الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في سبيل الحصول على الخبر:
تحصل الجريدة على الأخبار الداخلية عادةً بطريق المخبرين الصحفيين، أو مندوبي الأخبار الذين توزعهم على المصالح والوزارات والإدارات المختلفة، وتجعل كل واحد منهم مختصًا بمصلحة أو وزارة أو إدارة، ونادرًا ما يقع المخبر على موضوع يكتبه من تلقاء نفسه، فإن تسعة أعشار الأعمال التي يقوم بها المخبر الصحفيُّ يكلف بها من قبل رئيس قسم الأخبار، وهو الشخص المكلف من قبل الجريدة بوضع خطة يومية يسير عليها المخبرون، تكون مبنية على الحسِّ الصحفيِّ الدقيق عند هذا الأخير، فهذا الحسُّ الصحفيُّ يستطيع أن يعرف بواطن الأخبار الجديرة بالنشر في الصحيفة التي يعمل بها، ومع هذا وذاك، قد يحدث أن يجد المخبر في طريقه شيئًا يستحق الإخبار عنه، وإذا ذاك يتجه إلى أقرب "تليفون"، ويبادر إلى تبليغ الجريدة هذا الخبر الذي عثر عليه بطريق المصادفة، ثم يعود إلى تنفيذ الخطة التي وضعها له رئيس قسم الأخبار، ومعنى ذلك: أن المصادفة تلعب دورها أحيانًا في الحصول على الخبر، وفي السبق الصحفيِّ إلى هذا الخبر، وكثيرًا ما تربح الجريدة ماديًّا من وراء ذلك.
وقد اطلع الشعب المصريُّ يومًا في جريدة "الأهرام" على خبر زواج "توفيق نسيم باشا" رئيس مجلس الوزراء، وهو في السبعين من عمره، من فتاةٍ نمساويةٍ في السابعة عشرة من عمرها، وكانت جريدة الأهرام أولى الجرائد المصرية التي سبقت إلى نشر هذا الخبر الذي شغل بال الرأي العام في مصر مدةً ليست بالهيِّنة.
وسمعت يومئذ أن السبب في نشر الخبر يرجع إلى الأستاذ جبرائيل تقلا، صاحب "الأهرام" حينذاك، قرأت في كتاب الأستاذ جلال الدين الحمامصي
"صحافتنا بين الأمس واليوم"1 بعد ذلك ما يلي:
"في ذلك الوقت الذي اشتعل فيه الغرام بين السياسيِّ العجوز، والشابة النمسوية، مر المرحوم الأستاذ "جبرائيل تقلا" بقرية من القرى، وأراد أن يبقى فيها ليلة واحدة، وبينما هو يسجل اسمه في دفتر الفندق، لاحظ صاحبه أنه كتب أمام جنسيته أنه مصريّ، فأخبرنا أن بين نزلاء الفندق مصريًّا آخر كبيرًا، اسمه: توفيق نسيم، وأن هذا السياسيّ الكبير، سيتزوج من ابنته، وأحس الأستاذ جبرائيل تقلا بأنه وقع على نبأ هام، نبأ لا بد أن يحدث دويًّا في مصر، وأمسك الأستاذ تقلا بالورقة التي سجل عليها اسمه فشطب ليلةً واحدةً، وكتب: عدة ليالٍ، فقد شعر بأن مكانه -كصحفيّ- هذا الفندق، حيث تولد قصة صحفية ضخمة، وبالفعل كانت القصة من الضخامة بحيث شغلت قراء الأهرام عدة أشهر.
وقد أصبح من المعتاد أن نرى في كل وزارة من الوزارات، أو مصلحة من المصالح الحكومية، وغير الحكومية، قسمًا يقال له:"إدارة الشئون العامة، أو "مكتب الصحافة"، ومن هذه الأقسام يستقي المخبرون الصحفيون أخبارهم في أغلب الأحيان، وفي استطاعة المخبر اللبق أن يحصل على أخبار الوزارات بطرقٍ فيها شيء من الخفاء، كأن يحصل عليها من طريق السعاة، وصغار الموظفين، وبذلك يصل إلى الأخبار التي تبالغ بعض الوزارات والمصالح في إخفائها، ولكن يشترط في هذا الخفاء ألَّا يصل بالمخبر الصحفيِّ إلى حد الإخلال بالشرف، أو ارتكاب جريمة السرقة، أو غيرها من الأساليب التي تعافها الصحافة الشريفة النزيهة، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في المقدمة.
