المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القصة في المجلة: - المدخل في فن التحرير الصحفي

[عبد اللطيف محمود حمزة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌تقديم:

- ‌من مؤلفات أستاذنا الدكتور عبد اللطيف حمزة وبحوثه:

- ‌هذا الكتاب:

- ‌الكتاب الأول: الرأي العام

- ‌الصحافة والرأي العام:

- ‌تعريف الرأي العام:

- ‌الفرق بين الرأي والسخط والعام والاتجاه العام

- ‌أنواع الرأي العام:

- ‌دور الصحافة في تكوين الرأي العام:

- ‌القانون والرأي العام:

- ‌الرقابة على الصحف:

- ‌نشأة الرأي العام في مصر:

- ‌مصادر الكتاب الأول:

- ‌الكتاب الثاني: فن الخبر

- ‌نشأة الخبر وأهميته

- ‌تعريف الخبر:

- ‌في سبيل الحصول على الخبر:

- ‌تقويم الخبر:

- ‌مذاهب نشر الخبر:

- ‌قوالب صياغة الخبر:

- ‌الحوادث الداخلية أو المحلية:

- ‌الأخبار الخارجية:

- ‌طبيعة اللغة التي يكتب بها الخبر:

- ‌تحرير العنوان

- ‌التعليق على الخبر:

- ‌الطرائف المتصلة بالخبر:

- ‌الخبر والمجتمع:

- ‌الأخبار من الزاوية الأخلاقية، وزاوية

- ‌الذوق الصحفيّ والخبر:

- ‌مصادر الكتاب الثاني:

- ‌الكتاب الثالث: فن المقال

- ‌فنون المقال

- ‌المقال القصصيُّ:

- ‌مقال الاعترافات:

- ‌المقال الكاريكاتوري:

- ‌مقال الخواطر والتأملات:

- ‌المقال العلمي:

- ‌المقال الصحفيّ:

- ‌المقال الافتتاحي:

- ‌العمود الصحفي:

- ‌عمود الموضوعات الإنسانية:

- ‌عمود الرياضة والفنون:

- ‌الحملة الصحفية:

- ‌الحيل الصحفية أو الصراع بين الصحيفة والرقيب:

- ‌الكتاب الرابع: فن التقرير

- ‌المجلة

- ‌المقال في المجلة:

- ‌القصة في المجلة:

- ‌وظيفة التقرير الصحفيّ وأهميته:

- ‌فن الحديث الصحفيّ وأنواعه:

- ‌مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

- ‌التحقيق الصحفي وأنواعه وقواليه

- ‌مصادر التحقيق الصحفيّ، ونموذج له:

- ‌الماجريات وطريقة تحريرها:

- ‌الماجريات البرلمانية:

- ‌الماجريات القضائية:

- ‌الماجريات الدبلوماسية:

- ‌الماجريات الدولية:

- ‌تحرير الصورة والإعلان:

- ‌مصادر الكتاب الرابع:

- ‌الخاتمة: مستقبل التحرير الصحفيّ في مصر

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌القصة في المجلة:

‌القصة في المجلة:

يمكن تقسيم القصة من حيث الطول والقصر إلى ثلاثة أنواع:

الأول: الأقصوصة.

الثانية: القصة القصيرة.

الثالثة: القصة الطويلة.

وتمتاز القصة القصيرة بأنها تتيح لكاتبها التعبير عن فكرةٍ واحدةٍ فقط، يسلط الكاتب عليها كل الأضواء، ويعزلها عزلًا تامًّا عن جميع الأفكار الأخرى، وبهذه الطريقة يستطيع الكاتب أن ينقل للقارئ صورةً قويةً عن هذه الفكرة الواحدة، تكون بطبيعة الحال أقوى بكثيرٍ مما لو كانت ضمن أفكارًا أخرى تشتمل عليها القصة الطويلة أو الرواية، ثم إن القصة القصيرة يمكن أن يقرأها القارئ في جلسةٍ واحدةٍ، وفي هذه الحالة يحصل القارئ على جميع ما للقصة من تأثيرٍ كاملٍ دفعةً واحدةً.

أما القصة الطويلة، أو الرواية، فإنها تحتاج إلى جلساتٍ كثيرة، ومن ثَمَّ يقع تأثيرها في نفس القارئ على دفعات.

ومعنى ذلك: أن القصة القصيرة أصلح للمجلة، وأن القصة الطويلة أو الرواية أصلح للجريدة اليومية.

