلمانيّ:
إن من أحدث الطرق في كتابة التقرير البرلمانيّ ما تعمد إليه بعض الصحف الأوروبية في الوقت الحاضر؛ إذ يتعاون مندوبو الصحف المختلفة
بعضهم مع بعض على أداء المهمة، فينظمون أنفسهم في شرفة الصحافة على هيئة فرقة، ويكون لكل منهم رقم خاص يعرف به، ويدل عليه، وينتخبون من بينهم رئيسًا لهم، ينظم تسجيل الواقع داخل الجلسة، فتعطى الإشارة للأول في بداية الجلسة؛ فيقوم بالعمل مدة دقيقتين فقط، ثم تعطى الإشارة إلى الثاني، فالثالث، فالرابع، وهكذا، ولما كان هؤلاء المندوبون يستخدمون في عملهم هذا "ورق الكربون" فإنه يتوفر لديهم -في نهاية الجلسة- عدد كافٍ من النسخ لجميع المندوبين المشتركين في وقائعها، وبهذه النسخ يمكنهم أن يذهبوا إلى مكاتبهم، كل في الصحيفة التي يعمل بها.
ذلك أن للإنسان طاقة محدودة، وهو قادر على تركيز قواه البدنية، والعقلية فترةً وجيزةً، لا تفوته شاردة، ولا واردة فيها، أما إذا قام بهذا العمل ساعات طويلة، فلا شك أنه يعجز عن أدائه على الوجه الأكمل، وقد يفلت منه الزمام ويدركه السأم في أخطر جزء من أجزاء الكلام، أو أهم واقعة من وقائع المجلس.
ومما هو جدير بالذكر أن صحيفة "التايمز" الإنجليزية، تنفرد دون غيرها من الصحف البريطانية بوجود جهاز لها، هو "التلغراف الكاتب TELEPRINER" بدار البرلمان الإنجليزيّ، وبه تستطيع أن تحصل في الحال على ما يجري من مناقشاتٍ داخل البرلمان دقيقة بدقيقة، وتستطيع الصحيفة أن تتصرف بعد ذلك في طبعة العاصمة، وطبعات الأقاليم بما تراه.
ولاشك أن مثل الجهاز يتيح للمحررين الصحفيين فرصة التفرغ لمشاهدة الجلسة، والتأمل في وثائقها، ودراسة الشخصيات الهامة التي اشتركت فيها، بحيث يستطيع المحرر الصحفيّ بعد ذلك أن يكتب الماجريات البرلمانية كتابةً دقيقةً، تستوفي جميع مطالب الجمهور القارئ لمثل هذه الصفحة الهامة من صفحات الجريدة.
نموذج من الماجريات البرلمانية:
عقد مجلس النواب المصريّ في الثاني من شهر أبريل سنة 1947 جلسة، كان من أهم موضوعاتها الاستجواب الذي قدمه الأستاذ مكرم عبيد عن مصادرة الصحف، ونشرت صحيفة "الأهرام" الصادرة في الثالث من ذلك الشهر تقريرها عن هذه الجلسة بعنوان:
في مجلس النواب:
الاستجواب عن مصادرة الصحف:
كلمة مكرم عبيد، وبيان رئيس الحكومة:
بدأت جلسة النواب في مساء أمس بأن حلف اليمين الدستورية "فلان وفلان من النواب الجدد"، ثم أحيلت مشروعات القوانين الجديدة إلى اللجان المختصة، ومنها مشروع قانون التعامل في الأوراق المالية، ومشروع قانون بعدم قبول الطعن في أعمال وزير المالية الخاصة بالحراسة فقط.
شركة مياه الاسكندرية:
وأجيب بعد ذلك من الأسئلة الباقية، وكان أولها سؤالًا للنائب "فلان"عن مدة التزام شركة مياه الأسكندرية، وانفرادها بتحديد سعر المياه في المدينة، بأن العقد ليس به مدة محدودة، ولكن البلدية ترى أنه ليس له صفة الدوام، أما أسعار المياه فمحدودة في العقود، ولكن للسلطة مانحة الامتياز حق تعديلها.
