المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الماجريات القضائية: ربما كانت "الماجريات القضائية" أقدم ما عُرِفَ من أنواع - المدخل في فن التحرير الصحفي

[عبد اللطيف محمود حمزة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌تقديم:

- ‌من مؤلفات أستاذنا الدكتور عبد اللطيف حمزة وبحوثه:

- ‌هذا الكتاب:

- ‌الكتاب الأول: الرأي العام

- ‌الصحافة والرأي العام:

- ‌تعريف الرأي العام:

- ‌الفرق بين الرأي والسخط والعام والاتجاه العام

- ‌أنواع الرأي العام:

- ‌دور الصحافة في تكوين الرأي العام:

- ‌القانون والرأي العام:

- ‌الرقابة على الصحف:

- ‌نشأة الرأي العام في مصر:

- ‌مصادر الكتاب الأول:

- ‌الكتاب الثاني: فن الخبر

- ‌نشأة الخبر وأهميته

- ‌تعريف الخبر:

- ‌في سبيل الحصول على الخبر:

- ‌تقويم الخبر:

- ‌مذاهب نشر الخبر:

- ‌قوالب صياغة الخبر:

- ‌الحوادث الداخلية أو المحلية:

- ‌الأخبار الخارجية:

- ‌طبيعة اللغة التي يكتب بها الخبر:

- ‌تحرير العنوان

- ‌التعليق على الخبر:

- ‌الطرائف المتصلة بالخبر:

- ‌الخبر والمجتمع:

- ‌الأخبار من الزاوية الأخلاقية، وزاوية

- ‌الذوق الصحفيّ والخبر:

- ‌مصادر الكتاب الثاني:

- ‌الكتاب الثالث: فن المقال

- ‌فنون المقال

- ‌المقال القصصيُّ:

- ‌مقال الاعترافات:

- ‌المقال الكاريكاتوري:

- ‌مقال الخواطر والتأملات:

- ‌المقال العلمي:

- ‌المقال الصحفيّ:

- ‌المقال الافتتاحي:

- ‌العمود الصحفي:

- ‌عمود الموضوعات الإنسانية:

- ‌عمود الرياضة والفنون:

- ‌الحملة الصحفية:

- ‌الحيل الصحفية أو الصراع بين الصحيفة والرقيب:

- ‌الكتاب الرابع: فن التقرير

- ‌المجلة

- ‌المقال في المجلة:

- ‌القصة في المجلة:

- ‌وظيفة التقرير الصحفيّ وأهميته:

- ‌فن الحديث الصحفيّ وأنواعه:

- ‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

- ‌التحقيق الصحفي وأنواعه وقواليه

- ‌مصادر التحقيق الصحفيّ، ونموذج له:

- ‌الماجريات وطريقة تحريرها:

- ‌الماجريات البرلمانية:

- ‌الماجريات القضائية:

- ‌الماجريات الدبلوماسية:

- ‌الماجريات الدولية:

- ‌تحرير الصورة والإعلان:

- ‌مصادر الكتاب الرابع:

- ‌الخاتمة: مستقبل التحرير الصحفيّ في مصر

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ ‌الماجريات القضائية: ربما كانت "الماجريات القضائية" أقدم ما عُرِفَ من أنواع

‌الماجريات القضائية:

ربما كانت "الماجريات القضائية" أقدم ما عُرِفَ من أنواع الماجريات الأربعة التي سبقت الإشارة إليها1 ذلك أن القضايا المحلية على الدوام هي أكثر ما يسترعي أنظار القراء للصحيفة.

فالواقع أنه ليس كل الشعب قادرًا على تتبع الماجريات الدولية أو الدبلوماسية، ولكن أكثر الشعب يستطيع أن يفهم الظروف التي تحيط ببعض القضايا المنظورة أمام المحاكم الوطنية، أو المحاكم العسكرية.

وفوق هذا وذاك، فإن من حقك مواطن في الدولة أن يرى بعينيه، ويسمع بأذنيه كيف يطبق القانون في بلاده، وأن يطمئن على سلامة هذا التطبيق، وإلى نزاهة القائمين عليه، وحق الشعب في ذلك، هوكقحه تمامًا في أن يطمئن إلى أن أعضاء البرلمان، أو مجلس الأمة -وهم الموكلون عنها في القيام بمهمة التشريع، وسن القوانين- قادرون على ذلك بأمانة تامة.