وسندع الكلام عن الرواية؛ لأنها لا تهمنا في الكلام عن المجلة، وننظر قليلًا في القصة القصيرة.

ص: 409

فن القصة القصيرة:

إن الذي لا ريب فيه أن القصة القصيرة أدنى إلى الأدب الواقعيّ بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، ومن هنا جاءت ملاءمتها للصحف، وأصبحت من المواد اللازمة لها منذ ظهور الصحافة، والصحافة في ذاتها أدبٌ واقعيٌّ قبل كل شيءٍ؛ لأنها تعنى بالمجتمع، وبما يقع فيه من أحداث.

ولقد كان الكاتب الفرنسيّ الشهير "جي دي موباسان" من كتاب النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أول كاتبٍ رسم للقصة القصيرة طريقًا جديًّا بالمعنى الصحيح.

ذهب هذا الكاتب إلى أن القصة القصيرة ليس من الضروريّ أن تدور حول الأحداث الخطيرة، بل يغلب عليها أن تدور حول الأمور العادية التي تحدث للناس كل يوم، وفي ذلك ما قد يكشف عن أشياء كثيرة في النفس البشرية التي يهم القارئ أن يعرف عنها الشيء الكثير.

ومن هنا كانت الأحداث في القصة القصيرة عند هذا الكاتب أحداثًا عاديةً، وكان الأشخاص في القصة أشخاصًا عاديين، وكانت مواقف القصة مواقف عادية، وبهذه المواقف العادية استطاع الكاتب أن يفسر الحياة تفسيرًا سليمًا، وأن يكشف فيها عن زوايا خفيةٍ، وأن يشرح النفس الإنسانية شرحًا دقيقًا.

وبينما كان "جي دي موباسان" هذا يكتب القصة القصيرة بأسلوب سهلٍ، يدنو كثيرًا من أسلوب الصحافة، إذا بالكاتب الروسي "تشيكوف" يعمد في كتابة قصصه إلى أسلوبٍ بعيدٍ كلَّ البعد عن أسلوب الصحافة، وبذلك عمل على أن تستعيد القصة القصيرة مكانتها من حيث البلاغة والأناقة وسمو التراكيب.

ص: 410

وأما خطة هذا الكاتب الروسيّ في كتابه القصة القصيرة، فتقوم على هذه القاعدة:"عَرِّفِ الناسَ بالناسِ ولا تعرفهم بنفسك".

وهذا مثل من قصص "تشيكوف" يفصح فيه عن طريقته، ويكشف عن ميله الشديد إلى الإيجاز الذي عرف به.

في هذه القصص وعنوانها: "موت موظف حكومة" نرى موظفًا حكوميًّا، هو واحد من آلاف الموظفين، عرفته الأداة الحكومية في روسيا القديمة يعطس يومًا فوق صلعة قائدٍ كبيرٍ جلس أمامه في المسرح، فيرتاع الموظف الصغير من فعلته هذه، ويستبد به الخوف إلى درجةٍ مزعجةٍ تملك عليه كل مشاعره، ويقول لنفسه: أما عليَّ أن أقوم بواجب الاعتذار، وأؤكد للقائد العظيم أن العطسة كانت بغير قصدٍ مني؟ إن غضب القائد قد يجر عليَّ -وأنا الموظف الصغير- أوخم العواقب، واستجمع الموظف الصغير كل شجاعته، وذهب إلى القائد واعتذر له مرارًا وتكرارًا، حتى اضطر القائد نفسه في النهاية أن يأمر بطرده من مجلسه، فطرد المسكين؛ وإذ ذاك بلغ به الخوف والهلع مبلغًا، أفضى به إلى الموت في داره فور وصوله إليها.!

هذه قصةٌ مبكيةٌ مضحكةٌ في وقت معًا، وهي في الوقت نفسه موجزة كل الإيجاز، محبوكة كل الحبك، ولكن دون أن تنقصها كلمة واحدة يكمل بها التأثير الكليِّ في القارئ أو في السامع.

ومن ثَمَّ اشترطت في القصة القصيرة شروط ثلاثة هي:

أولًا: أن تكون لها بداية ووسط ونهاية.

ثانيًا: أن تكون تصويرًا لحدث متكاملٍ، له وحدته التي تتمثل في البداية والوسط والنهاية.

ثالثًا: أن تحدث في القارئ أثرًا كليًّا، أو تؤدي إلى معنًى كليٍّ.