الاستغناء عن البعثة العسكرية:
وأجيب عن سؤالٍ للنائب "فلان" عن موعد الاستغناء عن البعثة العسكرية، بأنه تقرر إنهاء عقود نصف أعضاء البعثة في آخر شهر يونيه، والنصف الآخر في نهاية العام.
في المدارس الأجنبية:
وأجيب عن سؤالين للنائبين "فلان" و"فلان" في صدد إلزام المدارس الأجنبية باحترام دين الدولة الرسميّ، بأن الوزارة لما بلغها بأن مدرسة "سانت أنطوان" وزعت كتابًا على التلاميذ به طعنٌ في الدين الإسلاميّ قامت بمصادرته، وإجراء التحقيق، ومنعت دخوله إلى البلاد، وأرسلت مفتشها إلى جميع المدارس الأجنبية لفحص الكتب المدرسية وغيرها مما يوجد في مكتباتها، واتخاذ الإجراءات اللازمة ضد أية مدرسة تحتفظ بأي كتاب يشتمل على طعنٍ في الدين الإسلاميِّ.
حول التصريح ببطاقات الغزل:
وأجيب عن سؤال للنائب "فلان" عن شركة الفيوم للنسيج، وهل منحت بطاقة غزل استثناء ببيانٍ طويلٍ، مدعم بالأدلة، يستخلص منه أن تقرير بطاقة لهذه الشركة إنما كان تطبيقًا لقاعدة عامةٍ تهدف إلى خدمة صالح التموين، دون نظر إلى أي اعتبار آخر، وأنه لم يكن لأشخاص المتقدمين بالطلبات أيّ تأثير في توجيه الوزارة إلى القرار الذي اتخذته.
الموافقة على تسعة مشروعات:
ثم وافق المجلس بنداء الأسماء على تسعة مشروعات، قوانين تَمَّ بحثها بالفعل في الجلسة الماضية.
حرية الصحافة:
وعلى أثر ذلك أخذ المجلس في مناقشة الاستجواب الموجه إلى دولة رئيس الوزراء من معالي مكرم عبيد "باشا" والأستاذ محمد حنفي الشريف في مصادرة الصحف، والتجاء الحكومة إلى أوامر الحظر دون سبب قانونيّ.
كلمة مكرم "باشا":
وأُعْطِيَتْ الكلمةُ لمعالي مكرم عبيد "باشا" فقال: إنه جمع في استجوابه
بين المصادرة والحظر؛ لأن لهما معنًى واحدًا، وهو مصادرة حرية الرأي، وذكر أنه لم يدفعه إلى تقديمه إلّا الرغبة في الاحتكام إلى المجلس، ولعل الحكومة تتفق مع النواب على أن المصادرة عقوبة، ولا يجوز للحكومة أن تحكم بعقوبة؛ لأن ذلك من اختصاص السلطة القضائية، فإذا أجازته السلطة التنفيذية لنفسها كان في هذا مصادرةً للحريات التي كفلها الدستور، وطلب السمو بهذه المناقشة عن أي اعتبار إلّا اعتبار المصلحة العامة، خصوصًا في هذا الوقت الخطير.
ثم استطرد قائلًا: إن الذي يعنيه أولًا هو الناحية الوطنية، ففي مصادرة الصحف تقييد شديد للحرية، ولا يجوز في الوقت الذي نتقدم فيه إلى الاحتكام الدوليّ مطالبين بالحرية أن نعتدى نحن على الحرية، ولو جاز هذا في أيِّ وقتٍ من الأوقات لما جاز في الوقت الحاضر.