على أن هذا الحق الجماعيّ الذي يتيح للجمهور أن يراقب بنفسه طريقة سن القانون، وتطبيق هذا القانون يتعارض في الوقت نفسه تعارضًا تامًّا مع حق الفرد الذي تمسه القضية، ويتناول القضاء كما يتعارض وحقوق النواب الذين يتناقشون في داخل البرلمان، أو داخل مجالس الأمة، فإن من حق هؤلاء جميعًا.

1 عندي أن الماجريات ليست أربعة فقط من حيث العدد، ولكنها خمسة كاملة، بإضافة "الماجريات الجامعية" إليها، ونعني بهذه الأخيرة: جميع التقارير التي يمكن نشرها في الصحف حول الجلسات العلنية التي تناقش فيها الرسائل المقدمة من الطلبة للحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه من إحدى كليات الجامعة، وإن صح -بشيء من التجوز- اعتبار "الماجريات الجامعية" جزءًا من الماجريات القضائية، باعتبارها محكمة علمية.

ص: 502

أن تحفظ لهم كرامتهم، وأن تصان لهم سمعتهم، وألَّا تقوم الصحف بالتشهير بهم، فقد توجه المحكمة بعض التهم الخطيرة للمتهمين، وكثيرًا ما يعاملهم القضاة في أثناء المحاكمة بشيء من العنف، وقد يحدث في داخل البرلمان أن يتراشق أعضاؤه بالسباب، أو أن يتنابزوا بالألقاب، أو أن يسم بعضهم بعضًا بميسم الخيانة للوطن، فإذا انتقلت التهم القضائية إلى مجال الصحف، فهنا يشعر المقصودون بها في جميع هذه المواطن السابقة بالخجل والحرج، وقد يثبت القضاء من جانب، أو البرلمان من جانبٍ آخر، أن هؤلاء كانوا على حقٍّ في موقفهم من خصومهم في المحكمة أو في البرلمان.

ومع هذا التعارض الشديد بين الحق الجماعيّ للأمة، والحق الشخصيّ للفرد الواحد، أو الجماعة الواحدة من جماعات هذه الأمة، فإن العرف والتقاليد يسمحان للصحافة بأن تخبر عما يحدث في داخل المحاكم الوطنية، وذلك بالقدر الذي سمح به للصحافة أن تخبر عما يحدث في داخل المجالس النيابية، ومتى نشرت هذه الأخبار جميعها في الصحف، فقد أصبح من حق الأمة والأمم الأخرى جميعها أن تعرف ما يجري في هذه الدور، التي نشير إليها.

ومن هنا يبدو الفرق الكبير بين الحالتين، بالقياس إلى المتهم في إحدى القضايا.

ففي الحالة الأولى -وهي الحالة التي تمتنع فيها الصحف عن النشر- يشعر المتهم بأنه قد نجا بنفسه، وبماء وجهه من أن يراق على نطاق واسع كبير، وهو نطاق الشعب الذي هو منه، والشعوب التي يمكن أن تصل إليها صحف الأمة التي ينتمي إليها.

وفي الحالة الثانية -يقع المتهم في الحرج الذي وصفناه.

نقول هذا لكي نلفت نظر الصحف جيدًّا في كتابة "الماجريات القضائية"

ص: 503

إلى أن تنص على نوع الحكم الذي تصدره الحكمة، وخاصةً إذا كان الحكم بالبراءة.

ونقول هذا أيضًا حتى لا تتورط الصحف في اتهام الأشخاص الذين لم تثبت إدانتهم، والقاعدة المعمول بها في القضاء دائمًا هي:"أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته".

