المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل ويتقي الرياء والكبر والعجب] - المدخل لابن الحاج - جـ ٣

[ابن الحاج]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُجَاهِدِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ وَهَدْيِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْغَنِيمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْأَسَارَى]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَوْصَافِ الْمُوجِبَةِ لِلْجِزْيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ وَفَضِيلَتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الرِّبَاطِ وَفَضْلِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي فَضْلِ الشَّهَادَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقِتَالَ بِنِيَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي آدَابِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ التَّارِكِ لِلْأَسْبَابِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ وَهَدْيِهِ]

- ‌[فَصْلٌ يَنْظُرْ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَمْرِهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ]

- ‌[فَصْلٌ ويتقي الرِّيَاء والكبر والعجب]

- ‌[فَصْلٌ فِي الصِّدْقِ وَالْعَقْلِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الطَّمَعِ وَقُبْحِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّزَيُّنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاسْتِدْرَاجِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْيَقِينِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعُجْبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّوَاضُعِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النِّيَّةِ وَالْعِبَادَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعِلْمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي عُيُوبِ النَّفْسِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ عُيُوبِ النَّفْسِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الزُّهْدِ وَالْخَلْوَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ أَصْلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَفَرَّعُ مِنْهَا فُنُونُ الْخَيْرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ تَهْوِينِ سُلُوكِ الطَّرِيقِ وَالْوُصُولِ إلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي السَّمَاعِ وَكَيْفِيَّتِهِ]

- ‌[تَوْقِيرُ السَّلَفِ لِلْمَسَاجِدِ]

- ‌[سَمَاع الغناء الَّذِي يشترك فِيهِ الْخَاصّ والعام]

- ‌[فَصْلٌ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ]

- ‌[فَصْلٌ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالتَّنَافُسُ فِي أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ اسْتِحْضَارُ الْمُرْدِ فِي مَجَالِسِهِمْ وَالنَّظَرُ فِي وُجُوهِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الدُّفُّ وَالرَّقْصُ بِالرِّجْلِ وَكَشْفُ الرَّأْسِ وَتَخْرِيقُ الثِّيَابِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَفْسِيرِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَمُخَالَطَتِهِمْ وَالتَّعَرُّفِ بِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَوَاضِعُ قَبُولِ الدُّعَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْخَلْوَةُ عَنْ النَّاسِ وَالِانْفِرَادَ بِنَفْسِهِ]

- ‌[فَصْلٌ آكَدُ مَا عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ النَّظَرُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يَقْتَاتُ مِنْهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى طَرِيقِ الْقَوْم]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاشْتِغَالُ بِتَحْصِيلِ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دُخُولِ الْمُرِيدِ الْخَلْوَةَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّعَلُّقُ بِرَبِّهِ وَالسُّكُونُ إلَيْهِ وَانْقِطَاعُ رَجَائِهِ مِمَّنْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ]

- ‌[فَصْلٌ لِلْمُرِيدِ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ فِي زَمَانِهِ أَوْ بَلَدِهِ مَشَايِخُ]

- ‌[فَصْلٌ للمريد أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ نَظَرًا إلَى نِعَمِ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ يَنْبَغِي للمريد أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْخَوَاطِرِ حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا]

- ‌[فَصْلٌ جَامِعٌ لِبَعْضِ آدَابِ السُّلُوكِ وَلِبَعْضِ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ أَجْمَعِينَ]

- ‌[فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَتَفَقَّدَ فِي الِاجْتِمَاعِ بِإِخْوَانِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي آدَابِ صُحْبَةِ الْأَعْضَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ مَرَاتِبُ الْإِخْوَانِ]

- ‌[فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِلْخَلْقِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالتَّوَدُّدِ]

- ‌[فَصْلٌ إنْ كَانَ الْمُرِيدُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْأَوْلَادِ]

- ‌[فَصْلٌ اُبْتُلِيَ الْمُرِيدُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ وَخِلْطَتِهِمْ بِالْأَذِيَّةِ وَالْجَفَاءِ مِنْهُمْ]

- ‌[الصَّمْتُ وَغَضُّ الْبَصَرِ مِفْتَاحَانِ لِأَبْوَابِ الْقُلُوبِ]

- ‌[الِالْتِفَاتُ إلَى النَّاسِ تَعَبٌ فِي الْعَاجِلِ وَنَدَامَةٌ فِي الْآجِلِ]

- ‌[فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ مَضْبُوطَةً]

- ‌[فَصْلٌ فِي قُدُومِ الْمُرِيدِ مِنْ السَّفَرِ وَدُخُولِهِ الرِّبَاطَ]

- ‌[فَصْلٌ الطَّرِيقَةُ الصُّوفِيَّةُ نَظِيفَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمَشَايِخِ وَأَهْلِ الْإِرَادَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْعَجَبُ مِنْ ادِّعَائِهِمْ الْمَشْيَخَةَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَبَادِئَ أَمْرِ دِينِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ أَخْذُ بَعْضِهِمْ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الطَّرِيقِ]

- ‌[فَصْلٌ تَعْلِيقُ السُّبْحَةِ فِي عُنُقِهِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ بَالَغَ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ إلَى حَدٍّ لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ]

- ‌[فَصَلِّ اعتقاد المشتبهين بالمشايخ وَأَهْل الإرادة يدور بَيْن أمرين]

- ‌[فَصْلٌ فِي مُكَاتَبَةِ الْفَقِيرِ لِأَخِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صَرْفِ هِمَمِ الْمُرِيدِ كُلِّهَا إلَى الْآخِرَةِ وَأُمُورِهَا]

- ‌[فَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُرِيدِ سُلَّمٌ فِي اتِّبَاعِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ تَصَرُّفُ النَّاسِ فِي أَسْبَابِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ]

- ‌[حَال الْمُحْتَضَر وَمَا يَحْتَاج إلَيْهِ]

- ‌[حُرْمَةُ الْمَيِّتِ كَحُرْمَةِ الْحَيِّ]

- ‌[غُسْلُ الْمَيِّتِ]

- ‌[تَكْفِينُ الْمَيِّتِ]

- ‌[آدَاب المغسل]

- ‌[تَكْبِيرُ الْمُؤَذِّنِينَ مَعَ الْجِنَازَةِ]

- ‌[شُرُوطُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَأَرْكَانُهَا وَسُنَنُهَا]

- ‌[التَّعْزِيَةُ جَائِزَةٌ قَبْلَ الدَّفْنِ]

- ‌[السُّنَّةُ فِي تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ]

- ‌[يَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ أَوَّلًا فِي حَفْرِ الْقَبْرِ قَبْلَ الْأَخْذِ فِي غُسْلِهِ]

- ‌[إذَا فَرَغُوا مِنْ إهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ فَلْيَرْفَعُوا الْقَبْرَ قَلِيلًا عَنْ الْأَرْضِ]

- ‌[مَوْضِعُ التَّعْزِيَةِ عَلَى تَمَامِ الْأَدَبِ إذَا رَجَعَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ إلَى بَيْتِهِ]

- ‌[الذَّبْحُ عِنْدَ الْقَبْرِ]

- ‌[نَقْشِ اسْمِ الْمَيِّتِ وَتَارِيخِ مَوْتِهِ عَلَى الْقَبْرِ]

- ‌[فَصْلٌ اسْتِحْبَابُ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ]

- ‌[أَحْكَام الْعَقِيقَة]

- ‌[فَصْلٌ الْخِتَانُ]

الفصل: ‌[فصل ويتقي الرياء والكبر والعجب]

[فَصْلٌ ويتقي الرِّيَاء والكبر والعجب]

فَصْلٌ فِي الرِّيَاءِ وَاعْلَمْ - وَفَّقَنَا اللَّهُ -، وَإِيَّاكَ أَنَّ آكَدَ مَا عَلَى الْمُرِيدِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ التَّحَفُّظُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالتَّحَرُّزُ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِيمَا هُوَ بِصَدَدِهِ إذْ أَنَّ الْعَوَائِقَ كَثِيرَةٌ ظَاهِرًا، وَبَاطِنًا فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَنْعِ الْوُصُولِ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَأْخُذُ نَفْسَهُ أَوَّلًا بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي التَّحَرُّزِ مِمَّا ذُكِرَ لِيَسْلَمَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ: فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَتَّقِيَ الرِّيَاءَ، وَالْعُجْبَ، وَالشُّهْرَةَ، وَالْكِبْرَ؛ لِأَنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ أَدْنَى الْأَشْيَاءِ مِنْهُ يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا، وَقَدْ يَخْفَى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ كَمَا وَرَدَ لَكِنْ يَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ.

وَتَظْهَرُ آفَاتُهُ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ رحمه الله، وَهُوَ أَنْ قَالَ: أَصْلُ الْعَبْدِ لَمْ يَزَلْ مُذْ نَشَأَ مُرَائِيًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَذَلِكَ لِمَيْلِهِ إلَى الدُّنْيَا، وَإِيثَارِهِ لَهَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَإِهْمَالِهِ نَفْسَهُ، وَإِرْسَالِهِ نِيَّتَهُ فَلَمَّا أَهْمَلَ نَفْسَهُ، وَقَلَّتْ مُحَاسَبَتَهُ لَهَا لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ الرِّيَاءِ فَعَمِلَ لِلدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ أَصْلِ نِيَّةٍ ثَابِتَةٍ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ إهْمَالِ النَّفْسِ، وَتَضْيِيعِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فَنَهَاهُمْ عز وجل عَنْ إضَاعَةِ الْأَعْمَالِ فَلَا يَكُونُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا عَنْ إرَادَةٍ، وَلَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا عَنْ نِيَّةٍ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْ إضَاعَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَيُّ عَمَلٍ أَكْبَرُ مِنْ الْإِرَادَةِ، وَالنِّيَّةِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ، وَالْحَرَكَةُ، وَالسُّكُونُ جَمِيعُهَا عَمَلٌ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ تَضْيِيعِ الْعَمَلِ فَلَمَّا تَرَكَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ إخْلَاصِ الْعَمَلِ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الرِّيَاءِ، وَغَيْرِهِ، وَأَمْرَجَ نَفْسَهُ فَعَمِلَ عَلَى مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَجَمِيعُ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ رِيَاءٌ مَحْضٌ ظَاهِرٌ لَا يَعْرِفُهُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَعْرِفُهُ مِنْهُ مَنْ نَوَّرَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ فَهُمْ يَرَوْنَ فِعْلَهُمْ فِعْلَ أَهْلِ الرِّيَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكُ عَنْ صَاحِبِهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَلَوْ أَنَّهُ