وذكر أن مصادرة الصحف مصادرة لحرية الرأي، مع أنه كفلتها مادة أساسية من مواد الدستور، وهي في الوقت نفسه مصادرة للرقابة القضائية، واعتداء على سلطة القضاء، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات، وعلى الرقابة البرلمانية أيضًا؛ لأن الحكومة تصادر الصحيفة لتمنع وصول خبر من الأخبار إلى نواب البلاد.
وهنا سأله دولة رئيس الوزراء:
وإذا كان الخبر كاذبًا، وكان من شأنه أن يحدث اضطرابًا؟ فأجاب بأن المصادرة الإدارية لا تجوز على أية حالٍ، بل يجب أن يترك الأمر للقضاء، وإذا سلمنا بنظرية المصادرة لصار حالنا أسوأ منه في سنة 1881، ثم تلا المادة الخاصة بالمصادرة في قانون المطبوعات عامئذ، وفيها أنها لا تكون إلّا بقرار من مجلس الوزراء، أو بعد الإنذار مرتين، أما الآن: فإن الصحيفة تصادر وهي خارجة من المطبعة، وقد يحدث أن يوقظ دولة رئيس الوزراء من نومه، ويقال له: إن جريدة كذا تجب مصادرتها؛ لأنها كتبت كذا، فيصدر أمره التليفونيّ بالمصادرة، غير حاسب حسابًا لأرزاق الناس، ولا الضرر الذي يصيبهم.
وتلا "مكرم" المادة الخاصة بحرية الصحافة من الدستور، ثم تلا المناقشة التي دارت حولها بين أعضاء لجنة الدستور، واستخلص منها أن الفقرة الخاصة بوقاية النظام الاجتماعيّ، إنما قصد بها إصدار تشريعات تحدد فيها أحوال المصادرة التي تتخذ لحماية النظام الاجتماعيّ، ودعَّم رأيه بالمذكرة التفسيرية الخاصة بالمادة 15من الدستور.
وقال: إنه في 17 فبراير سنة 1936، وضع قانون المطبوعات، ونَصَّ فيه على الأحوال التي تجوز فيها المصادرة، والأحوال التي تجب فيها، واستشهد ببحوث رجال القانون، فتلا بحثًا لوحيد رأفت "بك" يفسر فيه عبارة "وقاية النظام الاجتماعيّ" بأنها دفع خطر الشيوعية والبلشفية، وإن كانت بعض المحاكم لم تقصرها على هذا المعنى.
ثم ذكر أن هناك فرقًا بين النظام السياسيّ والنظام الاجتماعيّ، فلا خطر من الخلاف بين الاحزاب، واستطرد قائلًا: إن الدستور الفرنسيّ يبيح المصادرة في حالة أخرى، هي حاة الخطر الداهم الذي لا يمكن تداركه إلّا بالتعطيل، عملًا بالمبدأ القائل:"إن سلامة الدولة هي القانون الأعلى".
وقال معاليه: إن المغفور له أحمد ماهر "باشا" خطب في سنة 1921 فقال:
"إن من يتولى الحكم يجب أن يعرض أعماله جميعًا للنقد"، وإن محمد محمود "باشا" تكلم عن قضية الصحافة في عام 1940 فقال:
"إنه كلما كانت حرية الصحافة أوسع ازداد الدستور احترامًا".
وأراد مكرم "باشا" أن يتلو بيانًا للدكتور هيكل "باشا" عن المادة 15 من مواد الدستور، فقال له دولة النقراشي "باشا" إنه لم يصدر استنادًا إلى المادة 15 من الدستور، بل بحكم المادة 198 من قانون المطبوعات، ولذلك فإنه يحتكم إلى رئيس المجلس في أنه لا داعي للكلام في المادة 15 هذه.
واستطرد مكرم "باشا" فتلا بعض فقرات من مذكرة رئيس الشيوخ، مستشهدًا على أنه ليس للحكومة الحق في مصادرة الصحف إلّا لوقاية النظام الاجتماعيّ.