ثم إنه على الرغم من التسليم بهذا المبدأ المتقدم، وهو نشر "الماجريات القضائية" في معظم الحالات والبلدان، فإننا نرى بلادًا كانجلترا، لا تقر هذا المبدأ، ولا توافق على نشر "الماجريات القضائية" بل إن قانون القذف عندهم Libelact يتضمن حظرًا على الصحافة أن تخوض في القضايا المنظورة أمام المحاكم، أو تنشر شيئًا عن بعض هذه القضايا في أثناء ذلك، ويعبر القانون الإنجليزيّ عن مخالفة هذا الحظر بتهمة "التهاون بالقضاء" أو تهمة "ازدراء المحكمة Contempt of court" على حين أننا نرى أن نشر القضايا المنظورة أمام المحاكم المصرية مباحٌ لجميع الصحف، وإن كان قانون الإجراءات الجنائية يجعل من حقِّ القاضي أن يحظر النشر متى رأى المصلحة في أن يكون التحقيق سريًّا، ومتى كان في هذه السرية رعاية من جانب القضاء للصالح العام، والآداب العامة.

ويفهم من هذا: أن إباحة النشر وحظره بالنسبة للقضايا المنظورة أمام المحاكم المصرية مسألة اعتبارية بحتة، وأنها متروكة للمحقق، أو للقاضي.

ولكن ينبغي للقاضي، أو المحقق، ألَّا يسيء أحدهما استعمال هذا الحق، كما حدث ذلك في بعض القضايا الهامة ذات الصلة بالمصلحة العليا للبلاد، أو الصلة القوية بالرأي العام، ومن الأمثلة على هذه القضايا:"قضية الأسلحة الفاسدة" في أثناء الحرب الفلسطينية، فقد حظر المحقق على الصحف أن تنشر شيئًا ما عن هذه القضية التي تهم الشعب المصريّ كله، والشعوب العربية

ص: 504

بأسرها، ولم يكن القضاء على حقٍّ في هذا الإجراء بحالٍ من الأحوال.

أما تحرير الماجريات القضائية فتتبع فيه إحدى الطرق الثلاث التي تقدَّم ذكرها في نهاية الفصل الخامس، فطريقة التركيز توحي إلى كاتبها أو محررها بتلخيص موضوع الدعوى والمرافعات في شبه مقالٍ شديد الإيجاز، وكثيرًا ما يكون محرر هذا النوع من الماجريات رجلًا من رجال القانون، كأن يكون مشتغلًا بالمحاماة، أو تكون له خدمة سابقة في سلك القضاء، ونحو ذلك.

وبالطريقة التحليلية يفصل المحرر القول في هذه القضية التي يعرضها للقراء، وسجَّل في هذا التفصيل كل سؤال وجهته المحكمة إلى المتهمين، وكل إجابة صدرت عنهم، كما يسجل المحرر بشهادة الشهود، ويعني العناية التامة بمرافعة المحامين من الجانبين، ويصف كل ما وقع في الجلسة من أخذٍ، وردٍّ، وحركةٍ وسكونٍ، ويتضمن التقرير بهذه الطريقة أيضًا كل ما صدر عن الحاضرين من الجمهور من إشارات، وتعقيبات، ونحو ذلك.

وبالطريقة المختلطة يقصر المحرر جهده على وصف الظروف والحوادث التي نشأت عنها الدعوى، ويصف الظواهر النفسية، والدلائل الخلقية التي تقترن بها غالبًا، وله أن يهمل وقائع الجلسة في ذاتها، مكتفيًا بتسجيل الحكم الذي نطق به القاضي.

على أن المهم من الناحية الصحفية البحتة، هو الإدلاء بتفصيل الحوادث التي سبقت المحاكمة، وأوصلت الطرفين المتنازعين إلى ساحة القضاء، وللمحرر الصحفيّ أن يعتمد في هذا الإدلاء على ما جرى بالفعل في داخل المحكمة مما شهده بعينه، أو سمعه بأذنه، أو على مصدر آخر كمحاضر التحقيق، وملف القضية، أو على المستندات الرسمية الموجودة فعلًا في غير هذا الملف.

ص: 505

وهذا نموذج من "الماجريات القضائية" نشرته صحيفة "الأخبار" الصباحية، وكان حول حادث سيارة أودى بحياة أطفال، وكان شعور الشعب منذ البداية ضد المتهمة في هذا الحادث، وهي الآنسة "نوال نور"، وكانت الصحافة تتملق شعور الشعب في ذلك، وكانت تراعي في عرض الجلسات التي تعقدها المحكمة مسايرةً لعرض هذا الشعور، ومع هذا، فإن المحكمة لم تتأثر بالشعور العام في هذه القضية، وحكمت فيها ببراءة المتهمة، وإليك ما حدث يومئذ بالضبط.