ص: 41

أَبْدَى إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ عُيُوبِهِ لَنَفَرَ مِنْهُ، وَذَبَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَبْطَلَ مَا نَسَبَهُ إلَيْهِ فَصَارَ عَدُوًّا مُشَاحِنًا، وَأَقَلُّ مَا يَقُولُ لِلْعَارِفِ بِعُيُوبِهِ: حَسَدْتنِي فَلَمَّا عَلِمَ الْحَكِيمُ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَأَنَّ زَمَانَهُ زَمَانُ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ اعْتَزَلَ بِنَفْسِهِ، وَنَفَرَ عَنْ الْعَامَّةِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ زَمَانٌ قَدْ صَارَ الْمَعْرُوفُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِهِ مُنْكَرًا، وَأَنَّ الشَّرَّ قَدْ أَحَاطَ بِالْخَيْرِ، وَاعْتَزَلَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِصِدْقِ الْإِرَادَةِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الصِّدْقُ، وَمَا فِيهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصْفُو إلَّا بِالصِّدْقِ اتَّقِي الْكَذِبَ، وَفُنُونَهُ كُلَّهَا، وَتَشَوَّقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ نَفْسُهُ إلَى الْكَذِبِ، وَالرِّيَاءِ لِحَلَاوَةِ فُنُونِهِ عِنْدَهَا فَأَخَذَهَا بِالْجِدِّ، وَالِاجْتِهَادِ فِي تَرْكِ ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ مِنْهُ رَجَعَتْ مُنْقَادَةً فَلَمَّا صَارَتْ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَرَأَى الْعَبْدُ ذَلِكَ مِنْهَا ازْدَادَ إلَى الصِّدْقِ تَشَوُّقًا، وَازْدَادَ لِلْكَذِبِ مَقْتًا.

وَإِنَّمَا كَانَ يَنْفِرُ الصِّدْقُ، وَفُنُونُهُ مِنْ قَلْبِهِ لِغَلَبَةِ الْكَذِبِ، وَفُنُونِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الرِّيَاءُ، وَالْعُجْبُ، وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ، وَاِتِّخَاذُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْمَحْمَدَةُ، وَالْعِزَّةُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالتَّخْيِيرُ فِي الْأَعْمَالِ الْكَاذِبَةِ فَمَنْ عَمِلَ بِالصِّدْقِ، وَاتَّقَى الْكَذِبَ بَرِئَ مِنْ الرِّيَاءِ، وَالْعُجْبِ، وَدَوَاعِي الشَّرِّ كُلِّهِ فَإِذَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ ثَبَتَ الصِّدْقُ، وَفُنُونُهُ فِي قَلْبِهِ.

قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي ابْنَ آدَمَ مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ أَتَاهُ مِنْ وَجْهِ النَّصِيحَةِ لِيَسْتَدْرِجَهُ فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي بِدْعَةٍ فَإِنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَتَاهُ مِنْ جِهَةِ الْحَرَجِ، وَالشِّدَّةِ لِيُحَرِّمَ حَلَالًا أَوْ يُحِلَّ حَرَامًا فَإِنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الْوُضُوءِ فَيُشَكِّكُهُ فِي وُضُوئِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَصِيَامِهِ حَتَّى يَعْتَقِدَ بِهَوَاهُ أَمْرًا يَضِلُّ بِهِ عَنْ السَّبِيلِ، وَيَدْعُ الْعِلْمَ فَإِذَا قَدَرَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ خَلَّى بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ، وَالزُّهْدِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالصَّدَقَةِ، وَكُلِّ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَيُخَفِّفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَايَدَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَرَدَةِ فَيَقُولُ لَهُ إبْلِيسُ: دَعْهُ لَا تَصُدَّهُ عَمَّا يُرِيدُ فَإِنَّمَا بِأَمْرِي يَعْمَلُ فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ النَّاسُ فِي عِبَادَتِهِ، وَزُهْدِهِ، وَصَبْرِهِ، وَرِضَاهُ بِالذُّلِّ قَالَتْ الْعَامَّةُ، وَمَنْ لَا عِلْمَ لَهُ: هَذَا عَالِمٌ مُصِيبٌ صَابِرٌ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى ضَلَالَتِهِ، وَيَمُدُّ لَهُ إبْلِيسُ الصَّوْتَ فَيُعْجَبُ بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ.

وَعَلَامَتُهُ

ص: 42

الْإِعْجَابُ بِرَأْيِهِ، وَالْإِزْرَاءُ عَلَى مَنْ لَا يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ، وَيَكُونُ نَظَرُهُ لِلنَّاسِ بِالِاحْتِقَارِ لَهُمْ، وَيَتَغَضَّبُ عَلَيْهِمْ فِي التَّقْصِيرِ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْعِلْمِ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ، وَالْعَالِمِ الْفَاسِقِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ.

وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ بِالرِّفْقِ قَالَ لَهُ الْعَدُوُّ: إنَّ الْعَمَلَ بِالْخَيْرِ لَا يَنْفَعُك حَتَّى تَدَعَ الشَّرَّ كُلَّهُ، وَتَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَتَعْتَزِلَ عَنْ النَّاسِ فَاعْرِفْ نَفْسَك، وَأَصْلِحْ عُيُوبَك، وَاَلَّذِي عِنْدَك أَكْثَرُ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُصْلَحَ هَكَذَا سَرِيعًا، وَيُعَظِّمُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ حَتَّى يَكَادَ يَقْنَطُ، وَيَنْقَطِعُ عَنْ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ دُنْيَا عَرَضَ لَهُ بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَالرَّجَاءِ، وَالتَّسْوِيفِ، وَطُولِ الْأَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ إلَى هَذَا الْبَابِ قَطَعَهُ عَنْ الْبِرِّ، وَشَغَلَهُ بِالدُّنْيَا، وَشَهَوَاتِهَا، وَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: التَّوْبَةُ، قَالَ: صَدَقْت لَعَمْرِي لَقَدْ فَرَّطْت، وَأَخَاف أَنْ يُدْرِكَك الْمَوْتُ فَعَلَيْك بِالْجِدِّ، وَالِاجْتِهَادِ، وَلَا تُرِيدُ أَنْ تُقَصِّرَ فَيُلْزِمُهُ أَشَدَّ الْعِبَادَةِ فَيَثْبُتُ أَوْ يَنْقَطِعُ أَوْ يَذْهَبُ عَقْلُهُ فَإِنْ اشْتَهَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ أَلْقَى إلَيْهِ طُولَ الْأَمَلِ، وَخَوَّفَهُ قِلَّةَ الصَّبْرِ، وَيَقُولُ لَهُ: لَك بِالنَّاسِ أُسْوَةٌ فَيُبَغِّضُ إلَيْهِ الْعِبَادَةَ، وَيُثَقِّلُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ عَرَفُوك بِالْعَمَلِ فَلَا تُبْدِ لَهُمْ التَّقْصِيرَ، وَدَعْ نَفْسَك فِي السِّرِّ، وَيَعْرِضُ لَهُ بِغِذَائِهِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهَوَاتِ الَّتِي كَانَ يُصِيبُهَا فَيَمِيلُ إلَيْهَا، وَيَرْجِعُ إلَى حَالَتِهِ الْأُولَى، وَصَارَ عَمَلُهُ عَلَانِيَةً رِيَاءً لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَحْلِيَ الْكَلَامَ فِي الزُّهْدِ، وَمَا يُزَيِّنُهُ عِنْدَ النَّاسِ، وَيُحَبِّبَ إلَيْهِ مُجَالَسَةَ النَّاسِ فَتَصِيرُ عِبَادَتُهُ، وَزُهْدُهُ كُلُّهُ بِالْكَلَامِ.

فَالْعَالِمُ عَرَفَ ضَعْفَ نَفْسِهِ، وَعَرَفَ زَمَانَهُ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ فِيهِ عَلَى الْخَيْرِ، وَكَثْرَةَ الْأَعْدَاءِ فَأَخَذَ الْأَمْرَ بِالرِّفْقِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ، وَطَلَبَ صَفَاءَ الْأَعْمَالِ، وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا، وَإِنْ قَلَّتْ الْأَعْمَالُ، وَطَلَبَ مُخَالَفَةَ الْهَوَى، وَنَقَلَ الطِّبَاعَ بِالرِّفْقِ، وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ، وَأَخْرَجَ النَّاسَ مِنْ قَلْبِهِ، وَقَصَدَ جِهَادَ نَفْسِهِ، وَمُحَارَبَةَ الشَّيْطَانِ، وَالْمُعَانَدَةَ لِلْهَوَى بِالْخِلَافِ؛ لِمَا يُلْقُونَ إلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مَكِيدَةٍ مِنْ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ سِلَاحًا يَدْفَعُ بِهِ تِلْكَ الْمَكِيدَاتِ

ص: 43

وَيَنْبَغِي لِلْعَابِدِ أَنْ يَعْرِفَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ مِنْ أَيْنَ تَأْتِيهِ، وَمَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَصِلُ إلَى الْعَبْدِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ قِبَلِ مُوَافَقَةِ الْهَوَى فَإِذَا بَدَأَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ، وَمُحَارَبَتِهَا، وَبِهَوَاهُ فَأَمَاتَهُ هَانَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ.

وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَإِنْ أَنْتَ وَغِلْت فِيهِ بِالرِّفْقِ أَمْكَنَك، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ، وَقَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ يَقْطَعُك فَإِنَّك لَمْ تَرَ شَيْئًا أَشَدَّ تَوَلِّيًا مِنْ الْقَارِئِ إذَا تَوَلَّى، وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ» ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ الزِّيَادَةَ، وَيَكْرَهُونَ النُّقْصَانَ.

وَيَنْبَغِي لِلْعَابِدِ أَنْ يَكُونَ حَذِرًا مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَإِنَّ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ خَالَفَ الْحَقَّ، وَمَنْ خَالَفَ الْحَقَّ هَلَكَ.