ويعود المخبرون إلى الصحيفة، ويقضي كل منهم وقتًا في كتابة أخباره، وفي ركن من الورقة يكتب اسمه، ومصدر النبأ الذي أتى به، ويحسن به
1 انظر الكتاب ص157.
إذ ذاك أن يكتب كل موضوعٍ، أو كل خبرٍ، من ثلاث نسخ؛ واحدة يحتفظ بها لنفسه، والثانية توضع في ملف خاص به، والثالثة تأخذ طريقها إلى رئيس التحرير، مارَّةً في أثناء ذلك بعدة مكاتب في إدارة الصحيفة.
ومن أهم هذه المكاتب: مكتب المراجع REWRITER الذي يعيد كتابة الأخبار بعد غربلتها غربلة جيدة، ثم يبعث بها إلى رئيس الأخبار ليقوم فيها بوظيفته، ثم ترسل إلى سكرتير التحرير الذي يحدد لكل خبر مكانه في صفحة الأخبار الداخلية، ثم ينتهي بها المطاف إلى رئيس التحرير -كما سبق القول في ذلك، وليس على هذا الأخير أن يقرأ جميع ما يصل إليه منها، وإنما يكتفي بما له من صلة قوية بالسياسة أو بالمشكلات العامة، ونحو ذلك.
ثم تواصل الأخبار رحلتها إلى أن تصل في النهاية إلى غرفة الجمع، فتجمع، ثم تؤخذ عليها تجارب -بروفات، ويقوم المصححون بتصحيحها قبل أن تدور عجلة المطبعة دورتها النهائية.
هذا كله من حيث الأخبار الداخلية، أما الأخبار الخارجية فتأتي إلى الصحف عن طريق وكالات الأنباء، أو عن طريق المراسلين الخارجين للصحيفة في مختلف الأنحاء، ولكل صحيفة قسم خاص بالمترجمين الذين يتولون ترجمة هذه الأخبار من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، ثم ترسل الأخبار مترجمةً ليعيد سكرتير التحرير، أو من يقوم مقامه؛ إذ ذاك قراءتها، ويحدد مكانها من الجريدة، وأخيرًا تعرض الأخبار الخارجية على رئيس التحرير، لعله يجد فيها ما يستحق التعليق بكلمة خاصة، هي في الغالب كلمة الجريدة، أو ما يسمى:"بالمقال الافتتاحي" أو "العمود الرئيسي" فيها.
* * * *
ولا خلاف إذن في أن وكالات الأنباء هي المصدر الرئيسي لجميع الأخبار الخارجية التي تنشر في صحيفة من الصحف، ولكن إلى جانب هذا المصدر
الرئيس نجد هناك مصادر أخرى أشرنا فيما مضى إلى شيء منها.
فمن ذلك: "القسم الإذاعيّ" للصحيفة، فقد تذيع المحطات الخارجية نبأً له أهمية خاصة، فإذا صادف أن سمعه بعض رجال الصحيفة، وسارع في تعجيله وتوصيلة إلى قسم الأخبار، فإنه يكسب لصحيفته سبقًا صحفيًّا كما قدمنا.
ومن تلك المصادر التي نشير إليها بعض الشخصيات الكبيرة التي يلتقي بها الصحفيون بطريق المصادفة، ويستطيعون الحصول منهم على بعض الأخبار الهامة، وكهذه الشخصيات الكبيرة: سفراء الدول الأجنبية، ورجال السلك السياسيّ، متى أمكن للصحفيّ أن يحصل منهم على معلومات، أو أخبار هامة، وقلما يتمكن الصحفيون من ذلك في الحقيقة.