نشرت صحيفة "الأخبار" بالعدد رقم 1064 من السنة الرابعة، وهو العدد الصادر في يوم الأحد 27/ 11/ 1955، في صفحتها الثالثة من هذه القضية، هذه العنوانات:

براءة نوال نور:

المحكمة تستمع إلى الشهود والنيابة والدفاع عم نوال يدافع عنهم بوصفه زعيم العائلة

ثم قالت الجريدة في صدر هذا التقرير القضائيّ ما نصه:

أصدر القضاء حكمه أمس ببراءة نوال من تهمة القتل الخطأ، اتهمت "نوال" بأنها قتلت اثنين، وجرحت اثنين بسيارتها الـ "بويك"، استمعت المحكمة إلى أقوال الشهود والنيابة والمدعين بالحق المدنيّ والدفاع، وانضم عمها "محمود متولى نور" إلى هيئة الدفاع، وقال: إني أدافع عنها بوصفي زعيمًا لأسرة نور، تشنجت والدة أحد القتلى وأسعفت في الجلسة.

كان هذا هو صدر التقرير، وبعد ذلك أخذت الجريدة في نشر صلب التقرير على النحو الآتي:

بدأت الجلسة في الساعة الحادية عشرة صباحًا، وعلى أثر افتتاح الجلسة نودي شهود الإثبات الذين أعلنتهم، فتبين عدم حضور أحد منهم

ص: 506

سوى إبراهيم عبد الجواد التاجر، وقام أحد محاميّ المتهمة، وطلب سماع أقوال شهود النفي، فرد القاضي بأن الدفاع سبق أن تنازل عن سماع شهاداتهم، ثم قام الأستاذ عدلي فرج محامي والد الطفل "إيليا كارازيدس" الذي قتل في الحادث، وطلب سماع شهادته فوافقت المحكمة على ذلك.

ثم نوديت المتهمة فمثلت أمام المحكمة، وقال لها القاضي:

أنت ارتكبت الجريمة دي، وتسببت بإهمالك في قتل اثنين، وإصابة اثنين.

نوال: لا.

الشاهد الأول:

ثم بدأت المحكمة في سماع أقوال الشهود، ونُودِيَ الشاهد الوحيد الذي حضر من شهود الإثبات الذين أعلنتهم النيابة، وهو التاجر إبراهيم عبد الجواد، فحضر وحلف اليمين، ثم بدأ شهادته بقوله:

إنه شاهد شخصين داخل السيارة، هما فتاة وبجوارها شاب، وإن الفتاة قد غادرت السيارة من الباب الأيسر أولًا، ثم تبعها الشاب، وقال إنه لا يعرف أين ذهبت، وإنه شاهد الطفل الذي قتل وقد غُطِّيَ ببعض أوراق الصحف، وأضاف الشاهد إنه عثر على "شنطة" يد بيضاء سقطت على الأرض من سيدة.

أعرفها شعرها قصير:

ووصف الشاهد الحادث قائلًا: إن صوت السيارة المرتفع المفاجيء هو الذي نبهه، فالتفت نحوه حيث شاهد السيارة تدخل الأجزاخانة، وقد أصيب ثلاثة أشخاص، وسقط طفل تحت عجلاتها، وحاول الجمهور إنقاذه، وصمم الشاهد على أنه شاهد الفتاة، وهي داخل السيارة أمام عجلة القيادة قبل نزولها مباشرة، وعقب الحادث فورًا، وسأله القاضي عَمَّا إذا كان يعرف المتهمة من قبل، فأجاب بالنفي، وأضاف بأنه يمكن

ص: 507

التعرف عليها حيث شاهدها يوم الحادث، ويعرف أن شعرها قصير، وعندما أشار القاضي إلى المتهمة، وسأله عما إذا كانت هي التي رآها تقود السيارة وقت الحادث أجاب بالإيجاب.

والدة القتيل:

ثم نُودِيَت الشاهدة الثانية، السيدة اعتماد عثمان غالب، والدة محسن محمود جوهر، الطفل الذي قتل في الحادث فحضرت، ووقفت أمام المحكمة، وكانت الدموع تذرف من عينيها بغزارة، وحلفت اليمين، ثم أدت شهادتها على الوجه التالي:

المحكمة: كم عمرك؟

اعتماد: 27 سنة.

