الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الأول: الرأي العام
"1"
الصحافة والرأي العام:
"الصحافة حارس الأمة الأمين"
فمن الذي يُعَلِّمُ الوطنيُّ حقوقه؟ من الذي يرشده إلى واجباته؟ من الذي يكون له عونًا في المعترك الذي يلقي بنفسه فيه، ومن الذي يدرأ عنه عادية كل من أراد به سوءًا؟
هي الصحافة، وهي وحدها دون غيرها على الدوام، وإذا لم يكن هناك صحافةٌ أصبحت الشجاعة الأدبية أمرًا من الأمور الشاذة، بل أصبحت في حكم المستحيل، وكذلك شأن الشجاعة الحربية، فإن الجندي لا يرمي نفسه فوق الخطر، ولا يقدم على المهالك، إلّا عندما ترمقه أعين زملائه، ويشجعه صوت الطبول ورائحة البارود!.
ولأجل أن يكون الرأي العام، وتتوطد دعائمه، يجب أن يوجد ذلك الصوت القويّ العظيم -صوت الأمة- الذي يعطي كل ذي حق حقه، فيثني في كل يوم على العاملين، ويؤنب المقصرين، ويذكر الناس بالمنافع العامة المشتركة، وبالمبادئ الاجتماعية، ويؤازر بقوته كل حق من حقوق الأفراد1.
ويقول الأستاذ هارولد لاسكي في كتابه "محنة الديموقراطية2":
"إن القدرة على توجيه الأخبار وجهةً معينةً هي نفسها القدرة على حرمان القراء من أن تصل إليهم المادة التي يستطيعون بها أن يكونوا لأنفسهم رأيًا في كل مشكلة، وإن من يوازن بين الطريقة التي عالجت بها الصحافة البريطانية موضوع نزع السلاح في وقت انعقاد مؤتمر جنيف عام 1932
1 الأخبار عدد "2950" بتاريخ 9 فبراير سنة 1921.
2 الأستاذ هارولد لاسكي في كتابه "محنة الديموقراطية" ص 74.
والطريقة التي عالجت بها تلك الصحافة أخبار السلوك الجنسيّ عند رجال الدين الإنجليز، في الفترة نفسها؛ ليشهد أن الصحافة البريطانية أولت كل اهتمامها للموضوع الأخير، بقصد إهمال الموضوع الأول، على الرغم من أنه خطير، وهنا لا يجد القارئ صعوبة ما في اكتشاف الطريقة التي يتكون بها الرأي العام في بلد من بلاد الديمقراطيات الرأسمالية كانجلترا.
الحق أن الصحافة مرآة الآمة، ولسانها الناطق بأفكارها وآرائها، ورغباتها وحاجاتها، وآلامها وآمالها، ومن هنا جاءت قوتها، وقد أطلق الناس عليها اسم:"السلطة الرابعة" -أي: أنها رابعة السلطات الثلاث المعروفة، التي هي السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية- وطريق الصحافة إلى كل ذلك هو التحرير، أعنى: تحرير الخبر أو المقال، وهما مادتا الصحف على اختلاف ألوانها ونزعاتها.
ولتكوين الرأي العام في ذاته وسليتان هامتان هما:
الكلمة المطبوعة، والكلمة المسموعة، ولكل من هاتين الوسيلتين مجالات تظهر فيها:
فالكلمة المطبوعة تظهر في الصحيفة وفي المجلة، وهما مدرستا الشعب، وصاحبتا الفضل الأول فيما يصيبه من تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية، كما تظهر الكلمة المطبوعة في الكتاب، وفي اللافتات، وفي الملصقات، وفي شتّى ضروب الإعلان.
وتظهر الكلمة المطبوعة أيضًا في أجهزة استقبال الأخبار TICKERS، وهي الأجهزة التي تقوم عليها وكالات الأنباء، وعلى هذه الأخيرة تعتمد الصحف في حصولها على الأخبار الهامة وغير الهامة، هنا وهناك.
أما الكلمة المسموعة: فتظهر في الراديو والتليفزيون، وهما آلة الدهماء في أغلب الأحيان؛ لأن الخاصة ليس لديها من الوقت ما تنفقه في الجلوس إليهما، واستيعاب الجزء الأكبر من منهج كل منهما اليوميّ.
وكما تظهر الكلمة المسموعة في السينما، والمسرح، والمدرسة، والجامعة، تظهر أيضًا في المحادثات الخاصة بين الأصدقاء، سواء أكانت هذه المحادثات في المنزل، أم في الطريق، أم في النادي، أم في المركبات العامة، وسواء أكانت همسًا، أم نجوى، أم كانت على شكل شائعة، أم اغتيابًا، ونحو ذلك.
على أن الوسيلة الأولى منهما هي التي تعنينا في هذا البحث، وهذه الوسيلة هي الكلمة المطبوعة، والعجيب حقًّا أن يكون للكلمة المطبوعة كل هذا التأثير القويِّ في النفوس، أو هذا السلطان الكبير على القول، ومن هنا أصبح الرأي العام عن طريق الكلمة المطبوعة قوةً عظيمةً لا يمكن أن تقاوم، فقد تتعرض الجيوش نفسها للهزائم، أما الصحف وما تحمله للناس من قوة الرأي العام، فقلَّمَا تتعرض لذلك، وقلَّمَا تستطيع الحكومات نفسها أن تؤثر في الصحافة إلّا بطريق الإلغاء أو التعطيل.
والتاريخ حافل بالأمثلة العديدة التي تدل على قوة الرأي العام، الآتي من طريق الكلمة المطبوعة في الصحيفة.
فلقد قبضت السلطات الإنجليزية على "عرابي" وعزمت على التنكيل به، وبأصحابه، ثم ظهرت جريدة "التيمس" معلنةً أن عرابي سيحاكم محاكمةً نزيهةً، وسيعامل معاملةً إنسانيةً مستقيمةً، فاضطرت الحكومة الإنجليزية أمام هذا التصريح أن تعدل من خطتها، وترجع عما عزمت عليه1.
وأمامنا الآن -ونحن نكتب هذا الكتاب- مَثَلٌ حيٌّ من التاريخ المصريّ الذي نعيش فيه، وهذا المثل هو تأميم قناة السويس، فمنذ أعلنت الحكومة المصرية هذا التأميم في 26 يوليو سنة 1956 هاج "المستر إيدن" رئيس الوزارة البريطانية، وأراد أن يعلن الحرب على مصر، ولكن الرأي العام في العالم كله، وفي إنجلترا نفسها، كان لا يريد الحرب في ذلك الظرف.
1 التاريخ السري لاحتلال الإنجليز لمصر، لمؤلفه المستر بلانت، انظر الترجمة العربية للكتاب ص311-321.