ونعود إلى المصادر الرئيسية للحصول على الخبر فنجملها فيما يلي:
1-
مندوب الأخبار في الصحيفة.
2 مراسل الصحيفة في الداخل، ومراسلها في الخارج.
3 وكالات الأنباء المحلية والدولية أو العالمية.
4 وكالات الأعمدة الصحفية، وسنشرحها فيما بعد.
5-
المتطوعون بالأخبار من أصدقاء المحرر أو المخبر وغيرهم.
6-
أماكن الشرطة أو "نقط البوليس".
7-
دور الخدمة، وبها "إدارات في الشئون العامة" الخاصة بإعطاء الأخبار.
8-
المؤسسات العامة، وبها كذلك "إدارات الشئون أو العلاقات العامة".
ومن عمل هذه الأخيرة إعطاء الأخبار الخاصة بالمؤسسة.
9-
المحاكم على اختلافها.
10-
الشخصيات العامة، أو الكبيرة في المجتمع.
11-
الاجتماعات العامة، والنوادي العامة، ونحو ذلك.
12-
المؤتمرات الصحفية على اختلاف أنواعها.
13-
المصادفة في الطريق العام.
والمهم أن الصحفيّ هو الذي يدعم المصادر الروتينية بمصادر أخرى ذاتية أو شخصية، ولا يتيسر هذا التدعيم إلّا عن طريق الصداقات، والعلاقات الطيبة التي له ببعض الأفراد، أو بالشخصيات الكبيرة التي يمكن أن تكون مصدرًا للخبر، ولنا أن نقف وقفةً قصيرةً أمام المرحلتين، وهما: المخبر والمراسل:
المخبر الصحفيّ أو مندوب الأخبار:
مندوب الأخبار هو العنصر الهام في عملية جمع الأخبار، ووظيفته واحدة، وهي أن يذهب بنفسه إلى مسرح الحياة، ويحصل بنفسه على المعلومات التي يتكوّن منها النبأ الذي يهم القراء، وقد يتذرع المخبر إلى ذلك بصفتين هما:
1-
صفة الاهتمام الشديد بعملية الصحفيّ: وهو العمل الذي جعل منه مراقبًا للركب الإنسانيّ في مروره بطريق الحياة، وجعله مضطرًا إلى مشاهدة المسرحيات السياسية من خلف الكواليس، كما يقول رجال التمثيل، وأما الصفة الثانية فهي:
2-
صفة الفضول: ما دام العمل الصحفيّ ينطوي على شيء من المشقة، ويحتاج إلى شيء من المزاحمة، ولذلك يقول أحد رجال الصحف:"إن المندوب الذكيّ أغلى عند صحيفته بكثير من المحرر الذكيّ".
المراسل الصحفي:
مهمته إمداد الصحيفة بمواد غزيرة من حقله، بداخل البلاد إن كان مراسلًا داخليًّا، أو بخارج البلاد إن كان مراسلًا أجنبيًّا، غير أن العمل الذي يقوم به المراسلون في الخارج، أشد صعوبةً وخطورةً من العمل الذي يقوم به المراسلون في الداخل.
وأشد ما تكون مهمة المراسل الخارجيّ خطورةً، حين يشترك في مؤتمر صحفيٍّ في بلاد أجنبية، ويحاول أن يعطي أخبار هذا المؤتمر، وأن يشترك في توجيه الأسئلة إلى رئيس المؤتمر، أو الشخص المسئول في الدولة المضيفة للمؤتمر.
والمراسل الخارجيّ هو المسئول عن بيان قيمة الأحداث التي ينقلها إلى صحيفته، وعن تفسير هذه الأحداث، وإعطاء صورةٍ دقيقةٍ للشخصيات الكبيرة التي تقترن بكل حادثة منها، ومن ثَمَّ أصبحت لهذا المراسل الخارجيّ أهميةً عظيمةً يعرف بها في المسرح الدوليّ.