المحكمة: ما معلوماتك؟

اعتماد: أنا يوم الحادث كان معي ابني محسن علشان أوديه السينما، وما لقيتش تذاكر، فقلت له تعال نتفرج على الفسقية اللي في ميدان التحرير، وبعد ما رحنا واجتزنا الميدان لغاية الرصيف، في محل "استرا" قال: اشتري لي شربات، فذهبنا إلى محل الشربات، وفجأة سمعت صوت سيارة مسرعة خلفي، ولقيت عربية سودة طالعة على الرصيف، وصدمت ابني....

ثم أخذت السيدة اعتماد تبكي، وأصيبت بتشنج، وأخذت تصيح:

ده ابني، وأبويا، وجوزي، وحبيبي، ده كل حاجة لي في الدنيا

وطلب منها القاضي أن تهديء نفسها، وتروي كيفية الحادث، فجففت دمعها، ثم قالت: إنها شاهدت نوال بالسيارة، وحلفت اليمين على أنها شاهدتها، وكانت تلبس فستان "كاروهات" وشعرها قصير، وشاب بجوارها يهمس ويقول لها:"انزلي أنت يا نوال".

ورودت والدة القتيل كيفية مصرع ابنها فقالت: كنت ما سكة ابني

ص: 508

محسن، ثم جاءت السيارة مسرعة، وصوتها مسموع بشكل بظاهر وواضح، وبمجرد التفاتي وجدت شيئًا خاطفًا كالوحش يهجم حيث سقط وحيدها تحت العجلة.

ورددت اعتماد عدة مرات أنها شاهدت "نوال" وهي تمسك "الدركسيون" ساعة الحادث، وأنها تركته ونزلت من باب السيارة الأيسر.

المحكمة: قلت في محضر النيابة إنك شاهدت "نوال" وهي واقفة أمام السيارة، وليست أمام عجلة القيادة!

اعتماد: لا أذكر، وكنت وقتئذ كالمذهولة، فلم يكن مرَّ على حادث قتل ابني بالسيارة سوى 24 ساعة فقط.

المحكمة: هل هذه -وأشار القاضي إلى نوال- هي المتهمة التي أحدثت الحادث؟

اعتماد: نعم، هيّ نفسها، ونظرات عينيها تدل على أنها فتاة ارتكبت جريمة قتل، جريمة إن دلت على شيء فهي لا تدل إلّا على استهتار امرأة.

المحكمة: اتركي هذا التعليق أو الكلام للمرافعة.

اعتماد: إنه ابني الوحيد -ثم أخذت في البكاء الطويل- وهدأت وقالت:

إنه زوجي.. إن محسن كان جميل!

المحكمة: هل تعرفين شخصًا اسمه محمد محمود السمني؟

اعتماد: سمعت عنه، وهو الذي أخذني إلى محل "الشربتلي" لأجلس على كرسي، فطلبت منه إسعاف ابني وتحبيسه.

الشاهد الثالث: صاحب الصيدلية

ثم نُودِيَ شاهد الإثبات الثالث، الدكتور أديب هلال يعقوب، صاحب صيدلية وندسور، فحضر وحلف اليمين، وأدلى بشهادته قائلًا: إنه أغلق

ص: 509

الأجزاخانة يوم الحادث "4 سبتمبر"، حوالي الساعة العاشرة إلّا ثلثًا مساءً، وركب مع بعض أصدقائه في سيارتهم إلى كازينو "سان سوسي" بالجيزة، وترك سيارته في الشارع المجاور لمحل أسترا، حتى عودته، وقال: إنهم مكثوا في الجيزة فترةً لا تتجاوز 10 دقائق أو 15 دقيقة، ثم عاد لسيارته، حيث فاجأه المنادي بأن يسرع ويلحق بصيدليته؛ لأنها أصيبت بحادث، فأسرع إليها وشاهد مقدم السيارة داخلًا في الباب، وطفلًَا ميتًا.

سؤال من المدعي بالحق المدني: ماذا فعلت فور علمك بالحادث؟

الشاهد: توجهت لقسم قصر النيل.