ص: 411

ومعنى هذا أن القصة القصيرة لا يمكن أن تكون مجموعة أخبارٍ يربط الكاتب بينها بطريقة مصطنعة؛ ليوهم القارئ أنها قصةٌ، وهي ليست كذلك.

إن القصة القصيرة عبارة عن موقفٍ قصصيٍّ، أو موقفٍ من مواقف الحياة، يأخذ في النمو شيئًا فشيئًا، إلى أن يصل إلى نقطةٍ معينةٍ، يسميها النقاد:"لحظة التنوير" كما سنشرح ذلك فيما بعد.

عناصر القصة القصيرة:

تُبْنَى القصة القصيرة على أربعة أركان أو عناصر:

1-

عنصر الحوادث أو الأخبار.

2-

عنصر الشخصيات.

3-

عنصر الفكرة أو المعنى.

4-

لحظة التنوير، وهي اللحظة التي يكسب بها الحدث معنًى من المعاني، يكون هو المعنى الذي كتبت من أجله القصة.

عنصر الحوادث والأخبار:

لا بد للقصة من خبرٍ من الأخبار ترويه بصورةٍ فنيةٍ، ولكن يجب أن يكون مفهومًا على الدوام، أنه ليس كل خبر أو مجموعة من الأخبار قصة.

فالشرط في أن يصبح قصةً هو أن يكون له أثرٌ كليٌّ في نفس القارئ، وبعبارةٍ أخرى: ينبغي للخبر الذي تحكيه القصة أن تتصل تفاصيله وأجزاءه بعضها ببعض؛ بحيث يكون لمجموعها أثرٌ كليٌّ، هذا فضلًا عن توفر شرط آخر سبقت الإشارة إليه، وهو أن تكون للخبر بداية، ووسط، ونهاية، ثم لا يكفي أن يكون للخبر أثرٌ كليٌّ، بل يجب أن يصور حدثًا أو موقفًا معينًا، أو بدايةً معينةً، تأخذ في النمو شيئًا فشيئًا، حتى تصل إلى نقطة معينة، هي "لحظة التنوير" التي أشرنا إليها، وقلنا إننا سنشرحها بعد ذلك.

وعلى هذا، يكون الفرق بين الخبر الذي يقتصر على تزويدها بالمعلومات،

ص: 412

والخبر الذي يصور حدثًا من الأحداث تصويرًا فنيًّا من نوعٍ معينٍ، هو الفرق بين القصة الإخبارية في الجريدة، والقصة الفنية المعروفة في الأدب.

فلو كتبت لأحد أصدقائك تقول له:

"سافرت إلى الريف، وسحرني بجماله وهدوئه، وقضيت الوقت كله في الحقول، ومن أجل ذلك تأخرت في الكتابة إليك، أما عمدة القرية، فلا يسأم الجلوس في "الدوار"، ويجمع حوله رفاقه من شيوخ القرية، ولقد كنت طوال هذه المدة أجالس العمدة، وأقرأ له الجرائد والمجلات، وأستمع معه إلى الراديو، وأكبر أولاد العمدة -وهو صديق لي كذلك- عاد من العاصمة، وقال: إنه انتهى من الامتحان النهائيّ في كلية الحقوق، وأنه سيصبح محاميًا بعد بضعة أسابيع، وهو يمارس الآن تجربة حبٍّ عنيفٍ مع فتاةٍ من بنات القرية، تقرب منه في السن، ويقال: إنها تحب فتًى غيره، ومثلي لا يمكن أن تغيب عنه هذه المعلومات التي أكتبها إليك بثقة".

فإن في هذا الخطاب أخبارًا يرويها الكاتب لصاحبه، ولكنها رويت بحيث بدأ كل خبر منها منفصلًا، أو كالمنفصل عن الخبر الآخر، ومجموع هذه الأخبار لم يترك في نفس القارئ أثرًا كليًّا، ولذا عجزت كل هذه السطور، أو الأخبار، عن أن يكون لها معنًى كليّ، لذلك لا ينبغي لنا مطلقًا أن نطلق على هذه السطور اسم "قصة".

إنها مجرد أخبارٍ تزودنا ببعض المعلومات؛ كالأخبار التي تقرؤها كل يوم في الصحف لا أكثر ولا أقل.

أما القصة: فإنها ومضةٌ من الضوء، يلقيها الكاتب على شريحةٍ من شرائح الحياة -إذا صح هذا التعبير، ليصور بها حادثةً ذات وحدة عضوية، ويكشف بها عما يربط بين أجزائها من معانٍ أو علائقَ.