والمراسل الخارجيّ كالمراسل الحربيّ -تواجهه صعاب كثيرة- ينبغي له أن يواجهها بشجاعة تامة، منها سوء المعاملة التي يلقاها أحيانًا من أهل البلد، أو من حكومته، ومنها الشعور بالوحشة، وبالريبة في كل من يلتقي بهم في هذه البيئة الجديدة، ومنها الرهبة الشديدة من الوقوف في المعركة التي يجمع منها الأخبار؛ ليبعث بها إلى الصحيفة، وحسبه كل ذلك لكي يكون شخصًا فدائيًّا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنًى1.
طرق مشروعة للحصول على الخبر:
قبل أن ندع الكلام عن كيفية الحصول على الأخبار، ينبغي أن نشير إشارةً عابرةً إلى بعض الطرق التي يعمد إليها المخبر الصحفيّ في الحصول
1 ارجع إلى كتاب "أخبار الشرق الأوسط في الصحافة العالمية" ترجمة الدكتور عبد اللطيف حمزة ووليم الأمير.
على الأخبار، وذلك فيما خلا الطريقة المعتادة التي منها الذهاب إلى المصالح الحكومية المختلفة، أو أقسام البوليس، أو المحافظات والمديريات، والمحاكم والمدارس، والمعاهد والجامعات، ونحوها.
ويستطيع المخبر الصحفيّ أن يحصل على أهم الأخبار من المصادر الهامة بطرقٍ سليمةٍ لا تخرج في مجموعها عن طريقة "العلاقات" أو "الصداقات" التي ينشئها المخبر بين حينٍ وآخر معى الشخصيات التي تعتبر مصادر هامة للأنباء.
وهنا يجب على المخبر اللبق أن يدرس ميول الشخص الذي هو مصدر الخبر، وعلى أساسٍ متينٍ من هذه الدراسة يستطيع أن يتقرب منه، وأن يبذل أقصى جهده في مجاملته وملاطفته، وإذا لزم الأمر أن يقدم إليه الهدايا والألطاف فليفعل، فإن الهدية في هذه الحالة لا تعتبر نوعًا من الرشوة، أو هي -على الأصح- رشوةً بيضاء لا تحمل غير معنى المجاملة التي يأنس الناس إليها.
ومن طرق الحصول على الخبر فيما عدا "الصداقة" طريق آخر، هو ما يسمى: الإيهام بالمعرفة، وكثيرًا ما تجوز هذه الحيلة على مصدر الخبر، فيتساهل في التصريح به، ما دام هذا الخبر قد أصبح معلومًا لكثيرين من الناس، كما أوهمه المخبر بذلك.
وهناك طرق أخرى كثيرة لا تخفى على ذكاء المتمرنين، ولا مجال هنا لسرد هذه الطرق، أو الإلمام بها، أو نقدها والحكم عليها.
وإليك مثلين منهما: أحدهما: على طريقة الإيهام بالمعرفة، والثاني: على طريقة الصداقة وإنشاء العلاقات الخاصة بمصدر النبأ.
المثل الأول: "وهو مثل على الإيهام بالمعرفة"1.
حكى أحد الصحفيين الإنجليز عن نفسه قال:
1 راجع كتاب "أزمة الضمير الصحفيّ" للمؤلف، ص160و 161.
إنه كان جالسًا في مقهى من مقاهي الإسكندرية على شاطيء البحر، وتصادف أن جلس معه على نفس المائدة أحد كبار تجار الثغر المعروفين، وجرى الحديث بينهما في أمورٍ عدةٍ، أشار التاجر الكبير في بعضها- عن غير قصد- إلى إلحاح الخديوي إسماعيل في بيع نصيب مصر من أسهم قناة السويس، وإلى أن هذا التاجر الكبير يتمنى لنفسه أن يربح هذه الصفقة، وهنا تغير لون الصحفيّ الإنجليزيّ، وأحسَّ كأنه جالس على برميل من البارود -على حد تعبيره- ولكن المهنة الصحفية أوجبت عليه في هذه اللحظة أن يتماسك، أو يتظاهر بالثبات التام، كما أوجبت عليه المهنة كذلك أن يلجأ إلى طريقة الإيهام بالمعرفة.