المدعى بالحق المدني: هل شاهدت المتهمة في القسم ومعها أحد؟

الشاهد: كانت في غرفة المأمور ومعها سيدة وولد صغير.

المدعى بالحق المدني: ألم تلاحظ معاملة خاصة من البوليس لشهود الرؤية فور وقوع الحادث؟

الشاهد: مكثت في القسم لغاية الساعة 2 صباحًا بعد منتصف الليل، في غرفة المأمور، وأعلم أن شابًّا ميكانيكيًّا طلب سماع أقواله كشاهد إثبات، فرفض المحقق إجابة طلبه، وأمر عسكري البوليس بإخراجه من القسم فورًا.

الشاهد الرابع:

ثم نُودِيَ الشاهد الرابع: الدكتور مرقص جندي، فحضر وحلف اليمين، ثم قال: في يوم الحادث أغلقنا الأجزاخانة حوالي التاسعة و35 دقيقة مساءً، وتوجهنا أنا وبعض أصدقائي والدكتور أديب إلى كازينو سان سوسي بالجيزة، حيث أقمنا فترةً قصيرةً، ثم أشرت عليهم باقتراح، وهو النوم مبكرًا؛ لأننا كنا متعبين وقتئذ فاجتزنا ميدان التحرير، ووصلنا إلى الصيدلية،

ص: 510

في حوالي الساعة العاشرة والنصف مساءً، ووجدنا السيارة داخل الصيدلية، ووجدنا جسمًا لشابٍّ ميتٍ ملقى بجوارها على الرصيف.

المحكمة: ألم تسمع متى حدثت الحادثة؟

الشاهد: الذي سمعته أن الحادث وقع فور مغادرتنا للصيدلية، قاصدين إلى كازينو سان سوسي، وعلى كلٍّ، فالمسافة بين تركنا الصيدلية، وعودتنا إليها لم تستغرق أكثر من ثلثي ساعة على الأكثر.

وقال الشاهد: إنه سمع من الناس الذين كانوا موجودين وقت الحادث، أن السيارة كانت تقودها فتاة، وشخص كان يقف بجوارها، وأشار عليها بالهرب، و"الزوغان".... وأضاف أنه سمع هذا الكلام من أناس كثيرين جدًّا.

الشاهد الخامس:

ثم نودي الشاهد الخامس، وهو "صبحي تادرس" فحضر وحلف اليمين، وروى شهادته التي لا تخرج عن شهادة الطبيبين السابقين.

مدير سينما شهر زاد:

ثم نودي شاهد الإثبات "عبد المنعم محمد "مدير سينما شهر زاد، فحضر وحلف اليمين، وسأله القاضي: إيه معلوماتك؟

الشاهد: لا أعرف شيئًا عن الحادث.

المحكمة: ولماذا حضرت إلى هنا؟

الشاهد: وصلني إعلان بالحضور.

المدعي بالحق المدني: هل تعرف المتهمة كمترددة دائمة على السينما؟

الشاهد: نعم، وأعرف شكلها.

المدعي بالحق المدني: أثناء عرض الأفلام، ما هي حدود اختصاصك!

الشاهد: أكون بجوار الباب أثناء دخول الجمهور.

ص: 511

المدعي بالحق المدني: حيث إن اختصاصك هكذا، فما موقف العمال الذين يقطعون التذاكر؟

الشاهد: من نفس باب السينما.

المدعي بالحق المدني: إذا حدث شيء غير عاديّ على السلم، هل يلفت هذا نظرك أم لا؟

الشاهد: كل الذي أراه في السينما أشعر به.

المدعي بالحق المدني: في مساء الأحد 4 سبتمبر الماضي، هل تذكر على وجه التحديد إذا كانت نوال حضرت السينما في ذلك اليوم أم لا؟

الشاهد: لا، وجايز تكون حضرت.

المدعي بالحق المدني: هل تستطيع أن تحدد لنا وقت الاستراحة الأولى بين الأفلام المختلفة؟

الشاهد: السينما تعرض عادةً 3 أفلام، والاستراحة الأولى، وهي بين الفيلم الأول والثاني تكون في حوالي الساعة التاسعة، أو التاسعة والربع مساءً، والاستراحة الثانية بين الفيلمين الثاني والثالث، لأنها تبدأ في الساعة الحادية عشرة والربع مساءً.