إنها إذن تعتمد على أساسين كبيرين هما: اللسمة الإنسانية من جانب،

ص: 413

وخلق مشكلةٍ من المشكلات التي تعرض للبشر، وحل هذه المشكلة من جانبٍ آخر.

وكما عرفنا كيف نفرِّقُ بين القصة الإخبارية في الصحافة، والقصة القصيرة في الأدب، كذلك ينبغي لنا أن نفرِّقَ بين المقال القصصيِّ والقصة القصيرة، فهذه الأخيرة -وهي القصة القصيرة- أدنى إلى الأدب والفن بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة.

ذلك أن "العقدة" و "لحظة التنوير" شرطان أساسيان في هذا اللون من الأدب، على حين أن المقال القصصيّ لا يشترط فيه أن تكون له عقدة، ولا يحتاج إلى "لحظة التنوير" التي تنحل بها هذه العقدة.

إن المقال القصصيّ أقرب إلى "الأقصوصة" منه إلى "القصة القصيرة" وللقارئ أن يرجع في ذلك إلى ما سبق أن كتبناه عن المقال القصصيّ كما هو معروف عند الكاتب الشهير باسم: "إبراهيم عبد القادر المازني".

عنصر الشخصيات:

مما لا شك فيه أن كل حدثٍ من الأحداث، لا يقع بالطريقة التي وقع بها في القصة إلّا لوجود شخص معين أو أشخاص معينين يجري على أيديهم هذا الحدث المعين.

ومعنى ذلك: أن الحدث في القصة هو هذه الشخصية، أو الشخصيات التي تعمل، ويجري على أيديها الحدث بصورة خاصةٍ، ووحدة الأحداث في القصة لا تتحقق إلّا بتصوير الشخصيات وهي تعمل في داخل القصة، وهكذا يتطور الحدث من نقطةٍ إلى أخرى، أي: أن كل جزء في القصة يبدو كأنه يؤدي إلى الجزء الذي يليه، وهكذا، وربما كان من أوضح الأمثلة على دور الشخصيات وهي تعمل ويجري على يديها الحدث، قصة كتبها

ص: 414

الكاتب الفرنسيّ الذي مر ذكره، وهو هنا "جي دي موباسان "بعنوان":

في ضوء القمر 1:

بدأت هذه القصة بموقف للأب "مارينيان" وهو يمشي في حديقةٍ له بالقرية، ويسأل نفسه: "لماذا فعل الله ذلك؟؟ إن عظمتك يا ربي أعظم من أن تدركها عقول البشر، وبهذا المنطق البسيط طفق الرجل يفسر الطبيعة من حوله، فالشمس لإنضاج المحاصيل، والمطر لسقي الزرع، والليل ليستعد الناس للنوم.... وهكذا.

غير أنه كان يكره النساء كل الكره، وكان يزعم أن الله تعالى غاضبٌ عليهن، وكان يعتقد دائمًا أن الله خلق المرأة لغواية الرجل واختباره، وكانت له ابنة أخت تعيش مع أمها في منزلٍ صغيرٍ قريبٍ من منزله، وكان قد صمم على أن يجعل منها راهبة، وكانت الفتاة تحب الحياة، وتستجيب لجمال الطبيعة بأكثر مما تستجيب لوعظ خالها، وفي يومٍ من الأيام، أخبرت مديرة البيت الأب "مارينيان" أن ابنة أخته قد اتخذت لنفسها عشيقًا، فصاح الأب: كذب.... كذب!!.

ولكن المرأة التي أخبرته بذلك قالت: ليعاقبني الله إن كنت أكذب يا سيدي القس.... إنهما يتقابلان كل ليلة بجانب النهر، وما عليك إلّا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة ومنتصف الليل، وفي موجة من الشعور بالحزن والخيبة والعار، وخدش الكرامة أخذ القس عصًا في يده من خشب البلوط، وخرج من بيته، ولكنه ما لبث أن توقف عند الباب مبهوتًا مأخوذًا بجمال الطبيعة.

وكان بهاء القمر رائعًا روعةً نادرةً، وشعر الرجل فجأةً أن جمال الليل

1 رشاد رشدي "القصة القصيرة" من ص41-48 بتصرف.