فأوهم التاجر الكبير أنه على علمٍ بهذا السر الخطير، وهنا اطمأن التاجر إلى أنه لا يذيع سرًّا من الأسرار، وأفاض في الحديث عن أسهم القناة، ثم ما كاد التاجر يغادر المكان حتى أسرع الصحفيّ الإنجليزي إلى مكاتب البرق، وأرسل برقيةً إلى "دزرئيلي" رئيس الوزراء البريطاني حينذاك، وما كان من "دزرائيلي" هذا، إلّا أن اتصل من فوره "بآل روتشلد" وهم من كبار رجال المال في انجلترا، وطلب منهم المال اللازم لشراء أسهم القناة، ولم ينتظر "درزائيلي" ريثما يحصل على إذن بهذا المال من مجلس الوزراء، أو مجلس العموم، أو من الجالس على عرش انجلترا إذ ذاك.
المثل الثاني: "وهو مثل على استخدام الصداقة":
هو حادثة جرت للأستاذ مصطفى أمين، حكاها عن نفسه قال:
"إنه كان بلندن في الوقت الذي دارت فيه مفاوضات "صدقي-يفن" وقد تَمَّ الاتفاق بينهما على نصوص معينة، غير أن مستر بيفن اشترط أن تبقى هذه النصوص سرًّا من الأسرار، فلا تنشر إلّا بإذنه في الوقت الذي يحدده هو؛ وإذ ذاك ساقت الظروف مصطفى أمين فتعرف إلى
سيدة، اتضح أنها تعمل في مكتب مستر بيفن، وبطريقة غير مباشرةٍ علم مصطفى أمين بأن هذه السيدة هي التي كتبت على الآلة الكاتبة نصوص الاتفاق، فدعاها مصطفى أمين مرارًا للجلوس معه في مقهى من مقاهي العاصمة، ولاحظ في كل مرةٍ يجلس إليها أن هذه السيدة تنتظر قطع السكر التي يقدمها المقهى، وتمسك بيدها هذه القطع باحتراس تَامٍّ واهتمام، وتدسها في حقيبة يدها -شنطتها- بخفة وعجلة، إذا ذاك أحضر مصطفى أمين في اليوم التالي كل تموينه من السكر، وأسلمه إلى هذه السيدة العظيمة، ففرحت به فرحًا عظيمًا.
ونظرت إليه على أنه أعظم هدية لأطفالها الصغار الذين لا يكفيهم تموينهم من السكر الذي يوزع عليهم بالبطاقة.
ومن ذلك الوقت، نشأت صداقة متينة بين مصطفى أمين وهذه السيدة، وعن طريق هذه الصداقة استطاع مصطفى أمين أن يحصل على ورق الكربون الذي كتبت عليه نصوص الاتفاق، ومالبثت هذه النصوص أن نشرت في بعض الصحف الصادرة في مصر، وفوجيء بها "مستر بيفن" كما فوجيء بها رئيس الوزارة المصرية إذا ذاك إسماعيل صدقي.
إلّا أننا نحرص الحرص كله هنا على القول بأن الحصول على الأخبار يجب ألّا يضطر المخبر الصحفيّ بحالٍ من الأحوال، إلى سلوك الطرق غير الشريفة، كالسرقة والتساهل في العرض، وخراب الذمم، والتضليل، والغش، ونحو ذلك من الأمور الضارة بالسمعة والشرف، فليكن معلومًا أن الصحافة شيء، والجاسوية شيء آخر، والصحفيّ الشريف ليس جاسوسًا للمجتمع ولا للدولة، ولا ينبغي لأحد أن يطالبه بشيء من ذلك، وبهذا ننفي عن الصحافة كل عمل يشينها، أو يسيء إلى كرامة المشتغلين بها.