فَائْتِ الْعُلَمَاءَ، وَالْزَمْ أَدَبَهُمْ فَإِنْ رَأَيْتهمْ يُقَصِّرُونَ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُونَ فَلَا تَزْهَدْ فِيهِمْ، وَاقْتَدِ بِذِي الْبَصِيرَةِ مِنْهُمْ، وَالْبَصَرِ، وَمَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ أَنَّهُ قَالَ: عُقُولُ الرِّجَالِ عَلَى قَدْرِ أَزْمِنَتِهِمْ فَإِذَا نَقَصَ الْعَقْلُ نَقَصَ الْبِرُّ كُلُّهُ فَاعْرِفْ نَفْسَك فِي زَمَانِك وَاعْلَمْ أَنَّ الزُّهْدَ، وَالْعِبَادَةَ، وَالْعِلْمَ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَلِيلٌ، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْعُلَمَاءِ لَا يَصْبِرُ عَلَى نُزُولِ الْمِحَنِ فَكَيْفَ يَصْبِرُ الْجَاهِلُ عَلَى نُزُولِهَا، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالزُّهَّادِ لَا يَصْبِرُ فَكَيْفَ يَصْبِرُ الرَّاغِبُ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَالِمُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ شِدَّةِ الصَّبْرِ خَرَجَ، وَالْجَاهِلُ مِنْ شِدَّةِ الصَّبْرِ حَرَجَ، وَأَمَّا الْعَالِمُ الصَّادِقُ الَّذِي اسْتَوْجَبَ اسْمَ الْعِلْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِجَوَارِحِهِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ فَيَمْقُتُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَهُ اللَّهُ يُؤْثِرُ دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ فَصَبَرَ عَلَى الدُّنْيَا، وَصَبَرَ عَلَى الذَّمِّ، وَالتَّقْصِيرِ، وَالتَّقَلُّلِ، وَكَرِهَ الْمَدْحَ، وَالتَّوَسُّعَ مِنْ الدُّنْيَا، وَالْجَاهِلُ الَّذِي يَعْمَلُ بِجَهْلٍ جَزَعَ مِنْ الذَّمِّ، وَفَرِحَ بِالْمَدْحِ، وَالتَّوَسُّعِ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى صَبَرَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ الْجَزَعِ فَاحْذَرْ

ص: 44

أَنْ تَصْبِرَ صَبْرَ الْجَاهِلِ، وَلِذَلِكَ ثَقُلَ الْعَمَلُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، وَخَفَّ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ، وَنَوْمُ الْعَالِمِ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ الْجَاهِلِ، وَضَحِكُ الْعَالِمِ بِاَللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ بُكَاءِ الْجَاهِلِ فَاحْذَرْ إبْلِيسَ عَلَى أَفْعَالِك، وَاحْذَرْ نَفْسَك، وَهَوَاك، وَاحْذَرْ أَهْلَ زَمَانِك، وَلَا تَأْمَنْ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى دِينِك.

وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ قَدْ نَصَبَ لَك حَبَائِلَهُ، وَأَقْعَدَ لَك الرَّصَدَةَ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ، وَقَدْ سُلِّطَ أَنْ يَجْرِيَ مِنْك مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، وَيَرَاك هُوَ، وَأَعْوَانُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَاهُمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَأْتِيك مِنْ قِبَلِ الرِّيَاءِ، وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَالشَّكِّ، وَالْإِيَاسِ، وَالْأَمْنِ مِنْ الْمَكْرِ، وَالِاسْتِدْرَاجِ، وَتَرْكِ الْإِشْفَاقِ فَإِنْ تَابَعْته فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْتَ عَلَى سَبِيلِ هَلَكَةٍ فَحِينَئِذٍ يُخَلِّي بَيْنَك، وَبَيْنَ مَا شِئْت مِنْ الْعَمَلِ فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا لِيَسْتَوْلِيَ الْهَوَى عَلَى قَلْبِك فَيَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ الَّذِي يُرِيدُ مِنْك فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ النَّصِيحَةِ.

وَهَذِهِ الْخِصَالُ الَّتِي، وَصَفْت لَك كُلُّهَا أَشَدُّ مِنْ الْمَعَاصِي، وَصَاحِبُهَا لَا يَكَادُ يَثُوبُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا، وَرُبَّمَا انْتَبَهَ الْعَبْدُ فَتَابَ مِنْهَا فَإِنْ ظَفَرَ مِنْ الْعَبْدِ بِالْعُجْبِ قَالَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِك فَاعْمَلْ، وَأَعْلِنْ عَمَلَك فَيَتَأَسَّى النَّاسُ بِك، وَيَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِك، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِك؛ لِأَنَّهُ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ فَإِذَا ظَهَرَ عَمَلُهُ فَرِحَ بِهِ فَصَارَ مُعْجَبًا، وَحَمِدَ نَفْسَهُ فَنَسِيَ النِّعْمَةَ عَلَيْهِ فَإِذَا نَظَرَ إلَى عَمَلِهِ حَبَّبَ إلَيْهِ حَمْدَهُمْ، وَاِتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ مُرَائِيًا مُفَاخِرًا، فَاتَّهِمْ فَرَحَ الْقَلْبِ بِالْعَمَلِ فَإِنَّ الْفَرَحَ إلَى الْقَلْبِ الْفَرِحِ أَقْرَبُ، وَأَسْرَعُ مِنْهُ إلَى الْقَلْبِ الْحَزِينِ، وَأَقْلِلْ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَأْتِيك مَا تَكْرَهُ إلَّا مِمَّنْ تَعْرِفُ فَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِيك مَا تَكْرَهُ إلَّا مِنْ قِبَلِهِمْ فَكُلَّمَا قَلُّوا كَانَ خَيْرًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فِي السِّرِّ فَلَا يَزَالُ بِهِ إبْلِيسُ يَقُولُ أَظْهِرْهُ لِيَقْتَدِيَ بِك النَّاسُ فِيهِ، وَتُنَشِّطَهُمْ عَلَى طَاعَةِ رَبِّك فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَ فَإِذَا أَظْهَرَهُ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْعَلَانِيَةِ فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَفْتَخِرَ بِهِ فَإِذَا افْتَخَرَ بِهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الرِّيَاءِ فَعَلَيْك بِعَمَلِ السِّرِّ، وَكِتْمَانِهِ، وَخُمُولِ النَّفْسِ

ص: 45

وَإِسْقَاطِ الْمَنْزِلَةِ، وَاكْتُمْ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَكْتُمُ السَّيِّئَاتِ، وَخَفْ مِنْ فَضِيحَةِ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَخَافُ مِنْ فَضِيحَةِ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّ الْمُفْتَضِحَ بِالسَّيِّئَاتِ لَيْسَ يَفْتَضِحُ عِنْدَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إنَّمَا يَفْتَضِحُ عِنْدَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَالْمُفْتَضِحُ بِالْحَسَنَاتِ إذَا دَخَلَهَا الرِّيَاءُ افْتَضَحَ عِنْدَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فَاحْذَرْ، وَاسْتَحِ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَرَاك تَعْمَلُ لِغَيْرِهِ، وَتَطْلُبُ الثَّوَابَ مِنْهُ، وَأَخْلِصْ الْعَمَلَ لِلَّهِ، وَاصْدُقْ فِيهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ تَخْلِيصَ الْعَمَلِ فِي الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَلِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ، وَالِاتِّقَاءُ مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْعَمَلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا مِنْ مُرَاءٍ، وَلَا مِنْ مُسْمِعٍ، وَلَا مِنْ دَاعٍ إلَّا بِثُبُوتٍ مِنْ قَلْبِهِ، وَاحْذَرْ الرِّيَاءَ كُلَّهُ فَإِنَّ أَوَّلَهُ، وَآخِرَهُ بَاطِلٌ، وَكُنْ فِي الْعَمَلِ مُتَأَنِّيًا، وَقَّافًا فَإِذَا هَمَمْت بِعَمَلٍ فَقِفْ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ خَالِصًا فَاحْمَدْ اللَّهَ، وَامْضِ فِيهِ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَى إخْلَاصِهِ، وَأَكْلِفْ مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُ، وَتُحِبُّ أَنْ تَزْدَادَ مِنْهُ، وَدُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ فَاعْمَلْ بِمَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّهُ حَقٌّ وَاضِحٌ فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْك فَقِفْ، وَلَا تَقْتَحِمْ، وَنَاظِرِ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِعِلْمِهِمْ فَهُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا إلَى اللَّهِ، وَهُمْ الدُّعَاةُ إلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ الْأَدِلَّاءُ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ، وَقَّافٌ عِنْدَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَحَاطِبِ اللَّيْلِ فَنَاظِرِ الْعُلَمَاءَ فِيمَا الْتَبَسَ عَلَيْك فَمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَخُذْ بِهِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَخُذْ أَنْتَ فِيهِ بِالثِّقَةِ، وَالِاحْتِيَاطِ فَإِنَّ الْإِثْمَ حَوَّازُ الْقُلُوبِ.

، وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ رُبَّمَا قَالَ لِلْعَبْدِ: قَدْ سَبَقَك النَّاسُ إلَى اللَّهِ مَتَى تَلْحَقُ بِهِمْ؟ فَلْيَقُلْ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: قَدْ عَرَفْتُك أَنَا فِي الطَّلَبِ إنْ رَفَقْت لَحِقْت، وَإِنْ لَمْ أُرْفِقْ لَمْ أَلْحَقْ إنْ صَبَرْت عَلَى الْقَلِيلِ نِلْت الْكَثِيرَ، وَإِنْ عَجَزْت عَنْ الْقَلِيلِ فَأَنَا عَنْ الْكَثِيرِ أَعْجَزُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ، وَجَلَّ {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] فَالزِّينَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَالنُّورُ مِنْ اللَّه عز وجل فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلًا فَرَأَى الشَّيْطَانُ مَعَهُ نُورًا كَانَتْ هِمَّةُ الْخَبِيثِ أَنْ يُطْفِئَ ذَلِكَ النُّورَ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ عَمَلَ السِّرِّ أَخْرَجَهُ إلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ بِحِيلَتِهِ، وَمَكِيدَتِهِ فَإِنْ عَمِلَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِصِدْقٍ، وَإِخْلَاصٍ فَرَأَى

ص: 46

فِي عَمَلِهِ الْعَلَانِيَةِ نُورًا، وَصَبْرًا أَمَرَهُ بِمُخَالَفَةِ النَّاسِ لِيُؤْذَى فَلَا يَحْتَمِلُ فَإِنْ خَالَطَهُمْ فَأُوذِيَ، وَاحْتَمَلَ الْأَذَى أَمَرَهُ بِالْعُزْلَةِ، وَالرَّاحَةِ مِنْ النَّاسِ لِيُعْجَبَ بِمَا يَعْمَلُ، وَيَضْجَرَ مِنْ الْعَمَلِ فَإِنْ اعْتَزَلَ، وَصَبَرَ، وَأَخْلَصَ قَالَ لَهُ: الرِّفْقُ خَيْرٌ لَك فَيَصُدُّهُ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا يَلْتَمِسُ مِنْ الْأَشْيَاءِ غَفْلَتَهُ فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْهُ، وَلْيَسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْإِخْلَاصِ خَائِفٌ، وَجِلٌ حَزِينٌ مُتَوَاضِعٌ مُنْتَظِرٌ لِلْفَرَجِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَوَدُّ أَنَّهُ نَجَا كَفَافًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَالْجَاهِلُ فَرِحٌ فَخُورٌ مُتَكَبِّرٌ مُدْلٍ بِعَمَلِهِ، وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَعْرِفُ مِائَةَ بَابٍ مِنْ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْهَا شَيْءٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ الصَّادِقَ الْمُخْلِصَ الْعَارِفَ الْخَائِفَ الْمُشْتَاقَ الرَّاضِيَ الْمُسَلِّمَ الْمُوَفَّقَ الْوَاثِقَ الْمُتَوَكِّلَ الْمُحِبَّ لِرَبِّهِ يُحِبُّ أَنْ لَا يُرَى شَخْصُهُ، وَلَا يُحْكَى قَوْلُهُ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ أَفْلَتَ كَفَافًا فَمَعْرِفَتُهُ بِنَفْسِهِ بَلَغَتْ بِهِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ، وَتَمَسُّكُهُ بِهَذِهِ الْعَزَائِمِ أَوْصَلَهُ إلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ.