وانتقل إلى المادة 198 من قانون العقوبات فتلاها، وهي تجيز المصادرة إذا كان النشر جريمةً استعمل فيها سوء القصد، وهذه الجريمة هي التحريض على ثورة، أو الاعتداء على الأعراض، أو ما يماثل ذلك، وفي هذه الحالة يكون المقصود بالمصادرة هو منع انتشار الجريمة، على أن يتولاها رجال الضبطية القضائية.
واستطرد قائلًا: إنه سيبين للنواب هل صودرت صحيفتنا "حزب الكتلة" لجريمةٍ تنطبق عليها هذه المادة؟ وهنا رأى سعادة رئيس المجلس -الأستاذ محمد حامد جوده- أن تذكر الحكومة أسباب المصادرة، ثم يرد عليها مكرم باشا.
بيان الحكومة:
وكان دولة رئيس الوزراء قد غادر القاعة لسبب طارئ، فتولى عبد الرحمن عمار "بك" مدير الأمن العام إلقاء بيان "دولته" وهذا نصه:
حضرات النواب المحترمين:
تحرص الوزارة على كفالة حرية الرأي في شتَّى مظاهرها، ومختلف نواحيها، ولعل أجل صورها تلك التي يتعين توافرها في شأن الصحافة، وهي تؤدي رسالتها التي هي رسالة قومية خطيرة الشأن، عظيمة الأثر.
وقد عملت الوزارة منذ وليت الحكم على تقدير ما يجب أن تحاط به هذه الرسالة من قدسية، وما ينبغي أن يتوافر لها من حرية شاملة، فلم تلجأ الحكومة إلى مصادرة الصحف في عهدها القائم إلّا في ثلاث حالات، اضطرت فيها إلى ذلك اضطرارًا بدافعٍ من المصلحة العامة، ونزولًا على أحكام قانون المطبوعات.
ثم شرح بيان الحكومة هذه الحالات الثلاث، وأتت صحيفة الأهرام على هذا البيان الحكوميّ برمته، وفيه شرحٌ لكل حالة من الحالات الثلاث، ولكنا نوجز الحديث عنها إيثارًا للإيجاز.
فالحالة الأولى: هي مصادرة صحيفة المصري في 12 / 11/ 1946، وذلك بمناسبة المظاهرة التي نظمها طلبة معهد "فؤاد الأول" الديني بمدينة أسيوط، وتفريق البوليس لها، ووقوع حوادث تولت النيابة تحقيقها، وأصدرت أمرها بحظر إذاعة أيّ خبر يتصل بهذه الحوادث، ومع ذلك، ومع أن صحيفة المصري نشرت أمر هذا الحظر، فإنها عمدت إلى نشر أنباء عن هذا الحادث من شأنها التأثير في سير التحقيق.
الحالة الثانية: مصادرة أعداد من صحيفتي "الكتلة" و"صوت الأمة" الصادرتين بتاريخ 20/ 1/ 1947، وسبب ذلك: أن كلتا الصحيفتين قد نشرتا خبرًا غير صحيحٍ تحت عنوانٍ بارزٍ، بخطٍّ عريضٍ، مؤداه: أن رجال البوليس أطلقوا الرصاص على طلبة مدرسة حلوان الثانوية للبنين، في يوم الحداد 19 يناير، وأنه قد أصيب منهم عشرة طلاب، غير أن القضاء كشف عن بطلان هذه الأخبار.
الحالة الثالثة: مصادرة أعداد صحيفتي "الكتلة" و"صوت الأمة" الصادرة في 10/ 2/ 1947، ذلك أن صحيفة الكتلة نشرت تحت عنوان:"الحالة في الجامعتين" أنباء غير صحيحة من شأنها إثارة الخواطر، ومؤداها أن جامعة "فؤاد الأول" قد حوصرت منذ الصباح الباكر بقوات كثيرة من المشاة، والخيالة، والسيارات المصفحة، والدبابات، فضلًا من سياراتٍ إنجليزيةٍ من النوع المعروف باسم "جيب" بها جنود من الإنجليز، كانت ترابط في مناطق بمدينة الجيزة.