على أنه لا مناص من القول بأن الوسائل الميكيافلية التي تقول: "بأن
الغاية تبرر الوسطة، لا تجوز مع الخبر الصحفيّ إلّا في حالات شاذةٍ؛ كأوقات الحرب مع دولة أجنبية، وظروف الاحتلال الأجنبيّ الذي ينشب أظفاره في الأمة، ففي مثل هذه الأحوال يجوز للمخبر الصحفيّ أن يلجأ إلى طريق يخدع بها العدو الأجنبيّ، ويحاول أن يتغفله ليحصل من أتباعه على الأخبار ذات الصلة الوثيقة بسلامة الوطن1 وذلك كله على القاعدة القائلة:"الحرب خدعة".
وتاريخ الصحافة المصرية يحفظ لنا مثلًا من أقوى الأمثلة على ذلك وهو:
قضية التلغرافات:
وهي القضية التي تعرضت لها صحيفة "المؤيد"، وخرج بها السيد على يوسف بطلًا من أبطال الصحافة المصرية، وزعيمًا من زعماء الشعب المصريّ.
وخلاصة هذه القضية: أنه في مايو سنة 1869، أصدرت نظارة الحربية أمرًا بعدم إمداد "المؤيد" بأية معلومات عن الحملة المصرية على دنقلة، مع السماح في الوقت نفسه بهذه المعلومات للصحف الموالية للاحتلال البريطاني يومئذ، ومنها جريدة "المقطم"، وبذلك تفقد "المؤيد" -التي هي جريدة الشعب المصريّ- قيمتها الإخبارية، ويفضي بها الحرمان من الأخبار إلى الموت الأبديّ.
ومعنى هذا وذاك، أن الأمر أصبح مكيدةً مدبرةً، ومؤامرةً منظمةً ضد الشعب المصريّ، والصحافة المصرية، وهكذا تحولت المسألة يومئذ إلى مسألة عداء بين سلطة قوية قاهرة هي سلطة الاحتلال البريطانيّ، وشعب أعزل من السلاح هو الشعب المصريّ.
1 ارجع إلى كتاب "أزمة الضمير الصحفيّ" ص159-162.
في مثل هذه الظروف وحدها يباح للصحفيّ الوطنيّ أن يحصل على الخبر بطريقةٍ أو بأخرى من الطرق الغامضة، وهذا ما فعله السيد علي يوسف صاحب جريدة "المؤيد"، فقد اتهم بأنه اتصل في الخفاء بمواطن من أقباط مصر هو "توفيق أفندي كيرلفس" الموظف بمكتب بريد الأزبكية -وهو المكتب الذي كان يتلقى البرقيات الخاصة بالحملة المصرية على دنقلة- واتفق معه على الوصول إلى هذه البرقيات الخاصة بالحملة، وعبثًا حاول القضاء المصريّ بعد ذلك، إثبات الصلة بين السيد على يوسف وتوفيق أفندي كيرلس، وأكثر من ذلك، رأينا هذا الأخير يعترف في المحكمة بأن المعتمد البريطانيّ هو الذي حمله على الاعتراف بهذه الصلة، وسلك سبيل العنف والضغط عليه في الاعتراف بها، والحقيقة أنه لا صلة بينه وبين السيد علي يوسف، وإزاء هذا الاعتراف الصريح حكمت المحكمة ببراءة السيد علي يوسف، وخرج السيد إذا ذاك محمولًا على الأعناق، والشعب يهتف بحياته وحياة "المؤيد"، وبقي أمر الحصول على هذه التلغرافات سرًّا لا يعرفه أحد من رجال الوكالة البريطانية إلي اليوم.
فذلك ظرفٌ من الظروف التي يضطر فيها الصحفيّ إلى سلوك الطرق الغامضة، ومنها طريق الرشوة بالمال على سبيل المثال، ذلك أن الصحيفة -والأمة معها في مثل هذا الحال- تعتبر نفسها في حرب، والحرب خدعة، وظروف التآمر على سلامة الوطن، أو إماتة الروح الوطنيّ في أهله، تبيح يومئذ سلوك جميع الطرق التي من شأنها إحباط المؤامرة.