ص: 415

وجلاله وبهاءه قد حرَّك قلبه، وفي حديقته الصغيرة التي سبحت في ضياءٍ باهتٍ، عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر أغصانٍ رقيقةٍ من الخشب، تكسوها الخضرة، ومن الزهور المتسلقة على الحائط انبعثت رائحة جميلة، وسار الرجل ببطء، مسحورًا مبهورًا، حتى كاد ينسى ابنة أخته، وعندما وصل إلى بقعةٍ عاليةٍ، وقف يرقب الوادي بأجمعه، وبهاء القمر يحتضنه، وسحر الليل الهادئ الجميل يغرقه

واستمر الأب يمشي وهو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته! وود لو يجلس، أو يتوقف حيث هو؛ ليحمد الله على ما صنعت يداه، وهناك في طرف المرعى رأي ظلان يمشيان جنبًا إلى جنبٍ تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضيّ.

كان الرجل هو الأطول، وقد لف ذراعه حول عنق حبيبته، ومن وقتٍ لآخر كان يقبلها في جبينها، وفجأةً دبت الحياة في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بهما، وكأن الطبيعة نفسها إطارٌ إلهيٌّ صُنِعَ خصيصًا من أجلهما، وبدا الشخصان كأنهما كائن واحد، هو الكائن الذي خُلِقَ من أجله الليل الهادئ الساكن، واقتربا من القس كأنهما إجابةً حيةً على سؤاله الذي ألقاه على نفسه في بداية القصة، إجابةً بعث بها إلى ربه الأعلى.... وإذ ذاك كان الأب "مارينيان" يلقي على نفسه سؤالًا آخر:

ألم أكن على وشك الخروج على طاعة الله؟ ، لو لم يكن الله يرضى عن الحب لما أحاطه بمثل هذا الإطار من الجمال والسحر والبهجة والعظمة!!.

وهرب الأب مذهولًا وهو يكاد يشعر بالخجل أو بالوجل، كما لو كان قد اجتاز هيكلًا مقدسًا لا حقَّ له في اجتيازه في تلك اللحظة!!

هذه القصة تصور لنا حدثًا متكاملًا له وحدته، وتصور لنا الشخصية وهي تعمل، وتصور لنا الفعل والفاعل والشخصية شيئًا واحدًا لا يمكن تجزئته، ومن ثَمَّ نجحت هذه القصة نجاحًا كبيرًا، وبصرف النظر عن

ص: 416

كونها تشتمل على خبرٍ تافهٍ في ذاته، هو عبارة عن قسيس يدعى:"الأب مارينيان"، سمع ان ابنة أخته على علاقةٍ بأحد الشبان، فخرج ليضبطهما متلبسين بالجريمة، وتربص لهما في الحقول والوديان، وبعد مدةٍ رآها قادمةً مع حبيبها، تتهادى في ضوء القمر، فخجل من نفسه وعاد إلى بيته.

عنصر الفكرة أو المعنى:

إن تصور الحدث في القصة من البداية إلى الوسط، ثم إلى النهاية، لا يكفى لتطوير الحدث نفسه؛ لأن الحدث عبارةٌ عن تصوير الشخصية في القصة وهي تعمل، ثم إن تصوير الشخصيات في القصة وهي تعمل لا يكفي كذلك لإحداث التكامل في القصة، فالتكامل في القصة، أو الحدث، هو تصوير الشخصية وهي تعمل عملًا معينًا له معنًى أو فكرةً تهدف إليها القصة، وليس المعنى أو الفكرة شيئًا مستقلًّا عن الحدث، يمكن أن نضيفه إليه متى أردنا، أو نفصله عنه كيفما شئنا، فنقول مثلًا: إن هذه القصة تعالج مشكلة الفقر، أو تثبت أن الفضيلة أقوى من الرذيلة، ومعنى ذلك باختصار شديد: أن الحدث والمعنى، أو الفكرة، في القصة وحدةٌ لا تتجزأ.

انظر إلى القصة السابقة: "في ضوء القمر" تجد أن الحدث له بداية، ووسط، ونهاية، وتجد أن المعنى أو الفكرة والحدث وحدة لا تتجزأ إلى أجزاء يمكن أن ينفصل بعضها عن الآخر، ومن ثَمَّ أصبح هذا الحدث متكاملًا، والوحدة بينه وبين المعنى تامة، وليست مفروضة عليه بصورة من الصور، وهذا المعنى هو أن الله تعالى يرضى عن الحب، والكاتب هنا لا يعبر عن هذا المعنى في شكلٍ إخباريٍّ بحت، وإنما يعبر عنه في شكلٍ فنيٍّ هو عبارة عن حدث ينمو في القصة شيئًا فشيئًا، حتى تؤدي إلى المعنى الذي كتبت من أجله القصة.