شقيقة القتيل:

ثم نُودِيَت شاهدة الإثبات "الآنسة جماني" شقيقة القتيل الثاني، الطفل "إيليا كارازيدس" فأدلت بشهادتها.

إسماعيل السنوسي:

ثم نُودِيَ شاهد الإثبات "إسماعيل السنوسي" تاجر الأفلام، فحضر وحلف اليمين، وقال إنه شاهد أثناء جلوسه بمحله المجاور للصيدلية السيارة وهي تقتحم الصيدلية بسرعة مذهلة، ثم نزلت منها فتاة، وقد مال عليها شابٌّ وهو يأمرها بالهرب و"الزوغان" حيث شاهدها بعد ذلك، وهي

ص: 512

واقفة مع بوليس النجدة، والناس يشيرون إليها ويقولون: أهي دي اللي كانت سايقة السيارة.

الطفل بولي هارجيان:

ثم نُودِيَ الطفل "بوللي هارجيان" وهولم يتجاوز العاشرة من عمره، فحضر وحلف اليمين، وروى للمحكمة شهادته: من أنه كان واقفًا مع الطفل "إيليا" على الرصيف المجاور لمحل أسترا، ثم فوجيء بالسيارة وهي تقتل زميله الطفل "إيليا" وقال: إنه شاهد الفتاة وهي تقود السيارة، وفي يدها عجلة القيادة وقت الحادث.

قضية لا تحتاج إلى جهاد:

وبعد ذلك نهض الأستاذ سليمان أيوب، يمثل النيابة العامة وقال: إن القضية لا تحتاج إلى جهاد فهي ثابتة، والوقائع ليس مختلفًا عليها، والشهود كثيرون، ويؤيدون اتهام الفتاة، وأنها كانت تقود السيارة بسرعة مذهلة، حتى صعدت إلى الرصيف، وصدمت كل من يقف عليه.

وقال وكيل النيابة: إن الإصابة لا يمكن وصفها إلّا بأنها قتل، وشهود الإثبات وصفوا الواقعة وصفًا دقيقًا، والنيابة لا يسعها إلّا أن تطلب تطبيق أقصى العقوبة، والحكم بحبسها مع النفاذ.

مرافعة المدعين بالحق المدني:

ثم نهض الأستاذ "عدلي فرج" الحاضر مع والد الطفل "إيليا" كارازيدس، فقال: إن المتهمة وشهودها حاولوا التلفيق، ثم فند أقوال شهود الإثبات.

وانتقل إلى تفنيد أقوال الأنجال الثلاثة للدكتور محمد كامل مرسى، مدير جامعة القاهرة، وقال: إن ولدهم هو الصديق الحميم لعائلة نور، وإن ولديه جميل والمعتز، صديقان لشقيقهما حازم.

ص: 513

اللهم وفق:

وقال الأستاذ عدلي: نعرف أن نوال وشقيقها قد انتهزا غيبة السائق، وأخذا السيارة؛ لأن معهما مفتاحًا ثانيًا لها.. وسمُّوها يا حضرات القضاة زي ما تسموها.. رعونة.. شيطنة.. شقاوة.. عدم تقدير للمسئولية.. المهم أن "نوال نور" أرادت أن تخرج في نزهةٍ مع من كانوا معها بعيدًا عن أعين السائق..

وفي سبيل هذه النزهة أرادت نوال أن تقود العربية، فقتلت طفلين، وحطمت رجلين، وأتلفت ممتلكات، وأثكلت أمهات.

استراحة:

وكانت الساعة قد بلغت الواحدة مساءً، فرفعت الجلسة للاستراحة، ثم أعيدت للانعقاد في الساعة الواحدة والنصف.

مرافعة الأستاذ حسين رءوف:

ونهض الأستاذ "حسين رءوف" المحامي عن المدعية بالحق المدني، وهي السيدة: اعتماد، والدة القتيل محسن جوهر، وقال: إن القضية قضية وقائع، وتدول حول نقطة هامة، وهي: هل كانت نوال نور في سينما شهرزاد كما تدعي، أم أنها كانت في السيارة وقت الحادث؟

وانتهى إلى القول بأن التهمة ثابتة، قبل نوال نور، وطلب الحكم عليها بأشد العقوبة.