وَالْجَاهِلُ الْمِسْكِينُ يُحِبُّ أَنْ يُعْرَفَ بِالْخَيْرِ، وَيَنْتَشِرَ عَنْهُ، وَيُنْشَرَ ذِكْرُهُ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُزْرَى عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ، وَلَا فِعْلٍ بَلْ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيُوَطَّأُ عَقِبُهُ، وَإِنْ لَمْ يُزْرِ لَهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا شِدَّةُ حُبِّهِ لِذَلِكَ لِحَلَاوَةِ الثَّنَاءِ، وَالْحُبِّ لِإِقَامَةِ الْمَنْزِلَةِ، وَالْفِتْنَةُ فِي هَذَا عَظِيمَةٌ، وَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ شَدِيدَةٌ، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ الْهَوَى يَتَلَاعَبُ بِهِ الشَّيْطَانُ كُلَّ التَّلَاعُبِ تَنْقَضِي أَيَّامُهُ، وَيَفْنَى عُمْرُهُ عَلَى هَذَا الْحَالِ أَسِيرًا لِلشَّيْطَانِ، وَعَبْدًا لِلْهَوَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ إذَا نَظَرَ إلَى الْعَبْدِ مُرِيدًا صَادِقًا مُخْلِصًا مُدَاوِمًا عَارِفًا بِنَفْسِهِ عَارِفًا بِهَوَاهُ مُعَانِدًا لَهُمَا حَذِرًا مُسْتَعِدًّا عَارِفًا بِفَقْرِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ لَهُ: إنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِالْأَعْوَانِ عَلَيْهِ، وَالشَّيْطَانُ عَلَى الْوَاحِدِ أَقْوَى، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ فَجَالِسْ إخْوَانَكَ، وَذَاكِرْهُمْ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَنُوبُك فِي عَمَلِك مِنْ نَفْسِكَ، وَهَوَاكَ، وَمِنْ عَدُوِّكَ فَإِنَّهُمْ يَدُلُّونَكَ، وَيُعِينُونَك يُرِيدُ بِذَلِكَ ذَهَابَ حُزْنِ الْخَلَوَاتِ، وَإِطْفَاءَ نُورِ الْعُزْلَةِ، وَقَطْعَ سَبِيلِ النَّجَاةِ، وَفَتْحَ طَرِيقِ الْفُضُولِ، وَالشُّغْلِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِخْرَاجَهُ

ص: 47

مِنْ عَمَلِ السِّرِّ إلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ إطْفَاءَ مَا قَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ عز وجل فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ نُورِ فِكْرِ الْخَلَوَاتِ فَإِنْ قُلْتَ هَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك: أَجَلْ إنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ تَعْلِيمُك النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِك فَلَوْ أَخْبَرْت النَّاسَ بِذَلِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَك لِيَعْلَمُوا مِنْ آفَاتِ الْأَعْمَالِ مَا تَعْلَمُ فَتُؤْجَرُ فِيهِمْ فَإِنْ قُلْت أَيْضًا هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك: لَوْلَا عِلْمُك لَمْ تَعْلَمْ بِهَذِهِ الْآفَاتِ لِتُعْجَبَ بِنَفْسِك، وَتَنْسَى النِّعْمَةَ عَلَيْك فِي الْعَمَلِ فَتُخْمِدَ النَّفْسَ فَلَا يُجَاوِزُ عَمَلُك رَأْسَك فَاحْذَرْ هَذَا الْبَابَ فَإِنَّ فِيهِ شَهَوَاتٍ خَفِيَّةً، وَمِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ أَنْ يُخْفِي الْعَبْدُ عَمَلَهُ، وَيُحِبَّ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ بِهِ، وَيُحِبَّ أَنْ يُرَى أَثَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَالْعَمَلُ خَفِيَ فِي السِّرِّ إلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُرَى أَثَرُ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَلَيْهِ إمَّا مِنْ عَلَامَةِ عَطَشٍ إنْ كَانَ صَائِمًا أَوْ عَلَامَةِ سَهَرٍ فِي الْوَجْهِ إنْ كَانَ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إنْ قَالَ أَنَا أَعْمَلُ لِلَّهِ لَا لِلنَّاسِ قَالَ لَهُ: صَدَقْتَ أَخْلِصْ عَمَلَك لِلَّهِ فَإِنَّ الْمُخْلِصَ يُحَبِّبُهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ، وَيُعَرِّفُهُمْ فَضْلَهُ فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ: وَمَا حَاجَتِي إلَى النَّاسِ قَالَ: فَأَنْتَ الْآنَ الْمُخْلِصُ الَّذِي قَدْ أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنْ قَلْبِك، وَعَرَفْت مَكِيدَةَ إبْلِيسَ، وَقَدْ نَجَوْت، وَأَنْتَ مَعْصُومٌ فَإِنْ عَقَلَ الْعَبْدُ، وَقَالَ لَهُ: وَمَنْ أَنَا، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ مَنٌّ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَلَهَا شُكْرٌ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْجَزَاءِ لِمَنْ أَخْلَصَ، وَلَمْ يُعْجَبْ بِعَمَلِهِ، وَلَمْ يَنْسِبْ إلَى نَفْسِهِ نِعْمَةً هِيَ مِنْ اللَّهِ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ الشُّكْرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لِلْعَبْدِ عِنْدَ ذَلِكَ: الْآنَ نَجَوْت حِينَ اعْتَرَفْت لِلَّهِ بِذَلِكَ، وَقُمْت بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَتَوَاضَعْت لِرَبِّك، وَبَرَّأْت نَفْسَك مِنْ الْعَمَلِ، وَنَسَبْته إلَى الَّذِي هُوَ مِنْهُ فَإِنْ قَبِلْت ذَلِكَ مِنْهُ هَلَكْت، وَلَكِنْ قُلْ أَنَا أَرْجُو، وَأَخَافُ، وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ النَّجَاةِ شَيْءٌ، وَلَسْت أَدْرِي بِمَا يُخْتَمُ لِي عَمَلِي.

وَإِيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ، وَالتَّزَيُّنَ بِتَرْكِ التَّزَيُّنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا تَزَيَّنَ الرَّجُلُ بِالرِّقَاعِ، وَالْخِرَقِ، وَالشُّعْثِ، وَتَرَكَ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ التَّزَيُّنَ فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ نَزَلْت بِمَحَلَّةِ خُشُوعِ النِّفَاقِ، وَإِنْ عَرَفْت نَفْسَك

ص: 48

بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ تُسَارِعْ إلَى التَّحَوُّلِ عَنْهُ خِفْت أَنْ يَلْحَقَك الْخِذْلَانُ، وَالْمَقْتُ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِك، وَاعْمَلْ لَهُ كَأَنَّك تَرَاهُ.

فَإِنْ قَالَ لَك الْخَبِيثُ: الْآنَ نَجَوْت حِينَ عَرَفْت نَفْسَك، وَأَنْزَلْتهَا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَحَذِرْت هَوَاك، وَعَدُوَّك فَقُلْ: الْآنَ هَلَكْتُ حِينَ أَمِنْت الْعِقَابَ فَإِنْ قَالَ لَك: الْآنَ نَجَوْت حِينَ خِفْت أَنْ تَكُونَ قَدْ أَمِنْت الْعِقَابَ فَقُلْ: الْآنَ هَلَكْت لَوْ كُنْت صَادِقًا لَصَدَّقَ قَوْلِي فِعْلِي، وَلَزِدْتُ خَوْفًا، وَحَيَاءً مِنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَلَوْ كُنْت كَذَلِكَ الْحَالُ بَيْنِي، وَبَيْنَك، وَجَعَلَنِي فِي حِرْزِهِ، وَحِصْنِهِ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ قَالَ: فِيهِمْ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وَلَمْ تَكُنْ أَنْتَ تَدْخُلُ عَلَيَّ فِي عَمَلِي فَإِنْ قَالَ لَك: جَاهِدْ نَفْسَك فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْعَمَلِ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ شَغَلَهُمْ أَمْرُ غَيْرِهِمْ، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَأَنْتَ بَيْنَهُمْ غَرِيبٌ، وَأَنْتَ كَالشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ بَيْنَ الشَّجَرِ الْيَابِسِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» ، وَأَنْتَ الْمَعْرُوفُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، وَالْمَجْهُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنْ قَبِلْتَ ذَلِكَ هَلَكْتَ، وَإِنْ قُلْتَ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك: صَدَقْت هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ كَثُرَتْ عَلَيْك مَكَائِدُهُ، وَمُجَاهَدَةُ نَفْسِك، وَهَوَاك فَكَمْ تُعَذِّبُ نَفْسَك إنْ كُنْت شَقِيًّا لَمْ تَسْعَدْ أَبَدًا، وَإِنْ كُنْت سَعِيدًا لَمْ تَشْقَ أَبَدًا، وَلَا يَضُرُّك تَرْكُ الْعَمَلِ إنْ كُنْت سَعِيدًا، وَلَا يَنْفَعُك الْعَمَلُ الْكَثِيرُ إنْ كُنْت شَقِيًّا فَإِنْ قَبِلْت الْقُنُوطَ الَّذِي أَلْقَاهُ إلَيْك هَلَكْت، وَإِنْ تَرَكْت الْعَمَلَ، وَنِلْت مِنْ الشَّهَوَاتِ عَلَى الْغُرُورِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِزَعْمِك، وَالِاتِّكَالِ عَلَى الرَّجَاءِ الْكَاذِبِ، وَالطَّمَعِ الْكَاذِبِ، وَالْأَمَانِيِّ الْكَاذِبَةِ، وَرَجَوْت الْجَنَّةَ بِالْغُرُورِ، وَطَلَبْتهَا طَلَبَ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالرَّاحَةِ عَطِبْتَ، وَإِنْ امْتَنَعْت قَالَ لَك: أَحْسِنْ ظَنَّك بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْيُسْرَ، وَالدِّينُ وَاسِعٌ، وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْرِفْ نَفْسَك عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْتَصِمْ بِاَللَّهِ {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] ، وَاعْلَمْ أَنَّك كُنْت فِي بَلَدٍ، وَأَنْتَ فِيهِ سَالِمٌ، وَأَمْرُك فِيهِ مُسْتَقِيمٌ، وَالنُّورُ مَعَك فِي فِعْلِك، وَقَوْلِك قَالَ لَك: عَلَيْك بِالثُّغُورِ، وَعَلَيْك