ص: 417

لحظة التنوير:

لكي تكمل للقصة القصيرة مقوماتها الفنية المطلوبة، يجب أن تصور حدثًا متكاملًا يجلو موقفًا من المواقف الإنسانية كما قلنا.

إن كاتب القصة القصيرة لا يسرد تاريخ حياة أحدٍ من الناس، ولا يلقي أضواء مختلفة على أحداث كثيرة، ولا يكشف عن زاويا متعددة للأحداث والشخصيات، كما يفعل كاتب القصة الطويلة أو الرواية، بل ينظر إلى الحدث من زاويةٍ معينةٍ لا من عدة زوايا، ويلقي عليه ضوءًا معينًا، لا عدة أضواء، ويهتم بتصوير موقفٍ معينٍ في حياة فردٍ أو جماعةٍ، لا بتصوير الحياة كلها.. فالنهاية في القصة القصيرة تكتسب أهميةً خاصةً؛ لأنها النقطة التي تجمعت فيها خيوط الحدث كلها، وبها يكتسب الحدث نفسه معنًى وفكرةً، ولذا سميت هذه النقطة:"لحظة التنوير".

وبالقصة التي ضربنا بها المثل، وهي قصة "في ضوء القمر" نجد لحظة التنوير، وقد عَبَّرَ عنها الكاتب في قوله:

"وفجأةً خُيِّلَ إلى القس أن الحياة قد دبت في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بالفتى والفتاة، وكأنها -أي: وكأن هذه الطبيعة الحية- إطارٌ إلهيٌّ صنع خصيصًا من أجلهما، واقتربا من القس كأنهما إجابةٌ حيةٌ على سؤاله، إجابة بعث بها إليه ربه الأعلى، وقال الأب على الفور: ربما خلق الله مثل هذا الجمال إطار المثله الأعلى "وهو حب الإنسان"، وتراجع بعيدًا عن الحبيبين، وهو يكاد يشعر بالحياء والخجل، كما لو كان قد اجتاز معبدًا لا حق له في اجتيازه".

نسيج القصة:

رأينا كيف أن بناء القصة كبناء الكائن الحيِّ، وأن كل جزءٍ في هذا البناء لا يمكن أن ينفصل أو يستقل بنفسه عن الأجزاء الأخرى، بل يشاركها في الغاية من وجوده.

ص: 418

والغاية من القصة -كما عرفنا- هي تصوير حدثٍ معينٍ لهدفٍ معينٍ، ينسج الكاتب من أجله قصةً، ووسائل هذا النسيج -كما نعرف أيضًا- هي اللغة، والوصف، والحوار، والسرد، وغير ذلك من الأشياء التي تشترك كلها في مهمة التصوير من جهةٍ، وتطوير الحدث في داخل القصة من جهةٍ ثانيةٍ.

أما الوصف: فإنه لا يرد في القصة القصيرة لذاته، ولكن يرد فيها لغايةٍ معينةٍ، ولذلك لا يعمد الكاتب إلى وصف شخصيةٍ من الشخصيات من خلال منظاره هو، ولكن من خلال منظار الشخصية التي تتعامل مع غيرها من شخصيات القصة، وفي ذلك ما يساعد الحدث في القصة على التطور والنمو شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى نهايته، ومعنى هذا: أن الوصف في نظر الكاتب والقارئ، جزء كذلك من الحدث الذي تدور حوله القصة.

مثال ذلك:

إذا كان الشخص في القصة القصيرة يحب الفتاة الطويلة ذات الشعر الأسود، والبشرة التي تميل قليلًا إلى السمرة، فإن الكاتب الذي يريد أن ينشيء علاقة حبٍّ لهذا الشخص في القصة، لا بد له أن يصف الفتاة في القصة بنفس هذه الأوصاف المذكورة، لا بأوصاف يحبها هو، ويترجم بها عن مثله الأعلى في الجمال، ولو فعل غير ذلك لكان هذا خطأً في نسيج القصة بهذا المعنى.

وكذلك الشأن في اللغة التي تستخدم في هذا الوصف، فإنها هي الأخرى يجب أن تكون لغة مطابقة للشخصية في القصة القصيرة، فمن غير المعقول أن يدع الكاتب شخصياته تتكلم عن مستوى لغويٍّ واحدٍ، فإن في ذلك ما فيه من البعد عن الواقعية التي هي أساس هذا الفن من فنون الأدب، ونعنى به: القصة القصيرة.