كما نشرت "صوت الأمة" تحت عنوان: "الحالة في الجامعتين والمدارس" أنباء غير صحيحة من نوع الأنباء التي نشرتها صحيفة "الكتلة"
من شأنها كذلك إشاعة الفتنة والاضطراب، وتكدير السلم، وخلاصة هذه الأخبار: أن رجال البوليس قد عاودتهم الشهوة الجامحة، واعتدوا على الطلاب اعتداءً وحشيًّا بالعصيّ الغليظة، فأصيب بعضهم بإصابات مختلفة، وأنهم قبضوا على فريق منهم، وأودعوهم مختلف الأقسام..
ولما كانت جميع هذه الأنباء عاريةً عن الصحةِ، فقد بادرت الوزارة إلى تبليغ النيابة عن الصحيفتين؛ إذ أن نشر هذه الأخبار غير الصحيحة، والمكدرة للسِّلْمِ جريمةٌ تعاقب عليها المادة198 من قانون العقوبات.
وقد باشرت النيابة العامة التحقيق في هذا الشأن، وحصلت مصادرة أعداد الصحيفتين المذكورتين في يومي 20 يناير و 10 فبراير تطبيقًا للمادة 198 من قانون العقوبات.
ومضى البيان يدافع عن سياسة الحكومة في مصادرة الصحف، مستندًا في ذلك إلى مواد في قانون العقوبات أهمها المادة رقم 192، والمادة رقم 198، ثم أعطيت الكلمة للأستاذ أحمد عبد الغفار "باشا" فقال:
إن الحكومة تتسامح في التعريض بأشخاصها، ولكنها تلجأ إلى المصادرة لعلمها أن المعارضة تبذل كل جهدها لتكدير الأمن العام، وفي سبيل حماية الأمن العام ستستعمل الحكومة كل سلاحٍ يبيحه القانون، وستمنع اللعب بالنار بكل حزم.
وهنا طلب مكرم "باشا" حذف هذا الكلام من المضبطة؛ لأن فيه اتهامًا للمعارضة لا تقبله عن نفسها.
وبعد أن انتهى مكرم "باشا" من إلقاء كلمته، طلب الكلمة عبد الرحمن عمار "بك" فاعترض فكري أباظة "بك" طالبًا أن يؤذن للمستجوب الثاني الأستاذ محمد حنفي الشريف بالكلام قبل أن تتكلم الحكومة، واحتج الأستاذ الشريف على عدم الإذن له بالكلام، قائلًا: إن في ذلك مخالفة
لللائحة الداخلية، فأفهمه الرئيس بأنه لا يمنعه من الكلام، وكل ما في الأمر أن الحكومة طلبت الكلمة، ولها الحق فيها كلما أرادات.
بقية بيان الحكومة:
وتكلم عبد الرحمن عمار "بك" عن الحظر، فقال: إن الاستجواب في حظر النشر غير دستوري؛ لأن النيابة هي التي تصدر أوامر الحظر، وهي تقوم بعمل قضائيّ، وهو من صميم اختصاص السلطة القضائية، والاستجواب لا ينسجم مع مبدأ فصل السلطات، وذكر أن هذا الرأي يقره رجال القانون، واستشهد بفتوى في ذلك لمعالي وزير العدل.
وقد اعترض الأستاذ فكري أباظة قائلًا: إن هذا الكلام خطير؛ لأن النيابة لا يمكن أن يباح لها أن تصدر أوامر الحظر كلما أرادت، ودون أي تقييد.
واستطرد عمار "بك" فتلا مذكرةً لمعالي وزير العدل في ذلك، ثم ذكر أن كل حرية يجب أن يكون لها حدود، وليس من الحرية ترك الصحف تقول ما تريد لتكدير السلم، وضرب المثل بقول جريدة "الكتلة" إن جامعة "فاروق الأول" قد أحيطت بالدبابات، وإن رجال البوليس أعملوا عصيهم في الطلبة، وإن عشرات منهم أصيبوا بالرصاص، في حين أنه لم يحدث شيء من ذلك.