ص: 49

بِمَكَّةَ، وَعَلَيْك بِكَذَا فَإِنْ قَبِلْت ذَلِكَ رَأَيْت فَتْرَةً فِي عَاجِلِ عَمَلِك، وَقَسَاوَةً فِي قَلْبِك، وَوَقَعْت فِي الْمَشُورَةِ يُرِيدُ بِذَلِكَ النُّقْصَانَ بِسَبَبِ السَّفَرِ، وَالشُّغْلَ بِهِ عَنْ الدَّأَبِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالنَّشَاطِ الَّذِي كَانَ مَعَك فَإِنْ صِرْتَ إلَى بَلَدٍ أَنْتَ فِيهِ مَسْرُورٌ، وَقَلْبُك رَيِّحٌ قَالَ لَك: مَوْضِعُك كَانَ أَصْلَحَ لِقَلْبِك، وَأَجْمَعَ لِهِمَّتِك فَارْجِعْ إلَى مَوْضِعِك فَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا مَعَ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ، وَالْفَقْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ لِلدَّأَبِ ثَوَابًا، وَلِلصَّبْرِ ثَوَابًا {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَنْجُو بِالْأَعْمَالِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَهْلِكُ بِهَا، وَكُلُّ عَبْدٍ مُيَسَّرٌ؛ لِمَا خُلِقَ لَهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَهْلِكُ بِالتَّفْرِيطِ، وَالتَّضْيِيعِ أَكْثَرُ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا رَاهِبًا لَا يَأْمَنُ، وَلَا يَيْأَسُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَأْتِيك مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لَا يَغْفُلُ، وَلَا يَأْلُوك خَبَالًا إنْ كُنْت مُقِلًّا، عِنْدَك مِنْ الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسِيرٌ تُرِيدُ أَنْ تَقُوتَهُ نَفْسَك، أَمَرَك بِالصَّدَقَةِ، وَرَغَّبَك فِيهَا لِتُخْرِجَ مَا فِي يَدَيْك، وَتَحْتَاجَ رَجَاءَ أَنْ يَظْفَرَ بِك فِي حَالِ الْغَفْلَةِ، وَإِنْ كُنْت غَنِيًّا أَمَرَك بِالْإِمْسَاكِ، وَرَغَّبَك فِيهِ، وَخَوَّفَك الْفَقْرَ، وَالْحَاجَةَ، وَقَالَ لَك: ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَلَعَلَّك تَكْبَرُ، وَتَضْعُفُ، وَيَطُولُ عُمْرُك يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ تَصِيرَ إلَى حَالِ الْبُخْلِ فَيَظْفَرَ بِك، وَإِنْ كُنْت تَصُومُ، وَقَدْ عُرِفْت بِالصَّوْمِ، وَأَحْبَبْت أَنْ تُرِيحَ نَفْسَك قَالَ لَك: قَدْ عُرِفْت بِالصَّوْمِ لَا تُفْطِرْ فَيَضَعُ النَّاسُ أَمْرَك عَلَى أَنَّك قَدْ كَبِرْتَ، وَتَغَيَّرْتَ، وَفَتَرْتَ، وَعَجَزْتَ فَإِنْ قُلْتَ مَالِي، وَلِلنَّاسِ قَالَ لَك: صَدَقْت أَفْطِرْ فَإِنَّ الْمُحْسِنَ مُعَانٌ سَيَضَعُونَ أَمْرَك عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فَإِنْ قَبِلْتَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَفْطَرْتَ عَلَى أَنَّ النَّاسَ سَيَضَعُونَ أَمْرَك عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَالْمَنْزِلَةُ لَا تَسْقُطُ عِنْدَهُمْ بِإِفْطَارِك فَقَدْ عَطِبْتَ، وَإِنْ أَنْتَ نَفَيْت ذَلِكَ، نَصَبَ لَك بَابًا آخَرَ فَقَالَ لَك: عَلَيْك بِالتَّوَاضُعِ لِيُشْهِرَك عِنْدَ النَّاسِ، وَكُلَّمَا ازْدَدْت تَوَاضُعًا عَلَى قَبُولِهِ مِنْهُ لِلشَّهْوَةِ، وَالشُّهْرَةِ ازْدَادَ كَلَبًا عَلَيْك فَاتَّقِ مَا وَصَفْتَ لَك، وَالْجَأْ إلَى اللَّهِ فِي أُمُورِك كُلِّهَا، وَاتْرُكْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا لِعَمَلِ الْآخِرَةِ رَغْبَةً مِنْك فِي الْآخِرَةِ، وَحُبًّا لَهَا، وَإِيثَارًا لَهَا عَلَى الدُّنْيَا فَبِحُبِّك إيَّاهَا

ص: 50

تَصِلُ إلَيْهَا، وَبِقَدْرِ حُبِّك لَهَا تَعْمَلُ لَهَا، وَأَقِلَّ الدُّنْيَا، وَأَبْغِضْهَا فَبِقَدْرِ بُغْضِك لَهَا تَزْهَدُ فِيهَا، وَانْظُرْ إنْ كُنْتَ ذَا عِلْمٍ فَخِفْ أَنْ تُوقَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَك: بُعْدًا، وَسُحْقًا بَعْدَ الْعِلْمِ، وَالتَّبَصُّرِ مِلْتَ إلَى الدُّنْيَا، وَتَرَكْتَ الْعِلْمَ، وَالْعَمَلَ، وَاخْتَرْتَ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيمِ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فَلْيَعْبُدْ اللَّهَ الْعَالِمُ بِطَاعَةِ الْعِلْمِ، وَلْيَتْرُكْ طَاعَةَ الْجَهْلِ، وَلْيَتْرُكْ الِاغْتِرَارَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَبَرَّأُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ أَطَاعَهُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ يَقُولُ فِي الدُّنْيَا مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْجُو مِنِّي بِحِيلَةٍ فَفِي حِبَالِي وَقَعَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] ، وَقَالَ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] فَافْهَمْ، وَاحْذَرْ، وَافْطَنْ، وَانْظُرْ، وَحَارِبْ، وَاسْتَعِدَّ، وَكَابِدْ، وَجَاهِدْ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ تَعَالَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُرِيدُ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ، وَحْدَهُ فَ {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80] ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ، وَحَمْدَ غَيْرِهِ هَلَكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْعَبْدِ أَنْ يُخْلِصَ عَمَلَهُ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَثِيرٌ غَيْرَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي إخْلَاصِ الْعَمَلِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ الْعَمَلَ كُلَّهُ يُرِيدُ بِهِ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنْ اطَّلَعَ أَحَدٌ عَلَى عَمَلِهِ كَرِهَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يُسَرَّ بِذَلِكَ فَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يَحْمَدَهُ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، وَلَمْ يَتَّخِذْ بِهِ مَنْزِلَةً عِنْدَهُمْ فَهَذَا أَصْلُ إخْلَاصِ الْعَمَلِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَأَمَّا الرِّيَاءُ فَهُوَ أَنْ تُحِبَّ أَنْ يَحْمَدَك النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عَمَلِك أَوْ تَقُومَ لَك بِهِ مَنْزِلَةٌ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ أَرَادَ الْعَمَلَ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَلِيلِ، وَمَنْ لَمْ يُرِدْ الْعَمَلَ لَمْ يَكْتَفِ بِالْكَثِيرِ.

، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي الْعَمَلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ أَهْمَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْعَمَلِ مِنْ الْبِرِّ فَعَمِلُوا لِيُعْرَفُوا بِالْخَيْرِ فَهُمْ الْهَالِكُونَ، وَصِنْفٌ أَهْلُ رَهْبَةٍ مِنْ اللَّهِ، وَرَغْبَةٍ فِيمَا عِنْدَهُ يُكَابِدُونَ الْأَعْمَالَ بِالصِّدْقِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَيَتَّقُونَ فَسَادَ الْأَعْمَالِ، وَلَا يُحِبُّونَ الْمَحْمَدَةَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا الْمَنْزِلَةَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ لِلنَّاسِ، وَلَا يَتْرُكُونَ

ص: 51

مِنْ أَجْلِهِمْ شَيْئًا، وَأَحْيَانَا تَعْرِضُ لَهُمْ الْعَوَارِضُ، وَأَحْيَانَا يَسْلَمُونَ مِنْهَا، وَصِنْفٌ قَوِيَ إخْلَاصُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ سَرِيرَتُهُمْ، وَعَلَانِيَتُهُمْ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ، وَتَرَكُوا الدُّنْيَا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهَا، وَنَظَرُوا إلَيْهَا بِالْعَيْنِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ بِهَا إلَيْهَا فَرَأَوْا عُيُوبَهَا فَمَقَتُوهَا، وَصَدَقُوا اللَّهَ فِي مَقْتِهِمْ لَهَا، وَتَرَكُوهَا زُهْدًا فِيهَا، وَصَدَقُوا اللَّهَ فِي ذَلِكَ فَمَاتَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَذَابَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ قَرَارٌ لِقُوَّةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَمَّا اسْتَوْلَتْ الْعَظَمَةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِدُنْيَا، وَلَا لِأَهْلِهَا فِي قُلُوبِهِمْ مُسْتَقَرٌّ، وَلَا قَرَارٌ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْمَنِّ، وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

، وَمِنْ الرِّيَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ يُرَائِي أَهْلَ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا فِي لِبَاسِهِ، وَمَرْكُوبِهِ، وَمَسْكَنِهِ، وَفُرُشِهِ، وَطَعَامِهِ، وَشَرَابِهِ، وَخَدَمِهِ حَتَّى الدُّهْنَ، وَالْكُحْلَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهَا صِيَانَةَ نَفْسِهِ، وَهُوَ رِيَاءٌ، وَلَيْسَ كَالرِّيَاءِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَائِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّارِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «، وَلَكِنَّك فَعَلْت لِيُقَالَ: فُلَانٌ كَذَا كَذَا فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ» .