وفي نسيج القصة القصيرة يجب أن يلتفت الكاتب دائمًا إلى هذه الحقيقة،

ص: 419

وهي أن التقرير في القصة لا ينبغي أن يحل فيها محل التصوير، فالتقرير شيء والتصوير شيءٌ آخر؛ الأول -وهو التقرير- لا يصح وروده في القصة، والثاني: هو كل ما يمكن أن تعتمد عليه القصة.

إن التقرير لا يصف الإحساسات والمشاعر، ولكن الطريق الوحيد لذلك هو التصوير، فالابتسامة، أو الدمعة، أو السكوت عن الجواب، أو العزلة، أو الحركة تصدر من يد الشخص أو من كتفه، والتصرف المعين، أو السلوك المعين يصدر من هذا الشخص أيضًا، كل هذه الأشياء تعين على التصوير الذي يقصد إليه الكاتب، ولا يمكن اعتبارها تقريرًا عن مشاعر الشخصية التي تجري على يدها كل هذه الحركات أو السكنات، ونحو ذلك.

وهكذا لا تجد كاتب القصة يعمد إلى تقرير شيء من الأشياء، أو التعليق عليه كما يفعل المحرر الصحفيّ، وإنما يكتفي بتجسيم هذا الشيء في عمل يصدر عن الشخصية، ويحمل ذاتيتها وطابعها في نفس الوقت.

والمهم أن تقول بعد ذلك: إن النسيج كالحدث وكالشخصية في القصة، ليس منفصلًا عنها، لكن هذه العناصر كلها شيء واحد، فلا يمكن أن نتصور بناء القصة بعيدًا عن نسيجها، كما لا نستطيع أن نتصور أن أحداث القصة أو شخصياتها أو فكرتها ومعناها معزولة عنها.

الواقعية في القصة القصيرة:

بقيت لدينا كلمة نشرح فيها المراد بصفة الواقعية في القصة القصيرة، وهي الصفة التي بدأنا بها هذا الحديث،

وإنَّا لمكتفون هنا بتجربةٍ قام بها صاحب جريدة "الهاتف"، وهي جريدة صدرت ببغداد ما بين سنة 1934 وسنة 1954، وصاحبها ورئيس

ص: 420

تحريرها هو الأستاذ جعفر الخليلي،1 قال:

كتب لي قارئ وأنا أدير جريدة "الهاتف" يقول: إنه كان قد سألني مرةً، ما الذي يجب أن أعتمد عليه في بناء القصة؟ فأجبته بأن الواجب يقضي عليه بتوخي "الواقعية" بعد وثوقه من قابليته الفطرية للكتابة.

وعمل القارئ بهذه النصيحة، وكتب قصة بيته، وأرسلها إلى جريدة "الهاتف" فلم تنشرها الجريدة، مع أنه لم يبعد فيها عن الواقع قيد شعرة، وكانت قصة بيته التي يشير إليها، والتي يلوم "الهاتف" على عدم نشرها بعنوان:

حياة أسرة:

وهي قصة أرض، قال إن أباه قد اشتراها من امرأة، وهي واقعة في الطرف الفلانيّ من المدينة، وبالقرب من المحل الفلاني، وقد أنجز أبوه بناءها في طابقين، اتخذ الطابق الفوقانيّ مسكنًا له، وخصنا أنا وعمتي وجدتي وأختي بالطباق التحتانيّ، وفي البيت سلمان؛ أحدهما بالقرب من باب الدار، والثاني في نهاية البهو، وكلاهما ينتهيان بالطابق الفوقانيّ، ويصلان إلى سطح الدار.

وقال: إن أباه ينوي أن يبني جناحًا آخر إذا ما جاء موسم الزراعة بمنتوج جيد في السنة المقبلة، وقد كان ينوي يوم خط خريطة البيت أن يبني سردابًا، ولكن صديقًا لأبي حذره قائلًا: إنه لن يأمن أن يمتلأ السرداب بالماء في موسم الفيضان، فعدل عن بناء السرداب وبنى لنا تنورًا لا تزال أمي وعمتي تتناوبان الخبز فيه، وإن كان خبز أمي أحسن من خبز عمتي.

ثم أضاف قائلًا: وليس في بيتهم هذا مجالٌ ليتخذ فيه حديقة، ولكنهم

1 جعفر الخليلي "القصة العراقية" ص155.

ص: 421

ينتظرون أن يبيعهم جارهم بيته المتصل ببيتهم؛ ليتخذوا منه حديقةً غناء -إن شاء الله تعالى.