مرافعة الأستاذ عبد الرحمن حسن:

ثم نهض الأستاذ: عبد الرحمن حسن، المحامي عن والد القتيل الطفل "محسن" وقال: إن حكم القضاء العادل سوف يكون هو الرادع القوي للطائشين من أمثال نوال وغيرها من المستهترين.

ص: 514

مرافعة جمال الشريف:

وأعقبه الأستاذ جمال الشريف، المحامي الحاضر مع المدعي بالحق المدني، إسماعيل لبيب، وقال: إنه يطلب جعل مبلغ الثلاثة آلاف جنيه التي طلبها تعويضًا مؤقتًا لا كاملًا، ثم قدَّم للمحكمة شهادة طبية من مستشفى الدكتور الغريني، أثبت فيها أن موكله هو ميت حي في كفنٍ من الجبس.

استراحة:

وكانت الساعة قد بلغت الثانية والنصف مساءً، فرفعت الجلسة على أن تعود للانعقاد في جلسة مسائية أخرى، بدأت من الثالثة والنصف.

الجلسة المسائية:

وفي الساعة الثالثة والنصف استأنفت المحكمة جلسةً مسائيةً ثانيةً لنظر القضية، ونهض الدفاع عن المتهمة، الأساتذة: محمد إسماعيل عوض، ومحمد ممدوح، وترافعا، ففندا أقوال الشهود، وتكلما كثيرًا في الناحية القانونية، وطلبا براءة موكلتهما، ورفض الدعوى المدنية.

مرافعة عم المتهمة:

ثم نهض عم المتهمة الأستاذ: محمود متولى نور، محافظ القاهرة السابق، وقال: إنه ينضم إلى زملائه المحامين عن ابنة شقيقه، ولكنه يتكلم بوصفه زعيم أسرة نور، وقال: إن القضية ليس فيها دليل قبل نوال نور.

وعقب ذلك نهض الأستاذ: عدلي فرج، عن المدعي بالحق المدني، وعَقَّبَ على مرافعة الدفاع، وقال: إنه بعد سماع هذه المرافعات ينتهي إلى أن القضية أكثر ثبوتًا الآن، قبل نوال نور.

ثم عَقَّبَ عليه الأستاذ: محمد ممدوح، وصمَّمَ على طلب البراءة.

وكانت الساعة قد بلغت السابعة إلّا ربعًا، فرفعت للمداولة، حيث أعيدت للانعقاد في الساعة الثامنة والربع، وأصدر القاضي الحكم الآتي نصه:

ص: 515

أولًا: حكمت المحكمة حضوريا للمتهمة وللمدعين بالحق المدني ببراءة المتهمة مما أسند إليها، ورفض الدعاوي المدنية الأربع المقدمة ضدها من كلٍّ من: اعتماد عثمان غالب، ومحمود سليمان جوهر، وإسماعيل أحمد لبيب، وبردورس كازاريدس، مع إلزام رافعيها بمصاريفها "بلا مصاريف جنائية".

وزغردت بعض النسوة الحاضرات مع نوال، وهتف بعض مؤيديها:"يحيا العدل"، ثم خرجت وركبت سيارتها الشفرولية موديل 55 الجديدة التي اشترتها عقب الحادث.

بهذه الطريقةكتبت صحيفة "الأخبار" تقريرها عن هذه القضية التي شغلت بال الجمهور في مصر نحوًا من سنة، وكان شعور الجمهور -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- ضد المتهمة التي كانت السبب في هذه الجناية، وتوخت الصحيفة مسايرة هذا الشعور العام، فكانت تأتي بالصور التي تتفق وهذا الاتجاه، أو التي توحي بهذا الإحساس، كما كانت تكتب "بالبنط الأسود" بعض أقوال الشهود والمحامين الممثلين للاتهام، مما له دلالة خاصة، وتأثير معين في سير القضية نحو الإدانة لا البراءة.

ومع هذا وذاك، فقد شاء القضاء المصريّ أن يصدر حكمه بالبراءة على نحو ما رأيت.

ص: 516