وَهَذَا الَّذِي رَاءَى بِالتَّكَاثُرِ، وَالتَّفَاخُرِ، وَطَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا مُكَاثِرًا مُفَاخِرًا مُرَائِيًا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ أَهْوَنُ مِنْ الْبَابِ الْآخَرِ، وَكِلَاهُمَا شَدِيدٌ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفَاخِرَ إنَّمَا يُرِيدُ إقَامَةَ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ فَلَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَاحْتَاجَ إلَيْهَا؛ لِمَا مَعَهُ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا خَائِفٌ وَجِلٌ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ نَازِلَةٌ تُغَيِّرُ فَيَتَغَيَّرُ مَنْ كَانَ لَهُ مُطِيعًا فَمَا أَشَدَّ مَضَرَّةَ هَذَا الْبَابِ.

، وَعَلَامَةُ الْمُرِيدِ النَّظَرُ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الرِّزْقِ، وَإِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَيَتَوَاضَعُ، وَلَا يُنَافِسُ أَهْلَ الْكِبْرِ، وَالْفَخْرِ، وَالرِّيَاءِ، وَالتَّكَاثُرِ، وَلَا يَأْخُذُ مَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَتْرُكُ مَا تَرَكَ لِنَفْسِهِ، وَمَا أَخَذَهُ فَإِنَّمَا نِيَّتُهُ فِيهِ الْقُوَّةُ عَلَى دِينِهِ، وَإِقَامَةُ فَرَائِضِهِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَدَعُ جَمِيعَ مَا كَانَ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْعُجْبُ فَأَصْلُهُ حَمْدُ النَّفْسِ، وَنِسْيَانُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَظَرُ الْعَبْدِ إلَى نَفْسِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَيَنْسَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ

ص: 52

تَعَالَى عَلَيْهِ فَيُحْسِنُ حَالَ نَفْسِهِ عِنْدَهُ، وَيَقِلُّ شُكْرَهُ، وَيَنْسِبُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا هُوَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنْ غَفَلَ هَلَكَ، وَاسْتُدْرِجَ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِعِبَادَتِهِ مُزْرِيًا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ قَدْ عَمِيَ عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُسْتَكْثِرًا لِعَمَلِهِ مَسْرُورًا بِهِ رَاضِيًا عَنْ نَفْسِهِ فَرِحًا بِهَا يَسْعَى فِي هَوَاهَا غَضَبُهُ لَهَا، وَرِضَاهُ لَهَا، وَلَا يَخْلُو الْمُعْجَبُ بِعَمَلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا؛ لِأَنَّهُمَا قَرِينَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ، وَلَا يَكُونُ الْمُعْجَبُ مَحْزُونًا، وَلَا خَائِفًا أَبَدًا؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ يَنْفِي الْخَوْفَ.

وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ النَّاظِرَ إلَى اللَّهِ فِيمَا يَعْمَلُ قَدْ نَفَى الْعُجْبَ عَنْهُ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْعَمَلَ إنَّمَا هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَائِمٌ بِالشُّكْرِ لَهُ مُسْتَعِينٌ بِاَللَّهِ عَزَّ، وَجَلَّ عَلَى حَالٍ مُتَّهِمٌ لِنَفْسِهِ قَدْ نَفَى الْأَعْمَالَ كُلَّهَا عَنْهَا فَلَيْسَ لَهَا عِنْدَهُ فِيهَا حَظٌّ، وَلَا نَصِيبٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ عُلَمَاءُ أَقْوِيَاءُ فَهُمْ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَعْمَلُونَ فَحَمِدُوا اللَّهَ عَلَى مَا وَهَبَ لَهُمْ مِنْ قَلِيلِهِ، وَكَثِيرِهِ، وَصِنْفٌ نَظَرُوا إلَى السَّبَبِ الَّذِي أَعْطَاهُمْ اللَّهُ فَاشْتَغَلُوا بِشُكْرِ السَّبَبِ، وَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ أَقْوَى مِنْ هَؤُلَاءِ أُولَئِكَ لَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْعُجْبُ لِعِلْمِهِمْ بِهِ، وَهَؤُلَاءِ رُبَّمَا أُعْجِبُوا بِالسَّبَبِ، وَرُبَّمَا انْتَفَى عَنْهُمْ فَهُمْ مُكَابِدُونَ لَهُ فَإِنْ قَامُوا بِشُكْرِ ذَلِكَ فَحَالَتُهُمْ حَسَنَةٌ، وَهُمْ دُونَ أُولَئِكَ، وَإِنْ رَكَنُوا إلَى مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعُجْبِ فَقَدْ هَلَكُوا إلَّا أَنْ يُنَبِّهَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ فَيَتُوبَ عَلَيْهِ، وَالْعُجْبُ كَثِيرٌ، وَهُوَ آفَةُ الْمُتَعَبِّدِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ، وَهُوَ مِنْ الْكِبْرِ، وَالْكِبْرُ آفَةُ إبْلِيسَ الَّتِي أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِهَا.

، وَأَمَّا الشُّهْرَةُ، وَإِشَارَةُ النَّاسِ إلَى الْعَبْدِ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّ إلَّا مَنْ أَرَادَهَا، وَالْمَرْءُ مُلَبَّسٌ زِيَّ عَمَلِهِ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.

فَكَمْ مِنْ مُسْتَتِرٍ بِعَمَلِهِ قَدْ شَهَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَكَمْ مِنْ مُتَزَيِّنٍ بِعَمَلِهِ يُرِيدُ بِهِ الِاسْمَ، وَاِتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النَّاسِ قَدْ شَانَهُ اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُصْلِحُ ذَلِكَ، وَيُفْسِدُهُ الضَّمِيرُ فَإِنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ جَمَعَ الشُّهْرَةَ، وَالرِّيَاءَ، وَالْعُجْبَ جَمِيعًا، وَإِنْ أَرَادَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَكَانَ مُخْلِصًا لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ عُرِفَ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ، وَرُبَّمَا لَحِقَهُ حُبُّ مَعْرِفَتِهِمْ إيَّاهُ بِالْعَمَلِ فَيَخْرُجُ بِهِ إلَى الْبَابِ الَّذِي يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ.

وَمِنْ ذَلِكَ حُبُّ

ص: 53

مَعْرِفَتِهِمْ إيَّاهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْغَضَبِ لِلَّهِ، وَفِي اللَّهِ فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ، وَنَفَى مَا يُحِبُّهُ، وَكَانَتْ نَصِيحَتُهُ لِلَّهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَنَجَاةِ نَفْسِهِ نَجَا، وَإِنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا مِنْ اتِّخَاذِ الْمَنْزِلَةِ أَوْ حُبِّ الثَّنَاءِ أَوْ طَلَبِ رِيَاسَةٍ أَوْ لِيُقْبَلَ قَوْلُهُ فَقَدْ شَرِبَ السُّمَّ الَّذِي لَا يُبْقِي، وَلَا يَذَرُ، وَلَا عَاصِمَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ.

وَالرِّيَاءُ، وَالْعُجْبُ، وَالْكِبْرُ، وَالشُّهْرَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَتَوَسَّلْ يَا أَخِي إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ قَلْبِك فَإِنْ سَلِمَ قَلْبُك، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ إرَادَتِك أَنَّهَا لَهُ خَالِصَةٌ خَلَّصَك اللَّهُ مِنْ كُلِّ آفَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْك، وَاَللَّهُ يُقَسِّمُ الثَّنَاءَ كَمَا يُقَسِّمُ الرِّزْقَ، وَمَنْ خَافَ اللَّهَ خَوَّفَ اللَّهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ أَخَافَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَاَللَّهُ مُسَبِّبُ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا تَصْحِيحُ الْعَمَلِ بِالْحَوَادِثِ عَلَى قَدْرِ صِحَّةِ الْقَلْبِ، وَمَعَ صِحَّةِ الْقَلْبِ دَلَالَةُ الْعَقْلِ، وَسِيَاسَةُ الْعِلْمِ، وَسَابِقَةُ الْخَوْفِ فَإِذَا أَرَدْت عَمَلًا فَابْتَغِ بِذَلِكَ ثَوَابَ اللَّهِ، وَأَكْثِرْ مَا تُؤَمِّلْ مِنْ اللَّهِ النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ، وَالْوُصُولَ إلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ يُهَوِّنْ عَلَيْك الْعَمَلَ، وَيُخَلِّصْهُ اللَّهُ مِنْ الْآفَاتِ، وَيُقَوِّيك عَلَيْهِ فَإِذَا عَمِلْت فَاشْكُرْ، وَانْظُرْ هَلْ يَنْقُصُ مِنْ بَدَنِك شَيْءٌ فِي لَيْلِك، وَنَهَارِك لِتَعْقِدَ النِّيَّةَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَانْظُرْ إذَا أَصْبَحْتَ كَيْفَ مَضَتْ عَلَيْك لَيْلَتُك بِتَعَبِهَا، وَنَصَبِهَا، وَبَقِيَ لَك ثَوَابُهَا، وَسُرُورُهَا يَكُنْ ذَلِكَ قُوَّةً لَك عَلَى مَا تَسْتَقْبِلُ فَالْحَسَنَةُ لَهَا نُورٌ فِي الْقَلْبِ، وَسُرُورٌ يَجِدُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ ذَلِكَ السُّرُورِ، وَضِيَاءَ ذَلِكَ النُّورِ، وَلَمْ يَدَعْ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ الْمُطِيعِينَ حَتَّى جَعَلَ لَهُمْ بِالطَّاعَةِ اللَّذَّةَ، وَالنَّشَاطَ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ، وَحَلَاوَةَ الْقُرْبِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَدَعْهُمْ حَتَّى حَبَّبَهُمْ إلَى النَّاسِ، وَحَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِمْ بِالْهَيْبَةِ لَهُمْ، وَالْإِجْلَالِ مَعَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوَاضُعِ، وَالْخَوْفِ لِلَّهِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ النَّاسُ، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِهِمْ كَانُوا أَرْفَعَ خَلْقِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَ بِالطَّاعَةِ عَامِلًا كَانَ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ عِنْدَ النَّاسِ، وَأَغْنَاهُمْ بِاَللَّهِ، وَمَنْ هَابَ اللَّهَ فِي السَّرِيرَةِ هَابَهُ النَّاسُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَبِقَدْرِ مَا يَسْتَحْيِ الْعَبْدُ مِنْ اللَّهِ فِي الْخَلْوَةِ يَسْتَحِي النَّاسُ مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ

ص: 54

أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهُ فِي الْعَمَلِ بِالْحَسَنَاتِ سَتْرُهَا، وَنِسْيَانُهَا فَإِنَّهُ سَيَحْفَظُهَا لَهُ مَنْ لَا يَنْسَاهَا وَيُحْصِي لَهُ مَثَاقِيلَ الذَّرِّ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ الْحَسَنَاتُ فَلْيَعْرِفْ نَفْسَهُ، وَلَا يَغُرَّنَّهُ ثَنَاءُ مَنْ جَهِلَهُ فَفَكِّرْ أَيُّهَا الْعَامِلُ فِي الْعَوَاقِبِ فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ يُحِبَّك النَّاسُ أَوْ يَفْطِنُوا بِحَسَنَاتِك إذَا عَمِلْتهَا لِيُكْرِمُوك، وَيُجِلُّوك فَقَدْ تَعَرَّضْت لِمَقْتِ اللَّهِ عَزَّ، وَجَلَّ لَك.