وتنتهي القصة بعد ذلك بحادث وقوع بيتهم هذا بسبب شق الطريق، وكانت نتيجته أن انهدم البيت، وعوضوا عنه بمبلغ معين، وهكذا تمت قصة حياة الأسرة، أو قصة الدار قبل أن يتاح لهم أن يحققوا أمنيتهم منها.

لقد أقسم كاتب هذه القصة بأنه لم يكتب شيئًا يخالف الواقع، ولم يفته شيء مما ينبغي أن يذكر لتكون الإحاطة تامةً بجميع أطرافه، وذلك طبقًا للقاعدة المطلوبة في بناء القصة، أو طبقًا لنصيحة "صاحب الهاتف".

قال صاحب "الهاتف" بعد ذلك:

"إن الواقعة التي أرادت أن تكون قاعدة أساسية للقصة، لم أقصد بها أن ينبري أحدنا إلى بيته أو إلى شارعه أو إلى مدينة، أو أية جهةٍ أخرى، فيصفها وصفًا صحيحًا، ثم يقدمها للناس باعتبارها قصةً من القصص الفنية، وإنما يجب أن تصف الواقعية موضوعًا يصح أن يسترعي انتباه القارئ لغرابته، أو للذته، أو لاستهوائه النفس، أو لإثارته الكوامن، أو لأيِّ شيءٍ مما يعنى به الناس كلهم أو بعضهم، وذلك في قالب فنيٍّ وإطارٍ معينٍ، أما أن ينطلق الكاتب إلى المطبخ مثلًا فينقل للقراء صورةً صادقةً لمواقع القدور والملاعق من الجهة اليمنى إلى الجهة اليسرى، وموضع الطباخ أو من يطبخ في بيته؛ أهي أمه، أم عمته، أم الخادمة، ثم يحاسبنا على أنه قد راعى في وصفه أهم قواعد القصة، وهي "الواقعية" والإحاطة بجميع أطراف الموضوع، فذلك شيءٌ لا يمت إلى القصة بأيِّ وشيجٍ من النسب، وإذا جاز أن يكون قصةً فهو من نوع صاحب البيت المعمور الذي أشرنا إليه هنا، والذي أسأل الله أن يكون أبوه قد اشترى له بيتًا جديدًا حقق فيه آماله من حيث السعة وإنشاء الحديقة"!!

ص: 422

تقول "إليزابيت بوين" في تعريف "الرواية والحقيقة":

إنها -أي: الرواية- قصةٌ مبتكرةٌ، ولكنها في الوقت نفسه، ورغم كونها مبتكرةً، فإن لها القدرة على الإيحاء بالصدق، وقد يتساءل البعض، وما قياس هذا الصدق؟

فأقول: إنه بالنسبة للحياة كما يعرفها القارئ، أو ربما كما يتحسسها هذا القارئ، وأنا إنما أعني: القارئ الناضج الكامل النمو، فمثل هذا القارئ يكون قد اجتاز مرحلة قراءة القصص الخرافية، ونحن لا نريد في الرواية شيئًا من الأحداث الغريبة المستحيلة، ولهذا فإني أؤكد بأن الرواية يجب أن تنطبق على الواقع كما يعرفه الناضجون من الناس في المجتمع.

ومعنى ذلك: أن الرواية ليست نشرة إخبارية، كما أنها ليست حوادث مثيرةً للحس، أو مثيرةً للنظر، وهنا يأتي دور الشرارة التي تبعث الحياة الحقيقية في الرواية، وهي خيال الكاتب صاحب القدرة الممتازة، وهذا الخيال لا يقتصر على الاختراع، بل إنه يدرك الأشياء، ويمسها، ويضاعف من الأشياء التي تبدو عاديةً مألوفةً، وهو يمدها بقوة جديدة، ويزيد من أهميتها، ويؤكد صدقها، كما يعطيها حقيقة داخلية عميقة، وهذا هو مفهوم الفن الروائي.

وقفت "اليزابيت يومين" عند ثلاث خصائص للقصة وهي:

أولًا: أن تكون بسيطةً واضحةً سهلة الفهم.

ثانيًا: أن تكون طريفةً بحيث تدور حول أزمة من الأزمات، أو تعالج مشكلة ذات أهمية كبرى بالنسبة للكاتب أو للقارئ في حياته الخاصة.

ثالثًا: أن تكون ذات بداية جيدة، كأن تنطلق من موقف مشحون بالأمل، أو على الأقل توحي للقارئ بأن مثل هذا الموقف واقع وموجود بالفعل.

ص: 423