واختتم عمار "بك" كلامه بأن الحكومة ماضية في خطتها في غير ما تعسف، ولكن حمايةً للأمن العام.
المناقشة تستأنف اليوم:
وعلى أثر ذلك، رفعت الجلسة على أن تستأنف المناقشة في هذا الاستجواب "اليوم" في السادسة مساء.
هذا مَثَلٌ عاديٌّ من أمثلة "الماجريات البرلمانية" التي وقعت في مصر، ومنه يتضح كيف أن المحرر البرلمانيّ عرض لمشروعات القوانين بسرعة وإيجاز،
ولم يطل الوقوف عند شيءٍ منها، حتى إذا بلغ الموضوع الرئيسيّ للجلسة البرلمانية -وهو موضوع مصادرة الصحف- لم يدع من كلام النائب المستجوب، أو كلام الحكومة في الرد على هذا الاستجواب شيئًا ما.
وقد وضح للقارئ كذلك الطريقة التي سلكها صاحب الاستجواب في التدليل على حقه في تقديم هذا الاستجواب، وهي طريقة تقوم على الحجج القانونية للموضوع من جميع الوجوه، وكأن الحكومة كانت تعرف بالضبط شيئًا عن هذه الطريقة، فتأهبت للرد لتبريء نفسها من التهم التي كالتها لها الصحف السالفة الذكر.
على أن هذه الجلسة لم تتمكن من الوصول إلى قرار في هذا الشأن، فلم يستطع المحرر البرلمانيّ أن يذكر لنا شيئًا من ذلك، ولا استطاع أن يصف نهاية الجلسة في ذاتها، مرجئًَا كل ذلك للجلسة التالية.
ولا نستطيع أن ندع الكلام عن "الماجريات البرلمانية" دون الإشارة إلى جهود الدكتور" محمود عزمي" في هذا السبيل.
والحق أن أهمية الدكتور عزمي في تاريخ الصحافة المصرية ترجع في معظمها إلى تلك الجهود1
1 فإن ننس، لا ننسى تلك التقريرات البرلمانية التي كان يكتبها الدكتور عزمي في جريدة السياسية، للدكتورمحمد حسين هيكل، وقد كان الدكتور محمود عزمي يومًا ما مندوبًا برلمانيًّا لهذه الجريدة، وفي "تلك الماجريات البرلمانية" كان عزمي يرسم صورةً قلميّةً ساخرةً للنواب المصريين، ويضع يده على كثير من مواطن الضعف فيهم، وبلغ من ذلك حدًّا أثار عليه المجلس، فقرر أعضاؤه إذ ذاك أن يطردوه من المجلس، وأن يحرموه الجلوس في شرفة الصحافة، ويحرموا جريدة "السياسة" من نشر محاضر البرلمان، ووقف عزمي وحده في شرفة الصحافة يواجه ضجة المجلس، وفي اليوم التالي، ظهرت جريدة السياسية وفيها مقال عنيف بقلم الدكتور محمود عزمي ضد مجلس النواب المصريّ، وفيها كذلك وصف دقيق لما ورد في الجلسة التي حرم منها واستمرت جريدة "السياسة" تنشر وصفًا لهذه الجلسات التي يعقدها البرلمان حتى هاج المجلس مرة أخرى، وطالب بإجراء تحقيق مع مندوبي الصحف، وموظفي المضبطة، لمعرفة الموظف الذي يمد جريدة السياسة بأخبار هذه الجلسات، ومع هذا وذاك، لم ينته التحقيق الصحفيّ إلى نتيجةٍ ما، واستمر قرار المجلس بحرمان مندوبي جريدة "السياسة" من دخول البرلمان حتى نهاية الدورة.