وَيْحَك إنَّك إنْ أَسْقَطَكَ اللَّهُ سَقَطْت فَلَا تَغْتَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ سَلِمَتْ لَك آخِرَتُك سَلِمَتْ لَك دُنْيَاك، وَإِنَّ خُسْرَانَ الْآخِرَةِ خُسْرَانُ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا، وَمَنْ رَبِحَ الْآخِرَةَ رَبِحَهُمَا جَمِيعًا.

وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ غَضِبْت عَلَى النَّاسِ فِي شَيْءٍ هُوَ لِنَفْسِك فَأَبْدَيْته لَهُمْ أَوْ لَمْ تُبْدِهِ لَهُمْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِك فَقَدْ تَعَرَّضْت لِغَضَبِهِ إذَا أَظْهَرْت أَنَّك إنَّمَا غَضِبْت لِنَفْسِك.

، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِك خَافِيَةٌ، وَلَيْسَ الْفَرْقُ بَيْنَ غَضَبِك عَلَيْهِمْ، وَبَيْنَ سُرُورِكَ بِهِمْ، وَفَرَحِكَ بِثَنَائِهِمْ عَلَيْك بِحَسَنَاتِك، وَأَنْتَ تُرِيدُ ثَوَابَهَا مِنْ رَبِّك لَقَدْ اُبْتُلِيَتْ أَيُّهَا الْعَبْدُ بِحَسَنَاتِك، وَعَظُمَ فِيهَا بَلَاؤُك، وَلَعَلَّهَا أَضَرُّ عَلَيْك مِنْ بَعْضِ سَيِّئَاتِك فَإِنْ بَلَغَ بِك الْبَلَاءُ أَنْ تَفْرَحَ إذَا مَدَحُوكَ بِغَيْرِ عَمَلِك أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِك فَقَبِلَهُ قَلْبُك أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَك ثُمَّ تَصِيرُ إلَى حَالِ حُبِّ مَجِيءِ الْإِخْوَانِ إلَيْك فِي أَوْقَاتِ الْأَعْمَالِ فَتَفْرَحُ، وَإِنْ أَتَوْك فِي وَقْتِ فَرَاغِك غَمَّك ذَلِكَ، وَاَللَّهُ سَائِلُك عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَتُظْهِرُ مِنْك الْحُزْنَ، وَتُوهِمُ النَّاسَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْك تَصَنُّعٌ تُحِبُّ أَنْ يَحْمَدُوك عَلَى ذَلِكَ فَأَنْتَ إذَنْ قَدْ هَلَكْت مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَخَفْ اللَّهَ فِي سَرَّاءِ نَفْسِك، وَعَلَانِيَتِهَا، وَاحْتَقِرْ حَسَنَاتِك جَهْدَك، وَاسْتَكْثِرْ مِنْهَا مَا اسْتَطَعْت حَتَّى يَعْظُمَ قَدْرُكَ عِنْدَ اللَّهِ، وَتَعْظُمَ حَسَنَاتُك، وَاسْتَكْبِرْ صَغِيرَ ذَنْبِك حَتَّى يَصْغُرَ عِنْدَ اللَّهِ، وَخَفْ مِنْ صَغِيرِ ذُنُوبِك أَنْ يُحْبِطَ اللَّهُ بِهِ عَمَلَك كُلَّهُ، وَارْجُ بِحَسَنَاتِك أَنْ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا عَنْك كُلَّ سَيِّئَةٍ عَمِلْتهَا فَارْجُ حَسَنَاتِك، وَخَفْ سَيِّئَاتِك {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]

، وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ

ص: 55

أَنْ يَعْرِفَ عَجْزَهُ، وَضَعْفَهُ فَيَقْطَعُ سَبَبَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَرْجِعُ إلَى الْعِزِّ، وَالْمَنْعَةِ، وَيَتَوَجَّهُ إلَى الْمَلِكِ الْقَادِرِ عَلَى مَا يُرِيدُ بِالِاعْتِصَامِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالِاسْتِصْغَارِ، وَالِانْتِصَارِ بِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فَيَجِدُ عِنْدَ ذَلِكَ الْعِزَّ، وَالرَّوْحَ، وَالْفَرَجَ وَالْمَنْعَةَ، وَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلَى الْمَلِكِ الْجَبَّارِ فَمَا اخْتَارَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ رَضِيَ بِهِ، وَسَلَّمَ فَإِنْ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ غَمٌّ أَوْ رَوْعٌ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بَلْوَى مِنْ اللَّهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ بِالِانْكِسَارِ، وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ؛ لِمَا فَرَّطَ مِنْهُ، وَيَطْلُبُ الرَّوْحَ، وَالْفَرَجَ بِالتَّقْوَى، وَهُوَ اسْتِمَاعُ الْعَبْدِ إلَى قَوْلِ رَبِّهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَعَلَهُ، وَمَا نَهَاهُ عَنْهُ تَرَكَهُ حَتَّى تَكُونَ كُلُّهَا مَجْمُوعَةً لَهُ فِي رَوْضَةٍ وَاحِدَةٍ.

فَانْظُرْ يَا أَخِي، وَلَا تَدَعْ مَا فِيهِ الْمَخْرَجُ إلَّا خَرَجْت مِنْهُ، وَمَا كَانَ مِمَّا فَرَطَ مِنْك مِمَّا لَا حِيلَةَ فِيهِ إلَّا النَّدَمُ، وَالِاسْتِغْفَارُ فَانْدَمْ عَلَيْهِ نَدَمًا صَحِيحًا بِالْقَلَقِ مِنْك، وَالِاضْطِرَابِ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ، وَالِاجْتِهَادِ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَيَّامِ، وَهُجُومِ الْمَوْتِ عَلَيْك، وَأَكْثِرْ مَعَ النَّدَمِ الصَّحِيحِ ذِكْرَ مَا نَدِمْتَ عَلَيْهِ، وَلَا تَفْتُرْ عَمَّا أَمْكَنَك مِنْ الِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ عَلَيْك بَعْدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ الْعَائِقِ الَّذِي يَشْتَغِلُ عَنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ حَتَّى تَكُونَ مُؤْثِرًا لِلَّهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ إلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ دَلَالَاتِ الْعُقُولِ، وَالْعُلُومِ تَأْسِيسَ التَّقْوَى فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ صَارَ الْعَبْدُ حَيَّ الْقَلْبِ قَابِلًا لِلْمَوْعِظَةِ مُعَظِّمًا؛ لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مُصَغِّرًا؛ لِمَا صَغَّرَ اللَّهُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَحْيَا قَلْبَهُ بِالْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَحْيَا قَلْبَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَيَكُونُ بَيْنَ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةِ مَوْتَةٌ لَخِفْتُ عَلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ حَيَاتُهُ دَائِمَةً تَمُوتُ بِهِ خَوَاطِرُ نَفْسٍ لَيْسَ لَهَا قَرَارٌ، وَالْخَاطِرُ إذَا صُرِمَ أَصْلُهُ، وَقُطِعَ دَخَلَ عَلَيْهِ الْحُزْنُ، وَالْبُكَاءُ فَلَا يَكُونُ مَسْرُورًا بِالْعَارِضِ، وَلَا مَشْغُولًا بِالنِّعْمَةِ عَنْ الْمُنْعِمِ فَهَذَا سَبِيلُ النَّجَاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعَبْدِ رَوْعٌ، وَغَمٌّ عِنْدَ الْخَاطِرِ فَهُوَ مَيِّتٌ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إلَى التَّقْوَى، وَالْإِخْلَاصِ، وَالصِّدْقِ، وَالتَّخَلُّصِ مِمَّا يَكْرَهُ الرَّبُّ، وَالْحَيَاءُ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْعِلْمِ الْمَفْهُومِ فَإِذَا عَلِمَ، وَفَهِمَ

ص: 56

الْعِلْمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ قَبِلَ الْمَوْعِظَةَ لِنُصْحِهِ بِتَعْظِيمِهِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ، الْقَلْبُ الْحَيُّ تَكْفِيهِ غَمْزَةٌ فَيَنْتَبِهُ، وَالْقَلْبُ الْمَيِّتُ لَوْ قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ لَمْ يَنْتَبِهْ، وَلَمْ يَحْيَى، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ، وَجَلَّ يَقُولُ {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] ، وَذَلِكَ لِمَنْ قَبِلَ، وَأَجَابَ الدَّاعِيَ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمَوْعِظَةَ، وَلَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ عَزَّ، وَجَلَّ {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 21] ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَيِّتٌ فَقَدْ حَيِيَ بِعِلْمِهِ أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَلَا يَنْفَعُهُ الْعِلْمُ إلَّا بِالْقَبُولِ، وَإِيثَارِ الرَّبِّ عَلَى هَوَاهُ فَمَنْ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّهُ عَاصٍ، وَلَيْسَ يَتَحَوَّلُ، وَلَيْسَ مَعَهُ الرَّوْعُ، وَالْغَمُّ الشَّدِيدُ، وَهُوَ عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي لَيْسَ يَرْضَاهَا، وَلَا يُبَادِرُ بِالتَّوْبَةِ، وَالتَّطْهِيرِ فَهُوَ مَيِّتٌ، وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَيَحْيَا بِالتَّوْبَةِ، وَيَرْجِعُ إلَى الرَّغْبَةِ، وَالرَّهْبَةِ، وَالطَّاعَةِ.

وَمَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ وَفَّقَهُ، وَنَبَّهَهُ مِنْ الزَّلَّةِ، وَأَيْقَظَهُ مِنْ الْغَفْلَةِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ كُلُّهَا مَوَارِيثُ حُبِّ الدُّنْيَا، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ.

وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ يَبْتَغِي لِنَفْسِهِ طَاعَةَ رَبِّهِ أَنْ يَرْجُوَ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ مِنْ الْبِرِّ، وَيَتَّهِمَ مَا خَفَّ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ الصِّدْقِ يُثْقِلُ خَفِيفَ الْعَمَلِ، وَالْكَذِبُ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْعَمَلِ يُخَفِّفُ ثَقِيلَ الْعَمَلِ، وَقَلِيلُ الصِّدْقِ أَوْزَنُ، وَأَرْجَحُ مِنْ كَثِيرِ الْكَذِبِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ إرَادَتَك الْعَمَلَ عَمَلٌ فَانْظُرْ فِي إرَادَتِك حَتَّى يَصِحَّ لَك عَمَلُك، وَيَرَاك اللَّهُ لِنِيَّتِك طَالِبًا، وَلَهَا مُصَحِّحًا كَمَا يَرَاك فِي عَمَلِك مُخْلِصًا فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ.

وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ ظَفِرْت بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ مَعَ قَلِيلِ الْعَمَلِ رَبِحْت عَمَلَك، وَظَفِرْت بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِك، وَاعْلَمْ أَنَّ عَدُوَّك يَنْظُرُ إلَى ابْتِدَاءِ نِيَّتِك، وَابْتِدَاءِ عَمَلِك، وَقَدْ يَخْفَى عَلَيْك سَقَمُ نِيَّتِك كَمَا يَخْفَى عَلَيْك سَقَمُ غَيْرِك فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُك سَقِيمَةً فَقُمْ عَلَى تَصْحِيحِهَا فَإِنَّ الْعَمَلَ تَابِعٌ لِلنِّيَّةِ إنْ صَحَّتْ صَحَّ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدُوَّ إذَا رَأَى فِي نِيَّتِك سَقَمًا رَغَّبَك فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَلَمْ يُثْقِلْهُ عَلَيْك بَلْ يُخَفِّفْهُ عَلَيْك مَخَافَةَ أَنْ يُقْنِطَك بِالسَّقَمِ، وَوَدَّ حِينَئِذٍ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَحَبُّوك فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَمَدَحُوك إذَا ظَفِرَ مِنْك بِسَقَمِ النِّيَّةِ، وَيَزِيدُك قُوَّةً، وَنَشَاطًا فِي عَمَلِك، وَيُحَسِّنُهُ عِنْدَك، وَفِي

ص: 57

أَعْيُنِ النَّاسِ، وَيُحَبِّبُهُمْ إلَيْك فَكُلَّمَا أَثْنَوْا عَلَيْك اسْتَحْلَيْت عَمَلَك، وَخَفَّ عَلَيْك، وَقَدْ سَتَرَ عَنْك دَاءَ الْحَسَنَاتِ، وَدَاءَ السَّيِّئَاتِ، وَمِنْ دَاءِ الْحَسَنَاتِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُك مِنْ تَرْكِهَا إلَّا مَخَافَةَ أَنْ تَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ رِبْحَهُ مِنْك إذَا سَقِمَتْ نِيَّتُك أَكْثَرُ مِنْ رِبْحِهِ مِنْك إذَا أَحْبَبْت الدُّنْيَا، وَاتَّسَعْتَ مِنْهَا، وَمِنْ دَاءِ السَّيِّئَاتِ سَقَمُ نِيَّتِك، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْحَسَنَاتِ أَوَّلًا بِسَقَمِ النِّيَّةِ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَهَا آخِرًا بِتَعْظِيمِ النَّاسِ لَك فَإِذَا عَلِمَ أَنَّك لَا تُحِبُّ ذَلِكَ، وَلَمْ تُجِبْهُ إلَى مَعْصِيَةٍ خَلَّاك، وَذَاكَ فَاحْذَرْ عَلَى عَمَلِك كُلِّهِ مِنْ حِيلَةِ الْخَبِيثِ، وَإِذَا رَأَيْت الْعَمَلَ قَدْ خَفَّ فَكُنْ أَشَدَّ مَا تَكُونُ لَهُ حَذَرًا إذَا خَفَّ عَلَى نَفْسِك الْعَمَلُ فَهُوَ أَفْسَدُ مَا يَكُونُ إذَا صَحَّ عِنْدَك.

وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَعْرَفُ بِك، وَبِمَا تَهْوَاهُ نَفْسُك مِنْك، وَلَا تَدَعْ الْعَمَلَ مِنْ أَجْلِ آفَتِهِ، وَلَكِنْ اعْمَلْ بِنِيَّةٍ، وَصِحَّةٍ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ، وَكُنْ حَذِرًا طَالِبًا لِلْخَلَاصِ كَارِهًا مُعَانِدًا لِفَسَادِ الْعَمَلِ لَا تُرِيدُ الثَّوَابَ إلَّا مِنْ اللَّهِ، وَحْدَهُ، وَطَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَعْمَلْ لِيُعْطِيَك فِي الدُّنْيَا ثَوَابًا فَإِنَّ الَّذِي قَدَّرَ اللَّهَ عز وجل أَنْ يَصِلَ إلَيْك مِنْ رِزْقٍ أَوْ أَجْرٍ أَوْ ثَنَاءٍ فَإِنَّهُ صَائِرٌ إلَيْك فَعَلَيْك بِالصِّدْقِ، وَاِتَّخِذْهُ ذُخْرًا لِيَوْمٍ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.

وَانْظُرْ إذَا صَحَّ عَمَلُك عِنْدَك فَكُنْ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِهِ، وَلَا تَأْمَنْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ فَتُفْسِدُهُ فَإِنَّ آفَةَ الْعَمَلِ الْأَمْنُ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْنَ عَلَى الْحَسَنَاتِ أَضَرُّ عَلَيْهَا مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَالْأَمْنَ عَلَى السَّيِّئَاتِ أَضَرُّ عَلَيْك مِنْ السَّيِّئَاتِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْنَك عَلَى الْحَسَنَةِ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ السَّيِّئَةِ، وَقُنُوطَك بَعْدَ السَّيِّئَةِ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ السَّيِّئَةِ، وَاسْتِصْغَارَك لِسَيِّئَةٍ كَبِيرَةٍ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ سَيِّئَةٍ بَعْدَ سَيِّئَةٍ، وَاسْتِصْغَارَك لِسَيِّئَةٍ أَرَدْتَهَا ثُمَّ تَرَكْتهَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ كَبِيرَةٍ عَمِلْتهَا ثُمَّ اسْتَغْفَرْت مِنْهَا لِعِظَمِهَا عِنْدَك فَافْهَمْ مَا أُلْقِيَ إلَيْك مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاحْذَرْهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ الْخَبِيثَ يُجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ مَدْحَ الصَّادِقِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ صِدْقَهُ، وَيَزِيدُ الْكَاذِبَ فِي عَمَلِهِ قُوَّةً حَتَّى يُسَوِّي بَيْنَ

ص: 58

الصَّادِقِ، وَالْكَاذِبِ فَاحْذَرْ تَجْدِيدَ الْقُوَّةِ فِي الْعَمَلِ عِنْدَ تَجْدِيدِ الْمَدْحِ فَإِنَّ لَهُ سَطْوَةً، وَسُلْطَانًا يَزِيدُ الْكَاذِبَ كَذِبًا، وَيُفْسِدُ عَلَى الصَّادِقِ صِدْقُهُ فَلَا تُظْهِرْ الْخَوْفَ مِنْ قَلْبِك، وَلَا تُظْهِرْ قِلَّةَ الْخَوْفِ فَإِنَّ إظْهَارَ قِلَّةِ الْخَوْفِ هُوَ مِنْ قِلَّةِ الْخَوْفِ، وَهَذَا بَابٌ فِيهِ فَسَادُ الْعَمَلِ كَبِيرٌ، وَهُوَ رِيَاءٌ فِيهِ لُطْفٌ، وَلَهُ حَلَاوَةٌ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ، وَاحُزْنَاه عَلَى الْحُزْنِ، وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَخَافُ، وَاحُزْنَاه عَلَى الْأَحْزَانِ فَإِنَّ هَذِهِ أَشْيَاءُ مِنْ دَقَائِقِ مَدَاخِلِ إبْلِيسَ، وَاَللَّهُ سَائِلُكَ عَنْ بُكَائِكَ، وَإِظْهَارِكَ الْخَوْفَ، وَالْحُزْنَ، وَإِظْهَارِكَ أَنَّك لَسْت بِحَزِينٍ، وَإِظْهَارِك أَنَّك لَا تَخَافُ، وَمَا تُظْهِرُ مِنْ الِانْكِسَارِ، وَالتَّوَاضُعِ، وَإِظْهَارِك الْهَمَّ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَذَمِّك نَفْسَك، وَمَاذَا أَرَدْت بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِإِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ مَذَاهِبُ تَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرِ مِنْ النَّاسِ، وَهِيَ تُنْسَبُ إلَى خُشُوعِ النِّفَاقِ فَإِنْ كُنْت صَادِقًا فِيهَا فَاحْذَرْ إبْلِيسَ عِنْدَهَا، وَفِي وَقْتِهَا حَذَرًا شَدِيدًا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَانْظُرْ كَيْفَ يَكُونُ احْتِمَالُك إذَا قَالَ لَك غَيْرُك: مَا تَقُولُهُ أَنْتَ لِنَفْسِك مِنْ الذَّمِّ، وَالْوَقِيعَةِ فِيهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَك عِنْدَ ذَلِكَ أَصَادِقٌ أَنْتَ فِي فِعْلِك أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِذَا كَانَ بَاطِنُك كَظَاهِرِك لَمْ تُبَالِ كَيْفَ كَانَ أَمْرُك، وَقُمْ عَلَى بَاطِنِك أَشَدَّ مِنْ قِيَامِك عَلَى ظَاهِرِك فَإِنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ اللَّهُ مُطَّلِعٌ فَنَظِّفْهُ، وَزَيِّنْهُ لِيَنْظُرَ اللَّهُ إلَيْهِ أَشَدَّ مَا تُزَيِّنُ ظَاهِرَك لِنَظَرِ غَيْرِهِ فَافْهَمْ مَا أَقُولُ لَك بِعِنَايَةٍ مِنْك، وَقَبُولٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ فَرَائِضَ جَوَارِحِك إنَّمَا تَقُومُ بِفَرَائِض قَلْبِك، وَاعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ، وَالصِّدْقَ، وَالْإِخْلَاصَ فَرِيضَةٌ تُقَامُ بِهَا الْفَرَائِضُ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهَا الْأَعْمَالُ، وَتَرْكُ الذُّنُوبِ فَرِيضَةٌ فَكُلُّ أَمْرٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَمُحَالٌ أَنْ يُتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِمَعَاصِيهِ {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْإِرَادَةَ لَهُ بِالْإِيمَانِ، وَالْأَعْمَالُ يُرَادُ بِهِمَا وَجْهُهُ فَأَصَابَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ بِنِيَّتِهِ الْفَرِيضَتَيْنِ جَمِيعًا الظَّاهِرَةَ، وَالْبَاطِنَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ عَمِلْت بِمَا، وَصَفْتُ لَك ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيْك الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا عَلَى أَنْ

ص: 59